السريان الزمني للقاعدة القانونية

كلنا يعلم بأن القانون هو مجموعة من القواعد التي تنظم سلوكات الأفراد
داخل المجتمع، و من ضمن هذه القواعد تلك التي تحدد الأفعال التي تعتبر
جرما و تبين العقوبات و التدابير المقررة لها بغية الحد من الجرائم
باستعمال الردع المناسب سواء كانت هذه الأفعال إيجابية أم سلبية، و هي
محددة في تقنين خاص، حينما تصدر تصبح نافذة و تطبق على جميع الأفعال
الممنوعة التي ترتكب في ظله و هذا هو أساس مبدأ سيادة القانون أو مبدأ
شرعية الجرائم و العقوبات. ومن غير المنطقي أن يرتكب شخص فعلا مباحا ثم
يسن قانون جديد بعد ارتكابه و يطبق عليه، لأن ذلك يكون خرقا و انتهاكا
لمبدأ الشرعية، إذن لا قيمة و لا سلطان للنص القانوني قبل سريانه و بعد
إلغائه

و عند غياب أي مؤشر يحدد ميعاد سريان القاعدة القانونية فإنه يتوجب الرجوع
إلى النص العام الذي جاء في القانون المدني لاسيما المادة 4 منه التي تنص
على أنه تطبق القوانين في تراب الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
ابتداء من يوم نشرها في الجريدة الرسمية.

تكون نافذة المفعول بالجزائر العاصمة بعد مضي يوم كامل من تاريخ نشرها و
في النواحي الأخرى في نطاق كل دائرة بعد مضي يوم كامل من تاريخ وصول
الجريدة الرسمية إلى مقر الدائرة ويشهد على ذلك تاريخ ختم الدائرة الموضوع
على الجريدة.

الأصل العام في تطبيق القانون من حيث الزمان هو أن القانون يكون دائما
واجب التطبيق من اليوم التالي لنشره بالجريدة الرسمية أو من التاريخ الذي
يحدده نفس القانون لسريان أحكامه، و هي قرينة قطعية على علم الكافة بها
فلا يعذر أحد بجهل القانون (المادة 60 من الدستور)، وأن القانون لا تسري
أحكامه إلا على الحالات التي تتم في ظله أي بعد إصداره، وأنه لا يسري على
ما وقع من الحالات قبل صدوره. فالركن المادي للجريمة يعني كون الفعل
المادي للجريمة يقع تحت نص يجرمه وقت ارتكاب الجريمة، أي أن السلوك
الإجرامي للفاعل يكون عملاً غير مشروع يعاقب عليه القانون وقت ارتكابه بنص
نافذ في القانون، فلا يمكن اعتبار الفعل مادياً في عمل مخالف لقانون سابق
جرى أباحته أو إلغاء العقوبة المقررة على ارتكابه بقانون لاحق.
و قواعد قانون العقوبات كباقي القواعد القانونية ليست بالنصوص الأبدية بل
تنشأ و تعدل و تلغى إن اقتضى الأمر ذلك وفق سريان زمني مضبوط تتحكم فيه
ظاهرة تعاقب القوانين، و من آثار هذه الظاهرة إلغاء القانون اللاحق
للقانون السابق

إلغاء القوانين الجزائية.

يقصد بإلغاء قاعدة قانونية التوقف التام و النهائي عن العمل بها و بالتالي
فإن إلغاء قاعدة قانونية هو قاعدة قانونية في حد ذاتها تنشأ بنفس الطريقة
و تمر بالمراحل ذاتها التي أقرها القانون، و قد تتناول في طياتها البديل
عن سابقتها و كيفية التطبيق موضحة في ذات الوقت مصير القاعدة الأولى و
واضعة الحلول للآثار التي خلفتها و قد تسكت عن ذلك و بهذا نكون أمام
صورتين هما: الإلغاء الصريح و الإلغاء الضمني.

الفرع الأول: الإلغاء الصريح.

يكون الإلغاء صريحا متى وجد النص، و صراحته تقتضي الإشارة إلى انتهاء
العمل بالقانون السابق وانتفاء إلزاميته، عن طريق استعمال ألفاظ و عبارات
واضحة بما لا يدع مجالا للشك أو التأويل، بحيث تكون لحظة انقضاء النص
السابق هي ذاتها لحظة نفاذ النص الجديد إذا استبدله المشرع بآخر

و هو ما أشارت له المادة 2 فقرة 2 من القانون المدني بقولها “… ولا يجوز
إلغاء قانون إلا بقانون لاحق ينص صراحة على هذا الإلغاء ….”

و الأمثلة عديدة في هذا المجال منها ما جاء في قانون العقوبات الجزائري
عندما ألغى نص المادة 10 من الأمر 66/156 المؤرخ 08 جوان 1966 المعدلة
بموجب المادة 01 من القانون 82/04 المؤرخ في 13 فبراير 1982، و اللتان
ألغيتا بموجب نص المادة 02 من القانون رقم 89-05 المؤرخ في 25 أفريل 1989.
فقد كانت المادة 10 وفق الأمر 66/156 تنص على ما يلي: “الاعتقال هو حجز
بعض العائدين للإجرام لمدة غير محدودة في إحدى مؤسسات التأهيل الاجتماعي”.
ثم عدلت بموجب القانون 82/04 فأصبحت تنص على:”الاعتقال هو حجز بعض
العائدين للإجرام المذكورين في المادة 60 مدة غير محدد ة في إحدى مؤسسات
التأهيل الاجتماعي، غير أنه لا يمكن تطبيق الحجز على النساء مهما يكن سنهن
و كذا على الأشخاص الذين يتجاوز عمرهم 60 سنة أو يقل عن 18 سنة وقت ارتكاب
الجريمة”. ثم ألغيت صراحة بموجب القانون89/05.

الفرع الثاني: الإلغاء الضمني.

يكون الإلغاء الضمني في حالة تعارض قانون جديد مع قانون قديم، أو في حالة
صدور تشريع جديد يعيد تنظيم مسألة تولى تنظيمها تشريع سابق على نحو مغاير
حيث يستنتج من هذا التعارض ضرورة تطبيق النصوص اللاحقة على حساب النصوص
السابقة
و هو ما أشارت له المادة 2 فقرة 3 من القانون المدني بقولها…” و قد يكون
الإلغاء ضمنيا إذا تضمن القانون الجديد نصا يتعارض مع نص القانون القديم
أو نظم من جديد موضوعا سبق أن قرر قواعده ذلك القانون القديم.”

و كمثال على الإلغاء الضمني بإعادة تنظيم مسألة تولى تنظيمها تشريع سابق
على نحو مغاير، نص المادة 09 من الأمر 66/156 التي كانت تحصر العقوبات
التكميلية في 7 أنواع بقولها:”العقوبات التكميلية هي:

1. الاعتقال، 2. تحديد الإقامة، 3. المنع من الإقامة، 4. الحرمان من
مباشرة بعض الحقوق، 5. المصادرة الجزئية للأموال، 6. حل الشخص الاعتباري،
7.نشر الحكم”.

لكن القانون 89/05 في مادته الأولى أعاد تنظيم نفس مسألة بقوله:”العقوبات
التكميلية هي: 1. تحديد الإقامة، 2. المنع من الإقامة، 3.الحرمان من
مباشرة بعض الحقوق، 4.المصادرة الجزئية للأموال، 5. حل الشخص الاعتباري،
6.نشر الحكم.” حاذفا النوع الأول و هو الاعتقال.

و مثال على الإلغاء الضمني في حالة تعارض قانون جديد مع قانون قديم ما هو
موجود في نص المادة 8 من القانون رقم 82-04 المؤرخ في 13 فيفري 1982:
“الحرمان من الحقوق الوطنية ينحصر في : 1. عزل المحكوم عليه و طرده من
جميع الوظائف و المناصب السامية في الحزب أو الدولة و كذا جميع الخدمات
التي لها علاقة بالجريمة. 2. الحرمان من حق الانتخابات و الترشيح و على
العموم كل الحقوق الوطنية و السياسية، و من حمل…الخ”

فجملة “المناصب السياسية في الحزب” لم يعد لها معنى في ظل الدستور الجديد
الذي سن التعددية الحزبية و بالتالي فلا يمكن للقاضي الحكم بهذا الحرمان
لأنه يتعارض ضمنيا مع مبدأ دستوري.

لكن كيف يفسر هذا الإلغاء؟

من أجل الفهم الصحيح و التطبيق الصحيح لقواعد القانون لابد من إزالة
التعارض الذي قد يوجد في الظاهر بين قواعد القانون المختلفة و نقول أن
التعارض قد يوجد في الظاهر لأنه من غير المعقول أن يوجد تعارض حقيقي بين
قواعد القانون بل لابد من إزالة هذا التعارض بحيث لا تبقى إلا قاعدة
قانونية واحدة واجبة الإتباع و أهم قواعد إزالة التعارض هي أن القاعدة
الأعلى تبطل القاعدة الأدنى المخالفة لها، فقواعد القانون الدستوري لا
يتصور مخالفتها من قواعد القانون العادي أو قواعد القانون الفرعي، وكذلك
فإن قواعد القانون العادي لا يتصور مخالفتها من قواعد القانون الفرعي و لا
أهمية في ذلك لمصدر القاعدة فكل مصادر القانون قادرة على خلق قواعد من
درجات مختلفة، فقواعد القانون الدستوري قد تنشأ عن التشريع أو عن العرف أو
عن القضاء و يكفي بالنسبة للقضاء أن نذكر أن قاعدة رقابة القضاء الدستورية
القوانين هي ذاتها قاعدة دستورية و هي من خلق القضاء ذاته.

و القاعدة الثانية أن القاعدة اللاحقة تلغي القاعدة السابقة المساوية لها
أو الأدنى منها في القوة، و لا أهمية لمصدر القاعدة اللاحقة أو مصدر
القاعدة السابقة، و تسري في هذا الشأن قواعد تنازع القوانين في الزمان من
حيث إكمال الأثر المباشر لهذا القانون و انعدام الأثر الرجعي للقانون
الجديد و هو ما سنوضحه لاحقا.

و القاعدة الثالثة أن القاعدة الخاصة تقيد القاعدة العامة المساوية أو
الأدنى منها في القوة دون النظر إلى مصدر هتين القاعدتين و دون النظر إلى
تاريخ العمل بأي منهما. أما إذا لم تكن إزالة هذا التعارض بأن كانت كل من
القاعدتين مساوية للأخرى في الدرجة و معاصرة لها في النشأة و مطابقة لها
في المعنى فلا يكون هناك بد من طرح هتين القاعدتين معا إذ لا يمكن
تطبيقهما في نفس الوقت و هذا الافتراض ناذر للغاية، إلا ما نتج عن خطأ أو
سهو.