الخلفية التاريخية للقانون الدولي العام

لقد كان هناك في المجتمعات البدائية علاقات غير معقدة لذلك كانت قواعد القانون الدولي تتسم بالبساطة ولكن هذه القواعد لم تكن كما هي عليه في الشكل الحالي حيث ظلت بهذه البدائية إلى أن ظهرت الدولة الحديثة، حيث أن القانون الدولي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور نظام الدولة الحديثة ولذلك فإن فهم طبيعة القواعد القانونية الدولية يقتضي تتبع ظروف نشأة الدولة الحديثة ومعالمها الأساسية.
أولاً- ظهور الدولة الحديثة:
لقد أصبحت المجتمعات الإنسانية مستقلة عن بعضها البعض حيث لكل واحدة سكانها وإقليميها وسلطتها العامة، ولكن ذلك جاء بشكل تدريجي، حيث صادف ظهور الدولة والسلطة الحاكمة عدة عقبات أهمها:
قلة عدد السكان وتناثرها في أنحاء مختلفة، والظروف الاقتصادية الصعبة، وأهم هذه العوامل على الإطلاق وجود النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة.
النظام الإقطاعي:
لقد كنت السلطة في الممالك الإقطاعية موزعة بين الملك وبين الأمراء الإقطاعيين، حيث كان لكل أمير إقطاعه لخاص الذي يسيطر عليه ويدافع عنه بل كان يدخل في معارك مع الأمراء الآخرين لتوسيع نفوذه وللبحث عن الموارد الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدفاعية الأفضل، أمام هذا التمزق لم يكن المالك قادراً على التعبير عن إرادة موحدة للمملكة، حيث يصعب وصف المملكة الإقطاعية بالدولة بالمفهوم المعاصر، لأن السلطات كانت موزعة بين الأمراء الإقطاعيين والدولة الحديثة تقتضي تجمع السلطات في يد حكومة واحدة تهيمن على المملكة بجميع مقاطعاتها وتمثلها في الداخل والخارج، ولكن على الرغم من أن النظام الإقطاعي كان حائلاً دون التحول إلى نظام الدولة الحديثة، فإن المساوئ التي صاحبت هذا النظام، والضعف والتفكك الذي ساد هذه الإقطاعيات أدى إلى حتمية التغيير نحو النظام الدولة الموحدة.
سيطرة الكنيسة:
كان النظام السياسي للجماعة الإنساني في الغرب في العصور الوسطى يقوم على دعامتين:
السلطة الدنيوية والسلطة الدينية ويقوم بالنهوض بهما الإمبراطور والبابا ولقد كانت الكنيسة تطالب بالولاء لتعاليهما التي لم تكن تنحصر فقط في التعاليم الدينية بكل كانت تشمل شئون الحياة الدنيوية الأخرى، ولقد كان هناك صراع بين الملك والكنيسة حول ذلك إلى أن انتهى هذا الصراع بتوقيع صلح وستفاليا عام 1648 الذي يعد بداية انتقال السلطة من الكنيسة إلى الدولة بشكلها الجديد ثم زالت آخر عقبة كانت تعترض طريق ظهور الدولة الحديثة بانتصار الملك على البابا في فرض سلطاته على الشئون المدنية.
وأخطر ما واجه الدول عدم وجود رقابة على علاقاتها المتبادلة من جهة وتحللها من المبادئ والمثل العليا من جهة أخرى نتيجة استقلالها عن الكنيسة. ولقد اكتشفت الدولة ضرورة وجود التعاون فيما بينها للحفاظ على بقائها وذلك نتيجة ظروف كل دولة واحتياجاتها للدول الأخر من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية ومن جهة أخرى للحفاظ على سيادة الدولة يجب أن تمتنع كل دولة عن الاعتداء على الدول الأخرى والامتناع عن حل المنازعات عن طريق استخدام القوة.
وأمام ذلك يجب عليها الخضوع إلى مجموعة من الضوابط الموضوعية بشأن تنظيم المعاملات والعلاقات المشتركة بينها، هذه الضوابط تأخذ شكل قواعد تتفق الدول على الالتزام بها فيما يقوم بينما وبين غيرها من الدول من علاقات التعاون وتبادل المصالح.
ثانياً- نظرية السيادة:
بعد ظهور فكرة الدولة، كان لا بد أن يكون هناك مساواة ما بين الدول ويترتب على ذلك ألا يكون لإحدى الدولة سلطة على دولة أخرى وأمام ذلك حدث تطور فكري في نظرية سيادة الدولة.
والسيادة نظرية قانونية ارتبطت بنشأة الدول القومية في أوربا، ولكنها ظهرت في بادئ الأمر كمبدأ سياسي ينادي باعتبار الملك هو صاحب أدنى سلطة في الدولة.
نظرية بودان في السيادة:
أول من قال بنظرية السيادة هو المفكر الفرنسي جان بودان، حيث عرف السيادة بأنها السلطة العليا والمطلقة للملك على المواطنين والرعايا والتي لا يقيدها إلى الله والقانون والهدف من ذلك كان التحرر من النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة.
وأهم مظاهر للسيادة هو سلطة إصدار القوانين من قبل الملك وبالتالي فهو لا يخضع لها بما أنه هو الذي أصدرها وبالتالي يكون الملك أعلى سلطة في الدولة، ولكن سلطته مطلقة بل تخضع للقوانين الإلهية والقانون الطبيعي والقوانين الأساسية للدولة وتعني الأخيرة القوانين التي لا يضعها الملك وتقرر من الذي يحكم ومن الذي يضع في يده كل السلطات والحدود التي تمارس في إطارها سلطته وهو ما يطلق عليه حالياً الدستور وعلى ذلك مفهوم السيادة عند بودان يعني أن الدولة لها سلطة عليا قوية وموحدة ولكنها ليست مستبدة أو غير مسئولية فهي محدودة بواسطة القانون وتستمد سلطاته منه، وهذا المفهوم للسيادة يتمشى مع النظرة التقليدية لمفهوم القانون التي تعتبر جميع القوانين الوضعية مستمدة من قانون أساسي أعلى يلزم الجميع ويتضمن حكمه الماضي، وإن القوانين الوضعية إذا خالفت هذا القانون الأعلى لن يكون لها أي قيمة ولن يعتد بها، وتمشياً مع هذا المفهوم فإن السيادة مبدأ رئيسي وضروري من أجل الحفاظ على النظام الأساسي للدولة.
ولكن نظرية بودان تغيرت نتيجة للأحداث التي توالت في نطاق العلاقات الدولة وظهور الدولة القومية في أوربا في العصر الحديث، حيث بدأ التفكير يتجه نحو الدولة القوية ذات السلطة المطلقة وأن القانون هو من صنع الحاكم وذلك كان نتيجة للتأثر بالقانون الروماني الذي كان يعد إرادة الأمير هي القانون ولقد وصل هذا التفكير إلى مده بعد كتبات هوبز في السيادة الذي يعتبر السلطة أعلى ما في الدولة وأقواها لذلك لا يمكن أن يوضع لها حدود كما لا تسمو عليها أي سلطة أخرى سواء في الداخل أو الخارج والقانون لا يقيد الحاكم بل هو أداة ليباشر فيها حكمه، وعلى ذلك فإن السيادة يجب أن تكون مطلقة وغير محدودة وهو ما يطلق عليه اليوم الديكتاتورية.
ولكن بظهور الحكومة الدستورية، ظهرت أفكار جديدة تبناها المفكر “لوك” ومن بعده “روسو” حيث أصبحت السيادة لمجموع الشعوب، وفي ذلك إضفاء للشرعية على الثورة الأمريكية والفرنسية حيث كانت لمواجهة الديكتاتورية.
وكان لتطور نظرية السيادة ودخولها المجال القانوني بداية نشوء القانون الدولي التقليدية، فلم تعد للدولة سيادة مطلقة في ميدان العلاقات الدولية، وبدأت تتوازن الأفكار التي كانت تنادي بأن الدولة لا تتقيد إلا بإرادتها وأن استعمال القوة واللجوء إلى الحرب هو أحد الوسائل المشروعة تأكيد سيادة الدولية.
واتجه الفقه إلى القول بأن هذه السيادة مقيدة بقواعد القانون الدولي العام وهي قواعد ملزمة تعلو على إرادة الدول.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت