دعوى الإلغاء ضمانة لسيادة مبدأ المشروعية

لكي تُفهم فكرة المشروعية في النظام الدستوري فهماً سليماً لابد من الرجوع إلى فلسفة هذا النظام في المشروعية، وهذه الفلسفة تقوم في أصولها القانونية على أن السُلطة ليست قوة مادية، وإنما هي ضرورة اجتماعية وتكون مشروعة بقدر استمدادها من رضا الشعب، وبقدر ممارستها بصورة مُقيدة غير مُطلقة، بمعنى أن، تكون خاضعة للقانون ولضوابطه أياً كان هذا القانون، وهذا المعنى الشرعي للسلطة معنى مُلازم لها في كل وقت ولو كانت أكثر الأوقات بُعداً عن معنى المشروعية، فحتى في أوقات الثورات صّور الفقه الديمقراطي سلطة الحكم الفعلية(1) سلطة قانونية تخضع لمعاني الدستور والقانون وأن زايل الوصف القانوني هذه المعاني بسقوط الدستور في قيام الثورة.

لقد أعلن القضاء الإداري الفرنسي دعوى الإلغاء لحماية مبدأ المشروعية أي مبدأ الخضوع للقانون، فدعوى الإلغاء هي دعوى مقامة ضد القرارات الإدارية التي تصدرها الهيئة التنفيذية وتخرج فيها على ضوابط مبدأ المشروعية أو الخضوع للقانون.

ومن هنا فإن قضاء الإلغاء يُوصف بأنه قضاء موضوعي يُخاصم القرار الإداري لعدم مشروعيته، فإذا ما تبين للقاضي الإداري مجانبة القرار للقواعد القانونية النافذة حكم بإلغائه، وعلى هذا الأساس يُوصف قضاء الإلغاء بأنه حامي حمى المشروعية.

ويختلف قضاء الإلغاء عن القضاء الكامل لأن القضاء الكامل قضاء شخصي يُطالب فيه المُدعي خصمه بحق شخصي ويكون للقاضي فيه سلطات كاملة فيحق للقاضي تقويم وتعديل القرارات غير المشروعة والحكم بالتعويض عن الأضرار التي تسببها.

ولقد كان الأمر في بدايته مقرراً على أساس فصل دعوى الإلغاء عن دعوى القضاء الكامل فإذا ما أراد المُدعي الطعن في القرار الإداري غير المشروع بالإلغاء والتعويض فإنه يتعين إقامة دعويين مستقلتين، دعوى المطالبة بإلغاء القرار غير المشروع، ودعوى التعويض.

ولقد أظهرت التجربة ضياع الوقت في فصل الدعويين ففي حكم(تركو)أُحيل موظف إلى المعاش فأقام الدعوى مُطالباً بإلغاء القرار والتعويض عن الأضرار التي اصابته، ولقد فصل القضاء الإداري بدعوى الإلغاء بعد مرور سنتين ونصف على موعد رفع الدعوى وقام بالفصل في دعوى التعويض بعد مرور خمس سنوات ونصف من وقوع الضرر.

وإزاء ما تكشف ظهر أن الفصل بين الدعويين الإلغاء والتعويض(القضاء الكامل) فيه ضياع للوقت ولذلك فقد عدل مجلس الدولة الفرنسي عن الموقف السابق بأن أباح الجمع بين عريضة دعوى الإلغاء وعريضة دعوى القضاء الكامل وبدأ ينُظر في الدعويين في وقت واحد(2).

ولقد شكلت دعوى الإلغاء التي أوجدها مجلس الدولة الفرنسي ضمانة تكبح جماح السلطة الحاكمة، ووصلت حدود رقابة القضاء الإداري على قرارات السلطة التنفيذية إلى مديات بعيدة فلم يتردد القضاء الإداري في بسط رقابته على قرارات السلطة التنفيذية حتى في الظروف الاستثنائية فوضع القضاء الإداري نظرية متكاملة للظروف الاستثنائية لابد من التحقق في توافر شروطها حتى تحتج بها السلطة التنفيذية فيجب توافر حالة الظروف الاستثنائية ويجب أن يكون الإجراء المتخذ بالقدر الذي يلزم لمواجهة الظروف الاستثنائية فالضرورة تُقدر بقدرها.

شروط قبول دعوى الإلغاء:

يُقصد بشروط قبول دعوى الإلغاء تلك الشروط التي يجب توافرها حتى يمكن للمحكمة أن تقوم بنظر الدعوى وذلك بصرف النظر عن موضوع الدعوى، فإذا لم تتوافر شروط القبول قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى دون التعرض لموضوع الدعوى.

وقبول المحكمة النظر في الدعوى لا يعني وقف نفاذ القرار غير المشروع فيبقى القرار نافذاً ومنتجاً لاثاره القانونية حتى يقضي القضاء بوقف تنفيذه أو إلغائه.

ومن المعروف أن قرارات الإدارة تتحصن بإنقضاء مواعيد الطعن بالإلغاء بحيث لا يجد الطعن فيها بدعوى الإلغاء (تُسمى دعوى تجاوز السلطة) بعد فوات الميعاد تطبيقاً لمبدأ وجوب استقرار المعاملات القانونية.

ويجب التفرقة بين القرارات المنعدمة وبين القرارات الإدارية غير المشروعة، فالقرارات المنعدمة تنتفي عنها الصفة الإدارية فيمكن الطعن بها في أي وقت.

ويمكن أن نُقرر بأن شروط قبول دعوى الإلغاء هي :

1 – يشترط في القرار المطعون فيه أن يكون قراراً إدارياً نهائياً وليس عملاً مادياً.

والقرارات التي يجوز الطعن فيها بالإلغاء هي القرارات الإدارية والقرارات النهائية الصادرة من جهات إدارية ذات اختصاص قضائي.

2 – توافر شرط المصلحة فمن المبادئ المُسلم بها أنه حيث توجد المصلحة توجد الدعوى فلا دعوى بدون مصلحة.

ولما كانت دعوى الإلغاء دعوى موضوعية فيكفي أن يكون للمُدعي مجرد مصلحة شخصية مُباشرة حتى يمكن قبول دعوى الإلغاء.

ويجب أن تكون المصلحة شخصية ومُباشرة فيجب أن يكون القرار المطعون فيه مؤثراً مُباشراً في المصلحة الشخصية للطاعن.

ومن المبادئ التي قررها القضاء الإداري أنه يجوز أن تكون المصلحة أدبية أو حتى روحية ويجب أن تكون المصلحة محققة وتوسع القضاء الإداري في تفسير شرط المصلحة فقبل بالمصلحة المحتملة.

3 – ميعاد رفع الدعوى :

يُحدد المُشرّع مواعيد مُعينة للطعن بالقرارات الإدارية وعادة تُعتبر فترة الستين يوماً من تاريخ نشر القرار الإداري في الجريدة الرسمية أو في نشرات المصالح أو إعلان صاحب الشأن به هي الفترة التي يُسمح بها بإقامة دعوى الإلغاء وعلة ذلك هي التوفيق بين الصالح العام والصالح الخاص.

4 – انتفاء طريق طعن مُقابل:

يُشترط لقبول دعوى الإلغاء ألا يكون هناك طريق قضائي آخر يتمكن المدعي بواسطته من الوصول إلى ذات النتائج التي تُحققها دعوى الإلغاء.

وهذه النظرية (نظرية الدعوى الموازية نظرية قضائية من ابتداع مجلس الدولة الفرنسي ابتدعها لكي لا تتراكم أمامه الدعاوى ولأن إقامة دعوى الإلغاء بدون رسوم تُسبب في تراكم الدعاوى أمام مجلس الدولة الفرنسي فأراد أن يُخفف من تراكم الدعاوى فأوجد نظرية الدعوى الموازية، فإذا كان هناك طريق طعن آخر يمكن لصاحب الشأن أن يسلكه فلا يلجأ إلى دعوى الإلغاء.

أوجه الحماية التي توفرها دعوى الإلغاء لمبدأ المشروعية:

إن المبدأ الأساسي التي تصدر عنه الديمقراطيات هو مبدأ سيادة المشروعية وخضوع الإدارة للقانون فيجب أن يكون الإجراء الإداري مُستنداً إلى قانون أو لائحة، وإيثار الديمقراطيات لمبدأ المشروعية مؤسس على أن دولة القانون هي الأصل.

ولقد كانت أقوى الصور التي ظهر بها مبدأ المشروعية بعد قيام الثورة الفرنسية، فقد نادى الثوار الفرنسيون بسيادة القانون فلا يجوز للإدارة أن تتخذ إجراء أو تصدر قراراً إدارياً إلا بمقتضى القانون وتنفيذاً للقانون، ولأن القانون يصدر عن الهيئة التشريعية فإن الإدارة تخضع خضوعاً وظيفياً للمُشرّع، ولذلك استقرت الأوضاع في النُظُم الديمقراطية على أن التفويض التشريعي يجب أن يكون خاصاً ومُحدداً لأن التفويض العام أو غير المحدد يعني نقل السلطة التشريعية من البرلمان إلى الإدارة.

ودعوى الإلغاء توفر حماية واسعة لمبدأ المشروعية إذ بواسطة هذه الدعوى يمكن إلغاء كل القرارات الإدارية غير المشروعة، ونتناول بعضاً من أوجه هذه الحماية

1 – دعوى الإلغاء ضد قرار السلطات الأمنية:

تصور الديمقراطية السلطة الأمنية سلطة قانونية محايدة لا تتجاوز حدود فكرة قانونية هي حماية الأمن والنظام العام من الأخطار المباشرة أو المحتملة.

ويجتهد القضاء في محاولات صادقة ضد محاولة تمرد سلطة الأمن على القانون فيلغي قرار السلطات الأمنية التي تتجاوز حدود القانون المانح للاختصاص الاستثنائي في تقييد الحريات.

وتتمثل رقابة القضاء في مجال الحريات العامة في دعاوى إلغاء القرارات الإدارية التي تقيد :

1 – حرية الصحافة.

2 – حرية عقد الاجتماعات العامة.

3 – حرية تشييد الجمعيات والنقابات المهنية.

4 – حرية إبداء الرأي والنشر.

2 – دعوى الإلغاء ضد قرارات الإدارة الصادرة بحق الموظفين العموميين:

فالقضاء الإداري يختص بنظر كل المنازعات المتعلقة بالوظيفة العامة فيختص بنظر :

1 – المنازعات الخاصة بالمرتبات والمعاشات التقاعدية والمكافآت المستحقة للموظفين.

2 – إلغاء القرارات الإدارية الصادرة بتعيين الموظفين أو نقلهم أو ترقيتهم أو بمنح العلاوات لهم.

3 – إلغاء القرارات الإدارية بالإحالة إلى التقاعد أو الفصل بغير الطريق التأديبي.

4 – إلغاء القرارات النهائية الصادرة عن الهيئات التأديبية.

5 – المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية.

3 – مسؤولية الإدارة عن الأضرار التي يسببها موظفوها :

وهذا نوع من الحماية مقرر أساساً في النظم الديمقراطية المرتكزة على المذهب الفردي، ففي النظم الديمقراطية تعتبر سلطة الحكم هي مصدر الخطر على الحريات والحقوق، ذلك أن الديمقراطيات الغربية نظرت إلى الحرية على أنها معنى سياسي وقانوني نابع من مصدرين:

أولاً : نظرية سياسية تخضع لها سلطة الحكم.

ثانياً: ضمانات قانونية لاتعكس هذه الأصول السياسية وتساندها فحسب بل هي تؤمن المحكومين ضد انحراف السلطة.

والديمقراطية لا تعترف بأن هناك من يؤثر على الحرية قدر السلطة السياسية، فهي ترى بأنه مادام المحكومين قد اختاروا حكامهم اختياراً حراً، وما دام القانون نافذاً وهو صادر عن ممثلي الشعب فإن الحريات ستكون بأمان.

فالفكر الديمقراطي يرى أن السلطة إذا كانت ديمقراطية بأن قامت على سيادة الإرادة الشعبية وكفالة الحرية وسيادة القانون فإنها لن تستهدف سوى مصالح المحكومين، وتأسيساً على ما تقدم أقام القضاء الإداري صرحاً من الضمانات للحقوق والحريات تمثلت في تطبيق :

1 – نظرية الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي.

2 – نظرية متكاملة للمسؤولية عن أخطاء موظفي الإدارة.

3 – نظرية متكاملة عن تحمل عبء دفع التعويض عن الأضرار.

4 – نظرية متكاملة عن العيوب التي تُعيب القرار الإداري في أركانه

1 – رُكن الاختصاص.

2 – ركن الشكل.

3- ركن السبب.

4 – ركن الغاية.

5 – ركن المحل.

6 – الانحراف في استعمال السلطة.

ولسنا في معرض دراسة كل عيب من العيوب التي تُعيب القرار الإداري فهذه من موضوعات دارسي القانون في الكليات والمعاهد، ولكننا نُركز على أن رقابة القضاء الإداري على أركان القرار الإداري تستهدف حماية مبدأ المشروعية بشكل أساسي فهي تمنع الإدارة من الخروج على ضوابط المشروعية لتبقى خاضعة للقانون فيسود المجتمع العدالة والأمن والاستقرار.