الإصلاح الجبائي بالمغرب، أية آفاق؟

نظمت الحكومة أيام 29 و30 أبريل 2013، مناظرة وطنية حول الإصلاح الجبائي، هذه المناظرة هي الثانية من نوعها؛ إذ سبق ونظمت وزارة الاقتصاد والمالية المناظرة الأولى أيام 26 و27 نونبر من سنة 1999. وقد شكلت أعمال هذه المناظرة أرضية “للإصلاح الجبائي” الذي تم تطبيقه على مراحل خلال العشرية الماضية.

إلا أن المناظرة الحالية تكتسي طابعا خاصا، إذ أنها تنظم في ظرف دقيق يتميز بتفاقم عجز الميزانية العامة للدولة وتدهور الحسابات الخارجية. فمن فائض يقدر ب 0,4℅ سجل سنة 2008، تدهورت حالة المالية العمومية تدريجيا ووصل عجزها إلى ℅2,2 من الناتج الداخلي الخام سنة 2009 لينتقل إلى 4,7℅ سنة 2010 وإلى 6,2℅ سنة 2011 و 7,1℅ سنة 2012. تفاقم عجز الميزانية العامة جعل الحكومة تتخذ قرارا مثيرا يقضي بتجميد 15 مليار درهم من ميزانية الاستثمار برسم القانون المالي لسنة 2013. . ودون قرار التجميد كان العجز سيصل إلى 9℅ من الناتج الداخلي الخام حسب تقديرات وزارة الاقتصاد والمالية. وقد تتلو قرار التجميد هذا قرارات أخرى صادمة ولا شعبية نتيجة لتفاقم عجز الميزانية العامة للدولة. تزايد كذلك مبلغ الدين العمومي الخارجي لينتقل من 16,49 مليار دولار سنة 2008 إلى 19,37 مليار دولار سنة 2009 و 20,79 مليار دولار سنة 2010 ثم 22,04 مليار دولار سنة 2011 و 25,22 مليار دولار سنة 2012.

إن النظام الجبائي يوجد في قلب معادلة التوازنات الماكرواقتصادية. العجز الكبير الذي تعاني منه الميزانية العامة للدولة ليس بمنأى عن النظام الجبائي. فالموارد الجبائية تمثل أزيد من 85% من الموارد العادية للميزانية العامة للدولة مع تفاوت بسيط بين السنوات (حوالي 89% برسم قانون المالية لسنة 2013 و87% برسم السنة المالية 2012 و85% برسم السنة المالية 2011).

لذا وجب الوقوف عند مميزات هذا النظام، تطوره وآفاقه على ضوء المستجدات الحالية.

I- النظام الجبائي المغربي: تطور ملحوظ ونقائص كثيرة

النظام الجبائي الحالي وليد تطورات كثيرة لعل أهم محطاتها القانون الإطار رقم 83-3 المتعلق بالإصلاح الجبائي الذي أسس لنظام جبائي جديد جاء بالضرائب الثلاث الكبرى المعروفة: الضريبة على القيمة المضافة (1985)، الضريبة على الشركات (1986) والضريبة على الدخل (1990). وبعد تأسيس هذه الضرائب الكبرى، حصل إصلاح للجبايات المحلية تبلور بإصدار القانون رقم 89-30 المتعلق بجباية الجماعات المحلية وهيئاتها. هذا القانون، نظرا للنقائص التي شابت تطبيقه، تم نسخه وتعويضه بالقانون رقم 47-06 المتعلق بجباية الجماعات المحلية.

قانون المالية لسنة 2004 جاء بدوره بإصلاح لواجبات التسجيل كما عرف النظام الجبائي قبل ذلك إصدار ميثاق الاستثمارات سنة 1995 الذي عوض التدابير القطاعية لتحفيز الاستثمار. العشرية الماضية عرفت دفعة جديدة من الإصلاحات الجبائية. وقد توجت هذه الإصلاحات بإصدار مدونة الضرائب سنة 2007 وبدء إصلاح الضريبة على القيمة المضافة الذي عمل على التقليص من الإعفاءات الممنوحة وكذا تقليص عدد الأسعار المطبقة.

كما عملت مختلف قوانين المالية المتتالية على إدخال تعديلات كثيرة همت في جانب منها التخفيض من أسعار الضرائب وفي جوانب أخرى توسيع الوعاء الضريبي،والرفع من مردود الضرائب،وتبسيط تدبير النظام الجبائي ومساطره، والتحفيز على الاستثمار وتحقيق أهداف اجتماعية.

ولمواكبة تحولات النظام الجبائي، تغيرت هيكلة الإدارة الضريبية أكثر من مرة وتحولت سنة 2005 من مديرية للضرائب إلى مديرية عامة للضرائب وتمت إعادة هيكلة مصالحها الخارجية التي انتظمت في مديريات جهوية.

بالموازاة مع هذه التحولات النوعية، تطورت الموارد الجبائية بشكل ملحوظ. إذ أن مبلغ هذه الموارد انتقل من80 مليار درهم سنة 2002 إلى 136 درهم سنة 2007 و 167 مليار درهم سنة 2008. على أن انخفاضا سجل سنة 2009 إذ أن المبلغ انخفض إلى 150 مليار ليعود ليرتفع تدريجيا بعد ذلك.

لكن رغم المجهودات التي بذلت، لازال النظام الجبائي المغربي يعاني نقائص كثيرة واختلالات عميقة وجب تصحيحها. نذكر منها ما يلي:

-هول الغش والتملص الضريبي. لقد أصبح الغش الضريبي ظاهرة بنيوية بالمغرب وإذا كانت هذه الظاهرة خارج الحدود، خصوصا في الدول الديمقراطية، تعتبر ظاهرة مشينة، فعندنا تعتبر رياضة وطنية. بل تكاد تكون حقا مكتسبا تمارسه كل فئات الملزمين (باستثناء الأجراء نظرا لاقتطاع مساهمتهم الضريبية من المنبع).إن ظاهرة الغش الضريبي لهي من الخطورة بمكان إذ أنها كانت من مداخل الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تعيشها اليونان وتهددها بالإفلاس. لكنها مع الأسف تجدرت عندنا. فالإحصائيات التي يدلي بها من حين لآخر مديرو الإدارة الضريبية دالة جدا. فقد صرح المدير العام السابق للضرائب Challenge Hebdo n°219,07/01/2009))

بأن 64℅ من المقاولات المغربية تصرح بعجز في حساباتها رغم أنها تشتغل بشكل طبيعي منذ سنوات. نفس الاتجاه، سار فيه المدير العام الحالي الذي أقر في لقاء مع مقاولي طنجة بتاريخ 26 فبراير 2013 بأن ثلثي المقاولات الصغرى والمتوسطة تصرح بعجز في حساباتها معتـبرا هذا الأمر غير طبيعي (L’Economiste, n°3978, 28/02/2013).

ظاهرة الغش الضريبي تهدد الاقتصاد الوطني وهي جزء من منظومة الفساد واقتصاد الريع لذا وجب التصدي لها بكل حزم. لكن أمام هول الغش الضريبي، تجد الإدارة الضريبة نفسها شبه عاجزة ومحدودة الإمكانيات المادية والبشرية. إذ أن عدد الملزمين (أشخاص معنويون ومهنيون) الخاضعين للضريبة على القيمة المضافة (وبالتالي يتوفرون على محاسبة) يفوق 273.377 ملزم بينما لا يتجاوز عدد المحققين الجبائيين350 محققا في مقابل 5300 حوالي محقق بفرنسا. نتيجة لهذا الخلل البين، فإن عدد التحقيقات الجبائية لسنة 2011 على سبيل المثال لم يتعد 1421 تحقيقا على أن المردود المالي لهذه هذه التحقيقات ارتفع وبلغ ما يناهز 4,3 مليار درهم.

-أمام هول الغش الضريبي ومحدودية إمكانيات الإدارة الضريبية في المراقبة، فإن الشركات راكمت امتيازات كثيرة. فالسعر الأعلى للضريبة على الدخل يضل مرتفعا (38℅) بالمقارنة مع سعر الضريبة على الشركات (30℅) كما يؤدي الأجراء زيادة الضريبة على القيمة المضافة والضرائب الداخلية على الاستهلاك والرسوم الجمركية. كما ضل يعاب على النظام الجبائي المغربي بنيته التي تتميز بأهمية الضرائب غير المباشرة على حساب الضرائب المباشرة مما يؤشر على توزيع غير عادل للأعباء الضريبية.

استفادت الشركات والأشخاص المعنويون كذلك من تخفيض متوالي لسعر الضريبة على الشركات الذي انتقل من 45℅ سنة 1986 إلى 40℅ سنة 1988، وإلى 38℅ سنة 1993 و 36℅ سنة 1994 و35℅ سنة 1996 و 30℅ سنة 2008. أكثر من ذلك فإن قانون المالية لسنة 2013 جاء بقرار غير متوقع إذ خفض سعر الضريبة على الشركات إلى 10℅ بالنسبة للمقاولات التي لا يتعدى ربحها الجبائي 300.000 درهم.إن هذا التخفيض يعني بالنسبة إلينا عمليا إلغاء الضريبة على الشركات بالنسبة للمقاولات المستفيدة خصوصا وأن عددها مرتفع ويناهز 75℅ من المقاولات الصغيرة والمتوسطة كما صرح بذلك المدير العام الحالي للضرائب في لقائه السابق الذكر بمقاولي طنجة. لذا فإننا نشاطر الاقتصادي نجيب أقصبي عندما يقول بأن الضريبة على الشركات تحولت في المغرب إلى “ضريبة على بعض الشركات”

(N.Akesbi pour une fiscalisation appropriée du capital in Dix Questions l’économie marocaine, 2012, PUM, 2012pp-89-129).

المدير الحالي للضرائب كان قد صرح في نفس الاتجاه بأن 2% من الشركات الخاضعة للضريبة على الشركات تؤدي 80% من موارد هذه الضريبة
. (Challenge, n° 312, Janvier 2011)

– من جهة أخرى يعاب على النظام الجبائي المغربي كثرة الإعفاءات التي تنص عليها المدونة العامة للضرائب مما يشكل مصدر نقص هام في موارد الخزينة. التقرير السنوي حول النفقات الجبائية (تقرير 2012) يظهر تزايدا مضطردا لعدد الإعفاءات والتخفيضات، إذ وصل ل 402 إجراء سنة 2012 مقابل 399 سنة 2011 و 384 سنة 2010 و 393 سنة 2009. ونتيجة لهذا التزايد في عدد الإعفاءات والتخفيضات، فإن تكلفة النفقات الجبائية انتقلت من 29.734 مليون درهم سنة 2009 إلى 29.801 مليون درهم سنة 2010 ثم إلى 32.075 مليون درهم سنة 2011 وأخيرا إلى 36.310 مليون درهم سنة 2012.

-عدم وجود ضريبة على الثروة من شأنها تقليص الفوارق الاجتماعية بين مختلف الطبقات الاجتماعية وإشاعة روح التضامن بين مختلف شرائح المجتمع. صحيح أن فرض هذه الضريبة قد يثير جدلا واسعا في ظرفية صعبة لكن كان بإمكان الحكومات المتتالية سن تشريع خاص بالزكاة على اعتبارها واجبا دينيا بالنسبة للميسورين ومدخلا لردم الهوة بين فئات المجتمع.

-بالنسبة للضريبة على الدخل فإن عددا كبيرا من الملزمين الخاضعين لهذه الضريبة يؤدونها وفق النظام الجزافي وهو نظام غير عادل يفتح باب الشطط من جانب الإدارة وباب الغش والتملص الضريبي من جانب الملزمين. كما أن حوالي 73% من موارد الضريبة على الدخل مصدرها مأجورو القطاع العام والخاص. وبالتالي تتضح المساهمة الضعيفة للمهنيين (مهن حرة، تجار…) والخواص. والسبب تصريحهم المتتالي بنتائج سلبية أو ضئيلة.

-ملاحظات أخرى كثيرة يمكن أن نسجلها على أداء النظام الجبائي المغربي. لكن المجال لا يسمح بالتفصيل فيها في هذا المقال. لذا نكتفي بسرد سريع لأهمها: الآجال الطويلة لمعالجة شكايات الملزمين إذ وصل عدد الشكايات المسجلة لدى الإدارة الضريبية في فاتح يناير 2011 حوالي 131.323 شكاية، غموض بعض النصوص الجبائية مما يفتح المجال لتأويلات مختلفة ومتضاربة، عدم استقرار النظام الجبائي بفعل التعديلات الكثيرة التي تدخلها مختلف قوانين المالية على النصوص الجبائية، وجود ضريبة كالضريبة المهنية والتي يتشكل وعاءها من قيمة الاستثمار المنجز، محدودية الموارد المادية والبشرية للإدارة الضريبية (حوالي 4700 عون وإطار يوكل إليهم تدبير ملفات حوالي 3 ملايين ملزم قار)، إضافة مهمة جديدة وجسيمة لهذه الإدارة وهي مهمة التحصيل الشيء الذي استنزف موارد بشرية كثيرة، طول المساطر الجبائية واتسام بعضها بالتعقيد، تضخم الهيكل التنظيمي للمديرية العامة للضرائب الشيء الذي نجم زيادة أعباء التراتبية وتقليص عدد المفتشين الفاعلين، أخطاء في برمجة التحقيقات الجبائية مما يحد من مردودها المالي، محدودية فعالية تقصي المعلومات والتحري، نشر محدود جدا للمعلومات الخاصة بالمادة الجبائية (الإحصائيات، بيانات وغيرها) والتذرع من أجل ذلك بالحفاظ على السر المهني…

II-قراءة في تقرير المجلس الأعلى للحسابات 2011 الخاص بالمديرية العامة للضرائب:

من أجل تشخيص جيد للنظام الجبائي المغربي، وجب كذلك إجراء قراءة في التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات (تقرير 2011) في جزءه الخاص بالمديرية العامة للضرائب. إن هذا التقرير لا يمكن إغفاله، بل يجب أن يشكل مرجعا من بين مراجع الإصلاح الجبائي المزمع إجراءه.لقد وضع هذا التقرير الأصبع على كثير من النقائص، نوجزها في ما يلي:

1-النقائص المتعلقة بالوعاء الضريبي:

-التصريح المتكرر بالعجز الجبائي من طرف الملزمين والاكتفاء بأداء الحد الأدنى للضريبة (حالة المهن الحرة بالدار البيضاء).

-نظام معلوماتي غير ملائم يعيق تدبير الوعاء الضريبي.

-غلبة المهام الإدارية على حساب مهام التحقيق بالنسبة لمفتشي الوعاء الضريبي وعدم استغلال المعلومات المتوفرة وعدم القيام بالزيارات الميدانية اللازمة والتأخر في تسوية الوضعية الجبائية للملزمين وانتظار قرب آجال التقادم لفعل ذلك.

-المشاكل التدبيرية المهمة التي تطرحها الشركات المتوقفة عن النشاط (شركات-جثث، Sociétés cadavres) والتي قد تمثل 40℅ من عدد الشخصيات المعنوية المشكلة لمحفظة الإدارة الضريبية من الأشخاص المعنويين وعدم إقرار الأخيرة لسياسة موحدة في هذا الاتجاه.

-تقصير في تدبير الضريبة على القيمة المضافة يأخذ عدة أشكال: عدم إدخال المعطيات الخاصة بتصريحات الملزمين في النظام المعلوماتي خصوصا في المديريات الجهوية لمكناس والقنيطرة وعدم تفحص هذه التصريحات واتخاذ الإجراءات القانونية بشأنها.

-ضعف مساهمة المهنيين والخواص في موارد الدولة من الضريبة على الدخل رغم أهمية عددهم (1.2 مليون ملزم دون احتساب المأجورين) وهذه الوضعية راجعة، يلاحظ التقرير، لتصريح هاته الفئة من الملزمين المتتالي لعجز جبائي أو التصريح ببيانات غير حقيقية أو الامتناع عن التصريح. ويعرف تدبير الضريبة على الدخل بالنسبة للخواص والمهنيين نفس النقائص الخاصة بالنظام المعلوماتي.

-عدم تفحص العمليات والتصريحات التي يقوم بها المنعشون العقاريون وعدم استغلال واستعمال المعلومات المتوفرة بخصوص هذه الشريحة المهمة من الملزمين.
-نقائص في قاعدة المعطيات الخاصة بالضريبة على الأرباح العقارية وضعف تبادل المعلومات مع الإدارات المختصة كالمحافظة العقارية والبلديات والجماعات.

-الارتجالية في اتخاذ قرار تحصيل الضرائب من طرف المديرية العامة للضرائب بدل الخزينة العامة للملكة والنتيجة تعثرات كثيرة في هذا الشأن وتضييع للجهد والموارد المحدودة أصلا.

2-النقائص المتعلقة بالتحقيق الجبائي:

توقف المجلس الأعلى للحسابات كثيرا عند تدبير التحقيقات الجبائية بالمديرية العامة للضرائب. ولاحظ بداية وكما أسلفنا محدودية عدد المحققين الجنائيين. كما لاحظ غياب استراتيجية واضحة المعالم فيما يخص التحقيق الجبائي وتغليب الهدف المالي على حساب الأهداف والأخرى كتشجيع الاستثمار والنشاط الاقتصادي.سجل التقرير أيضا غياب نظام معلوماتي خاص بالتحقيقات الجبائية ومساطر تؤطرها مهام المحققين الجبائيين.

تقرير المجلس الأعلى للحسابات لم يكن ليغفل مسألة برمجة التحقيقات إذ سجل غياب أنظمة معلوماتية (تطبيقات) مسخرة لهذا الغرض وعدم كفاية واستغلال المعلومات الخاصة بهذا الشأن. والنتيجة برمجة غير عقلانية للتحقيقات واختصار اقتراح التحقيقات على مفتشي الوعاء الذين يعتمدون في ذلك على تقديراتهم الشخصية. وعندما يتم إقرار برنامج التحقيقات فإن هذا البرنامج يرسل بكثير من التأخير للمديريات الجهوية مما يؤثر سلبا على جودة التحقيقات ويتسبب في عدم تنفيذ البرنامج كليا. ففي سنة 2011 وصل احتياطي التحقيقات غير المنفذة 1574 ملفا وهو رقم كبير يتجاوز برنامج سنة بأكملها.

انتقد تقرير المجلس الأعلى للحسابات كذلك النهج المتبع في تنفيذ التحقيقات إذ سجل اختلافا في المقاربات بين المديريات الجهوية وداخل نفس المديرية واعتماد كثير منها على رفض محاسبات الملزمين وهو حل “سهل” لكنه يلاقي اعتراضات من طرف الملزمين واللجان الضريبية والمحاكم.

وقد عاب المجلس كذلك على مصالح التحقيقات توقيع اتفاقات مع الملزمين الخاضعين للتحقيقات. إذ أن هذه الاتفاقات لا تتم على أساس واضح وتخضع للسلطة التقديرية لمصالح التحقيقات. كما لاحظ باستغراب توقيع اتفاقات مع ملزمين دون بدء التحقيقات أو قبل نهايتها خصوصا في قطاع العقار.

3-المنازعات والنظام المعلوماتي:

– بخصوص المنازعات الجبائية وتدبيرها، فقد سجل تقرير المجلس الأعلى للحسابات ملاحظات عدة مثل غياب آليات لتوقع وتدبير القضايا المثيرة للمنازعات وكذا ضياع متكرر لوثائق ملفات المنازعات وغياب التواصل بين مصالح المنازعات القضائية وبقية مصالح المديرية.

توقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات كثيرا عند مشروع النظام المعلوماتي الجديد الذي تعتزم المديرية العامة للضرائب اعتماده. وقد نبه للتعثرات الكبيرة التي يعرفها المشروع منذ انطلاقته رغم المبالغ الكبيرة المرصدة لإنجازه والتي تتجاوز 140 مليون درهم. إذ طال أمد إنجازه الذي تعدى 70 شهرا عوض 36 شهرا المرتقبة. كما أن تكلفته زادت عن المبالغ المتوقعة لإنجازه وصعب التحكم في تطبيقاته. المجلس لاحظ كذلك التسرع الذي صاحب مرحلة انطلاق المشروع و مرحلة تطويره وعدم الأخذ بعين الاعتبار غنى المادة الجبائية وتشعبها وكذا العراقيل التي تعترض تجريب التطبيقات الجاهزة منه.

تقرير المجلس الأعلى للحسابات كما أسلفنا يعتبر وثيقة مهمة تنضاف لدراسات كثيرة وتشخيصات عديدة للنظام الجبائي المغربي (تشخيص المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتاريخ نوفمبر 2012 لا يقل أهمية كذلك) . إلا أنه لم يتطرق لجوانب عدة تؤثر على سير وتدبير هذا النظام نذكر منها بنية هذا النظام، استفحال ظاهرة الغش الضريبي والتملص الضريبي، محدودية النصوص الجبائية، تدبير الموارد المادية والبشرية للإدارة الضريبية، صياغة السياسة الجبائية وتوجيهها، علاقة الإدارة الضريبية بالإدارات العمومية الأخرى والمؤسسات العمومية (تبادل المعلومات) ، المشكل البنيوي لتدبير النظام الجبائي والمتمثل في محدودية الموارد البشرية والمادية للإدارة الضريبية في مقابل تزايد عدد الملزمين، الوضعية الجبائية للقطاع غير المهيكل.

III-مقترحات على درب الإصلاح:

أخذا بعين الاعتبار ما سلف، وبغية المساهمة في النقاش الوطني حول الإصلاح الجبائي، نتقدم في ما يلي بجملة من الاقتراحات لتحسين وتجويد أداء النظام الجبائي. لكن قبل ذلك لابد من إشارة مهمة وهي أنه يتعين تحديد أهداف وأولويات الإصلاح المعتزم إجراؤه. فالنظام الجبائي يؤدي وظائف كثيرة: وظائف مالية، اقتصادية واجتماعية. إلا أن الظرفية الحالية الصعبة لا تحتمل تخفيضا في الموارد الجبائية فالأولوية إذن للرفع من هذه الموارد بغية الحد من تفاقم العجز العمومي. لكن هذه الأولوية الظرفية. قد تصطدم بانتظارات فاعلين كثيرين ولوبيات قوية تبحث عن مزيد من الامتيازات.

إنما من جهة أخرى، فمقتضيات الدستور الجديد والالتزام بمبادئ دولة الحق والقانون والتزامات الحكومة يقتضي منها إزالة كل أشكال الحيف واللامساواة من النظام الجبائي المغربي.

بعد هذه الإشارة، نرى أن إمكانيات الإصلاح الجبائي متعددة ويجب أن تهم القوانين المنظمة للمادة الجبائية والإدارة الضريبية وتدبير النظام الجبائي. الإصلاح يجب أن يهم كذلك الفاعلين والشركاء من الملزمين (أشخاص معنويون، مهنيون، أجراء، أشخاص طبيعيون) والإدارت والمؤسسات العمومية المعنية بشكل أو آخر بتدبير المنظومة الجبائية.

-بداية نقترح مراجعة عميقة لنظام الإعفاءات الجبائية. إذ لا يعقل أن تضل قطاعات وأنشطة وجهات ترابية تستفيد وباستمرار من الإعفاءات أو التخفيض الضريبي. نذكر على سبيل المثال القطاع الفلاحي الذي يراكم الامتيازات ويستفيد كذلك من مساعدات أخرى للدولة. أيضا لا يعقل أن تضل مؤسسات ربحية مثل جامعة الأخوين ومستشفى الشيخ زايد غير خاضعة للضريبة على الشركات. نفس الشيء يمكن قوله عن الامتيازات الضريبية الخاص ببورصة الدار البيضاء. كل المؤسسات والهيئات التي تحقق أرباحا يجب أن تخضع للضريبة بغض النظر عن إطارها القانوني. نفس الشيء يمكن قوله عن مدينة طنجة التي تستفيد من إعفاء جزئي لم يعد له مبرر بالنظر للتطور الاقتصادي لهذه المدينة والأوراش العمومية التي أطلقت بها.

-في نفس النطاق يجب مراجعة بعض القرارات المتخذة والتي لا تتناسب والوضعية الحالية للمالية العمومية مثل تخفيض سعر الضريبة على الشركات إلى 10℅ بالنسبة للشركات التي يقل ربحها عن 300.000 درهم. نفس الشيء يمكن قوله عن رفع سقف الإعفاء من الضريبة على الشركات والضريبة على القيمة المضافة بالنسبة للتعاونيات من 5.000.000 درهم إلى 10.000.000 درهم.

-وضع “إجراءات قانوني أو سن “نظام جبائي” جديد (Nouveau régime fiscal) بالنسبة للشركات والملزمين المهنيين الذي يصرحون باستمرار بنتائج جبائية سلبية كالرفع من سعر الحد الأدنى للضريبة.

-وضع “نظام جبائي” جديد بالنسبة لعدد من المهن الحرة والتي يعتبر ممتهنوها من أكثر الملزمين تصريحا للنتائج السلبية رغم استفادتهم من امتيازات ورعاية الدولة (حماية قانونية، تكوين، صفقات عمومية..).

-قطاع آخر يجب أن يكون في صلب الإصلاح الجبائي المنشود وهو قطاع العقار. إن هذا القطاع تحول لمجموعة من الأسباب لرمز اقتصاد الريع في المغرب الذي يطالب الجميع باجتثاثه. فهو يستفيد من دعم الدولة رمن الإعفاءات الجبائية. لكن مساهمته الجبائية تضل ضعيفة بالمقارنة مع رقم معاملاته وأرباحه. كما أن هذا القطاع يفرض على المواطنين أسعارا مرتفعة تستنزف قدرتهم الشرائية وتحد من الاستهلاك الموجه للقطاعات الأخرى.

-التكثيف من المراقبة الجبائية. ومن أجل هذا يجب الزيادة في عدد المحققين الجبائيين والعمل على التخفيف من الأعباء الإدارية لمفتشي الوعاء الضريبي لجعلهم يتفرعون للتحقيق الجبائي.

-في نفس السياق، يجب إدراج كل الشركات والمؤسسات الخاصة الكبرى في برامج التحقيق الجبائي المقبلة دون تمييز. نفس الشيء ينطبق على القطاعات المستفيدة من الظرفية الحالية والقطاعات التي لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية. نذكر منها قطاع التوزيع، قطاع العقار، قطاع الطاقة، القطاع المالي، قطاع النقل، قطاع مواد البناء، قطاع البناء والأشغال العمومية، المقاولات العمومية، قطاع المواصلات وتكنولوجيا المعلوماتية، الشركات الأجنبية والمتعددة الجنسيات، الشركات والمقاولات المستفيدة من الطلب العمومي ومقاولات التصدير والاستيراد…

-هول الغش الضريبي والتملص الضريبي في المغرب والعجز الكبير للميزانية العامة للدولة وضرورة محاربة اقتصاد الريع، كل هذه العوامل مجتمعة وأخرى تحتم وضع مخطط وطني متكامل لمحاربة الغش الضريبي والتملص الضريبي. في سبيل ذلك، يجب اتخاذ حزمة من الإجراءات القانونية والعملية والتدبيرية وكذا التحسيسية. ومن أجل إنجاح هذا المخطط الوطني يتعين على الحكومة أن تقدم الدعم السياسي والمادي والمعنوي اللازم للإدارة الضريبية.

-تكثيف التوظيف والرفع من عدد أعوان ومفتشي المديرية العامة للضرائب. وفي حالة تعذر ذلك (محدودية المناصب المالية) يمكن للحكومة أن تعمل على تنقيل(إعادة الانتشار) عدد من موظفي وأعوان الإدارات والجماعات التي تعرف فائضا إلى الإدارة الضريبية مع إخضاعهم لتكوين دقيق. إذ أن تزايد عدد الملفات الجبائية ومهام الإدارة الضريبية لم يوازيه الرفع من عدد أعوانها وموظفيها الذي ظل يراوح 4700 موظف. وهو عدد مرشح للانخفاض مع تزايد عدد الأطر والموظفين المقبلين على التقاعد في السنوات المقبلة. وهنا تبرز كذلك أهمية التدبير التوقعي للموارد البشرية وكذا ضرورة وضع خطة استباقية لوقف النزيف والحد من آثاره.

-الإسراع بإنجاز مشروع النظام المعلوماتي للجديد الذي تعثر كثيرا رغم إلحاح الجميع على إنجازه.وكما اقترح تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وجب إخضاع المشروع المتعثر إذا للتدقيق (Audit) واتخاذ القرارات المناسبة لإكمال إنجازه.

-الاستعمال المنهجي لمقتضيات الفصل 29 من المدونة العامة للضرائب عند تنفيذ التحقيقات الجبائية خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمهن الحرة. والفصل 29 من مدونة الضرائب يعطي الصلاحية للإدارة الضريبية من أجل إجراء تقييم لنفقات الخاضعين للضريبة على الدخل عند دراسة مجموع الوضعية الضريبية للملزم. ويمكن أن يترتب بطبيعة الحال عن هذا التقييم مراجعة الوضعية الجبائية للملزم.

-وضع الإطار القانوني المناسب الذي يحتم على الإدارات العمومية والمؤسسات العمومية تبادل المعلومات فيما بينها. فالإدارة الضريبية تتضرر من نقص المعلومات الخاصة بالملزمين أو صعوبة الحصول عليها. على أنها ملزمة بدورها بمد المعلومات المتوفرة لديها للإدارات والمؤسسات العمومية الأخرى خدمة للصالح العام وذلك في إطار القوانين المنظمة لهذا الأمر (قانون حماية المعطيات الشخصية مثلا).

-من أسباب تضخم التهرب الضريبي في المغرب حجم القطاع غير المهيكل والذي يتخذ أشكالا عديدة. إن عملا في العمق يجب أن يمس هذا القطاع من أجل تضريبه وجعله يساهم في المجهود الوطني لتغطية النفقات العمومية خصوصا مع رقم المعاملات المهم الذي يحققه.

-الرفع من سعر الضريبة على القيمة المضافة بخصوص المنتجات الفاخرة (Biens de luxe) كما كان في السابق (سعر 30%) ولو لفترة محددة حتى يتسنى للمالية العمومية أن تستعيد عافيتها ولتحقيق عدالة جبائية بتضريب أكبر للمنتوجات غير الأساسية.

-في نفس السياق يجب مراجعة قرارات أخرى مثل إعفاء القطاع الصحي (أطباء، مصحات، مختبرات التحاليل الطبية) من الضريبة على القيمة المضافة. فالهدف المتوخى من هذا الإجراء لم يتحقق مادامت تعريفات الخدمات الطبية لم تنخفض بل عرفت ارتفاعا. وهنا يجب القول بأن الإدارة الضريبية يجب أن تتبع وتدقق في كل الإعفاءات الممنوحة وتتأكد من تحقق الهدف الاقتصادي أو الاجتماعي الذي سنت من أجله.

-في نفس الاتجاه، يجب أن يؤدي النظام الجبائي وظائفه الأخرى كضبط (régulation) الاقتصاد الوطني. هذا الأمر لا يتحقق مع ظاهرة المضاربة العقارية التي تتفاقم وتتم خارج الأنظمة والقوانين وخسائرها معروفة: الزيادة في الأثمان، الغش الضريبي، الاغتناء السريع… لقد أصبحت المضاربة العقارية مهنة مدرة لكثير من الربح لكن متعاطيها يوجدون خارج قوائم الملزمين المهنيين المسجلين لدى الإدارة الضربية بفضل استغلالهم للفراغات القانونية الكثيرة. لذلك وجب حصر هذه الظاهرة والعمل على تقنينها وتضر يبها وإلا ستشكل عائقا كبيرا أمام تطور الاقتصاد الوطني (goulot d’étranglement). ومن أجل ذلك لا يكفي تدخل الإدارة الضريبية بل يجب تدخل كل القطاعات الأخرى المعنية (السكنى والتعمير، الداخلية، الجماعات المحلية، إدارة المحافظة العقارية، القطاع البنكي…).

-إعادة النظر في تدبير النظام الجبائي المغربي والسير اليومي للإدارة الضريبية انطلاقا من تقرير المجلس الأعلى للحسابات المشار إليه سابقا واعتماد الممارسات الجيدة (Bonnes pratiques) في التدبير العمومي وتدبير الإدارات الضريبية على وجه الخصوص.

-يجب وضع قواعد تنظم السلطة التقديرية المخولة للإدارة الضريبية عموما وفي مسألة الإعفاء الجزئي أو الكلي من الغرامات والزيادات وفوائد التأخير خصوصا وذلك لتحقيق المساواة بين الملزمين وتجنب الشطط في استعمال هذه السلطة علما وأن مبالغ هذه الزيادات تكون مرتفعة وتقدر بملايين الدراهم.

-في مقابل ضرورة محاربة الغش الضريبي ومراجعة الإعفاءات، يجب تطهير النظام الجبائي المغربي من حالات الشطط التي يعرفها. نذكر منها اعتماد مذكرات ودوريات الإدارة الضريبية لمقتضيات لم تأت بها المدونة العامة للضرائب، عدم إدماج مقتضيات الأحكام القضائية في التشريع الضريبي، التأخر في معالجة ملفات المنازعات واسترجاع الضريبة على القيمة المضافة، غياب مجلس وطني للضريبة يناقش السياسة الضريبية ويحمي الملزم من احتمال الشطط خصوصا مع انفراد الإدارة الضريبة باقتراح النصوص الجبائية، اعتماد الفصل 61 من المدونة العامة للضرائب دخلا نظريا وليس حقيقيا كوعاء للضريبة على الدخل (القيمة الكرائية للعقارات الموضوعة من طرف مالكيها مجانا رهن إشارة آخرين)، مقتضيات الفصل 167 من المدونة العامة للضرائب والقاضية بجبر مبلغ الضريبة إلى الدرهم الأعلى عوض الدرهم الأسفل في إشارة رمزية لاحترام حقوق الملزم والابتعاد عن ثقافة الشطط ، عدم اعتماد الإدارة الضريبية على أسس قانونية في مراجعة الربح العقاري المصرح به من طرف بائعي العقارات والمراجعة المنهجية لتصريحاتهم، كثرة الحالات التي تتخذ فيها القرارات بناءا على السلطة التقديرية لمفتشي الإدارة الضريبية، الحجز على الحسابات البنكية للملزمين في مقابل تأخر الدولة المتكرر عن تسديد الديون التي بذمتها (حالة الصفقات العمومية)…

خاتمة:

إن الإصلاح الجبائي أصبحت مسألة حتمية ومحط إجماع من طرف كل الملاحظين والفاعلين العموميين والاقتصاديين.لكن الإشكال المحوري الذي يطرح نفسه هو في أي اتجاه يجب أن يوجه هذا الإصلاح؟ فالظرفية الحالية خاصة وتذكرنا بالظرفية التي سادت في بداية الثمانينيات وما تبعها من سياسة تقشف وتقويم هيكلي.

من أجل تجنب سياسة تقويم جديدة، لابد من الحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى وهذا يتطلب تعبئة موارد جبائية جديدة. لكن إذا تمت هذه التعبئة على حساب التوازنات الاجتماعية وتنافسية الاقتصاد الوطني فإن ذلك قد يدخل البلاد إلى مرحلة مجهولة العواقب اقتصاديا واجتماعيا. فاللحظة التي يمر منها الاقتصاد المغربي فاصلة وتستوجب أخذ القرارت المناسبة.

على أن عودة التوازنات الماكرواقتصادية تتطلب الجرأة في الإسراع بإصلاح صندوق المقاصة الذي يبتلع مبالغ كبيرة جدا. كما يجب القيام بمجهود كبير في مجال التحكم في النفقات العمومية وإعطاء إشارات للمواطن على أن كل مستويات ميزانية الدولة معنية بالتضحيات الواجب قيامها من أجل تجاوز إكراهات المرحلة.

كما تجب الإشارة على أنه يجب تفادي بعض الحلول السهلة من أجل الحد من تفاقم عجز الميزانية العامة للدولة كاللجوء إلى الخوصصة والمديونية لأن هاتين السياستين من شأنهما أن ترهنا حاضر المغرب ومستقبله.