مقال عن مشكلة الجرائم المعلوماتية عبر الوطنية و مشكلة الاختصاص

د/ عبد الصبور

إن قواعد القانون الجنائي (بشقّيه الموضوعي والإجرائي) تخضع في تطبيقها من حيث المكان لمبدأ مستقر ومعروف ، ألا وهو مبدأ الإقليمية ، الذي يعني خضوع الجرائم التي تقع في إقليم دولة معينة لقانونها الجنائي النافذ ، بحيث تصبح محاكمها هي صاحبة الولاية بنظر الدعوى الناشئة عنها ، ولا تخضع من حيث الأصل لسلطان أي قانون أجنبـي، وفي المقابل لا يمتد سريان قانون الدولة الجنائي خارج نطاقها الإقليمي وفقاً لحدودها المعترف بها في القانون الدولي إلاّ في أحوال استثنائية اقتضتها حماية المصالح الجوهرية للدولة أو متطلبات التعاون الدولي في مكافحة الإجرام( ).
والأصل أن عناصر الركن المادي للجريمة تكتمل في مكان واحد ، أو بالأحرى في نطاق إقليم دولة واحدة ، حيث يقع السلوك الإجرامي (النشاط) ، وتترتب عليه آثاره الضارة في إقليم دولة واحدة ، كأن يقدم أحدهم على طعن المجني عليه أو إطلاق الرصاص عليه ، ما يفضي إلى وفاته في الحال أو بعد لحظة وجيزة ، ومن ثم تعتبر الجريمة مرتكبة في هذا المكان . وعلى ضوء ذلك يتحدد القانون الواجب التطبيق ، وبالتبعية المحكمة المختصة بنظر الدعوى .

بيد أن بعض الجرائم يتجاوز مداها ـ أحياناً ـ حدود الدولة ، حينما يتجزأ ركنها المادي أو يتوزع على أكثر من مكان بحيث يمكن وقوع السلوك في مكان ، وليكن إقليم دولة (س) ، في حين تتحقق النتيجة الجرميّة الضارة في نطاق إقليم دولة (ص) ، ومن أمثلة ذلك أن يطلق شخص النار من داخل الأراضي الليبية تجاه آخر موجود على الأراضي المصرية ، فيرديه قتيلاً أو العكس .
ويتجلى ذلك في عدد من الجرائم العابرة للحدود الإقليمية للدول والقارات ، مثل جرائم تلويث البيئة البحرية والهوائية والاتجار بالمخدرات وغسل الأموال والقرصنة المعلوماتية وما إليها .

وهذا يقودنا إلى التساؤل عن مكان وقوع الجريمة في هذه الحالة ، فهل هو مكان وقوع السلوك الإجرامي أم المكان الذي تحققت فيه النتيجة ؟ لقد حاول الفقه الإجابة عن ذلك منذ وقت مبكر ، من أجل حل مشكلة تنازع القوانين من حيث المكان (تنازع الاختصاص) بصدد هذه الفروض المثارة .
وانقسم الرأي إلى ثلاثة اتجاهات( )، فذهب الاتجاه الأول إلى أن العبرة في تحديد مكان وقوع الجريمة بالمكان الذي وقع فيه السلوك بقطع النظر عن المكان الذي تحققت فيه النتيجة ، أو من المفترض تحققها فيه ، وفي المقابل ذهب اتجاه آخر إلى أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي تحققت فيه النتيجة أو كان من المفترض تحققها فيه ، وبين هذا وذاك انبرى اتجاه ثالث إلى أن العبرة في ذلك تكون بمكان حصول أي منهما (السلوك أو النتيجة) ، ولكل مذهب من هذه المذاهب مبرراته وأسانيده التي تعززه وتدعمه( ).

وقبل الخوض في مسألة الاختصاص في جرائم المعلوماتية عبر الوطنية ، وما يمكن أن يثيره من إشكاليات ، ينبغي استعراض هذه الاتجاهات ومحاولة تقييمها وصولاً إلى الاتجاه الراجح منها الذي يمكن أن يُتخَذ كأساس لتحديد مكان وقوع هذه الطائفة من الجرائم موضوع هذه الورقة بغية الوقوف على القانون الواجب التطبيق بشأنها .

أولاً ـ مذهب السلوك أو النشاط الإجرامي بوصفه معياراً لتحديد مكان وقوع الجريمة :
وفقاً لهذا المعيار ، ينعقد الاختصاص للمحكمة التي يقع في نطاقها النشاط الإجرامي ، وليس مكان حصول النتيجة أو الآثار المترتبة عليه ؛ بدعوى أن اتخاذ آثار الفعل كمناط لتحديد مكان وقوع الجريمة تكتنفه بعض الصعوبات ؛ يمكن إجمالها في أنه معيار مرن وفضفاض ، فضلاً عن أن معيار حصول النشاط أدعى إلى تيسير عملية الإثبات وجمع أدلة الجريمة ، وأن المحكمة التي لها ولاية نظر الدعوى تكون قريبة من مسرح الجريمة. ناهيك أن الحكم الذي يصدر في الواقعة يكون أكثر فعالية ويسهل معه ملاحقة الجناة( ).
ويضيف المؤيدون لهذا الاتجاه حججاً أخرى ، منها أن حدوث الضرر في مكان معين مردّه في الغالب أسباب لا إرادة لمقترف السلوك فيها ، وأن من شأن تطبيق قانون الدولة التي تحقق في نطاقها الضرر لا يتفق واعتبارات العدالة نظراً لجهل الجاني بهذا القانون الذي يتم إعماله بحقه ، وفي الغالب ليس ممكناً العلم به ؛ إذ حينما أقدم على ارتكاب الفعل الذي أتاه يعتقد مشروعيته وفقاً لقانون البلد الذي وقع فيه السلوك ، وإذا به غير ذلك من منظور قانون البلد الذي تحقق فيه الضرر .
وقد حظي هذا الاتجاه بتأييد جانب كبير من الفقه سواء في فرنسا أو مصر ، ليس هذا فحسب ، بل اتجهت بعض التشريعات المقارنة إلى تبنيه ، ومن هذا القبيل القانون الدولي الخاص النمساوي الصادر سنة 1979 والمجري الصادر في السنة ذاتها( ).

ثانياً ـ مذهب مكان تحقق النتيجة كمناط لتحديد الاختصاص :
على الرغم من الحجج التي ساقها مؤيدو المذهب الأول ، فإن هذا الاتجاه تعرض لجملة من الانتقادات من جانب آخر من الفقه ، وقد انصبّت هذه الانتقادات على أن هذا المذهب لا يعير اهتماماً للمكان الذي تحقق فيه الضرر أو أثر النشاط الإجرامي الذي كان الجاني يسعى إلى تحقيقه فيه. فالآثار الضارة هي التي تبعث الفزع في نفوس الناس ، في حين أن مكان وقوع السلوك لا يعدو أن يكون مصدر الضرر ليس إلاّ ، كما أن تمام الجريمة لا يكون إلاّ في المكان الذي ظهرت فيه آثارها الضارة التي كان الجاني يقصدها أو يرغب في تحقيقها .
يضاف إلى ذلك أن تقادم الجريمة يتم احتسابه من الوقت الذي تحققت فيه النتيجة (الضرر) ، كما يؤخذ في الحسبان جسامة الضرر كأساس لتقدير التعويض ولا عبرة بخطورة الفعل أو درجة الخطأ . كذلك يعد حصول الضرر شرطاً أساسياً لقيام المسؤولية المدنية ، فتنفى هذه المسؤولية متى ما انتفى الضرر ، ومن ثَم لا مصلحة للمدعي في الدعوى ، ما يجعلها بالتالي غير مقبولة .
ومن المبررات التي سيقت لتعزيز هذا الاتجاه أن الأخذ به يحقق وحدة الجريمة وعدم الفصل بين عناصرها ، كذلك يمتاز هذا الاتجاه في نظر المدافعين عنه بأنه أكثر واقعية على اعتبار أن الضرر له مظهر خارجي ملموس خلافاً للنشاط الذي قد لا يكون كذلك متى ما اتخذ صورة الامتناع أو السلوك السلبـي .
ومن هنا ، فقد لقي هذا الاتجاه ترحيباً من بعض الفقه إلى جانب ذلك تم تبنيه من بعض التشريعات المقارنة ، ومنها القانون الألماني الصادر في 5 ديسمبر 1975 ، والقانون الدولي الخاص التركي الصادر سنة 1982 . كما أقرّته اتفاقية بروكسل لسنة 1969 بشأن المسؤولية عن أضرار التلوث بالبترول .

بالإضافة إلى ذلك دأب القضاء على تطبيقه في بعض المناسبات ، من ذلك في واقعة عرضت على القضاء الأمريكي مؤداها أن قام رئيس فرقة باليه وهو على متن مركب أمريكي على قتل شخص موجود بمركب أجنبـي بإطلاق النار عليه ، وعند تقديمه للقضاء قضى بعدم اختصاصه بهذا الفعل مؤسساً ذلك على أن الوفاة (النتيجة) قد تحققت على متن مركب أجنبـي .
كما تكرر ذلك في واقعة أخرى مفادها أن شخصاً يحمل الجنسية الإنجليزية قُدِّم إلى المحاكمة أمام إحدى محاكم ولاية ماسوشيست الأمريكية عن تهمة القتل العمدي التي قضت باختصاصها بنظر الدعوى عن الواقعة المذكورة ، على الرغم من أن النشاط حصل على متن مركب إنجليزي في عرض البحر ، في حين أن وفاة المجني عليه جراء هذا الفعل تمت إثر وصوله إلى الولاية المذكورة( ).
ومع ذلك ، فإن هذا الاتجاه لم يكن بمنأى هو الآخر عن النقد ، الذي يتركز في أن الأخذ به يفضي في نهاية المطاف إلى عدم تجريم الشروع إذا لم تتحقق النتيجة ، وكذلك عدم العقاب على ما يُعرف بالسلوك المجرد (جرائم السلوك المجرد) .

ثالثاً ـ المذهب المختلط :
أمام الانتقادات التي تعرض لها كلا الاتجاهين السابقين ، برز اتجاه ثالث مفاده أن الجريمة تعد واقعة في مكان حصول النشاط (العمل التنفيذي) ، وكذلك المكان الذي تحققت فيه النتيجة أو الذي من المتوقع أو من المنتظر تحققها فيه . وهذا الاتجاه حظي بمباركة أغلب الفقه ، ويجد مبرره في أن الركن المادي للجريمة يقوم على ثلاثة عناصر ، وهي الفعل (النشاط) ، والنتيجة ، وعلاقة السببية ، ما يعني أن الجريمة تعد واقعة في كل مكان تحقق فيه عنصر من عناصر الركن المادي ، أي في مكان النشاط ومكان النتيجة على حد سواء .
وهذا الاتجاه أخذت به بعض التشريعات المقارنة ، ومنها قانون العقوبات النرويجي وكذلك الدنمركي ، والصيني والألماني والإيطالي لسنة 1930 . كما تبنته المحاكم في بعض الدول ومنها فرنسا في عدد من الأحكام ؛ إذ ذهبت إلى أن اختصاصها يتسع ليشمل كل الأمكنة التي كانت مسرحاً للجريمة عند وقوعها .
فقد قضي بأن المحكمة تعتبر مختصة بالدعوى الناشئة عن جريمة إصدار صك دون مقابل الوفاء فيما يخص صكاً كان محرراً خارج فرنسا ومسحوباً على أحد البنوك فيها( ).
وتكرر ذلك في واقعة أخرى عرضت على القضاء المذكور يقر فيها باختصاصه بصدد جريمة نصب متى ارتُكِبت أفعال النصب (الطرق الاحتيالية) أو تسليم النقود على الإقليم الفرنسي .
وتأسيساً على هذا المذهب ، لو عمد أحدهم إلى قتل آخر فأطلق النار من الأراضي المصرية تجاه المجني عليه الموجود على الأراضي الليبية ثم أُسعِف المصاب إلى دولة ثالثة (ولتكن إيطاليا مثلاً) لتلقّي العلاج ، وتوفي هناك ، فإن الاختصاص ينعقد وفقاً للاتجاه السابق لكل من القانون المصري والليبـي على حد سواء ، على اعتبار أن المجني عليه كان موجوداً على إقليمها وقت مباشرة النشاط ، ومن ثَم فهذا المكان الذي اختاره لتنفيذ جريمته هو الذي ينبغي الاعتداد به ، وبالتالي يتحدد القانون الواجب التطبيق على أساسه.
وهنا ، يتم تغليب قانون محل تحقق النتيجة إذا كانت الجريمة تامة ، ومن قبيل ذلك جرائم السلوك والنتيجة (الجرائم المادية) ، في حين يفضل مكان النشاط أو السلوك إذا كانت الجريمة قد وقفت عند حد الشروع أو كانت من قبيل جرائم السلوك المجرد .

•رأينا في الموضوع:
بالوقوف على المبررات التي استند إليها كل اتجاه مما تقدم وما يكتنفه من قصور، نرى أن الأخير يَفضُل ما عداه ، لكونه تجاوز المآخذ التي اعترت المذهبين الآخرين ، وفي الوقت ذاته استجمع ميزات كل منهما . فهو يوسع من نطاق الحماية الجنائية ويتيح مرونة أكثر في مد نطاق الاختصاص لاسيما وأن بعض الأفعال مجرَّمة في ذاتها ، ولا ينجم عنها أي ضرر مادي ، ومنها ما تمتد آثاره الضارة لدولة أو دول أخرى غير التي وقع فيها النشاط ، الأمر الذي يهدد مصالحها الحيوية . وربما يكون أكثر انسجاما مع الطبيعة المميزة لجرائم الإنترنت عبر الوطنية موضوع هذه الورقة وبما يكفل حل مشكلة تنازع الاختصاص الناجمة عنها كما سيتضح لاحقاً .

•خصوصية جرائم الإنترنت عبر الوطنية والحلول المقترحة بشأن تنازع الاختصاص :
كما هو معلوم ، فإن الشبكة العنكبوتية لا تستأثر بها دولة بعينها ، ويتسنى لمستخدميها ولوجها من أية بقعة في العالم تقريباً من خلال جهاز حاسوب يكون متصلاً بها . فهي بطبيعتها باعتبارها موزعة على أرجاء الكرة الأرضية ـ لا تحدّها حدود ، ومن ثَم ـ والأمر كذلك ـ تكون من حيث المبدأ خارج أية رقابة أو سيطرة من أية جهة ، وهذا يستتبع ـ ولو نظرياً ـ عدم إمكان خضوعها لسلطان قانون جنائي معين .
وعملاً بمبدأ الإقليمية ، فإن كل دولة تمارس سيادتها على إقليمها بتطبيق قوانينها داخل حدودها ، بصرف النظر عن جنسية مرتكب الجريمة ، الذي يحتمل معه تنازع القوانين حيال الواقعة الواحدة ، والذي يستتبع بالضرورة تنازع الاختصاص ، وبالذات فيما يتصل بالجرائم عبر الوطنية التي ترتكب عبر شبكة الإنترنت . فجريمة السبّ مثلاً عبر الرسائل الإلكترونية E. mails تقع أحياناً في بلد ويتلقّاها الضحية في بلد آخر . وهنا ينبغي أن نشير إلى أن هذه الرسائل وغيرها من أدوات الاتصال عن بعد بواسطة هذه الشبكة تمر في كثير من الأحيان بأكثر من دولة قبل وصولها إلى بلد الاستقبال . ناهيك أن بعض الأفعال التي تُبث من خلال الإنترنت ، تعد أحياناً جريمة في بلد ومباحة في غيره من البلدان المرتبطة بهذه الشبكة .
ومن الأمثلة التي يسوقها الفقه على ذلك أن الدعاية للقنّب الهندي (الخشخاش) أمر غير محظور في بعض البلدان كما هو الحال في هولندا ، وفي المقابل يعد مثل هذا السلوك مما يجرّمه القانون وغير مسموح به في بلدان أخرى بما فيها ليبيا وفرنسا مثلاً . والأمر ذاته ينسحب على المراهنات على كرة القدم ، فهي غير مشروعة في بلد كفرنسا ، وجائزة في بلدان أخرى كما هو الحال في إنجلترا .. وهلم جرا( ).
ومما يزيد من حدة المشكلة انعدام أو ضعف الرقابة على الرسائل الإلكترونية ، وغياب قانون محدد يجري إعماله على مثل هذه الأفعال ، ما من شأنه أن يبعث على التساؤل عن القانون الواجب التطبيق على المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت .
وتطبيقاً للقواعد التي تحكم الاختصاص المكاني ، فإن جرائم الإنترنت العابرة للحدود Transnational Crimes تخضع في كثير من الأحيان لأكثر من قانون ، فإذا وقع السلوك في نطاق بلد معين والآثار الضارة تحققت في نطاق بلد آخر ، فإن كلا البلدين يكون قانونه واجب التطبيق على الواقعة ، بمعنى أنه يتم تطبيق قانون كل دولة تحقق فيه