حوكمة الشركات والملامح الجديدة
لودو فاندرهيدن
أظهرت الأزمة العالمية الراهنة فجوات خطيرة في ممارسات حوكمة الشركات على الصعيد العالمي في مختلف القطاعات الاقتصادية، ما دفع نحو إحداث تغيرات جذرية في هيكليات الحوكمة وخاصة في آلية عمل مجالس الإدارات.

ترسم خريطة الحوكمة في مرحلة ما بعد الأزمة العالمية، التي تظهر انتقال المسؤولية إلى مجالس الإدارات بعد أن كانت ملقاة في السابق على عواتق الرؤساء التنفيذيين فحسب، ويأتي ذلك في ظل الحاجة إلى تحديد الأفراد المسؤولين عن أي أخطاء أو خسائر قد تتكبدها الشركة لكي يتحملوا المسؤولية وتتم محاسبتهم، وأنه: “في حال إلقاء مزيد من المسؤولية على أعضاء مجالس الإدارات، سيؤدي ذلك إلى تغيير آلية عملهم وتصرفاتهم، إذ سيطالبون بمعلومات وبيانات أكثر حول عمل شركاتهم لتحليلها ودراستها قبل المصادقة على القرارات الاستراتيجية نظرا لكونهم تحت طائلة المسؤولية، الأمر الذي يسهم في تعزيز الشفافية على مستوى الإدارة العليا”.

من جانب آخر، أسهمت المتغيرات الأخيرة في عالم المال والأعمال في تزايد دور وأهمية شركات المحاسبة والتدقيق المالي، التي باتت تلقى تعاونا وشفافية أكبر من عملائها، حيث أدركت الشركات ضرورة ضبط ميزانياتها وحساباتها وفق المعايير المحاسبية الدولية والأهم من ذلك أن تكون دقيقة وواقعية، وبات المدققون الخارجيون يقدمون تقاريرهم إلى المدير المالي أو مسؤول الحوكمة في الشركات وليس إلى الرئيس التنفيذي كما كان الوضع عليه في السابق، ويشار إلى تعاظم المسؤولية الملقاة على عاتق شركات التدقيق المالي في ظل تزايد أهميتها إثر الأزمة الراهنة.

شهد قطاع إدارة المخاطر اهتماما متزايدا منذ مطلع التسعينيات، لكنه بقي محدودا ضمن حدود الإدارة العملية والمالية، وهنا يشار إلى أن الأزمة قد أدت إلى توسيع نطاق ممارسة إدارة المخاطر لتصل إلى مجالس الإدارات التي تهتم فقط بالأرباح، بل باتت تنظر إلى المخاطر المرافقة لعملية توليد تلك الأرباح لتكوين صورة متكاملة عن حجم المخاطر المحتملة لأي مشروع أو صفقة ومناقشة الطريقة الأفضل لإدارة تلك المخاطر.

وأن إدارة المخاطر تتمحور حول تفادي تدمير القيمة لدى أي شركة، إضافة إلى أنها تعنى بتحديد المخاطر التي يمكن تحملها، فهي لم تعد عملية تقييم للمخاطر فحسب، بل باتت تتجه نحو رصد مستويات المخاطر التي يمكن للمساهمين تحملها. وتكمن المفارقة أن إدارة المخاطر كانت أحد أكثر المجالات تطورا في القطاع المالي خلال الـ20 عاما الماضية، وقد شهدت زيادة ملحوظة من حيث القدرات والإمكانات، لكن الأزمة الأخيرة كشفت أن تلك التطورات لم تنعكس على أرض الواقع فيما يتعلق بتطور أداء إدارة المخاطر على مستوى مجالس الإدارات، أما الآن، لم يعد الهدف تحقيق الأرباح بأي ثمن كان، بل يجب أن تتناسب الأرباح التي يمكن تحقيقها مع المخاطر المحتملة.

من جانب آخر، يلاحظ أندور الرئيس التنفيذي في تعرض الشركة للمخاطر خلال عملياتها ومشاريعها، نظرا لاحتكاره للقرارات وآليات الدخول في المشاريع والصفقات التجارية، حتى في حال تكبد الخسائر، لم يكن الرئيس التنفيذي يتحمل عبئا كبيرا من المسؤولية، ونظرا لهذا الواقع، بدأت إدارة المخاطر بلعب دور أكبر في الرقابة والإشراف على قرارات الرئيس التنفيذي وأعضاء الإدارة العليا ووضعها في إطار حدود إدارية معينة، وذلك لا يعني الحد من قدراتهم ومسؤولياتهم على المستوى التنفيذي بقدر ألا تترك جميع القرارات لهم. ويلفت إلى أن إدارة المخاطر لم تعد مجرد قياس علمي للمخاطر، بل بدأت برصد الحوادث التي لا يمكن للشركة تحملها.

في ظل تلك المتغيرات التي طرأت على حوكمة الشركات واتساع تطبيقاتها، يرى بعضهم أنها قد تعرقل عملية اتخاذ القرار، وقد تؤدي تلك الإجراءات إلى تباطؤ حركة العمل، الأمر الذي لا يناسب معظم الشركات في ظل حاجتها إلى المرونة وسرعة التحرك لمواكبة مستجدات الأسواق، ومن المؤكد أن مقاربة الحوكمة المعتمدة على المعاملات الإدارية فقط ليست الطريقة الأمثل لدفع مسيرة النمو، فهي ليست مجرد إجراءات روتينية فقط، بل عملية تقييم مستمر للتحديات الراهنة والمحتملة أمام الشركة. لقد بات المفهوم المعاصر للحوكمة مركزا على كونها عملية إشراف ورقابة على عمل الشركات مع تجنب عرقلة أو إبطاء عملياتها الإدارية والتشغيلية، وهنا يكمن الجانب المهم في تطوير ممارسات الحوكمة.

ويجب أن نلفت الانتباه إلى جانب آخر إلى بعض النواحي الإيجابية لتلك الآثار، حيث قد يكون إبطاء العمل على مشروع ما نتيجة الإجراءات التي تفرضها الحوكمة عاملا إيجابيا، حيث قد يؤدي إلغاء ذلك المشروع أو تعديله إلى حماية الشركة من خسائر فادحة، ويأتي ذلك في ظل كون نسب كبيرة من الخسائر التي تكبدتها الشركات العالمية قد جاءت نتيجة دخولها في مشاريع خاسرة. وبدورها، برزت الاستدامة إلى الواجهة، حيث أظهرت الأزمة أن الشركات التي تتبع أسس حوكمة سليمة ستنجح في تحقيق استدامة عملياتها، فالتوجه بالتحول من مبدأ “اضرب واهرب” نحو استراتيجية أعمال مستدامة على المدى الطويل، الأمر الذي برز على الواجهة إثر الأزمة العالمية الراهنة. عادة ما ينظر إلى الشركات العائلية على أنها لا تتمتع بالشفافية المطلوبة، وهو مفهوم خاطئ، فقد لا تتمتع الشركات العائلية بالنسبة للأطراف الخارجية أو للسوق بشكل عام، لكنها تتميز بقدر عال من الشفافية أمام مالكيها، ألا وهم أفراد العائلة، أي أنها تبقى شفافة ضمن نطاق داخلي، وعادة ما تفضل عدم الإفصاح، فلا أحد يريد للعالم أن يعرف ما يدور داخل بيته.

ومن جانب آخر، نرى أن قطاع الملكية الخاصة من أكثر المجالات تميزا بالشفافية، لكنها تبقى عادة ضمن نطاق داخلي بين المستثمرين ومديري الصناديق والشركات المستهدفة استثماريا، كما أن الأداء الجيد لقطاع الملكية الخاصة يعزى بشكل كبير إلى تطور آلية اختيار الفرص الاستثمارية وتوافر المعلومات والبيانات عنها إلى جانب الإدارة الجيدة التي توفرها صناديق الملكية الخاصة للشركات المستثمرة فيها. بشكل عام، لا نرى وجود معارضة في وجهة سياسة الشفافية والإفصاح في مجتمع المال والأعمال، لكن مصدر قلق بعضهم يكمن في التخوف من أن تتسبب الشفافية في كشف الأسرار التجارية والمالية للشركة أمام منافسيها، إذ غالبا ما يكون غياب الشفافية مصدره التنافس بين الشركات على كشف ما يجري لدى منافساتها.

إن التطبيق الأمثل للحوكمة يمكن أن يسهم في منع نشوب أزمات مماثلة للأزمة العالمية الراهنة، لكن ذلك قد لا يحدث بالضرورة عند بروز نوع آخر من الأزمات التي قد تنشب في قطاعات وأسواق أخرى. وكان المشاركون في اجتماع حوكمة الشركات الذي نظمته كلية إنسياد أخيرا قد أجمعوا على أهمية تطبيق أسس حوكمة الشركات المتبعة عالميا بغض النظر عن خصوصية كل بلد، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أولويات دول المنطقة، وفي حال واجهت الحوكمة بعض العراقيل المتجسدة في التقاليد الإدارية والثقافية، أكدوا على ضرورة تغيير تلك الممارسات لفسح المجال أمام التطبيق الأمثل لحوكمة الشركات، لكنهم قالوا إن الحوكمة يجب ألا تأتي من خلال فرضها بشكل كامل عبر القوانين والتشريعات، بل من خلال عملية توعية وتثقيف في أوساط المال والأعمال الإقليمية.

وهنا يجب أن نشيد بإدراك المشاركين العميق لحوكمة الشركات وممارساتها على نطاق المؤسسات والشركات المحلية والإقليمية، مع إجماعهم على ضرورة بذل مزيد من الجهود لتعزيز تطبيقاتها على نطاق أوسع مع اتباع الأسس العالمية، فحوكمة الشركات في هذا الجزء من العالم لم تصل إلى مرحلة النضج، لكنها تسير على الدرب الصحيح.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت