الحياد والمساواة في القضاء

حبيب عيسى
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
(1)

أعطى دستور 2012 كما دستور 1973 لرئيس الجمهورية، وهو نفسه رئيس السلطة التنفيذية سلطة التشريع، وإصدار القوانين خارج انعقاد دورات مجلس الشعب، وحتى في أثناء انعقادها، كما لرئيس الجمهورية، سلطة التشريع في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين، وفي هذا تعدٍ واضح على اختصاص السلطة التشريعية، ومن ثم تعدٍ على اختصاص السلطة القضائية وتعطيلًا لوظيفتها من السلطتين: التشريعية والتنفيذية معًا.

وكانت المادة (135) من دستور 1973 قد عالجت موضوع التشريعات التي كانت نافذة قبل إعلان الدستور، وكان من المفترض أن تنص على وقف سريان نفاذ كافة التشريعات التي تتناقض مع الدستور الجديد، لكن النص جاء مخالفًا لذلك، فقد نصت تلك المادة: (تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور سارية المفعول إلى أن تُعدل بما يوافق أحكامه).

لكن هذا التعديل لم يحصل، إضافة إلى أن هذه المادة تتضمن تناقضًا قانونيًا، فهي تسمح بوضوح إمكانية وجود نصين قانونيين، حتى لو كانت أحكام أحدهما لا تتوافق مع الآخر، وذلك خلال فترة تعديل التشريعات المخالفة، التي توجبها هذه المادة، والتي قد تمتد لفترة زمنية غير محدده، فضلًا عن إمكانية أن تكون تلك التشريعات المخالفة غير دستورية أصلًا، طبقًا للدستور النافذ وقت صدورها، وهي غير دستورية أيضًا وفقًا للدستور الجديد.

(2)

وهذه هي الحال تمامًا مع قانون الطوارئ والأحكام العرفية، ومحكمة أمن الدولة، والتي ظلت سارية المفعول 39 عامًا في ظل الدستور، حيث أن فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية قد صدر بموجب القرار رقم 2 عن ما سُمي “مجلس قيادة الثورة” تاريخ 8/ 3/ 1963، وعلى الرغم من أنه قد صدر عن جهة غير مختصة، وبمخالفة للأصول التي نص عليها قانون حالة الطوارئ نفسه بالمادة 2 من المرسوم 51 لعام 1962 التي تنص على أن: – تعلن حالة الطوارئ بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يُعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له، ب – يُحدّد المرسوم القيود والتدابير التي يجوز للحاكم العرفي اتخاذها، والمنصوص عليها في المادة الرابعة من هذا المرسوم التشريعي، دون الإخلال بأحكام المادة الخامسة منه)، فهو يخالف مواد الدستور الصادر عام 1973، وعلى الأخص المادة 101 منه والتي تنص على أن: (يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ ويلغيها على الوجه المبين في القانون)، فلم تعرض حالة الطوارئ على مجلس الشعب لغاية تاريخ إنهاء العمل بها عام 2012.

ما جعل من استمرار سريانها كل هذه المدة الزمنية مخالفة دستورية. ومخالفة للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى الأخص المادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه سورية بتاريخ 21/ 4/ 1969، وهذا سمح للسلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية بالهيمنة الكاملة على السلطة القضائية، وتعطيل وظيفتها، والتدخل الدائم بعملها، والمثال الفاضح على ذلك، هو وجود محكمة أمن الدولة العليا، التي أنشئت بموجب المرسوم رقم 47 لعام 1968، وبأمر من الحاكم العرفي الذي يتولى صلاحياته في ظل إعلان حالة الطوارئ وفقا للمرسوم التشريعي رقم 51 لعام 1962 مما يجعل من أحكامها في الوضع الدستوري والقانوني المذكور، معدومة وفاقدة لأي أثر أو مفعول قانوني والتي استمرت أيضاً حتى عام 2012، واستبدلت في ظل دستور 2012 بمحكمة الإرهاب، وهي من الطبيعة غير الدستورية ذاتها.

والمثال الثاني على ذلك هو القانون 49 لعام 1980، الذي قضى بإعدام كل منتسب للإخوان المسلمين بمفعول رجعي خلافًا للدستور السوري الذي أقر عام 1973، وخلافًا لسائر القوانين المحلية والمعاهدات الدولية وما زال ساريًا حتى الآن.

(3)

أما فيما يتعلق بحياد القضاء فقد نصت المادة 81 من قانون السلطة القضائية على أن: (يحظر على القضاة إبداء الآراء السياسية ويحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة). كما تضمن قانون العقوبات العسكرية في الفصل الثامن نصًا يفرض على العسكريين عدم الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وعدم الاشتراك في الأعمال السياسية، وفي المواد (147 لغاية 150)، نص على عقوبات تتراوح بين ستة أشهر؛ وحتى عشر سنوات بحق المخالفين، وهذه النصوص تشمل القضاة العسكريين.

وهذا النص لا يتعارض مع المادتين (8 – 9)، من المبادئ الأساسية للوثائق الدولية بشأن استقلال السلطة القضائية التي نوهنا عنها، وفيها أن: (8 – وفقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائمًا، لدى ممارسة حقوقهم، مسلكًا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء. 9 – تكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات للقضاة، أو غيرها من المنظمات لتمثيل مصالحهم والنهوض بتدريبهم المهني وحماية استقلالهم القضائي، والانضمام إليها).

(4)

وحيث يتبين من المواد السابقة، أن عدم الانتماء السياسي للقضاة، هو ضرورة تقتضيها شروط الحياد، وعدم الخضوع لأية سلطة قد تؤثرُ في قناعاته، إلا أن ذلك لا يعني حرمان القضاة من التعبير عن أرائهم في قضايا الشؤون العامة في بلدهم كغيرهم من المواطنين. لكن السلطة التنفيذية وعلى امتداد العقود المنصرمة لم تعتمد الكفاءة والعلم والمهنية في اختيار القضاة بل كان الاختيار يتم بموجب الموافقة الأمنية والانتساب لـ “حزب البعث العربي الاشتراكي” سندًا للمادة الثامنة من دستور 1973 وهكذا حلّ القضاة المنتمون لحزب البعث في السلك القضائي بناء على حزبيتهم ورضى الأجهزة الأمنية، وهذا ما أتاح لتلك الأجهزة التدخل في القضاء وإملاء الأحكام التي تريد، ونشاط القضاة البعثيين ليس مكتومًا، بل يجري علنًا وفي قاعات مخصصة للاجتماعات الحزبية والاحتفالات في قصور العدل.

(5)

وأما في ما يتعلق بالمساواة أمام القضاء، فتتجلى حالة انعدام المساواة أمام القضاء بانعدام وحدة القضاء، ويقصد بوحدة القضاء: (أن يكون التقاضي بالنسبة للجميع أمام محاكم واحدة، فلا تنشأ محاكم خاصة أو استثنائية لأفراد معينين، أو لطوائف، أو طبقات اجتماعية محددة)(1)، وقد حدد الدستور النافذ حاليًا، ثلاثة أنواع للقضاء في سورية وهي: القضاء العادي مُتضمنًا المحاكم الروحية، والقضاء الإداري ممثلًا بمجلس الدولة، والقضاء الدستوري ممثلًا بالمحكمة الدستورية العليا. ولم يتضمن أي نص صريح يسمح بإنشاء المحاكم الاستثنائية، فقد قامت السلطة التنفيذية بإنشاء العديد من المحاكم الاستثنائية، والتي ورد ذكرها (في الحلقة السابقة من هذا البحث)، وعلى ذلك فإن إحداث هذه المحاكم يُعدّ مخالفة صريحة للدستور، الذي أناط بالسلطة القضائية العادية وحدها مهمة تطبيق العدالة مستقلة عن باقي السلطات، وعلى الأخص يُعتبر إحداث تلك المحاكم الاستثنائية تعديًا على الولاية القضائية والاختصاص الشامل للسلطة القضائية. كما أن الانتقاص من هذه الولاية يُعدّ مخالفة للمادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومخالفة للمادة (3) من المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية(2).

كما تتجلى ظاهرة عدم المساواة بمخالفة مبدأ وحدة القانون المطبق: ويعني وجوب أن يكون القانون الواجب التطبيق على نزاع معين معروض أمام القضاء واحدًا، سواء من حيث العقوبات، أو من حيث الإجراءات المتبعة في التقاضي. وكانت “محكمة أمن الدولة العليا” تشكل المثال الأبرز على مخالفة هذا المبدأ، والآن “محكمة الإرهاب”. فقد ميّز المُشرّع بوضوح وبما يخالف مبدأ المساواة أمام القانون، في الجرائم بين الأشخاص العاديين، وبين العسكريين، والقضاة بالنسبة لجميع الجرائم وذلك: (يؤلف امتيازًا لا سند له في الدستور، وهو يختلف عما هو مقرر بالنسبة لباقي العاملين في الدولة لسببين:

الأول: اقتصار قانون العاملين على الجرائم التي لها علاقة بالعمل، في حين أن النصوص الأخرى تشمل جميع الجرائم، سواء ما تعلق منها بالوظيفة، أم لم يتعلق.

والسبب الثاني: عدم جواز الملاحقة الجزائية إلا بإذن، في حين أنه يكفي بالنسبة لباقي العاملين وجود ادعاء شخصي)(3).

وبما أن تقدم المجتمعات البشرية وتطورها يُقاس بمقدرتها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أرقى، يكون فيها الإنسان أكثر حرية، ويكون المجتمع أكثر مقدرة على التطور، والمراحل الانتقالية هي الأكثر حساسية في التاريخ البشري؛ لأن الماضي يكون في الحاضر بهذه النسبة أو تلك في المرحلة الانتقالية، بينما المستقبل يكون في مرحلة الحلم والتبلور لم يستقر بعد، وحتى يكون الانتقال باتجاه التطور وليس باتجاه النكوص والتوحش لا بد من توفير شروط العدالة الانتقالية، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ 

مراجع وهوامش:

(1) – نصرت منلا حيدر، مبدأ المساواة أمام القضاء، ص12.

(2) – المصدر السابق، ص11-12.

(3) – المصدر السابق، ص 17.