مقارنة مابين الاعلان الدستورى الليبي المؤقت الصادر فى 11/12/1969 والاعلان الدستورى الصادر فى 3/8/2011

جرت العادة على أن يطلق مصطلح “الإعلان الدستوري” على الدستور المؤقت الذي يصدره من في يده السلطة المطلقة ولفترة إنتقالية ومفصلية في تاريخ دولة من الدول بمجرد إستقلالها أو تكونها أو بُعيد إنقلاب عسكري أو ثورة شعب. في كل الأحوال، يتمحورالإعلان الدستوري حول السلطة الغير مُنتخبة التي أصدرته، والتي في الغالب، تضع فيه رؤيتها لمستقبل الدولة الجديدة وربما تضع فيه جدولاً زمنياً للفترة الإنتقالية.

بُعيد إنقلاب العسكر على الحكم الشرعي في ليبيا في سبتمبر 1969، قام مجلس قيادة الإنقلاب بإستصدار إعلان دستوري يوم 11/12/1969 يقول في ديباجته “…. هذا الاعلان الدستوري ليكون اساسا لنظام الحكم في مرحلة استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية، وحتى يتم اعداد دستور دائم يعبر عن الانجازات التي تحققها الثورة ويحدد معالم الطريق امامها.” أى أن الدستور الدائم لن تكون له علاقة بالشعب وما يريده أو أنه أختزل إرادة الشعب بملايينه الاربعة في إرادة أحدى عشر إنقلابياً من العسكر.

وبعيد تفجر ثورة الشعب الليبي في 17/02/2011 للإطاحة بالنظام اللاشرعي الذي إستبد بحكم البلاد لأكثر من أربعة عقود، تولى مجلساً وطنياً مكوناً من القضاة والمحامين والعسكرين والتكنوقراط والمهندسين والطلبة… الخ، قيادة الثورة بشقيها السياسي و العسكري، حيث قام باستصدار عدد من مسودات للإعلان الدستوري، كانت كل واحدة تشمل التعديلات المطلوبة على التي سبقتها، والتي كان آخرها الإعلان الدستوري الصادر 3 رمضان الموافق لـ 03/08/2011.

من خلال دراسة مُمحصة للإعلانين الدستورين ومقارنتهما، يستطيع المرء وبكل يُسر، إستنباط النوايا من وراء كل منهما، فكل منهما يعكس أيضاً إختلاف في الثقافة السياسية يفصل بينها مساحة زمنية تجاوزت الأربعون عاماً، ويعكس كل منهما ثقافة السلطة التي أصدرت الإعلان الدستوري، ففي الأولى كان العسكر وفي الثانية كان الشعب.

ركّزت ديباجة الإعلان الدستوري الصادر عن الإنقلابين على الوحدة العربية والنضال من أجل إسترداد كل شبر ( ربما سقطت سهواً عدد من المفردات الأخرى مثل زنقة زنقة وبيت بيت… ) من الأراضي التي دنسها الإستعمار وعلى دعم العلاقات مع الدول المناضلة ضد الإستعمار والرجعية. أما الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الإنتقالي الوطني فلقد ركّز على أهداف الشعب الليبي في تحقيق الديمقراطية وإرساء مبادي التعددية السياسية ودولة المؤسسات ومجتمع ينعم بالإستقرار والطمأنينة والعدالة ومواجة الظلم والإستبداد والطغيان والإستغلال وحكم الفرد. أما ديباجة الإعلان الدستوري للإنقلابيين فقد ذكرت أنه سيكون سارياً المفعول الى “… وحتى يتم اعداد دستور دائم يعبر عن الانجازات التي تحققها الثورة ويحدد معالم الطريق امامها.” أي الى مدة غير محددة الزمن ولا الاهداف. ولكن الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الإنتقالي الوطني، فقد حدد المدة الزمنية التي سيتم فيها طرح الدستور الدائم للإستفتاء الشعبي بعد صياغته من قبل لجنة خاصه يعينها مؤتمر وطني مُنتخب.

أما فيما يخص حرية الرأي، فالأعلان الدستوري الصادر عن الإنقلابيين ينص في مادته الثالثة عشرة على أن حرية الرأي مكفولة في حدود مصلحة الشعب ومبادئ الثورة، وللقارئ تصور مدى هلامية هذه الحدود. أما الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الإنتقالي الوطني فإن المادة الرابعة عشرة منه تنص على أن الدولة تضمن حرية الرأي والتعبير الفردي والجماعي وحرية البحث العلمي وحرية الإتصال وحرية الصحافة وحرية التنقل والتجمع والتضاهر والإعتصام السلمي، وفي مادته الخامسة عشرة ينص على حرية تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع الوطني.

وفي موضوع الدفاع عن الوطن، ففي مادته السادسة عشرة ينص الإعلان الدستوري للإنقلابيين على أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس وأداء الخدمة العسكرية شرف لليبين. ولكن الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الإنتقالي الوطني ينص في مادته التاسعة على وجوب الدفاع عن الوطن من قبل كل مواطن دون أن يحدد إن كان ذلك يشمل الخدمة العسكرية.

أما فيما يخص نظام الحكم، فالمادة الثامنة عشرة في الإعلان الدستوري للإنقلابيين تنص على أن “مجلس قيادة الثورة (الإنقلاب) هو أعلى سلطة في الجمهورية العربية الليبية ويباشر اعمال السيادة العليا والتشريع ووضع السياسة العامة للدولة نيابة عن الشعب وله بهذه الصفة أن يتخذ كافة التدابير التي يراها ضرورية لحماية الثورة والنظام القائم عليها، وتكون هذه التدابير في صورة اعلانات دستورية او قوانين او اوامر او قرارات ولا يجوز الطعن فيما يتخذه مجلس قيادة الثورة من تدابير امام اية جهة.” أما في الإعلان الدستوري للمجلس الوطني الأنتقالي، فتنص المادة السابعة عشرة فيه على أن المجلس الوطني الإنتقالي المؤقت هو أعلى سلطة في الدولة الليبية، ويباشر أعمال السيادة العليا، بما في ذلك التشريع ووضع السياسة العامة للدولة…. وهو المؤتمن على ضمان الوحدة الوطنية، وسلامة الوطن، وتجسيد القيم و الأخلاق ونشرها، وسلامة المواطنين والمقيمين والمصادقة على المعاهدات، و إقامة أسس الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية.

وفي مادته الثالثة والعشرون، ينص الإعلان الدستوري للإنقلابيين على أن ” مجلس قيادة الثورة هو الذي يعلن الحرب ويعقد المعاهدات ويصدق عليها الا ما قد يرى تفويض مجلس الوزراء في عقده والتصديق عليه.”، وفي مادته الخامسة والعشرون، ينص على أن ” يكون اعلان الاحكام العرفية أو حالة الطوارئ بقرار من مجلس قيادة الثورة كلما تعرض أمن الدولة الخارجي أو الداخلي للخطر، وكلما رأى أن ذلك ضروري لحماية الثورة وتأمين سلامتها. في المقابل لم يرد ذكرُ لإعلان الحرب أو لإعلان الأحكام العرفية أو حالة الطواري في الإعلان الدستوري للمجلس الوطني الإنتقالي.

وفي مادته السادسة، ينص الإعلان الدستوري للإنقلابيين على أن الدولة تهدف الى تحقيق الاشتراكية وذلك بتطبيق العدالة الاجتماعية التي تحظر اي شكل من اشكال الاستغلال. بعدها بسنوات قليلة أعتبرت التجارة نوعاً من أنواع الإستغلال، أُقفلت على أثرها المتاجر في كل البلاد وحوّل التجار الى موظفين لدى الدولة التي آلت إليها كافة النشاطات التجارية لمنع الإستغلال حسب مفهوم السلطة الحاكمة.

تنص المادة السابعة من الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الإنتقالي، على أن تصون الدولة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتسعى الى الإنضمام للإعلانات والمواثيق الدولية والإقليمية التي تحمي الحقوق والحريات، وتعمل على إصدار مواثيق جديدة تكرم الإنسان كخليفة لله في الأرض. كما تؤكد المادة 11 والمادة 13 والمادة 12 على حرمة المساكن والعقارات و المكالمات والمراسلات وعدم جواز التجسس على المواطن إلا بعد إذن قضائي. ونتص المادة 32 على أنه يحضر إنشاء محاكم إستثنائية وتنص المادة 33 على أنه يحضر النص في القوانين على تحصين أي قرار إداري من رقابة القضاء. في المقابل، لاتوجد نصوص مماثلة في الإعلان الدستوري للإنقلابيين.

من خلال المقارنة الموضوعية بين الإعلان الدستوري الصادر عن الإنقلابيين والاعلان الدستوري الصادر عن المجلس الوطني الإنتقالي، تتضح بما لا يدع مجالاً للشك، سوء نية الإنقلابيون في الأول والتي تتمثل في رغبتهم في الإستبداد بالحكم أطول فترة ممكنة، من خلال عدم تحديدهم للفترة الإنتقالية فيه، وبالتضيق على الحريات في كافة صورها، وعدم السماح بتكوين مؤسسات المجتمع المدني، وباستشراف المعارك المستقبلية مع الإستعمار وأعداء الخارج والرجعية أعداء الداخل، وكذلك اللعب على وتر تحرير الأرض العربية حسب الديباجة “… مناضلا لاسترداد كل شبر من الارض التي دنسها الاستعمار” وتوحيد الأمة العربية من المحيط الى الخليج عن طريق إزالة العوائق حسب الديباجة “… و أن يزيل العوائق التي تقف حائلا دون وحدته من الخليج الى المحيط”.

السؤال الذي يطرح نفسه هو، أين كانت النخب المثقفة وأصحاب العقول النيرة ورجالات الدين والسياسة، ممن كان من السهل عليهم إستشراف مستقبل البلد المظلم في يد هؤلاء العسكر خاصة بعد أن صدر عنهم هذا الإعلان الدستوري بعد واحد وتسعون يوماً من الإنقلاب.

التاريخ يعيد نفسه، وها نحن نتلقّي إعلانا دستورياً آخر مع الفارق الكبير الذي يفصل بين نصوص الأول ونصوص الإخير. ولكن بالرغم من أن لديّ ولدى الكثير من النخب المثقفة العديد من التسآلات والتحفظات على بعض نصوصه إلا إنها لا ترقى لدرجة رفضه. علينا الآن أن نتابع سلامة تطبيقه و تطبيق خارطته الزمنية على وجه الخصوص.