تمتع الدولة بالشخصية المعنوية.

لا يكفي في الدولة توافر الأركان الثلاثة السالفة الذكر، فلكي تستطيع القيام بمهامها يجب أن تكون متمتعة بالشخصية الخاصة بها والمنفصلة عن الأشخاص المكونين لها. مما دفع ببعض الفقهاء إلى تعريف الدولة بأنها تشخيص قانوني للأمة. والدولة بمنحها هذه الشخصية تكون أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات شأنها شأن الأفراد الطبيعيين، مما يجعلها متميزة عن الأشخاص المسيرين لها وكذا استقلال ذمتها المالية عنهم.

غير أن فكرة الشخصية المعنوية للدولة كانت ولا تزال محل خلاف وجدل بين الفقهاء، والذين انقسموا إلى قسمين، الأول ينكرها على الآدمي، والثاني يعترف بها للدولة ولغيرها من التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى.

وسبب هذا الانقسام يعود في الأساس إلى الخلط بين المدلول اللغوي للشخص والذي يفيد الإنسان الآدمي، والمدلول القانوني للشخص والذي يعني كل من يستطيع أن يكون أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وفقا للقانون سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا.

الفرع الأول: الرأي المنكر للشخصية المعنوية للدولة.

ويتمثل هذا الاتجاه في ثلاث مجموعات من الفقهاء هي:

أولا: مجموعة دوجي وأنصاره.

إذ يعتبرون أن الدولة عبارة عن ظاهرة اجتماعية طبيعية تظهر إلى الوجود بمجرد انقسام أفراد المجتمع إلى فئتين فئة حاكمة وفئة محكومة، والفئة الحاكمة هي التي تجسد القانون وتفرض احترامه وتطبيقه، أي الذي يجسد شخصية الدولة هو الحاكم، وأن القول بتمتع الدولة بالشخصية المعنوية أو نسبة إرادة الحاكمين إلى شخص معنوي هي مجرد افتراض، وأنه ليست هناك حاجة لهذا الافتراض طالما كانت تصرفات الأفراد الحاكمين في حدود اختصاصاتهم وتتمشى والقانون، لأنها تكون ملزمة للأفراد استنادا إلى فكرة التضامن الاجتماعي.

نقد: ما يؤخذ على أنصار هذه النظرية أنهم لا يقدمون البديل عن الشخصية المعنوية، الذي يعد كأساس لتفسير مباشرة الدولة لنشاطها كوحدة قانونية، وعليه فهم يحملون الحكام والمسيرين الأخطاء التي ترتكبها الدولة والأشخاص العامة.

ثانيا: مجموعة زعماء النازية.

وعلى رأسهم(روزنبرج) بحيث يرون أن الشغب هو محور النظام السياسي وذلك لأنه هو الذي ينشئ الدولة ويفرض القانون ويمنح السلطة للزعيم رمز الوحدة العرقية الذي يقود المجتمع، ولا يعتبرون الدولة سوى مجرد أجهزة وأنظمة لا تتمتع لا بالسلطة ولا بالشخصية المعنوية.

نقد: لا شك أن هذا الاتجاه كان يهدف إلى تدعيم أنظمة الحكم العنصرية وتبرير الاستبداد في الداخل والاعتداء في الخارج.

ثالثا: مجموعة الفقهاء الماركسيون.

يرى هؤلاء أن الدولة ما هي إلا جهاز وضعته الطبقة الحاكمة لفرض سيطرتها على الطبقة المحكومة، وأن منح الشخصية المعنوية لها ما هو إلا مجرد حيلة لإخفاء ذلك الاستغلال وإجبار الطبقة المحكومة على قبول الأمر الواقع والإيمان بأن ذلك هو قانون الطبيعة أو سنة الحياة، وعليه فالماركسيون يدعون الطبقة المستغلة إلى الثورة من أجل الإطاحة بالنظام وإقامة دولة البرولتارية في مرحلة أولى تمهيدا للانتقال إلى المجتمع الشيوعي حيث تزول الدولة بزوال الصراع.

نقد: في الحقيقة أن الأفكار الماركسية إذا كانت ترى الدولة جهاز استبداد فإن العيب يعود للفلسفة التي يضعها الأفراد لقيام تلك الدولة وتطبيقها.

وعليه يمكن الرد على الاتجاه الرافض لفكرة الشخصية المعنوية للدولة بأن مذهبهم لا يتفق مع بعض الحقائق والواقع الملموس، كما أنه يعجز عن تفسير بعض الظواهر المسلم بها والتي يصعب تفسيرها بغير الاعتراف بالشخصية المعنوية للدولة ومن ذلك:

1) ـ استمرار شخصية الدولة رغم تغير نظام الحكم أو تغير الحكام فيها.

2) ـ وجود ذمة مالية مستقلة بالدولة متميزة عن ذمم الحكام.

3) ـ يعترف بعض المنكرين لشخصية الدولة بالشخصية المعنوية لبعض التقسيمات الإدارية كالمؤسسات وهي جزء من الدولة وهي التي تمنح هذه الوحدات الشخصية المعنوية، وهذا خطأ منطقي إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه.

الفرع الثاني: الرأي المؤيد للشخصية المعنوية للدولة.

يشكل هذا الاتجاه الرأي الغالب في الفقه، فالقانون الروماني أعترف بالشخصية المعنوية للدولة ولبعض الجمعيات والمستشفيات، حيث علاوة على أهمية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات، هناك تأكيد على الانفصال الحكام والسلطة مما يعني أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسونها، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والاستمرار ولا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون الحكم.

ويترتب على الاغتراف بالشخصية المعنوية للدولة عدة نتائج أهمها:

أولا: وحدة الدولة ودائميتها.

ظهور شخص قانوني متميز ومنفصل يعد النتيجة المنطقية للإقرار للدولة بالشخصية المعنوية، والتي تمنح لها صفة الدوام والاستمرار وأن زوال الأشخاص لا يؤثر عنها، فلا يسقط حقوقها ولا يحللها من التزاماتها الداخلية والدولية.

ثانيا: تمتع الدولة بذمة مالية.

يقضي الاعتراف بالشخصية المعنوية للدولة الاعتراف لها بالاستقلال عن الأشخاص الحاكمين، وهذا الاستقلال ينتج عنه أن الدولة لها حقوق وعليها التزامات وللحصول على حقوقها والوفاء بالتزاماتها يجب أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الأشخاص المسيرين لها، ومنه فالأعمال والتصرفات التي يقوم بها الأشخاص باسم الدولة ولحسابها تعود إلى ذمة الدولة سواء كانت حقوقا أو التزامات.

ثالثا: المساواة بين الدول.

الاعتراف للدولة بالشخصية المعنوية بعد اكتمال أركانها ينتج عنه ظهور شخص قانوني دولي جديد متساوي مع الدول الأخرى في المعاملة، هذا من الناحية النظرية، أما في الواقع العملي نجد هناك تفاوت بين الدول تتحكم فيه اعتبارات أخرى سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو سكانية في مجال تأثيرها على مجريات الأحداث الدولية.

والخلاصة أن هناك إجماع بين الفقهاء على ضرورة الاعتراف بالشخصية المعنوية والقانونية للدولة، وهي حقيقة لابد منها وليست حيلة قانونية، والاعتراف بها يحقق الكثير من الأهداف ويعين على تفسير الكثير من المشاكل وحلها.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت