مدخل إلى العدالة الانتقالية في سوريا

أنور البني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

لأن العدالة الانتقالية عملية تجري في الدول والمجتمعات، التي شهدت انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان، وجرى فيها تغيير سياسي، أدى إلى تغيير شامل من نظام الحكم القديم إلى نظام جديد، ولأن دورها الأساسي يتركز في تخليص المجتمع من آثار الفترة السابقة، وتهيئته للانتقال بسلاسة، ومن دون تكلفة إضافية، إلى مجتمع جديد، من المفترض فيه أن يكون أكثر عدالة واحترامًا لحقوق الإنسان؛ لذلك لابد، قبل الدخول في مشروع العدالة الانتقالية بسورية، من النظر بعين مقارنة إلى تجارب العدالة الانتقالية في البلدان الأخرى، وخاصة العربية منها التي شهدت مثل هذه التجارب؛ لاستخلاص نتائج يمكن الوصول منها إلى أنجع طريقة لتطبيق العدالة الانتقالية في سورية.

في الواقع، لا يمكن الحديث -حتى الساعة- عن عدالة انتقالية ناجزة وكاملة، جرت في أي من البلدان العربية التي شهدت تطورات مجتمعية، وتغييرًا سياسيًا ، ومع أهمية دور العدالة الانتقالية بالتغيير ورسم مستقبل المجتمعات، إلا أنها لم تأخذ هذا الدور في كل البلدان التي شهدت هذه التجربة، فجاءت ناقصة ومجتزأة ومختصرة جدًا، وشكلية في بعض الحالات، دون أن نلمس أنها لعبت دورها الحقيقي، وشاركت في رسم المستقبل، أو نرى لها أثرًا فاعلًا في إعادة الاستقرار للمجتمعات بعد الإضرابات التي عاشتها.

ففي التجربة اللبنانية، ومن تغيير النظام السياسي الذي حدث في اتفاق الطائف بعد حرب أهلية استمرت خمس عشرة سنة، طُويت صفحة هذه الحرب بشكل عجول، بالاتفاق على إصدار عفو عام، يشمل جميع الجرائم التي ارتكبت خلال فترة الحرب الأهلية؛ ما نقل القادة العسكريين وأمراء الحرب إلى مراتب السياسيين والوزراء ورموز الأحزاب، وانتقل صراعهم العسكري إلى صراع سياسي على تقاسم مغانم السلطة ومراكز الدولة، وترك لما سُمّي عدالة انتقالية ملف تعويض المهجرين وإعادتهم إلى بلداتهم، وهذا الملف، أحدثت له وزارة في الحكومة الجديدة، كانت تُعطى كجائزة ترضية لجهة أو حزب، وتُرك هذا الملف مفتوحًا لعشرات السنوات، ومازال حتى الآن، على الرغم من مرور ربع قرن على اتفاق الطائف، ما زال هناك مُهجّرون لم يعودوا ولم يُعوّض عليهم، وما زال هناك كثير من المفقودين في الحرب الأهلية، لم يُكشف مصيرهم، وما زال أهلهم يقومون بالمطالبات والمناشدات للكشف عن مصيرهم، وما زالت هناك خيمة أهالي المفقودين في سورية منتصبة -منذ سنوات- أمام مبنى “الأسكوا” للأمم المتحدة؛ للتذكير بهذه القضية، ومازالت القيادات السياسية (العسكرية سابقًا) تفتح ملف جرائم الحرب، كلما اشتد الصراع السياسي، وتكيل اتهامات الجرائم للخصوم السياسيين؛ ما يشكل تهديدًا دائمًا لاستقرار المجتمع والدولة في كل حين.

أما في المغرب، فلم يجرِ -أساسًا- أي تغيير في النظام السياسي، وإنما جرى انتقال توريثي للمملكة إلى الملك الابن، بعد وفاة الملك الأب، وفي خطوة جريئة ولتعزيز انفتاحه، قام الملك الجديد بإجراء إصلاحات سياسية، تمنح الحكومة بعض الصلاحيات، مع بقاء النظام الملكي، وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات، وأحدث هيئة المكاشفة والمصارحة التي اقتصر دورها على إجراء لقاءات كبيرة؛ لعرض الانتهاكات التي كانت تحدث في المغرب، دون أي أثر لها على إجراء مساءلة أو تعويض المتضررين، وانتهت هذه الفترة بإصدار اعتذار ملكي عما جرى للضحايا، وطُويت بذلك الصفحة.

وفي العراق لم تجر عملية عدالة انتقالية، إلا بخصوص تقديم رموز النظام السابق إلى المحاكمات المفتوحة، وطويت الصفحة بانتهاء هذه المحاكمات، وتنفيذ الأحكام، ولم تنشأ أي هيئة للعدالة الانتقالية، واعتُبرت المحاكمات وتنفيذ الأحكام، بمنزلة تعويض كاف للضحايا عما أصابهم؛ ما أظهر العملية وكأنها عملية عدالة انتقامية، وليست انتقالية لتأسيس مرحلة جديدة للمجتمع.

وفي ليبيا، ومع البدء بتأسيس المجتمع الجديد، بعد سقوط نظام القذافي، قام المجلس الوطني بتأسيس هيئة للمصالحة والعدالة الانتقالية بالقانون رقم 17 لعام 2012، وسرعان ما بدّله بالقانون رقم 29 لعام 2013، لتأسيس هيئة كاملة للعدالة الانتقالية، ومن الجليّ أن عدم استقرار الأوضاع، واستقرار النظام السياسي الجديد، واستمرار الصراع المسلح أعاق عمل هذه الهيئة، وهناك أمل في أن تُمارس دورها في المستقبل بفاعلية.

واليمن كذلك، لم تستقر أوضاعه بعد، وما زال الصراع السياسي، والمسلح يشمل مساحة كبيرة منه، ولم يستقر النظام السياسي، علمًا أنه لم تؤسَّس أي هيئة للعدالة الانتقالية فيه، خلال الفترة القصيرة التي شهدها، في أعقاب سقوط نظام علي عبد الله صالح.

وفي مصر، صادرت الدولة الجديدة مسألة العدالة الانتقالية، بإحداث وزارة لها في الحكومة الجديدة، وحددت مهماتها، بالنظر في القضايا المستقبلية دون البحث في كل الأحداث التي جرت سابقًا، تاركة للقضاء الموجود مسألة النظر في بعض الانتهاكات ومحاكمة بعض الرموز، ولم تر أن هناك ضرورة لإجراء مراجعة شاملة للمرحلة السابقة، أو إجراء مصالحات بالمجتمع أو تقديم تعويضات.