مقال عن المفهوم القانوني للمقسط و القاسط

أ / حسام العريان

من هو المقسط و من هو القاسط و ما معنى قسط

مقسط و قاسط مصطلحان مشتقان من فعل واحد هو فعل قسط ، و المصطلح الأول [ مقسط ] على وزن [ مفعل] كمدرس و مفتش و مدرب و غيرها، و هو من يفعّل فعلا ليس هو موجده، فالمدرس يفعّل فعل التدريس من خلال منهج ليس هو بموجده.
و الحال كذلك مع المفتش حيث أنه يفعّل فعل التفتيش من خلال منهج ليس هو بموجده، و الحال كذلك مع المدرب و الممرض و غيره.
إما المصطلح الثاني [ قاسط ] فهو على وزن فاعل كصائد و قاتل و كاتب، و هو من يفعل فعل هو موجده فالصائد هو من يقوم بفعل الصيد من خلال منهج هو موجده، و القاتل هو من يقوم بفعل القتل من خلال منهج هو موجده، و الحال كذلك مع الكاتب و غيره.
من ذلك نخلص إلى أن المقسط هو من يفعل فعلا من خلال منهج ليس هو موجده، بينما القاسط هو من يفعل فعلا من خلال منهج هو موجده.
و هنا نكون قد اقتربنا من معنى المقسط و القاسط و لا يتبقى معنى غير معرفة معنى الفعل [ قسط ] خصوصا و إذا عرفنا من أن الله يحب المقسطين بينما القاسطون هم حطب جهنم و العياذ بالله، قال تعالى:

” ……….. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” ( المائدة/42)

” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” ( الحجرات/9)

” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” ( الممتحنة/8)

” وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ” ( الجن/15)
و هو أمر محير، فالمقسط و القاسط مشتقين من ذات الفعل [ قسط ]، الأول يحبه الله و الثاني حطب جهنم، أمر لا يمكننا الجزم بعلته إلا من خلال معرفتنا لمعنى الفعل [ قسط ].
معنى [ قسط ]:
ذهب معظم المفسرين إلى القول من أن معنى القسط هو العدل، و هو قول لا يستقيم و ما يلي:
1) ورود الفعل [ عدل ] و الفعل [ قسط ] في القرآن الكريم، و عليه فإن القول من إن المعنى للأول هو الثاني و العكس يأتي من باب التبديل لكلمات الله، و هو ما نهى عنه عز و جل حيث جاء في الآية السابعة و العشرون من سورة الكهف قوله جل و علا:

” وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا”

2) ورود فعل [ عدل ] و فعل [ قسط ] في ذات الآية و هو ما يعزز ما ذهبنا إليه في البند الأول، قال تعالى:
“وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ( الحجرات/9)

” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ” ( النساء/3)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” ( النساء/135)

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ” ( المائدة/8)

3) اسم الفاعل من الفعل [ عدل ] هو عادل، و هو ما يقابل قاسط كاسم فاعل من قسط، و بينما نجد إن العادل صفة حميدة يتمنى الإنسان من أن يوصف بها، نجد أن القاسط كما جاء في الآية الكريمة هو حطب جهنم.
من هذه الأسباب و على رأسها عدم التبديل لكلمات الله نستطيع الجزم من إن قسط لا يمكن أن تأتي بمعنى عدل، و عليه فما هو المعنى لفعل قسط إن لم يكن عدل؟ أمر يتطلب البحث،و خير ما نبحث به هو ذلك الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و الذي فيه تبيان لكل شيء، فنجد الحق تبارك و تعالى في الآية الثامنة و الخمسين من سورة النساء يأمر بالحكم بالعدل بين الناس، قال تعالى:

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ” 0 النساء/58)
بينما نجد الحق تبارك و تعالى يأمر رسوله الكريم بالحكم بالقسط كما جاء في الآية الثانية و الأربعون من سورة المائدة، قال تعالى:

” سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” ( المائدة/42)
و هو الأمر الذي يعزز للوهلة الأولى القول من أن قسط تعني عدل، و لكن بقليل من التدبر يتضح لنا العكس من ذلك، فما جاء بهاتين الآيتين لهو الدليل الواضح على اختلاف المعنى لقسط و عدل بل و توضح المعنى للقسط، و ذلك كالتالي:
– في الآية الأولى يخاطب الحق تبارك و تعالى المؤمنين من أهل الكتاب فيأمرهم بأن يحكموا بين الناس عند اختلافهم في أمر من الأمور بالعدل، أي إعطاء كل ذي حق حقه و عدم بخس حق أي طرف من المختلفين أو المتخاصمين، و هو المعنى الذي يتضح لنا أيضا في قوله تعالى:

“وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِوَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ( الحجرات/9)
– إما في الآية الثاني فالمخاطب هو الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام، و موضوع الحكم هنا ليس موضوع خلاف أو نزاع ما بين فئتين من الناس على أمر من أمور دنياهم، و لكنه موضوع تردد هؤلاء القوم ( اليهود) عن تطبيق حد من حدود الله ، أي إنه اختلاف على تطبيق شريعة الله، و لنطلع على تفاصيل القصة من خلال ما جاء في تفسير أبن كثير لهذه الآية الكريمة:

[ لت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدمين أرائهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل من الذين قالوا أمنا بأفواههم ولم تؤمن فلوبهم أي أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون من الذين هادوا أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم سماعون للكذب أي مستجيبون له منفعلون عنه سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد وقيل المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك أعدائك يحرفون الكلم من بعد مواضعه أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا قيل نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن حكم بالدية فاقبلوه وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا: فيما بينهم تعالوا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك ………]

و هنا لا نجد طرفين في القضية موضوع الخلاف، بل هو طرف واحد لا غير يريد التملص من تطبيق شرع الله، و من هنا فلا علاقة للعدل بالموضوع و لكن ضرورة العمل و الالتزام بما أنزل الله من أحكام و تشريعات هو الفيصل في ذلك و هو الأمر الذي يتضح لنا جليا من خلال ما جاء في الآيات التالية لتلك الآية الكريمة ( الآية 43- الآية50 من سورة المائدة)، قال تعالى:
” وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ” (43)

” إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ” ( 44)

” وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأ ُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ” ( 45)

” وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ” ( 46)

” وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” ( 47)

” وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْ هَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ” ( 48)

” وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ا لنَّاسِ لَفَاسِقُونَ ” ( 49)

” أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ” ( 50)

و نجد هنا أمر الله لرسوله واضحا و جليا بأن يحكم بينهم بما أنزل الله و بأن لا يتبع أهوائهم وأن يحذر من أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله.
و هو ما يعنى الحكم بالحق كما أمر به الله و هو معنى الحكم بالقسط، ومنها نستطيع القول من أن معنى القسط هو العمل بالحق كما جاء في منهج الله جل و علا.

و عليه فالمقسطين هم من يعملون بالحق من خلال ذلك المنهج أي يفعّلون منهجا للحق أوجده الله جل و علا و ذلك في كل عمل يقومون به، و حتى إماطة الأذى عن الطريق يقومون به من باب تفعيل ذلك المنهج.
و من حيث أن مقسط و قاسط مشتقة من ذات الفعل فلا يجوز الاختلاف في المعنى بينهما، و عليه فإن القاسطون أيضا يعملون الحق كما المقسطون و لكن يكمن الفرق فيما بينهما من أن المقسطين ( على وزن مفعلين) هم من يفعّلون المنهج الإلهي في الحق كما ذكرنا بينما القاسطون ( على وزن فاعلون ) فهم من يضعون لأنفسهم منهجا للحق يفعلونه، فحالهم في ذلك كحال المدرس الذي يضع لنفسه منهجا للتدريس ، أو المفتش الذي يضع لنفسه منهجا للتفتيش و هكذا.
و هو أمر مرفوض من تلك الجهات، بل و يعاقب عليه هؤلاء الأشخاص و ذلك من حيث المبدأ بغض النظر عن صواب أو خطأ ذلك المنهج،ولله المثل الأعلى و لرسوله، و من هنا كان القاسطون لجهنم حطبا و الله أعلم، و عليه فشتان ما بين الاثنان، أي ما بين المقسط و القاسط.
و بعد أن تعرفنا على ذلك المعنى و المفهوم لفعل [ قسط ] ( العمل بالمنهج الإلهي للحق) نستطيع إعادة النظر في تأويل الآيات الوارد بها ذلك المصطلح، و ما قوله جل و علا: ” وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ” ( الشعراء/182)
إلا من هذا الباب، أي باب العمل بالمنهج الحق الذي وضعه الحق تبارك و تعالى بإيفاء الكيل و الميزان و عدم بخس الناس حقوقهم، فهو القسط بالميزان، قال تعالى:

” …….. وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ……. ” ( الأنعام/152)

” ……. فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ….” ( الأعراف/85)
” …… وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ …… ” ( هود/84)
” وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ….. ” ( هود/85)
” وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ” الرحمن/9)

كما إن هذا المعنى لقسط ( العمل بالمنهج الإلهي من حق و عمل صالح) ينسجم و المعنى العام للآيات الوارد بها ذلك المصطلح و لا يشذ أو يستنكر في أي آية منها، و في ما يلي بعض من الأمثلة على ذلك، قال تعالى:
” إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” ( آل عمران/21)
” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ” ( النساء/3)
” وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ” ( النساء/127)
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” ( النساء/135)

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ” ( المائدة/8)

” وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ” ( الأنعام/152)

” قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ” ( الأعراف/29)

” إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ” (يونس/4)
” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ” ( يونس/47)
” وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ” ( يونس/54)

” وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ” ( الإسراء/35)
” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ” ( الأنبياء47)

” ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ” (الأحزاب/5)
” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ( الحجرات/9)

الأستاذ / عبد الوهاب داوود الحزامي
( الكويت )
مهندس اليكترونيات 0
حالياً متفرغ للدراسات الشرعية والأبحاث فى القرآن الكريم

المؤلفات الفقهية :

1- النفس فى القرآن الكريم ( منشور )
2- استنساخ الإنسان بين العلم والقرآن ( تحت النشر )