نظرية العقدمن منظور الفقه الإسلامي

العقد ضرب من تصرفات الإنسان.
والتصرف بالمعنى الفقهي هو كل ما يصدر عن شخص بإرادته، ويرتب الشرع عليه نتائج حقوقية.

وهو نوعان: فعلي وقولي:
فالتصرف الفعلي هو ما كان قوامه عملاً غير لساني، كإحراز المباحات، والغصب، والإتلاف، واستلام الميبع، وقبض الدين، وما أشبه ذلك.
والتصرف القولي نوعان: عقدي، وغير عقدي.

فالتصرف القولي العقدي، هو الذي يتكون من قولين من جانبين يرتبطان، أي ما يكون فيه اتفاق ارادتين كما سيأتي بيانه، وذلك كالبيع، والشراء، والإجارة، والشركة، وما أشبهها.

وأما التصرف القولي غير العقدي فتحته نوعان:
1 ـ نوع يتضمن إرادة إنشائية وعزيمة مرمة من صاحبه على إنشاء حق أو انهائه أو اسقاطه، كالوقف والطلاق والاعتاق والابراء والتنازل عن حق الشفعة.

وهذا النوع قد يسمى (عقداً) أيضاً في اصطلاح فريق من فقهاء المذاهب لما فيه من العزيمة المنشئة أو المسقطة للحقوق، فهي في نظرهم عقود وحيدة الطرف كالعقود ذات الطرفين من حيث وجود الارادة المنشئة.

2 ـ ونوع لا يتضمن ارادة منصبة على انشاء الحقوق أو اسقاطها لكنه أقوال من أصناف أخرى تترتب عليها نتائج حقوقية. وذلك كالدعوى فانها طلب حق أمام القضاء، وكالاقرار والانكار والحلف على نفي دعوى الخصم، فانها أخبار تترتب عليه مؤاخذات وأحكام قضائية مدنية.

وهذا النوع تصرف قولي محض ليس فيه أي شبه عقدي.

هذا، وإن العبرة في تمييز التصرف القولي عن الفعلي إنما هي لطبيعة التصرف وصورته لا لمبناه الذي بني عليه. فلذا كان دفع الثمن وتسلم المنبع تصرفاً فعلياً ولو انه مبني على عقد البيع.

وهكذا سائر صور التنفيذ الفعلي للعقود.
فمما تقدم يتضح أن (التصرف) أعم من (العقد) مطلقاً، لأن العقد من بعض أنواع التصرف، إذ هو تصرف قولي مخصوص.

ومن المقرر في القواعد المنطقية أن الأخص يستلزم دائماً معنى الأعم، ولا عكس. فكل عقد هو تصرف، وليس كل تصرف عقداً.

وهذا ما يسمونه: (العموم والخصوص المطلق) بين الشيئين في علاقة أحدهما بالآخر ونسبته إليه.

تعريف العقد:
العقد في أصل اللغة: الربط، وهو جمع طرفي حبلين ونحوهما، وشد أحدهما بالآخر، حتى يتصلا فيصبحا كقطعة واحدة. والعقدة هي الموصل الذي يمسكهما ويوثقهما.

ومنه انتقلوا إلى إطلاق (العقد) على اليمين، والعهد، وعلى الاتفاق في المبادلات، كالبيع ونحوه (ر: المصباح المنير).

والعقد هو اصطلاح الفقهاء الشرعيين كما عرفته المجلة (م/ 103 ـ 104) هو:

ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله.
وفي عرف الحقوقيين بالاصطلاح القانوني كما سبق بيانه (ف/ 104) هو:
اتفاق أرادتين على إنشاء حق، أو على نقله، أو على إنهائه.

(ر: نظرية العقد للأستاذ السنهوري/ ف/ 77 ـ 80).

والمقصود بالتعريفين الفقهي والقانوني متقارب، غير أن التعريف الأول الفقهي أحكم منطقاً وأدق تصوراً، والثاني القانوني أوضح تصويراً وتعبيراً.
وقد تقدم إيضاح التعريف القانوني فيما سبق (ف/ 104).

أما التعريف الفقهي فإليك إيضاحه فيما يلي:
تحليل التعريف الفقهي وإيضاحه:
إن العقد هو من قبيل الارتباط الاعتباري في نظر الشرع بين شخصين نتيجة لاتفاق ارادتيهما. وهاتان الارادتان خفيتان.

فطريق اظهارهما التعبير عنهما، وهو في العادة بيان يدل عليهما بصورة متقابلة من الطرفين المتعاقدين. ويسمى هذا التعبير المتقابل: إيجاباً وقبولاً.

فالإيجاب هو أول بيان يصدر من أحد المتعاقدين، معبراً عن جزم إرادته في إنشاء العقد، أيا كان هو البادئ منهما.

وأما القبول فهو ما يصدر من الطرف الآخر بعد الايجاب، معبراً عن موافقته عليه.

فالبادئ بعبارته في بناء العقد دائماً هو الموجب، والآخر هو القابل سواء أكان البادئ مثلاً في عقد البيع هو البائع بقوله: بعت، أو هو المشتري بقوله: اشتريت، أو كان البادئ في نحو الاجارة هو المؤجر بقوله: آجرت، أو المستأجر بقوله: استأجرت.

وهكذا في سائر العقود… أول تعبير فيها عن الارادة العقدية من أحد الطرفين هو الايجاب، وثانيهما من الطرف الآخر هو القبول (ر: المجلة/ 169).

فمتى حصل الايجاب والقبول بشرائطهما الشرعية اعتبر بينهما ارتباط هو في الحقيقة ارتباط بين الشخصين بموضوع العقد.

(وموضوع العقد هو الأثر المقصود منه الذي شرع العقد لأجله)، أي حكمه الشرعي. فيصبح كل منهما ملزماً بالحقوق التي التزمها بمقتضى عقده تجاه الطرف الآخر.

فالايجاب والقبول في عقد البيع، وهما لفظا: (بعت واشتريت) أو ما بمعناهما، إذا صدر كل منهما من عاقد ذي أهلية شرعية لعقد البيع يرتبطان في نظر الشرع ارتباطاً يثبت له أثر في محل العقد وهو ا لأموال التي يقصد المتعاقدان تبادل الحقوق فيها، وذلك الأثر هو انتقال ملكية المال المبيع إلى المشتري، واستحقاق البائع الثمن.

وعقد الرهن يثبت به أثر كنتيجة لارتباط إيجابه بقبوله هو حق للدائن المرتهن في احتباس المال المرهون حتى وفاء الدين، كما يثبت عليه التزام بحفظه وصيانته مثلما يصون أمواله، حتى يفك الرهن أو يباع المرهون لوفاء الدين.

فالمال المرهون هو محل العقد، وحق الاحتباس موضوع العقد، وهو الغاية النوعية التي تميزه عن غيره من أنواع العقود.

ثم بعد الانعقاد تثبت هذه الغاية فتكون حكماً شرعياً للعقد الواقع، أي أثراً أصلياً يرتبه الشرع ويثبته على ذلك المال المرهون كنتيجة لعقد الرهن.

وهكذا يقال في كل عقد.

موازنة بين التعريفين الفقهي والقانوني:
فالعقد في نظر فقهائنا ليس هو اتفاق الارادتين نفسه، بل الارتباط الذي يعتبره الشارع حاصلاً بهذا الاتفاق، إذ قد يحصل الاتفاق بين الارادتين دون أن تتحقق الشرائط المطلوبة شرعاً للانعقاد، فلا يعتبر إذ ذاك انعقاد رغم اتفاق الارادتين، وهي حالة بطلان العقد في نظر الشرع والقانون.

فالتعريف القانوني يشمل العقد الباطل الذي يعتبره التشريع لغواً من الكلام لا ارتباط فيه ولا ينتج نتيجة. ذلك لأن هذا التعريف القانوني إنما يعرف العقد بواقعته المادية، وهي اتفاق الارادتين.

أما التعريف الفقهي فيعرفه بحسب واقعته الشرعية، وهي الارتباط الاعتباري. وهذا هو الأصح، لأن العقد لا قيمة فيه للوقائع المادية لولا الاعتبار الشرعي الذي عليه المعول في النظر الحقوقي.
وهذا التعريف الفقهي أيضاً قد امتاز في تصوير الحقيقة العقدية ببيان الأداة العنصرية المكونة للعقد.

أي الأجزاء التي يتركب منها في نظر التشريع، وهي الايجاب والقبول، فاتفاق الارادتين في ذاته لا يعرف وجوده، وإنما الذي يكشف عنه هو الايجاب والقبول اللذان يعتبران عناصر العقد الظاهرة بما فيها من إعراب هن تحرك كل من الارادتين نحو الأخرى وتلاقيهما وفاقاً فهذا التحرك والتلاقي هو المعول عليه في معنى الانعقاد، إذ قد تكون إرادتان متفقتين على التعاقد، ولا تتحرك إحداهما نحو الأخرى فلا يكون عقد، كما في حالة الوعد ببيع أو برهن أو بقرض مثلاً.

فالتعريف القانوني يشمل الوعد أيضاً لوجود اتفاق الارادتين فيه مع أنه ليس بعقد.

فالتعريف القانوني غير مانع. فلذا قلنا ان تعريف فقهائنا للعقد أدق تصوراً وأحكم منطقاً، وإن كان التعريف القانوني أوضح تصويراً وأسهل فهماً في طريق التعليم.