تدوين أحكام الشريعة الإسلامية واستكمال الهيكلة التشريعية

محمد عبدالله السهلي٭
] توسعت المملكة العربية السعودية في السنوات القليلة الماضية ممثلة في السلطة التنظيمية لدينا (مجلس الوزراء ومجلس الشورى) في إصدار العديد من الأنظمة (القوانين) المنظمة لمجالات متعددة ومحققة في ذلك مصالح المجتمع المتجددة، والتي تواكب تسارع وتيرة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السعودي. وقد تجاوزت (40) نظاماً وأتت أغلبها في المجالات المالية والاقتصادية والتجارية عموماً وكان لمتطلبات الانضمام لمنظمة التجارة العالمية سبب رئيسي في ذلك. في حين بقيت مجالات مهمة خارج نطاق التقنين والتدوين رغم أهميتها البالغة ونعني بذلك الموضوعات المندرجة تحت ما يعرف باسم (القانون المدني) وهو القانون المنظم لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض كعقود البيع والإيجار والرهن والكفالة والتعويض وغيرها، وكذلك مسائل (الأحوال الشخصية) من مسائل الزواج والطلاق والخلع والنفقة، ومن الموضوعات التي لم تدون بعد النظام الجنائي والمتضمن تحديد الجرائم والعقوبات المفروضة عليها، فكما هو معلوم فإن الشريعة الإسلامية وبمصادرها المختلفة قد كفلت تنظيم أحكام كل ما سبق ذكره من موضوعات، وهي أحكام متفرقة بين نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة، واجتهادات فقهية مشمولة في كتب الأئمة والفقهاء على مر العصور. فهل تقنين تلك المواضيع والمسائل من الضرورات في هذه المرحلة، وما هي الموانع لذلك، وهل يمكن التغلب عليها إن وجدت؟

قبل الخوض في غمِار الموضوع ومناقشته، يجدر بنا إبتداءً أن نوضح ما هو المقصود بالتدوين (التقنين) وما هي أحكام الشريعة الإسلامية المستهدفة بالتدوين.

يمكن تعريف التدوين بأنه ((صياغة أحكام الشريعة الإسلامية في صورة قواعد عامة مجردة تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع، وتلزمهم بالعمل بها، من خلال صدورها في شكل أنظمة ولوائح صادرة ممن يملك صلاحية إصدارها في المملكة))

والمفهوم العام للشريعة الإسلامية يعني مجموعة الأحكام التي نزل به الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقسم هذه الأحكام إلى ثلاثة أقسام، هي:

أحكام متعلقة بالعقائد الأساسية، كالأحكام المتعلقة بذات الله وصفاته والإيمان به وبرسله وكتبه واليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء.

أحكام متعلقة بتهذيب النفوس وإصلاحها، وهي الأخلاق عموماً.

أحكام متعلقة ببيان أعمال الناس وتنظيم علاقاتهم بخالقهم كأحكام الصلاة والصوم والزكاة وغيرها، وأحكام متعلقة بتنظيم علاقات الناس ببعضهم كأحكام البيع والإجارة والرهن والكفالة والزواج والطلاق والإرث. والقسم الثالث من أحكام الشريعة الإسلامية هي ما أصطلح على تسميته بعلم الفقه بنوعيه العبادات والمعاملات.

وما يهمنا في هذا المقام هو أحكام المعاملات بين الناس وهو ما نستهدف النقاش حول تدوينه. فالباحث في مصادر أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات والواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يجد أن جلّها أتت في صورة أصول كلية وقواعد عامة ولم تأت مفصلة، وهي حكمة إلهية لتكون الأحكام مواكبة لتغير الزمان والمكان مما يحقق مصالح العباد. لذا اجتهد الأئمة والفقهاء على مر العصور في استنباط أحكامها وبيانها للناس مستندين على القواعد الكلية ومقاصد الشريعة السمحاء.

وقضية التدوين ليست وليدة هذه المرحلة الزمنية، بل هي قضية مطروحة منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة، ووتيرة النقاش حولها تعلو وتخفت، إلا أن التغيرات والظروف الحالية التي تشهدها المملكة في جميع مناحي الحياة، جعل الحديث عن الموضوع من الضرورات وليس من قبيل الترف الفكري. فبدأت الأصوات المنادية بالتدوين في تزايد. رغم وجود اتجاه معارض ومؤثر لمسألة التدوين – بل أن منهم من يرفض حتى مجرد الحديث عن الموضوع- ويستندون على مبررات وأسباب معينة. فما هي مبررات رفض تدوين أحكام الشريعة الإسلامية لدى هذا الاتجاه؟ ينطلق معارضو التدوين من المبررات الرئيسية التالية:

1- إن مصادر الشريعة الإسلامية كفلت تنظيم كل ما يتعلق بشؤون الناس ومصالحهم، سواء بقواعده الكلية أو بأحكامه التفصيلية، وسير أعمال القضاء في المملكة مستقر منذ فترة طويلة، ولم تثار مشاكل في تطبيق أحكام الشريعة في العمل القضائي.

2- إن التدوين سيؤدي إلى جمود أحكام الشريعة الإسلامية وسيغلق باب الاجتهاد، حيث سيجعل القاضي رهين النصوص الواردة في النظام، رغم توفر كنز هائل في كتب الفقه الإسلامي والقائمة على نظام مؤسس على قواعد مضبوطة ومرنة قابلة للتطبيق في كل حين مهما اختلفت الأزمان وتنوعت البيئات.

3- أن التدوين قد يكون ذريعة وتمهيدا لسن أنظمة مستمدة من القوانين الوضعية ومخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية. مستندين على قاعدة (سدّ باب الذرائع) وهي قاعدة شرعية.

4- إن التدوين سيحدّ من صلاحية القاضي في الوصول إلى الحق والعدل الذي لا ينتهي عند ما انتهت إليه نصوص النظام.

5- ان نظام القضاء ونظام المرافعات المطبقين حالياً قد وفر ضمانات كافية لإفراد المجتمع لتحقيق العدل ورفع الظلم عنهم، ممن يخشى وقوعه من القضاة من التعسف في استخدام صلاحيتهم، ومن ذلك إمكانية تمييز الأحكام القضائية، ومبدأ علانية الجلسات، وحق الاستعانة بمحام وغيرها من الضمانات.

6- ان التدوين سيؤدي إلى خلق فراغ تنظيمي (تشريعي)، لصعوبة تدوين كل أحكام الفقه الإسلامي المتعلقة بالمعاملات، وسيحدّ من القدرة على التعاطي مع القضايا المستجدة.

والآراء والمبررات السابقة تحظى باحترام بالغ سيما وأنها صادرة من أشخاص القي على عاتقهم واجب عظيم يتمثل في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية القائمة على العدل والمساواة، وإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، فالقضاء من اجلّ الأمور قدراً وأعزّها مكاناً وأشرفها ذكرا. إلا أن ذلك لا يحول دون نقاش هذه المبررات والاجتهاد في بيان فوائد التدوين خصوصاً في الوقت الحاضر، منطلقين من حقيقة يتفق حولها الجميع من أن الشريعة الإسلامية مسايرة لمصالح العباد، وهي شريعة صالحة في كل زمان ومكان. لذا يمكن مناقشة مبررات الاتجاه الرافض للتدوين على الوجه والبيان التالي:

1- الجميع متفق على أن الشريعة الإسلامية بمصادرها المتفق عليها بين علماء المسلمين على مر العصور، هي المصدر التشريعي لكل ما ينظم شؤون الناس في علاقاتهم ببعضهم، وهي كفيلة بذلك مصداقاً لقوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)). وأنه لا خير فينا إن ارتضينا تشريعاً غير الشريعة الإسلامية، ولكن هل الخوض في مسائل تدوين أحكام الشريعة الإسلامية يعد من قبيل الارتضاء بشريعة أخرى؟ لا نعتقد ذلك.

2- يعتقد البعض أن سير عمل القضاء والمحاكم في المملكة مستقر ولا يوجد مشاكل في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لذا فما هو المبرر إذاً للحديث عن التدوين، والدخول في إشكالات قد لا تُؤمن عقباها. قد يكون هذا التصور صحيحاً لمن هو من غير المختصين بالعمل القضائي. بيد أن من سبر أغوار عمل القضاء والقضاة لدينا لو وجد أن الوضع يشير إلى مجموعة من المثالب يمكن تفاديها بالتدوين ونذكر منها على سبيل المثال:

٭ عدم وحدة الأحكام القضائية، فالمتتبع للأحكام القضائية الصادرة مثلاً من قاضيين في قضية واحدة ليجد تفاوتا كبيراً في بعض الأحيان، تبعاً لاجتهاد كل قاض.

٭ إن الكتب الفقهية التي يستعين بها القضاة لاستقاء الأحكام والاجتهادات، مختلفة الأساليب والآراء فيها كثيرة، وتحتاج إلى ملكة فقهية خاصة وقدرة فائقة على الإلمام بكل قواعد اللغة العربية، وهذه لا تكون متوافرة بذات القدر لدى كل القضاة.

٭ ان الاعتبارات الشخصية لدى القضاة قد تكون محددة في إصدار الأحكام القضائية، طالما أن الأمر متروك لاجتهادات كل قاض دون تقيد بنصوص نظامية موحدة.

3- يرى البعض أن التدوين سيؤدي إلى الجمود وغلق الباب أمام الاجتهاد وسيحد من القدرة على مواكبة القضايا المستجدة. ويمكن التعليق على ذلك بالقول: إن تدوين أحكام الشريعة الإسلامية والمتعلقة بالمعاملات سيمر بمراحل من اجتهادات العلماء والفقهاء والقانونيين وغيرهم من المختصين قبل خروجه إلى التطبيق في صورة نظام أو لائحة. يضاف إلى ذلك أن من يتولى صياغة نصوص النظام أو اللائحة هم المتخصصون في الشريعة والفقه والأنظمة، وستكون الصياغة حتماً مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية. وإذا استجدت مسائل غير منصوص عليها في النظام، فيمكن معالجة ذلك عن طريقين، الأول: أن الأنظمة الصادرة ستتضمن نصاً على أنه إذا لم يجد القاضي في النظام نصاً يمكن تطبيقه على النزاع المعروض أمامه، تعين عليه الاهتداء بأحكام الشريعة الإسلامية لحل النزاع. والطريق الثاني: أن السلطة التنظيمية التي أصدرت النظام تملك صلاحية تعديله في حال أن طرأت قضايا أو مسائل لم تكن أحكامها واردة في النظام، لذا لن نرى أن الجمود سيكون نتيجة حتمية للتدوين.

4– أما ما يثار من مخاوف من أن التدوين سيفتح المجال نحو الاستعانة بقوانين وضعية، فيمكن الإجابة على ذلك بأن الحكمة ضالة المؤمن فأنّى وجدها فهو أحق بها، طالما أنها لا تخالف نصوص أو مقاصد الشريعة الإسلامية، والأمر الآخر والذي يبدد هذه المخاوف أن النظام الأساسي للحكم والصادر في عام 1412ه، والذي يسمو ويعلو على كل الأنظمة الأخرى في المملكة، قد نصّ في المادة الثانية منه على أن دين الدولة الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والمادة السابعة من ذات النظام ينص وبشكل قاطع على أنه «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة». لذا فالمسألة محسومة، فالحاكمية للشريعة الإسلامية، ولا يجوز صدور أي نظام أو لائحة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة أو مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء.

وعموماً نرى أن تدوين أحكام الشريعة الإسلامية في مجال القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية والقانون الجنائي المتعلق بالجرائم والعقوبات، سيحقق فوائد ومزايا عديدة للمجتمع، وفق المبررات والأسباب التالية:

1- إن التدوين سيجمع بين التقيد بالثوابت من النصوص والمرونة في المتغيرات بما يحافظ على روح الشريعة ومقاصدها، وليس مجرد الوقوف على النصوص.

2- إن التدوين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب، وبالتالي يسهل على القضاة وأعوانهم من المحامين بل وعامة الناس إلى الاهتداء على الحكم والقاعدة بيسر وسهولة، واختصار الكثير من الوقت والجهد.

3- إن التدوين سيؤدي إلى تحديد الحقوق والواجبات بشكل علني ومسبق، بحيث يعرف كل شخص ما له وما عليه، ولا يترك مجالاً للاحتمالات والتعسفات.

4- إن التدوين سيؤدي إلى وحدة الأحكام القضائية، ويقطع الطريق أمام احتمال التضارب في الأحكام، مما يؤدي إلى طمأنة أفراد المجتمع للقضاء واستقرار حقوقهم ومصالحهم.

5- هناك سوابق إيجابية للتدوين تؤيد فكرة التدوين، ومنها تدوين أغلب المسائل التجارية في المملكة في شكل أنظمة ولوائح لا تخالف الشريعة الإسلامية، والعمل فيها مستقر ومحقق لفوائد جمة، يخشى أن لا تتحقق لو كانت مبعثرة في كتب الفقه الإسلامي وإيضاً هناك مشروع لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية صدر عن وزراء العدل في دول مجلس التعاون الخليجي بمسمى (وثيقة مسقط للنظام (القانون) الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي) في عام 1421ه، وهو قانون استرشادي غير ملزم لدول المجلس، تكون من 282 مادة مشتملاً على أحكام متعلقة بالزواج والطلاق والأهلية والولاية والوصية والإرث، وخرج بشكل مطابق للشريعة الإسلامية.

أما فيما يتعلق بتدوين الجرائم والعقوبات فالأمر قد يحتاج إلى نقاش مستفيض لحساسيته، وكل ما يمكن أن نقوله هنا أنه يمكن تدوين الأحكام المتعلقة بجرائم القصاص والحدود من حيث شروط كل جريمة ووصفها والعقوبة المقرر لها. أما قضايا التعازير فيمكن التعامل معها كما تم التعامل مع بعض جرائم التعازير المنظمة مثل (الرشوة-التزوير) فيتم وصف وتعريف كل جريمة ووضع شروطها، مع وضع حد أعلى وحد أدنى للعقوبة تحقيقاً لمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، ويتم تقدير العقوبة من قِبل القاضي تبعاً للظروف المخففة أو المشددة لمرتكب الجريمة.

ولإيمان المسؤولين في الدولة بأهمية مواكبة التغيرات والتطورات التي تشهدها الدولة واستجابة للمصالح المتجددة والمقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية بالطبع، فقد صدرت التوجيهات الكريمة بتشكيل لجان في وزارة العدل لمناقشة وضع مدونات نظامية لتدوين تلك المجالات، وهي خطوة وإن تأخرت إلا أن من المهم الآن أن تأتي حتى تكتمل مسيرة البناء للهيكلة التشريعية في المملكة، وبالتالي تنتظم الحياة القانونية بشكل يتلاءم مع التطور الكبير الذي تشهده المملكة في كل المجالات.

٭ باحث قانوني

[email protected]

إعادة نشر بواسطة محاماة نت