النظرية الحديثة للصياغة التشريعية

أولا- صانع الفطير وصانع القانون الصياغة القانونية: هل هي حِرفة، أم علم له أصوله ومنهجه؟

في برنامج تليفزيوني ترفيهي، تقمص الممثل الكوميدي سمير غانم دور “صانع الفطير”، وأمسك بقطعة من العجين وبعد أن قام بهرسها باستخدام مقبض خشبي، بدأ يلفها في الهواء في شكل دائري، كما يفعل صانع الفطير، ومع أول لفة طارت قطعة العجين لتسقط على وجه أحد الحاضرين!!

وتكمن دلالة هذا المشهد في أن صناعة الفطير حرفة يحتاج المرء لممارستها بإتقان، كأية حرفة أخرى، إلى تعلمها عن طريق الممارسة العملية، والتجربة والخطأ. ولا يحتاج المرء لكي يصبح فطايري ماهر لأن يدرس منهجا لتعلم كيفية صناعة الفطير. وعلى عكس ذلك، يحتاج المهندس أو الطبيب أو المحاسب إلى دراسة مناهج علمية توضح له أصول المهنة ذات الصلة، ثم يصقل مهنته بعد ذلك بالممارسة العملية. ومثل المهندس والطبيب والمحاسب، يحتاج “صانع القانون” إلى منهج علمي متخصص لاتباعه قبل أن يمارس هذه المهنة. وعلى عكس “صناعة الفطير” التي يمكن تعلمها من “الأعراف” السائدة في هذه الصناعة، يحتاج الصائغ التشريعي إلى تعلم “أصول راسخة ومنهج مدروس” قبل أن يمارس هذه المهنة.

وبينما يسود الاعتقاد، لاسيما في دول نظام التقنين المدني، بأن المحامي الكفء يمكنه صياغة مشروعات القوانين دون صعوبة، فإن الاعتقاد السائد في دول نظام القانون العامcommon law هو أن الصياغة القانونية فن متخصص له أصوله وقواعده وأسلوبه، ولا يستطيع مزاولته سوي شخص متخصص.

وفي إنجلترا، يقوم بهذه المهمة جهاز مستقل يُسمى “مكتب الصائغين البرلمانيين” Parliamentary Counsel Office. وفي الولايات المتحدة، رغم أنه لا يمكن عرض مشروع القانون، على الهيئة التشريعية لإقراره إلا بواسطة أحد أعضائها، فإنه نادرا ما يكون ذلك العضو هو الشخص الذي يقوم بصياغة مشروع القانون. وفي العادة، يتولى الترتيب لصياغة المشروع شخص آخر، هو صاحب فكرة مشروع القانون bill proponent. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يكون صاحب فكرة المشروع أحد أعضاء البرلمان، أو مواطنا عاديا، أو جماعة عادية ؛ مثل إحدى النقابات، أو جماعات الضغط؛ أو مجموعة بحثية عامة، مثل إحدى اللجان التشريعية أو الحكومية؛ أو أن يكون أحد الأجهزة الحكومية أو مسئولا حكوميا. ولكن من الناحية العملية، لا يكون مطلوبا من عضو الهيئة التشريعية الذي يرغب في تقديم مشروع القانون أن يقوم بنفسه بصياغته أو حتى يقوم بذلك عن طريق أحد أعضاء طاقم العاملين لديه. وإنما تقوم عادة بصياغة مشروع القانون في الكونجرس وأغلب الهيئات التشريعية في الولايات، أجهزة متخصصة في الصياغة تقدم خدمات صياغة مشروعات القوانين لأعضائها. ولا تقدم هذه الأجهزة خدماتها إلا لأعضاء الهيئة التشريعية التي تتبعها وكل من له علاقة بهذه الهيئة.

ويقول الفقيه ميكائيل زاندر “من واقع خبرتي، لا تكفي الكفاءة القانونية العامة وحدها لأن تؤهل المرء لأن يكون صائغا جيدا، وإن رجل القانون الكفء الذي يفتقد إلى الخبرة العملية في فن الصياغة لا يستطيع أن يؤدي هذه المهنة بشكل مقبول”.

وما من شك في أن الصياغة فن خاص يحتاج إلى خبرة خاصة. بل إن الصياغة القانونية علم له أصوله وأسلوبه ومعاييره، أو ينبغي أن تكون كذلك. أما الأصول، فمنها ما يحكم بناء القانون، وتنظيمه، وترتيب مواده، وكتابة عنوانه ومواد الإصدار والتعريفات، إلخ.

ومنها ما يحكم أسلوب الكتابة كاستخدام الألفاظ، وبناء القاعدة القانونية، وبناء الجملة، وتقسيم الجملة الطويلة إلى وحدات صغيرة، وتجنب الفصل الطويل بين أجزاء الجملة، ووضع العبارات المقيدة للمعنى في مكانها الصحيح، واستخدام أسلوب “التعديل النصي” بدلا من أسلوب “التعديل الأعمى”، إلخ.

وأما المعايير، فيتبعها الصائغ، أو يجب عليه اتباعها، لكي يكون النص التشريعي سليما. ومنها معايير الشمولية وسهولة الفهم وسهولة الاستخدام، وتحقيق اليقين، والإيجاز، وعدم تعارض القانون مع التشريعات الأعلى مرتبة، إلخ.

وكل هذه أمور تحتاج إلى دراسة وتدريب خاص لا يتوفر بالضرورة في كل رجل قانون مهما بلغت درجة كفاءته وتميزه.

ثانيا- لماذا نُشرِّع؟

تلجأ الحكومات إلى التشريع لتحويل السياسات التي تريد انتهاجها إلى قوانين نافذة . وتسن الحكومات القوانين الوضعية بهدف خلق وضع جديد، وسلطة جديدة، ومجموعة جديدة من الظروف . ويهدف التشريع إلى إيجاد وضع لم يكن موجودا من قبل، أو لم يكن من الممكن عمله أو تحقيقه عن طريق القانون النافذ . وفي العديد من الحالات، تسن الحكومات القوانين للتعامل مع أوضاع اجتماعية جديدة .

ولا تستطيع الحكومة أن تخلق بيئة تمكينية تشجع التنمية أو تحدث التحول الانتقالي دون إجراء تحولات إيجابية في السلوكيات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية السائدة. ومن خلال تغيير السلوكيات المنهجية في الدولة بطرق ملائمة، يمكن توفير بيئة تمكينية تسهم في تنمية المجتمع. ولكي يتحقق ذلك، تلجأ الحكومات إلى سن القوانين.

ومن ثم، لا تستطيع الحكومة أن تحكم دون قوانين. وفي الدولة الحديثة، تحدد الهيئة التشريعية، أو الحكومة، أو رئيس الدولة السلوكيات التي ينبغي تغييرها وأولئك الذين تصدر عنهم تلك السلوكيات. ويعني ذلك ضمنيًا أن على صُناع القرار أن يبلغوا أولئك الذين تصدر منهم تلك السلوكيات ما يودون منهم فعله؛ وبعبارة أخرى، ينبغي عليهم وضع وتنفيذ قواعد تحدد السلوكيات المنشودة. وتوضع هذه القواعد في شكل قانون. وليس من قبيل المصادفة ألا تظهر القواعد التي تضعها الحكومة في شكل “سياسات” أو “مبادئ” مُعبّر عنها في خطب أو بيانات مكتوبة. ففي معظم البلدان وفي معظم الأوقات، ما لم يتم التعبير عن البيانات المتعلقة بالسياسات في شكل قانون، لا يشعر المحكومون ولا المسئولون بأنهم ملزمون بالالتزام بها.

ثالثا- المنهج التقليدي للصياغة التشريعية مقارنة بالمنهج الحديث

الهدف من التشريع

يرتبط مفهوم القانون في المنهج التقليدي بفكرة العقاب. ويرى مؤيدو هذا المنهج أن ما يميز القاعدة القانونية عن غيرها من القواعد هو أنها قاعدة “ملزمة”، ومن ثم، تفرض جزاء على من يخالفها، على عكس القاعدة الاجتماعية، مثلا. ولذلك، تعتمد التشريعات التي تصاغ وفقا للمدرسة التقليدية على العقاب كأداة لإلزام المخاطبين بالقانون باحترامه وتنفيذه.

ولكن، يؤخذ على المنهج التقليدي أنه يتجاهل جذور المشكلة، ويركز فقط على مظاهرها ونتائجها. وباعتماده على أسلوب العقاب كأداة رئيسة لإنفاذ أحكامه، يتجاهل لقانون، في الواقع، جذور المشكلة التي يهدف إلى حلها، وبدلا من ذلك يركز على مظاهرها.

وعلى عكس المنهج التقليدي، يبحث المنهج الحديث للصياغة التشريعية جذور المشكلة، والتصرفات التي تسببها، ويضع الحلول المناسبة لها.

ويفتقد المنهج التقليدي إلى نظرية علمية راسخة لصياغة مشروعات القوانين، وإنما يعتمد على مجرد أعراف تتبع في صياغتها ولا ترقى إلى كونها منهجاً شاملا ومحددا يمثل نظرية ثابتة ومعروفة للجميع. ويركز المنهج التقليدي على شكل مشروع القانون المقترح أكثر من موضوعه.

ويعتمد المنهج التقليدي لصياغة التشريعات، بشكل عام، على ثلاثة محاور أساسية تتسم بشكل عام بالفوضوية؛ وهي، التعددية، والنقل عن تجارب الدول الأخرى، والتجريم. ويُقصد بالتعددية، عقد جلسات استماع لمختلف الأطراف المتصلة بموضوع مشروع القانون. وتلجأ الجهة التي تتولى صياغة مشروع القانون، عادة، عقد هذه الجلسات للتعرف على مختلف آراء المنتفقين من القانون أو المتأثرين به، أو المختصين في مجاله.

وغالبا، ما يسبق ذلك إجراء بحث مكتبي عن القوانين المماثلة في الدول الأجنبية أو الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والنقل عنها. ولا تخرج الحلول التي يضعها القانون كثيرا عن فرض، أو تغليظ، العقوبات على من يخالف أحكام القانون.

من المهم وجود منهج تشريعي لإرشاد الصائغين إلى كيفية التعرف على مضمون مشروع القانون، من جهة، ومساعدة المشرعين على تحديد ما إذا كان مشروع القانون المقترح سيؤدي إلى حل المشكلات التي وُضع لحلها. ويحتاج الصائغون أيضاً إلى نظرية تشريعية ومنهج تشريعي للاسترشاد بهما في كتابة التقارير البحثية.

وتقوم النظرية التشريعية على فكرة مؤداها أن التنمية تقتضي وجود إدارة رشيدة؛ أي قوانين فعالة مبررة تبريرا منطقيا، وقواعد وقرارات غير تعسفية. ولا يمكن للقانون الفعال أن يحل مشكلة اجتماعية إلا إذا حدد سلوكيات المخاطبين به التي يترتب عليها الوضع الراهن الذي يسعى القانون لتغييره، وتلك التي يجب على الجهة المنوط بها تنفيذ القانون اتباعها لضمان نجاح القانون في الهدف المراد منه تحقيقه. وكلما كان القانون مبنياً على المنطق والحقائق، زادت فرصة تنفيذه تنفيذاً فعالاً. ومن ثم، يتعين على الصائغ اتباع دليل إرشادي يمكن التعويل عليه في وضع أحكام مشروع القانون الموضوعية.

وتوجه النظرية التشريعية الصائغ إلى كيفية كتابة تقرير بحثي مصمم جيدًا وفق أجندة محددة تساعد في التعرف على مسببات السلوكيات التي يسعى القانون لحلها، واقتراح الحلول لها، ومن ثم، يشكل الأساس للأحكام التي يتضمنها مشروع القانون. وفضلا عن ذلك، تقدم النظرية إطارًا عامًا نموذجيًا لتنظيم مشروع القانون.

2. وثيقة تبرير مشروع القانون

يُعرض مشروع القانون، الذي تقوم بإعداده غالبا السلطة التنفيذية، على البرلمان مع مذكرة إيضاحية (أو الأسباب الموجبة لإصداره). وتوجب معظم النظم المعمول بها في الدول العربية، على الجهة التي تضع مشروع القانون تقديم هذه المذكرة (أو الأسباب الموجبة) والتي ينبغي أن توضح الأسباب التي دعت إلى تقديم مشروع القانون، وبيان أهم ما يتضمنه من مواد. ويُقصد من المذكرة الإيضاحية أن تكون دليلا مفيدا في التعرف على القصد من التشريع المقترح وكذلك لإطلاع القارئ العادي على ما يسعى القانون لتحقيقه. ومن المفترض أن تتضمن المذكرة الإيضاحية معلومات عامة عن مشروع القانون والجهة المقترحة، والأهداف المراد تحقيقها منه، وتحديد المشاكل القائمة والأسباب التي تدعو إلى تغيير الوضع القائم والتوجه العام لتصحيحه، والقوانين النافذة ذات الصلة، ووصف موجز لمواد مشروع القانون.

ولكن، في الممارسة العملية، لا تؤدي المذكرة الإيضاحية (أو الأسباب الموجبة) الهدف منها ويندر أن تتضمن مبررات منطقية مدروسة للتدابير التي يتضمنها مشروع القانون لحل المشكلة التي يوضع من أجلها. وعادة، تصاغ المذكرة الإيضاحية بعبارات عامة، يغلب عليها الطابع الفلسفي، وتتحدث عن الحقوق المجردة ذات الصلة بدلا من الحديث عن المبررات التي دعت إلى وضع مشروع القانون، والغاية من إصداره، وأحيانا، تلخص مضمون مواده، لكنها لا تعطي مبررات منطقية منهجية مدروسة مفصلة لكل التدابير التي يتضمنها. ويُقصد بالمبررات المنهجية تلك التي تنبني على منهج معين يساعد على تحديد المشكلات القائمة.

ويقول الفقيه ميكائيل زاندر “من واقع خبرتي، لا تكفي الكفاءة القانونية العامة وحدها لأن تؤهل المرء لأن يكون صائغا جيدا، وإن رجل القانون الكفء الذي يفتقد إلى الخبرة العملية في فن الصياغة لا يستطيع أن يؤدي هذه المهنة بشكل مقبول”.

منقول