تنفيذ الأحكام

تنفيذ الشيء ـ لغة ـ هو تحقيقه وإخراجه من حيز الفكر والتصور إلى مجال العمل والواقع الملموس.

ويعرف التنفيذ ـ قانوناً ـ بأنه قيام المدين بالوفاء بالتزامه أو إجباره على الوفاء به. وهذا التعريف يشمل التنفيذ الاختياري الذي عرض له الشارع في القانون المدني في باب انقضاء الالتزامات[ر]، وأسماه الوفاء ورتب عليه أثره القانوني وهو انقضاء الالتزام، كما يشمل التنفيذ الجبري الذي لا يكون في حالة امتناع المدين عن الوفاء أي عن التنفيذ الاختياري، ويرد بحث هذا التنفيذ في قواعد الأصول أو المرافعات، هذه القواعد التي تحدد وتنظم الطرق الواجب اتباعها في تنفيذ الأسناد التنفيذية القابلة للتنفيذ جبراً على المدين، وهي الأحكام والقرارات، والعقود الرسمية، والأوراق الأخرى التي يعطيها القانون قوة التنفيذ (مادة 273 من أصول المحاكمات المدنية السوري).

وتختلف طرق التنفيذ الجبري حيث إنّ الأصل في تنفيذ الالتزامات أن يتم بصورة عينية، أي أن يدعي المدين إلى تنفيذ ما التزم به، فإذا رفض جاز للدائن أن يقوم به على حساب المدين، وإذا كان تنفيذ الالتزام يحتاج إلى تدخل شخصي من المدين كأن تكون شخصيته قد روعيت في تنفيذ الالتزام، جاز إكراهه على التنفيذ بفرض غرامة تهديدية عليه. وفي الموضوعات التي يجوز فيها حبس المدين كالنفقة والتعويض المتولد عن جرم جزائي، يمكن اللجوء إليه لحمل المدين على تنفيذ ما التزم به. ويمكن أيضاً التنفيذ على أموال المدين ما دامت غير مستثناة من التنفيذ.

والأصل في التنفيذ أن يتم عن طريق دائرة التنفيذ وهي دائرة تتألف من عدد من المساعدين العدليين المرتبطين بقاضٍ هو رئيس التنفيذ الذي يتمتع بصلاحيات نص عليها القانون وتتناول ناحيتين:

1ـ الاختصاص الإداري ويشمل اتخاذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لتنفيذ الأسناد وإيصال الدائنين إلى حقوقهم بما في ذلك إيقاع الحجز التنفيذي على أموال المدين الموجودة لديه أو لدى الغير، ويستند هذا الاختصاص إلى السلطة الآمرة التي يتمتع بها رئيس التنفيذ بوصفه المرجع في تنفيذ الأسناد.

2ـ الاختصاص القضائي ويشمل صلاحية رئيس دائرة التنفيذ بالبت في الطلبات التنفيذية وهو ما أشارت إليه المادة 277/1 من قانون أصول المحاكمات المدنية السوري. ويقصد بالبت في الطلبات التنفيذية، البت في جميع ما يعترض تنفيذ هذه الطلبات من صعوبات أو إشكالات تتعلق بما فرضه القانون من شروط يتوجب توافرها للقيام بالتنفيذ، وتثار من طالب التنفيذ أو من قبل المنفذ عليه، وذلك بعد البدء بالتنفيذ لا قبله، لأن المنازعة فيها تقوم في معرض التنفيذ ويشترط لقبول الإشكال أن لا يكون التنفيذ قد تم، لأنه بتمامه يضحي الإشكال غير ذي موضوع والعبرة للوقت الذي يجري فيه البت في الإشكال، فقد يثار قبل إتمام التنفيذ إلا أنه عند بحثه يكون التنفيذ قد تم فيعتبر أن طلب البت مرفوض ضمناً لانتهاء التنفيذ، ويصدر قرار رئيس التنفيذ في الطلبات التنفيذية بالاستناد إلى أوراق الملف بدون دعوة الخصوم، وهذا القرار على نوعين: قرار ولائي يصدره من دون منازعة كإلقاء الحجز أو رفضه إلقاءه، وقرار قضائي، وهو الذي يصدر بصدد منازعة تقوم أمامه، ومن جملة المنازعات التي يبث بها في قضاء الخصومة، إشكالات التنفيذ المنوه عنها.

وتخضع القرارات الصادرة عن رئيس التنفيذ إلى الطعن فيها أمام محكمة استئناف المنطقة (مادة 277/2 أصول). وبالنظر إلى عموم النص فإن حكمه يشمل القرارات التي تصدر في قضاء الولاية أو تلك التي تصدر في قضاء الخصومة. ويخضع الاستئناف للميعاد والأصول المتبعة في استئناف القضايا المستعجلة، وتسري المهلة المحددة لاستئناف القرار وهي خمسة أيام اعتباراً من اليوم الذي يلي تاريخ تبليغ القرار ولا تضاف مهلة المسافة إلى مدة الطعن، لأن هذه المهلة لا تضاف في القضايا التي تطبق فيها الأصول المستعجلة.

حتى يعتبر التبليغ أصولياً يجب على مأمور التنفيذ أن يشير في الملف إلى حضور الشخص وتبلغه القرار وتوقيعه على المحضر على أن يوقع الكاتب على هذه الحاشية، ويتمتع قرار رئيس التنفيذ بالنفاذ العجل بغير كفالة وبقوة القانون إلا أنه يحق لمحكمة الاستئناف أن تقرر وقف النفاذ العجل إذ ا وجدت مبرراً لذلك ولها في هذه الحالة أن تكلف المستأنف تقديم كفالة تضمن للمستأنف عليه تعويض كل ضرر ينجم عن تأخير التنفيذ إذا ظهر بنتيجة الاستئناف أن المستأنف غير محق فيه. ويشترط بالنسبة للطاعن والمطعون ضده في القضية التنفيذية توافر الشروط نفسها الواجب توافرها في الطاعن والمطعون ضده بصورة عامة من حيث وجوب أن يكون كل منهما طرفاً في الخصومة، وأن تكون له مصلحة، وأن يقدم الطعن بذاته أو من قبل وكيل مفوض بالطعن..الخ.

وحين تبتُّ محكمة الاستئناف في الطعن، تبت فيه استناداً إلى حقِّ التصدي droit d’evocation الذي تملكه ولا يجوز لها أن تعيد الملف إلى رئيس التنفيذ لاستكمال بعض النواقص أو الحكم في الموضوع مجدداً. وتفصل محكمة الاستئناف بالطعن في غرفة المذاكرة بقرار له قوة القضية المقضية. ولا يجوز في الاستئناف التدخل الجبري إذا لم يكن الخصم المراد إدخاله طرفاً في الدعوى التي صدر فيها الحكم المستأنف كما لا يجوز التدخل الاختياري أمام المحكمة المذكورة إلا ممن يطلب الانضمام إلى أحد الخصوم أو من يجوز له سلوك طريق اعتراض الغير على الحكم. ولا يقبل القرار الصادر عن محكمة الاستئناف في القضية التنفيذية.

الطعن بطريق النقض كما لا يقبل الحكم الاستئنافي فيها الطعن بطريق اعتراض الغير أو بطريق المادة المحاكمة. ويحوز القرار الصادر عن رئيس التنفيذ في الخصومة حجية القضية المقضية إذا لم يطعن فيه، ولا يجوز لرئيس التنفيذ الرجوع عنه، أما إذا صدر في قضاء الولاية فإنه يجوز له الرجوع عنه إلا إذا فضل صاحب المصلحة الطعن فيه بطريق الاستئناف، لأن من شأن الطعن أن يثير منازعة في الموضوع ويجعل القرار الاستئنافي صادراً في قضاء الخصومة. ولكن إذا طرأت وقائع جديدة بعد صدور قرار رئيس التنفيذ أو قرار محكمة الاستئناف فإنه يجوز في هذه الحالة اتخاذ قرار مغاير للقرار الأول. وتتمتع القرارات الصادرة عن رئيس التنفيذ أو محكمة الاستئناف في حدود اختصاصها بقوة القضية المقضية.

وعالج المشرع في سورية أمر تنفيذ الأحكام الأجنبية، ورأى أن المصلحة تقتضي الاعتراف للحكم الأجنبي بآثاره غير أن هذا الاعتراف لا يتم بصورة حكمية، أي لا يكفي فيه أن يكون قد اكتسب في البلد الذي صدر فيه قوة القضية المقضية، بل لابد من إكسائه صيغة التنفيذ من قبل السلطات القضائية السورية حرصاً على مفهوم سيادة الدولة، وعدم خضوعها للنفوذ الأجنبي وفي هذا الشأن نصت المادة 306 من قانون أصول المحاكمات المدنية على جواز تنفيذ الأحكام الأجنبية في سورية بنفس الشروط المقررة في قانون ذلك البلد لتنفيذ الأحكام السورية. كما نصت المادة /309/ على تنفيذ أحكام الحكمين الأجنبية والمادة 310 على تنفيذ الأسناد الرسمية الأجنبية وأوجب القانون التحقق من عدد من الشروط في هذه الأسناد، أي إنّ المشرِّع تبنَّى المبدأ المقرَّر في القانون الدولي الخاص القائل بعدم إهدار الحكم الأجنبي بكلِّيته وبعدم الاعتراف له بالآثار ودونما قيد أو شرط. ولابد لتعريف الحكم الأجنبي من النظر إلى ملاحظتين: ناحية السلطة التي صدر باسمها الحكم وناحية الموضوع الذي بت فيه، فبالنسبة للسلطة يعتبر الحكم أجنبياً إذا كان صادراً باسم سيادة أجنبية عن جهة لها ولاية القضاء في النزاع الذي أصدرت حكمها فيه دون اعتبار للمكان الذي انعقدت فيه المحكمة مصدرة الحكم، وبالنسبة للموضوع الذي صدر فيه الحكم. فلكي يعد هذا الحكم أجنبياً بالمعنى المقصود في معرض «تنفيذ الأحكام الأجنبية» ينبغي أن يكون صادراً في المواد المدنية أو التجارية أو الأحوال الشخصية إذ لا يقبل تنفيذ الأحكام الأجنبية في الموضوعات الآتية:

1ـ الأحكام الصادرة في دعوى الحق العام لتعلق العقوبة بالنظام العام في الدولة التي يراد تنفيذها فيها، وبذلك تكون غير خاضعة لقاعدة إكسائها بصيغة التنفيذ في البلد الأجنبي ولا يقبل تنفيذها فيه دون معاهدة دولية تسمح بذلك، أما الأحكام الجزائية الصادرة في موضوع الحق الشخصي فتعتبر كالأحكام المدنية ويجوز تنفيذها في الدولة الأخرى.

2ـ الأحكام الصادرة في القضايا الإدارية لتعلقها بالقانون الإداري الدولي، وبذلك لا تتمتع بأي أثر خارج إقليم الدولة التي أصدرتها محاكمها إلا إذا بتت في موضوعات مدنية.

3ـ الأحكام الصادرة في الموضوعات المالية (الضرائب والرسوم …).

4ـ الأحكام الصادرة في الغرامات التي تحكم بها المحاكم المدنية أو التجارية والتي يقصد بها حسن سير العدالة.

أما إجراءات تنفيذ الحكم الأجنبي فتختلف تبعاً لما إذا كان يوجد هنالك اتفاقيات قضائية دولية أو أنه لا يوجد مثل هذه الاتفاقات. فإذا كان لا يوجد مثل هذه الاتفاقات فإنه لابد لتنفيذ الحكم الأجنبي من اتباع إجراءات نص عليها القانون، وبدئياً حتى يحوز الحكم الأجنبي أثراً في سورية لابد من اكسائه صيغة التنفيذ exequatur ولا يمكن منحه هذه الصيغة إلا إذا توافر فيه عدد من الشروط نصت عليها المادة 308 من قانون أصول المحاكمات المدنية وبمقتضاها يجوز إكساء الحكم الأجنبي صيغة التنفيذ بعد التحقق من أن الحكم صادر عن هيئة قضائية مختصة وفقاً لقانون البلد الذي صدر فيه، وأنه حاز قوة القضية المقضية وفقاً لذلك القانون وأن يكون الخصوم كلفوا الحضور ومثلوا تمثيلاً صحيحاً وأن لا يتعارض الحكم مع حكم أو قرار سبق صدوره عن المحاكم السورية، وأن لا يتضمن الحكم ما يخالف الآداب أو قواعد النظام العام في سورية، ثم لابد من توفر شرط المقابلة بالمثل بمعنى أنه لا يمكن تنفيذ الحكم الأجنبي في سورية رغم توافر الشروط الأخرى فيه إذا لم يكن البلد الذي صدر عنه الحكم يقبل تنفيذ الأحكام السورية فيه.

وهنالك استثناء لمبدأ إكساء الحكم الأجنبي صيغة التنفيذ، إذ قد توجد أحكام لا تتضمن إلزاماً، لذلك لا يتصور بالنسبة لها اتباع الإجراءات المقررة بالنسبة لباقي الأحكام الأجنبية لجهة إكسائها بصيغة التنفيذ ومن هذه الأحكام، تلك الصادرة في مسائل الأحوال المدنية والأهلية (طلاق، بنوة، تعيين وصي)، إلا أنّه إذا أريد تسجيل هذه الأحكام في السجلات الرسمية للدولة المطلوب التنفيذ فيها فلابد عندئذ من إكسائها بصيغة التنفيذ. أما إجراءات الاعتراف بالحكم الأجنبي فتقوم على تقديم دعوى بالشكل المعتاد لباقي الدعاوى أمام محكمة البداية المدنية التي يراد التنفيذ في دائرتها، وتنظر الدعوى بحضور الطرفين اللذين صدر الحكم بحقهما أو بعد دعوتهما، ويخضع الحكم الصادر عن محكمة البداية إلى الطعن بطريق الاستئناف والنقض شأنه شأن بقية الأحكام الصادرة عنها، ويقدم طلب الدعوى مشتقاً بصورة مصدقة عن الحكم الأجنبي والمستندات المؤيدة لتوفر شروطه. وتنتهي المحكمة إلى أحد أمرين: إما إجابة الطلب وإعطاء الحكم صيغة التنفيذ وإمّا رفض الطلب دون أن تملك تعديله وفي الحالة الأخيرة يبقى الحكم قائماً ونافذاً خارج سورية، ويمكن أن تمنح صيغة التنفيذ للحكم كله أو لجزء منه ورد الطلب عن الجزء الباقي.

وكل هذه الإجراءات تتبع إذا لم يكن هنالك معاهدة دولية بين سورية وبين الدولة التي صدر فيها الحكم، أما إذا كانت هنالك مثل هذه المعاهدة وكانت تقضي بتنفيذ الأحكام الصادرة عن محاكم إحدى الدولتين في الدولة الأخرى مباشرة دون إكسائها صيغة التنفيذ، فإنّه ينبغي في هذه الحالة تقديم الحكم إلى دائرة التنفيذ ولا حاجة لإكسائه الصيغة. وترد الدعوى المقامة بطلب الإكساء لأن الغاية منها جعله صالحاً للنفاذ في حين أن هذا الحكم مكتسب لقوة القضية المقضية ومعترف بقوته التنفيذية دونما حاجة لأيَّ دعوى، وارتبطت سورية مع غيرها من الدول بعدد من الاتفاقيات القضائية الثنائية والجماعية، وهي تنظيم مسألة تنفيذ الأحكام الأجنبية منها اتفاقية الرياض بين دول جامعة الدول العربية والاتفاقية الثنائية بين سورية ولبنان.

هذا وإنَّ طرق التنفيذ والضمانات المقررة في القانون السوري تطبق عند تنفيذ الحكم الأجنبي، بغض النظر عما إذا كان القانون الأجنبي لا يأخذ بهذه الطرق والضمانات كلها أو جزءاً لأن هذه الطرق من الضمانات تعتبر جزءاً من قواعد التنفيذ التي تتمتع بالصفة الإقليمية.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت