مقالة توضح الملامح التاريخية للزواج

لا بد بادئ ذي بدء من تحديد لنشأة القانون المدني وماذا تعني هذه العبارة في الواقع القانوني.
فأول ما أطلقت هذه العبارة كان على القانون الذي يحكم مدينة روما ومواطنيها. فهو إذن في بدئه، فرع للقانون الروماني الذي شمل الأمبراطورية الرومانية.

ثم استخدمت هذه العبارة في القرن السادس على مجموعة يوستنيان لتميزها عن مجموعة القانون الكنسي. ثم أطلقت فيما بعد على قانون نابليون الذي بُدئ به سنة 1804م والذي ضم الأحوال الشخصية إلى جانب الأحوال المالية.. ومن ذلك الحين غدت لفظة القانون المدني، تعني، تشريع دولة من الدول لموجبات الأفراد في مناكحاتهم ومسؤولياتهم فيها وفي عقودهم وإجاراتهم وبيوعهم والتزاماتهم ويكون هذا القانون سائداً لكافة عناصر الأمة وشرعة للمحاكم في حال رفع القضايا إليها .
يقوم هذا المفهوم على أن لا تشريع في الدولة إلا تشريعها ، ولا نظام إلا نظامها ، ولا محكمة إلا محكمتها ، وذلك في مختلف الشؤون التي عالجها هذا القانون ومنها طبعاً الزواج .

المدني في مقابل الكنسي

ومن هنا فقد أطلق تعبير “الزواج المدني” على الزواج الذي يخضع في إنشائه ومفاعليه وانحلاله إلى منطوق القانون المدني ، تمييزاً له عن الزواج الذي يتم كنسياً . وأول ما أطلقت هذه التسمية في فرنسا في أعقاب صدور قانون نابليون .

وعقوبات ضد الكنسي

وقد رافق التسمية إحراج كبير للكنيسة ، ولرجالها ، وللراغبين في التزام ما تقرره الكنيسة . إذ أن القانون الجديد قد نص على بطلان أي زواج لا يتم في ظلاله وفق إجراءاته ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك إذ اعتبر الزواج الديني الذي لم يسبقه زواج مدني باطلاً ومساكنة غير شرعية . ولحماية تأمين خضوع رجال الدين إلى منطوقه ، صدر قانون العقوبات الفرنسي معاقباً في مادتيه 199 و 200 بالسجن والغرامة ، كل رجل دين يعقد زواجاً دينياً ندون التثبت من أن طالبي العقد قد تزوجا ، قبل ذلك زواجاً مدنياً ، وفقاً لأحكام القانون المدني .

الكنيسة ترد وتحظر

وقد قامت الكنيسة بسلسلة تدابير ، في سبيل استمرار اعتبار الزواج سراً من أسرارها، فوصمت بالعار كل من يتزوج مدنياً، دون أن يعقبه بزواج ديني آخر. واعتبرت المتزوجين مدنياً دون زواج روحي، عازبين يتساكنان سراً. وأوجبت على مأمور النفوس الذي يجري عقداً مدنياً أن ينبه المعاقدين إلى بطلان زواجهما المدني، وأن عليهما إكماله دينياً. وحظرت على المشترعين إقرار الطلاق، وإن كان قد أقر فعليهم الاجتهاد في إزالته من القانون.
وعندما أحرج القضاة والمحامون نتيجة لدعاوى الطلاق المنصوص عنها في القانون المدني اضطرت الكنيسة في مجمع السنتو فيشنو المعقود في سنة 1885م، إلى تدبير يثير الغرابة والدهشة. فقد أجازت للقاضي المدني أن ينظر في دعاوى الطلاق المدنية إنما أوجبت عليه أن يرفض الحكم بالطلاق وأن يصرح في قراره أن هذا الموضوع من اختصاص المحاكم الكنسية وحدها.. وأما المحامي فله قبول التوكيل بدعوى طلاق مدني من طالب الطلاق نفسه، إنما عليه أن يعمل على عدم تيسير الطلاق، وأن يشير في لوائحه ومرافعاته أن الطلاق مخالف لشريعة الكنسية!!!

شرط إجراء العقد الديني مقبول مدنياً!!

وقد آتت التدابير الأولى التي أكملت الزواج المدني بزواج روحي أُكُلَها. إذ أن معظم الفرنسيين قد أجروا زواجهم وفقاً للطريقة المزدوجة. فبدأوا بعقد مدني إرضاء لسلطة الدولة، واتبعوه بعقد روحي تنفيذاً لتعليمات الكنيسة، أما التدابير الثانية، فقد حققت نجاحاً ملحوظاً إذ اعتبرت المحاكم أن نكول أحد الزوجين عن إجراء عقد زواج ديني، بعد المدني، رغم اتفاقهما عليه، إهانة خطيرة التي تجيز الطلاق بينهما.
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك فارقاً كبيراً بين غايتي الزواج المدني والكنسي. فبينما يرى القانون المدني، أن الغاية الأساسية الأولى من الزواج، إرادة العيش المشترك بين الزوجين، نرى قانون الإرادة الرسولية يحدد غاية الزواج: إنجاب الأولاد. ولا ريب أن لكل من هذه الغايتين معطيات تجعل نتائج الزيجتين مختلفة تماماً.
وعلى كل حال، فقد أنهى القانون المدني الفرنسي، بالزاميته المتشددة، حالة الصراع بين السلطة ورجال الدين.
فقد كانت فرنسا تعيش، قبل الثورة، اضطراباً في مسألة الأحوال الشخصية. فشمالها تسوده أحكام العادات والأعراف، أما جنوبها فيسوده أحكام القانون الروماني القديم. فكان لا بد والحالة كذلك، من قانون ينظم تلك الشؤون جميعاً، خاصة وأن الكنيسة خلال الحقب الماضية لم تتمكن من تنظيم التابعين لها في وحدة تنظيمية كاملة.

كيف يجري العقد في فرنسا

ومن الرجوع إلى نصوص القانون المدني الفرنسي المتعلق بالزواج نجد أن الزواج قد غدا، كأي عقد من العقود، ليس فيه إلا إيجاب وقبول تكنفهما مظاهر الرضا بين الزوجين.
ويشترط في الزوجين اختلاف الجنسين، وبلوغهما، والفحص الطبي، وانتفاء الغش حول شخصية أحدهما وعدم قيام زواج آخر، وأن لا تكون الزوجة في عدة طلاق، وأن لا تكون بينهما رابطة مانعة.
ولا بد من إعلان رغبتهما في الزواج قبل عشرة أيام على الأقل ويجري العقد أمام مأمور النفوس ويتوجب حضورهما بالذات، فالوكالة لا يجوز في عقود الزواج، ويتعين تبادل الموافقة أمام مأمور النفوس، وبحضور شاهدين بالغين إحدى وعشرين سنة.

أسلوب العيش المشترك:

وأيضاً لا بد بعد ذلك للزوجين من اتفاقهما على أسلوب العيش المشترك من الناحية المالية فهناك ثلاثة أنواع من الأنظمة:
1. النظام القانوني
(النظام القانوني المشترك) حيث تدخل في ملكية الزوجين، بالتساوي الأموال المنقولة التي كانا يملكانها والتي سيتملكانها والأموال المنقولة التي يحوزها أحدهما أو كلاهما بعد عقد الزواج. وإزاء ذلك يلتزم الزوجان، بوجه التضامن، بكافة الديون التي كانت عليهما أو على أحدهما قبل الزواج، وبالديون التي قد تنشأ من مصاريف الحياة الزوجية، وأيضاً بالديون التي قد تترتب بذمة الزوج أما ديون الزوجة فان توجبت فبموافقة الزوج، وللزوج، في هذا النظام، حق التصرف بالأموال المشتركة دون حاجة لموافقة زوجته، كما أن حق إدارة أموالها العقارية الخاصة بها، لكن ليس له التصرف بها.
2. النظام التعاقدي
أما إذا أراد الزوجان أن يعدلا في هذا النظام، بأن يطبقا شيئاً آخر، أو يخرجا مالاً من الأموال المشتركة، فيكونان قد قاما باختيار (النظام التعاقدي المشترك).
3. نظام البائنة
أما النظام الثالث وهو ما يعرف (بنظام البائنة) فيقوم على الأموال التي تقدمها الزوجة لزوجها، إسهاماً منها في تحمل تكاليف الزوج. وأموال البائنة هذه، للزوج حق إدارتها واستغلالها، لكن ليس له التصرف بها. وفي هذا النظام تبقى أموال الزوجة التي لم تدخلها في البائنة، حرة التصرف بها إدارة وبيعاً.
وحدد القانون بعد ذلك حقوق الزوجين وواجباتها فنص على أنهما ملزمان بواجب الوفاء (كالامتناع عن الزنا ومقدماته) والمساعدة (عند الشيخوخة أو المرض) والمساكنة (في سكن واحد وقبول العلاقات الجنسية) كما نص على أن الزوج هو رئيس العائلة.
وأجاز القانون الطلاق بحكم المحكمة.

الطلاق بحكم المحكمة

وجدير بالتنبيه، إلى أن القانون ربط الطلاق بحكم المحكمة. وهناك حالات يتحتم فيها على القاضي الحكم به ، ولا يملك التقدير كالزنا والحكم بعقوبة جسدية شائنة (تندرج من خمس سنوات إلى الإعدام) أما العنف أو الإهانة الخطيرة، فللقاضي حق التقدير. وقد ينتهي الأمر بالهجر . وهو أسلوب تجمد فيه الحياة الزوجية، إلى حين اتفاقهما على استئنافها، أو على فصم عراها.
وقد ماشت فرنسا، في إلزاميتها للزواج المدني ، كل من ألمانيا والنمسا والسويد ورومانيا والاتحاد السوفييتي والبرازيل وسويسرا وبلجيكا والنرويج ودول أمريكا اللاتينية وتركيا.
في أمريكا: من أراد الزواج الديني فله ذلك
على أن بعض الدول اختارت حلاً وسطاً . فنصت في قانونها المدني على طريقة للزواج، ألزمت بها من أراد التزوج مدنياً . أما من أراد التزوج روحياً فقط، فله ذلك. ومن هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وإيطاليا.
وكان شائعاً من قبل ، خاصة في انجلترا والولايات المتحدة ، طريقة الزواج العرفي ذي الأثر الحالي . وهو يعني اتفاق الطرفين وإقرارهما بأنهما أصبحا زوجين. وبمجرد هذا الإقرار ، ينتج الزواج أكثر مفاعيله ، رغم أنه قد يكون ، من الضروري، توثيقه بزواج كنسي روحي . وقد يتأخر الإتصال الجنسي إلى ما بعد هذا التوثيق.
قصة الزواج في أمريكا وانجلترا
بيد أن انجلترا قد عمدت سنة 1753م إلى إلغاء مثل هذا التعاقد وتأثرت بها معظم الولايات الأمريكية إلى أنه ظل معمولاً به في اسكتلندا، واستبدل به نصوص القانون الانجليزي الأمريكي الذي راح ينظم طرق التعاقد وآثاره ومفاعيله، وكان ينظر هذا القانون للزواج علىأنه تعاقد بين طرفين ينتج عنه “شخصية قانونية واحدة يتصرف الزوج لحسابها وتبعاً لذلك كان الزوج هو الذي يحدد مسكن الزوجية وهو الشخصية السائدة في العلاقة بين الأبناء، والوالدين كما أن كل الممتلكات التي تخص الزوجة كانت تخضع لسيطرته المطلقة خلال سريان الزواج ولم تكن الزوجة عادة تستطيع عقد اتفاقات أو إجراء أي عقد منفصلة ولكن إذا رفض الزوج الاتفاق عليها أو على الأطفال فانها كانت تملك حق الإستدانة باسمه لتفي بالاحتياجات التي تلائم مركزها الاجتماعي. وبعد وفاة أحد الزوجين كان الآخر يتمتع بنصيب جزئي في أملاك المتوفى أو تركته . وكانت بائنة الزوجة تتيح لها الحق في ثلث تركة زوجها عند وفاته. وأما الحق المماثل المتاح للزوج ويسمى حق الإكرام في تركة الزوجة فلم يكن للزوج أن يستحقه إلا إذا كانت الزيجة قد أنجبت أطفالاً وبمرور الوقت اقتضت الأعراف بحق الزوجة في أثناء حياة زوجها في أن تكون لها ممتلكات منفصلة تحفظ بصفة أمانة لمصلحتها.

“وفي نهاية القرن التاسع عشر تلاشت الحاجة إلى نظام حفظ ممتلكات الزوجة أمانة، ذلك أن بريطانيا العظمى وجميع الولايات الأمريكية بدأت تطبيق قوانين ولوائح ممتلكات النساء المتزوجات التي تعطي للزوجات حق السيطرة التامة على ممتلكاتهن وحق التعاقد والاتفاق بصفتهن المنفصلة، وبدلاً من حق البائنة وحق الإكرام، نصت قوانين معظم الولايات على حد أدنى لنصيب أي من الزوجين في تركة شريكه المتوفي. وهناك ولايات قليلة تأخذ بالقانون الإسباني وتعترف بالملكية المشتركة. أي بأن جميع الممتلكات المكتسبة في أثناء الزواج مملوكة للزوجين معاً ومن ثم تقسم مناصفة بينهما عند انحلال رابطة الزواج.
“بيد أن القانون الجديد في بريطانيا والولايات المتحدة لا يزال يعطي الزوج حق تحديد مسكن الزوجة، كما يلقي عليه واجب الأمانة الذي لا يطلب منها، وهناك في كثير من الولايات الأمريكية إجراءت قانونية تتعلق بالإقرار بالعلاقة الزوجية يمكن للزوج أن يلجأ إليها ومن أبرزها دعوى الحديث الإجرامي وهي قضية مدنية ترفع ضد العشيق بتهمة الزنى ودعوى العجز عن الوفاء بحقوق الزوج بسبب إصابة الزوجة بعجز بدني ودعوى تحول عواطف الزوجة عن زوجها.

في إيطاليا: الزواج المدني لمن أراد ثم أقر الطلاق 1970م

أما في إيطاليا بلد الفاتيكان، فإن الوضع فيها مختلف. فهي وإن نصت على زواج مدني لمن أراد ويريد، إلا أن مسألة الطلاق فيها كانت محور صراع عنيف. انتهى في فجر اليوم الأول من كانون الأول سنة 1970م حيث صوّت البرلمان الإيطالي إلى جانب قانون الطلاق.
ويبدو أن قرار الطلاق في إيطاليا كان انتصاراً لقضية المرأة هناك فقد كانت أشد الناس ضرراً من عدم فصم العرى الزوجية. وقد ذكرت (النهار) البيروتية في عددها الصادر في 26/11/1970م تحقيقاً عن مسألة مشروع الطلاق الإيطالي فذكرت أنه (في أيلول سنة 1969م كان النقاش في إيطاليا حول الطلاق على ذروة الحدة وكان الإيطالي قد بدأ يتحدث بالموضوع بكل صراحة حتى أمام زوجته وربما أمام والدتها أيضاً ويقول رأيه الحقيقي؟ هو ضد الطلاق لا يعني فقط أنه سيصبح بامكانه أن يسرح زوجته بل سيترتب عليه في الوقت نفسه: أن يتزوج عشيقته التي سيفقد أمامها جميع الأعذار. إذن لماذا لا يبقى الطلاق نائماً وكذلك الزوجة وكذلك مطامح العشيقة؟؟ لكن المرأة، في الغالب تريد الطلاق. إذ لا يصلح أن يأتي انطونيو من العمل في الثانية بعد الظهر فينام حتى السادسة مساء، ثم يستيقظ لينزل إلى المقهى ومنه إلى المشرب ثم يعود في الثانية صباحاً من جديد وهو مخمور لا جلد له حتى على رد الشتائم المتلاحقة التي تطلقها السنيورة برونا.
(هناك أكثر من عشرة ملايين أنطونيو وبرونا. الحالات واحدة والهموم واحدة والمشاكل واحدة).
وقد علقت وكالات الأنباء عندما أوردت خبر إقرار قانون الطلاق في مجلس النواب أنه بذلك (قد انتهت معركة سياسة وطائفية صعبة… وتقول الصحف الإيطالية أن نحو مليون إيطالي وإيطالية سيتقدمون بطلبات طلاق، لكن لا يتوقع صدرو أحكام بشأن هذه الطلبات قبل سنة).
وينص القانون على أن يتم الطلاق في المدينة التي عقد فيها الزواج وبعد مثول الفريقين أمام القاضي المختص يعطي – أي القاضي – حق حضانة الأطفال للأم إلا في حالات استثنائية.
أما أهم الحالات التي يسمح فيها بالطلاق فهي الآتية:
1. إذا حكم على أحد الزوجين بالسجن مدى الحياة أو أكثر من خمسة عشر سنة.
2. إذا ارتكب أحدهما أفعالاً جنسية في عائلته أو إذا حمل الزوج زوجته أو أبناءه على تعاطي الدعارة.
3. إذا حاول أحدهما قتل الآخر أو أحد أولاده.
4. إذا لم يتم الزواج فعلياً.
5. إذا كان هناك هجر شرعي منذ خمس سنوات على الأقل وفي حال معارضته أحد الزوجين للطلاق يرفع الهجر إلى ست سنوات أو إلى سبع إذ1 كان الزوج المذنب هو الذي يطلب الطلاق.
وقد كانت ردة الفعل الكنسية أن البابا قد أعلن أنه حزن حزناً عميقاً عندما علم بموافقة البرلمان الإيطالي على الطلاق