خصائص القاعدة الجنائية الموضوعية

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

الخصائص الخاصة بالقاعدة الجنائية الموضوعية التي تميزها عن غيرها من القواعد وبالتالي تبرز لنا الذاتية الخاصة بها تجاه قواعد القانون الأخرى. وبهذا فقد آثرنا ومن أجل الاحاطة بذلك بحث هذه الخصائص كلاً على انفراد في فرع مستقل وكما يأتي:

الفرع الأول

إنهـا قاعدة من قواعد القانون العام

تتميز القاعدة الجنائية بأنها من قواعد القانون العام الذي يضطلع بتنظيم العلاقة التي تكون الدولة طرفاً فيها، فالعلاقة في هذه القاعدة تنشأ بين الدولة وبين من يخالف حكم القاعدة الجنائية، فتتمثل بحق السلطة في المطالبة القضائية بمجازاة من يخالف القاعدة الجنائية وحقها في تنفيذ الجزاء المحكوم به قضاءاً عليه(1). وهذا ما يبرز بدوره ذاتية القاعدة الجنائية الموضوعية تجاه قواعد القانون الخاص، التي تتولى تنظيم العلاقة ما بين الأفراد أو ما بين الأفراد والدولة بوصفها شخصاً عادياً أو اعتبارياً. أي بعد أن تكون قد تنازلت عن مركزها بوصفها صاحبة سلطة وسيادة، كما أن تنفيذ الحكم لا يكون قضائياً في الأصل أي لا تقوم الدولة ذاتها بتنفيذ الحكم الذي صدر عن المحكمة المدنية، بل ينفذ الحكم في الأصل بشكل رضائي ولا يلجأ إلى القضاء في تنفيذه إلا في حالات استثنائية وهي حالة امتناع المحكوم عليه عن تنفيذه رضائياً.

الفرع الثاني

إنهـا قاعــــدة آمــــرة

إن القاعدة الجنائية الموضوعية قاعدة آمرة أي أنها من النظام العام لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، فهي تحوي امراً بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل صادراً من الدولة متمثلة بالسلطة التشريعية إلى الأفراد يهدف إلى تحديد ما يعد من الأفعال جرائم لتعارضها مع المصلحة العامة، ويكفل تنفيذ هذا الأمر جزاء جنائي(2).

فالقاعدة الجنائية الموضوعية تختلف عن القواعد التي يتضمنها القانون المدني والتي تعد مجرد تجسيد (تفسير) لإرادة الطرفين المتعاقدين في علاقة قانونية ويسري حكمها عند سكوتهم، كذلك يمتنع سريانها إذا اتفق الطرفان على خلافها، على العكس من القواعد الجنائية التي لا تعد قواعد مفسرة بل (آمرة) لا يملك الأطراف الخاضعين لحكمها وهما الدولة (السلطة العامة) والفرد الاتفاق فيما بينهم على خلافها، وإنما يلتزم الطرفان حكمها ما دامت قائمة ولم يتناولها المشرع بالإلغاء(3). وتمتد صفة الأمر هذه إلى القواعد الجنائية التي يقتصر دورها على تفسير القواعد الجنائية الأخرى، وذلك لأنها تحدد وتكمل وتضع شروطاً لتطبيق قواعد جنائية آمرة، وبذلك لا يمكن أن تكون لها طبيعة غير طبيعة القواعد المفَسَرة ذاتها(4). فالطبيعة الآمرة للقاعدة الجنائية الموضوعية تتمثل في الشقين اللذين تتكون منهما وهما شق التكليف (الحكم) وشق الجزاء، فالشق الأول ينهى عن سلوك ما أو يأمر به، وشق الجزاء يحدد الجزاء الذي يفرض على كل من يخالف الأمر أو النهي الوارد في شق التكليف(5). وهذه خصيصة ثانية تظهر لنا بوضوح ذاتية القاعدة الجنائية الموضوعية إزاء قواعد القانون الخاص.

الفرع الثالث

إنهـا قاعــدة مؤكــدة أحكامهــا

إعمالاً لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقرر بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فإن القاعدة الجنائية قاعدة وضعية مكتوبة لا يجوز الاعتذار بجهلها(6). فهي تصدر بشكل حدده النظام القانوني وتنشر ويفترض علم الكافة بها(7)، كما إنها تصف الواقعة التي تنظمها بالتفصيل، وبالتالي فهي تمنح المخاطبين بها ثقة في السلوك والتصرف، وتوضح أمامهم الفيصل الحاسم بين الفعل المباح والفعل المجرم وحدود السلطة العقابية(8).

ففي هذه القاعدة لا سبيل للعرف أو الفقه أو القضاء في التجريم، فإذا عرضت واقعة ما أمام القاضي الجنائي بحث عن (الأنموذج القانوني) لها في التشريع وطابقه معها، فإذا لم يجد نصاً في التشريع ينطبق عليها فعليه أن يحكم بالبراءة وإلا جعل نفسه مشرعاً وقاضياً في الوقت ذاته، على العكس من القاضي المدني فهو ملزم في الفصل في الواقعة المعروضة أمامه وإلا عد منكراً للعدالة، ففي القضاء المدني يكون للعرف أو الشريعة الإسلامية أو قواعد العدالة أو الأحكام القضائية والآراء الفقهية دور بارز في الفصل في الدعوى إذا لم يوجد نص تشريعي يتضمنها(9)، وهذا ظهور جديد لذاتية القاعدة الجنائية الموضوعية إزاء قواعد القانون الخاص. يضاف إلى ذلك أن العلم بالقاعدة الجنائية مفترض ولا يجوز الاعتذار بجهلها، لأن هذا العلم مفترض لا يقبل الشك، فهي مكتوبة ومعلنة وفي متناول الكافة(10)، على عكس القاعدة القانونية الخاصة (المدنية أو التجارية…الخ) التي يجوز الاعتذار بجهلها إذا توافرت قرائن تثبت ذلك.

ويعلل الفقه الإيطالي عدم قبول عذر الجهل بالقاعدة الجنائية، بأن على المواطنين التزاماً ناشئاً عن تبعيتهم العامة للدولة يفرض عليهم أن يلموا بواجباتهم نحوها قدر الإلمام بحقوقهم عليها، فالدولة لا تدخر جهداً في صون حقوق المواطن، وكما أن المواطن حريص على مطالبتها بحقه دون أن تفوته بأية حال هذه المطالبة، فإن عليه مقابل ذلك أن يقف أيضاً على واجبه تجاه الدولة ولو بالتحري عن هذا الواجب إن لم يكن لديه معلوماً(11)، وهذه العلة غير متوافرة في القاعدة القانونية الخاصة لأن الفرد لا يكون فيها ملتزماً تجاه الدولة ولا يكون له حق عليها إلا إذا مارست دور الشخص العادي وهنا يكون الالتزام هو التزام ما بين أفراد لا أكثر، كما أن العلم بالقاعدة القانونية الخاصة لا يصل في أهميته إلى درجة العلم بالقاعدة القانونية الجنائية.

___________________

1- ينظر :د. رمسيس بهنام، النظرية العامة للقانون الجنائي، منشأة المعارف، الإسكندرية 1997، ص176.

2- ينظر: د. رمسيس بهنام، الجريمة والمجرم والجزاء، منشأة المعارف، الإسكندرية 1973، ص77.

3- ينظر: د. رمسيس بهنام، الجريمة والمجرم والجزاء، المرجع السابق، ص77.

4- ينظر: د. عصام عفيفي حسيني، القاعدة الجنائية على بياض (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار المجد للطباعة، مصر 2003، ص27.

5- ينظر: د. رمسيس بهنام، النظرية العامة للقانون الجنائي، المرجع السابق، ص177.

6- ينظر: د. محمد علي علي سويلم، تكييف الواقعة الإجرامية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة عين شمس، 1999، ص98.

7- حيث نصت المادة (37) من قانون العقوبات العراقي على أنه: “1- ليس لأحد أن يحتج بجهله بأحكام هذا القانون أو أي قانون آخر ما لم يكن قد تعذر علمه بالقانون الذي يعاقب على الجريمة بسبب قوة قاهرة. 2- للمحكمة أن تعفو عن العقاب الأجنبي الذي يرتكب جريمة خلال سبعة أيام على الأكثر تمضي من تاريخ قدومه إلى العراق إذا ثبت جهله بالقانون وكان قانون محل إقامته لا يعاقب عليها”.

8- ينظر: د. عصام عفيفي حسيني، القاعدة الجنائية على بياض، المرجع السابق، ص27.

9- حيث تنص المادة (1/2، 3) من القانون المدني العراقي رقم 40 لعام 1951 على أنه: “2- إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة، 3- وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية”.

10- ينظر: د. عبد الرحمن علام، أثر الجهل أو الغلط في القانون على المسؤولية الجنائية (دراسة مقارنة)، دار النهضة العربية، القاهرة 1984، ص66، الأستاذ محمد وجدي عبد الصمد، الاعتذار بالجهل بالقانون، عالم الكتاب، بيروت 1973، ص901.

11- ينظر في تفصيل ذلك: د. رمسيس بهنام، النظرية العامة للقانون الجنائي، المرجع السابق، ص226.