الدفع بأمر الرئيس في نطاق الجريمة الدولية

بقلمالمحامي. عبدالله محمد خيرالعجمي

كنت أتساءل دوماً : لماذايعاقب مجرم قتل شخصاً بكل صرامة القانون ، في حين ينجو من العقاب المجرم الأكبر الذي يتسبب في مقتل ملايين البشر ويهلك الحرث والنسل؟

ولماذا يتهيب قادة الدول الأخذ بخناق من يهدم المدن على منفيها وييتم الأطفال وينشر الهلع والذعر باستعمال الأسلحة الفتاكة والذرية أوالتهديد بها ؟

وانتهى بي التفكير إلى كتابة هاتيك السطور ، لأبيّن من خلالها مفهوم الجريمة الدولية ، وتحديد أركانها ، وشرح بعض الظواهر التي تبدو أنها جريمة لكنها ليست كذلك ، لأن القانون لا يحسبها في عداد الجرائم ، أي ما يطلق عليه (أسباب التبرير) أو أسباب الإباحة ، ومن ثم جدوى أن يبرر شخص ارتكابه لجريمة دولية بأن هتلقى أمراً من رئيسه بذلك . بعبارة أخرى : هل يمكن احتساب الدفع بتنفيذ أمرالرئيس سبباً من أسباب التبرير ؟

أولاً : مفهوم الجريمة الدولية :
في الحقيقة تتعدد تعريفات الجريمة الدولية ، وذلك بحسب الجانب الذي ينظرإليه كل فريق ، ولكن التعريف الذي نقدر أنه الأكثر شمولية هو تعريف الأستاذ الدكتورمحمود نجيب حسني : إن الجريمة الدولية هي فعل غير مشروع في نظر القانون الدولي صادرمن شخص ذي إرادة معتبرة قانوناً ومتصل على نحو معين بالعلاقة بين دولتين أو أكثر وله عقوبة توقع من أجله .
وبعبارة أخرى ، فإن الجريمة الدولية هي أفعال جسيمة تنال من الحقوق التي تحميها قواعد القانون الدولي ، مما يستتبع توقيع الجزاء على مخالفها . ومن هذا التعريف يمكن أن نستخلص الأركان العامة التي تنهض عليها الجريمة الدولية :

1 – تفترض الجريمة الدولية فعلاً يحدث اضطراباً ينال من النظام الدولي ، وهذا الفعل يشتمل القيام بعمل أو الامتناع عن عمل ، وبدون ذلك لا نكون أمام جريمة دولية، لانتفاء الركن المادي أي الفعل الآثم .

2 – تفترض الجريمة الدولية أن يتصف الفعل المكون لها بصفة اللا مشروعية ، أي أن يتضمن الفعل عدواناً على قواعد القانون الدولي ، وهذا الفعل الغير مشروع تتكفل بتحديده قواعد القانون الدولي ، وهذا ما يطلق عليه الركن الشرعي للجريمة .

3 – تفترض الجريمة الدولية صدور الفعل المكوّن لها عن شخص ذي إرادة معتبرة قانوناً ، معنى ذلك أن يكون هذا الفعل انعكاساً للنية الجرمية لفاعله ، وأن تتجه هذه النية نحو ارتكاب الفعل الآثم ، وهذا ما يطلق عليه الركن المعنوي للجريمة .

4 – تفترض الجريمة الدولية أن يكون الفعل المكوّن لها يتصل بموضوع القانون الدولي ، وبهذا الركن الدولي تتميز الجريمة الدولية عن الجرائم العادية المذكورة في القانون الداخلي .

وتأسيساًعلى ذلك ، إذا ما التأمت لفعل ما الأركان الأربعة سالفة البيان ، فإن هذا الفعل يغدو جريمة دولية ، أما إذا تخلف أحدها فإن هذا الفعل لا يمكن احتسابه من الجرائم الدولية ، من ذلك أنه قد يحدث أن يرتكب شخص ما فعلاً يظهر على خلاف الواقع أنه جريمة ، كما في حالة الطبيب الذي يجري عملاً جراحياً ، أو تنفيذ السجان عقوبة السجن بالمحكوم عليه ، أو إصابة أحد اللاعبين بكسر أثناء اللعب ، فهذه الحالات هي أفعال مشروعة قانوناً ، لذا ساغ أن نسميها (حالات المشروعية) ، أو أسباب التبرير .

أي أن هناك أفعال تبدوأنها اعتداء أو عدوان ، لكن القانون سمح بإتيانها ، ينجم عن ذلك تجريدها من صفتها غير المشروعة ، وصيرورتها في حكم الأفعال المشروعة أصلاً ، وبالنتيجة انتفاء الركن الشرعي تبعاً لذلك ، لأنه وكما نوهنا أن تقرير مشروعية فعل من عدمها هو أمر ينهض به القانون .

وأسباب التبريرهذه ، قد حددها القانون ونظمها بنصوص صريحة ، وهي متعددة . ولكن ما نريد الإجابة عنه في هذا البحث هو التساؤل عن إمكانية احتساب تنفيذ المرؤوس أمر رئيسه بارتكاب جريمة ، من أسباب الإباحة أو التبرير .

وللإجابة نقول إنه إذا كان الدفع بأمر الرئيس يعتبر في القانون الداخلي سبب إباحة بشروط محددة ، سيما إذا اقترن هذا الأمر بإكراه معنوي أو مادي يقع على المرؤوس ، ويعدم لدى المرؤوس حرية الاختيار ، كحالة الأمر الصادر إلى الجندي في ميدان القتال المقترن بتهديده بالقتل إن لم ينفذ .

إلا أن الأمر في القانون الدولي ليس بهذا الاستقرار والوضوح ، فقد اختلفت الآراء حول ذلك وتباينت ، ولكل فريق حججه وأسانيده ، كما أن لكل من الرأيين مثالب ومناقب ، على النحو التالي :

ثانياً– الرأي القائل إن الدفع بأمر الرئيس يعدّ سبباً من أسباب التبرير :
فقد ذهب هذا الفريق إلى أن تنفيذ أمر رئيس تجب إطاعته قانوناً ، يعدّ سبب إباحة يعترف به القانون الدولي ، ويعدّ تنفيذ أمر الرئيس كافياً كي ينال منالصفة غير المشروعة للفعل ، وينتفي بذلك الركن الشرعي ، ومثال ذلك أن ينفذ جندي أمررئيسه بضرب مدينة مفتوحة ، أو بقتل الرهائن ، أو الأسرى أو الجرحى ، وكلها أفعالتعدّ في الأصل جرائم دولية، ولكنها وفقاً لهذا الرأي تتجرد من صفتها غيرالمشروعة.

وحجة هذا الفريق، ضرورات النظام العسكري لأن هذا الأخير لا يتصور بلا طاعة كاملة يدين بهاالمرؤوسون للرؤساء ، وأن القانون الدولي يعترف لكل دولة بالحق في أن يكون لها نظامعسكري تستقيم به أمور الدفاع عن وجودها ، وهذا النظام من أهم مقوماته الطاعة التامة .

كما يستند أنصار هذاالرأي إلى أن المرؤوس الذي يتلقى أمر رئيسه يكون في حالة إكراه ، وأنه ليس من العدالة تجاهل تلك الحالة التي يكون فيها المرؤوس، وتوقيع العقاب عليه رغم خضوعه للإكراه ، ويرى هذا الفريق أن المسؤولية سوف تظل قائمة على الرئيس الذي أصدر الأمرغير المشروع ، وبالتالي تحقيق أهداف القانون الدولي في الردع عن الجرائم الدولية .

ثالثاً – الرأي القائل إن الدفع بأمر الرئيس لا يعدّ سبباً من أسباب التبرير :
بينما ذهب هذاالفريق إلى أنه لا يمكن قبول الدفع بتنفيذ أمر الرئيس بحسبانه سبباً من أسباب الإباحة في القانون الجنائي الدولي ، وسنده في ذلك أن المرؤوس إنسان لديه ملكات الوعي والإدراك ، وليس آلة صماء تنفذ دون تفكير ، بل إن واجبه أن يفحص الأمر ولايقدم على تنفيذه إلا إذا ثبت له اتفاقه وقواعد القانون ، بالإضافة إلى أن المرؤوسيعدّ من أشخاص القانون الدولي ، شأنه في ذلك شأن الرئيس تماماً ، وهو ملزم بتنفيذ التزامات القانون الدولي ، وخضوعه لهذا القانون خضوع مباشر لا يتوسط الرئيس بينه وبين قواعد القانون الدولي ، فهو مخاطب بها بصفة شخصية ومباشرة ، ولا يترتب على تنفيذ أمر الرئيس تجريد الفعل الغير المشروع من صفته الإجرامية .

كما يرى هذا الرأي بأنالاعتراف بقيمة أمر الرئيس كسبب إباحة يناقض طبيعة القاعدة القانونية بحسبانهاقاعدة عامة مجردة ، تطبق بلا استثناء على زمرة معينة من الأفعال دون تفرقة بينأشخاص مرتكبيها ، وعليه فكيف يتصور أن يكون الفعل مشروعاً إذا ارتكب تنفيذاً لأمررئيس ثم لا يعدّ مشروعاً إذا لم يكن مستنداً إلى أمر رئيس ، مثل هذه النتيجة لاتتفق مع المنطق القانوني .

ثم يضيف هذا الفريق ، إن احتساب أمر الرئيس سبب إباحة يعادل هدر أهم الحقوق التي يحميها القانون الدولي ، وتزول هذه الحماية لمجرد أن الفعل جاء تنفيذاً لأمر رئيس ، ومن ثم تضيع الجهود الدولية التي حرصت خلال وقت طويل على توفير الحمايةللحقوق الدولية ، ومن ثم تزول كل قيمة للقواعد التي تنظم الحرب ، وتصبح أكثرالأفعال وحشية أفعالاً مشروعة لمجرد كان الأمر بها صادراً من رئيس تجب إطاعته .

ما نراه بهذا الخصوص :
الرأي عندنا إن احتساب تنفيذ أمر الرئيس من أسباب التبريرأو الإباحة ، يؤدي إلى تقويض بنيان القانون الدولي ، كما يؤدي إلى تعطيل أحكامالمسؤولية الدولية الجنائية ، لمجرد أن فعلاً صدر تنفيذاً لأمر رئيس .

أما أن يقال ، إن هذاالمسؤولية سوف تظل قائمة على عاتق الرئيس ، فلا يمكن بتقديرنا قبول موقف من هذاالنوع ، إذ إن الرئيس سوف يدفع بدوره ، في الغالب من الأحوال ، بأمر صادر عن رئيسه، وهذا الأخير يدفع بهذا الدفع ، ولا يقف الأمر عند حد ما . ينجم عن ذلك ، تشتيت المسؤولية واستحالة تحديد الشخص المسؤول عن الفعل الآثم .

وفي الجهة المقابلة ، لايمكن تجاهل المركز الذي يكون فيه المرؤوس سيما في الحياة العسكرية ، وما تستلزمههذه الحياة من طاعة كاملة يفرضها النظام العسكري على المرؤوسين .

وتأسيساً على ما تقدم ،فإن دفع المرؤوس بتنفيذ أمر الرئيس يتوقف قبوله على التفصيل التالي :

يجب أن يعلم المرؤوس ،وأن يكون بإمكانه أن يعلم ، أن الفعل الذي وجه إليه الأمر بتنفيذه أمر الرئيس يتوقف قبوله على التفصيل التالي :

يجب أن يعلم المرؤوس ، وأن يكون بإمكانه أن يعلم ، أن الفعل الذي وجه إليه الأمر بتنفيذه ينطوي على مخالفة لقواعد القانون الدولي الجنائي .

فإذا كانت عدم مشروعيةأمر الرئيس واضحة جلية ، لا تدع معها مجالاً لدى المرؤوس للشك في أن الفعل المأموربه غير مشروع ، فإن الدفع بتنفيذ أمر الرئيس يغدو غير ذي طائل . وذلك كما في حالة أعمال الإرهاب ضد المدنيين ، والتي لا يفسرها إلا حب القسوة . معنى ذلك ، أنالمرؤوس في مثل هذه الحالة يكون عرضة للتتبع القضائي ، ومن ثم لا يقبل منه دفعاً من هذا النوع .

أما إذا كانت الصفة غير المشروعة للفعل الذي صدر فيه أمر الرئيس غير واضحة تماماً ، فإنه يمكنسماع الدفع بتنفيذ أمر الرئيس .

وسندنا في ذلك ، طبيعة الأمور ومنطق الأشياء، حيث إن الحياة العسكرية ،خاصة في أوقات الحرب ، تستدعي السرعة الفائقة من المرؤوس في تنفيذ الأوامر العسكرية دون إبطاء ، ولا يتاح للمرؤوس في كثير من الحالات تفحص مشروعية أمر الرئيس ومدىانسجامه مع القواعد القانونية ، ولا يتصور أن يستمهل المرؤوس أمر رئيسه ليتفحصه ،ثم يقرر مشروعية أمر رئيسه ومعها تنفيذ الأمر ، أو عدم المشروعية وبالتالي التمنع عن تنفيذ الأمر .

حتماً ،هذا الموقف لا ينسجم مع طبيعة الأوامر العسكرية ، وما تمنحه للرئيس من سطوة على مرؤوسيه يتمكن معها من كسر عناد المرؤوسين ، من أجل الوصول للغايات الأساسية من الحرب .

وبناء على ما تقدم، فإن جدوى الدفع بتنفيذ أمر الرئيس منوط بشروط :
– علم المرؤوس بعدم مشروعية الفعل محل الأمر الصادر من الرئيس .
– درجة عدم مشروعية الفعل .
– وإمكانيةعلم المرؤوس بعدم المشروعية ، وذلك حتى يصار إلى القول بتوفر القصد الجنائي لدىالمرؤوس .
ونشير ، إلى أنلائحة محكمة نورمبرغ أخذت بهذه القواعد ، إذ نصت في المادة الثامنة منها على أنه لايعتبر سبباً معفياً من المسؤولية دفاع المتهم بأنه كان يعمل بناء على أمر رئيس أعلى منه ، وإنما يعتبر سبباً مخففاً للعقوبة .

وقد دفع أحد المتهمين أمام محكمة مجرمي الحرب في نورمبرغ نفي المسؤولية عن الأفعال المنسوبة إليه ، تأسيساً على أنه بصفته جندي يتعين عليه إطاعة الأوامر ، وقد ردت المحكمة هذا الدفع بأن الأمر الذي يتلقاه أحد العسكريين بالقتل أو الإرهاب بالمخالفة للقانون الدولي الخاص بالحرب ، لا يمكن أن يبرر مطلقاً الفعل المجرم ، وإنما يمكن الاستفادة منه في تخفيف العقوبة المقررة له .

ونشير هنا ، إلى أن المحكمة الجنائية الدولية المحدثة مؤخراً في لاهاي بهولندا ، قد حددت في المادةالخامسة من النظام الأساسي لها ، الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة ، وهي (جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية ، جرائم الحرب ، وجريمة العدوان) ثم تحدثت في المادة 33 من نظامها عن الدفع بأوامر الرؤساء المتعلقة بالجرائم المنوه عنها ،حيث نصت على أنه :

( 1 – في حالة ارتكاب أي شخص لجريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة ، لا يعفى الشخص من المسؤولية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد تم امتثالاً لأمر حكومة أو رئيس ،عسكرياً كان أو مدنياً ، عدا الحالات التالية :

آ – إذا كان الشخص على التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني .

ب – إذالم يكن الشخص يعلم بأن الأمر غير مشروع .
ج – إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر ظاهرة .
2 – تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ، أو الجرائم ضد الإنسانية ) .

حتماً إذن ، نجد أنالمحكمة الجنائية الدولية ، أخذت بمبدأ عدم قبول الدفع بأمر الرئيس ، إلا في حالاتمحددة ، وهي صدور أمر من رئيس تجب إطاعته قانوناً ، وعدم علم المرؤوس بعدم مشروعية الفعل ، وعدم وضوح الصفة غير المشروعة للفعل ، ثم افترضت في الفقرة الثانية منالمادة نفسها ، وضوح الصفة غير المشروعة في زمرتين من الجرائم (جريمة الإبادةالجماعية ، والجرائم ضد الإنسانية) .

نحن نعتقد ، أن هذا الاتجاه من المحكمة ينسجم مع مقتضيات المنطق ، حيث إن هذه الأفعال تكون عدم مشروعيتها بالغة الحد الذي لا يتصور ألا تدركه الذهنية السليمة ، لذلك افترضت المحكمة مسبقاً علم المرؤوس بعدم المشروعية ،فحسنت بذلك افتراضاً .

ولا مندوحة في الختام عن الإشارة إلى أن ما يجري الآن من حصار ودمار لغزة ، هو جريمة دولية لا يرتكبها الكيان الغاصب فحسب ، بل جريمة ترتكبها الإنسانية ، استناداً إلى القاعدة القائلة بأن الخاذل أخو القاتل .

ونحن نرى أن هذا الفعل يشكل ، دون ريب ، وصمة عار في جبين الإنسانية ، التي لم تتوصل بعد إلى القرن الواحد والعشرين إلا من خلال أوراق التقويم ، أما حقيقة أمرها فإنها ما زالت تسلك في تدبيرشؤونها مسالك لفها التاريخ .
حيث إنه عندما تتسلل إلى بني الإنسان أفعال وجرائم كانت ترتكب في العصورالمخجلة من التاريخ، ثم تعود لتظهر في الحربين العالميتين الأولى والثانية ، ثم فيما بعد ، في القرن الواحد والعشرين ، فذلك لعمري بحق انتكاس في الإنسانية .

وعوداً على بدء ، في موضوع الدفع بأمر الرئيس، فلا يعقل سماع هذا الدفع من منفذي الاعتداء البربري في غزة بأنهم كانوا فقط ينفذون أوامر رؤسائهم مع جهالة عدم شرعيتها ، أو أن يدفع بذات الدفع قادة العمليات العسكرية الغاشمة على العراق.

ومهما يكن من أمر ، فإن الجرائم سالفة البيان ، رغم حسبانها جرائم دولية ، إلا أنها لم تنظر أمام محاكم دولية بعد ، وهذا تعليله أنها ترتكب من حكومات دول ما يطلق عليها بأنها (عظمى) ، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مثلاً وكيانهما الربيب .

وهنا نتساءل : إذا كانت هذه الدول تمثل قمة الإنسانية في القرن الواحدوالعشرين (بحسبان تقدمها العلمي والتقني) ، تجسد رأس انتكاسها ، وتعود بها إلى أشد حناياالتاريخ ظلمة وحلكة !!! فهل تستحق هذه الدول أن يطلق عليها (عظمى) ؟! هذا بتصورنا لا يتأتى .

بل إننا أيضاً أمام تساؤلات حقيقية وأشد خطورة ، هي أنه في ظل هيمنة هذه الدول على آليات صنع القرار الدولي وعسكرتها للعلاقات الدولية ، وقدرتها على تسييس القضايا القانونية ، يغدو مشروعاً التساؤل عن معنى ومصير الشرعية الدولية ؟ وعن وجود لتنظيم دولي فاعل إنسانياً ؟ وعن نجاح دور التنظيمات الدولية عبر التاريخ في حل الأزمات والنزاعات الدولية بالطرق السلمية ؟ وهل الأصل في العلاقات الدولية الحرب والاختصام، أم الوئام والسلام ؟

اقتباس:

في دراسة أجرتها مؤسسة كارينجي للسلام عام 1940م عن حروب العالم في التاريخ، ذكرت إحصاء بين أنه منذ عام 1496ق.م وحتى العام 1861م، وهي دورة زمنية طولها 3357، شهدت البشرية 227 سنة من السلام مقابل 3130 سنة من الحرب أي أن هناك 13 عاما من الحروب يقابلها عام واحد من السلام . وفي إحصاء أحدث تبين وقوع 14531حربا خلال 5560 عاما خلت ، أي حتى منتصف القرن العشرين ، كما تبين أنه خلال 185 جيلا لم ينعم بسلام مؤقت إلا عشرة أجيال فقط

وبالرغم مما تقدم ، فإن إدراكنا لفلسفة وغايات الصراعات الدولية ، يدفعنا للتخلي عن النظر إلى موازين القوى التيتحكم الإنسانية من خلال التنظيمات الدولية في عالمنا المعاصر ، والتأمل في القيم التي تحكم هذه القوى ، وتحديد طبيعة هذه القيم ، واستجلاء خطورتها ، ومن ثم السعي إلى بلورة قيم أسمى منها ، حتى يتسنى لنا ، مجابهة (موازين القوى) هذه ، بموازين قيم ، أي ما يمكن تسميته بـ (قوى الموازين) ، ذلك تأسيساً على القاعدة الكونيةالقائلة (أما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) .

ومن هذا التصور ،يلتئم لدينا جميعاً ذلك الإحساس الذي يحفزنا لتأكيد ما ألقاه « فيكتور هوغو » في خطاب له منذ أكثر من قرن من الزمان :

(سيأتي ذلك اليوم الذي يكون فيه التنافس الوحيد هو السوق المفتوحة أمام التجارة ، والعقل المنفتح للأفكار الجديدة ، وسيأتي ذلك اليوم الذي يستبدل فيه الرصاص والقنابل بالتصويت العام للأمم ، سيأتي ذلك اليوم الذي يعرض فيه المدفع في المتاحف العامة كما تعرض اليوم وسائل التعذيب البالية ، وسيذهل الناس كيف كانت مثل هذه الأداةالهدامة تستعمل) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرالباحث هذا المقال في مجلة المحامون الصادرة عن نقابة المحامين في الجمهوريةالعربية السورية، العددان 11-12 لعام 2008م .