مــظــاهـــر الــقــيــم الأخـــلاقـــيــة فـــي تــشـــريعــنــا الــمـدنـي

إن تشريعنا المدني المأخوذ عن أحدث الشرائع العالمية الحديثة قد بنى قواعده على احترام المبادئ الأخلاقية وأوجب مراعاة قيمها ، وجعل إرادة المتعاقدين رهناً للتساوي بين كفتي العقد بحيث لا يرجح ميزانه لمصلحة أحدهما من دون الآخر . وتتميز مظاهر القيم الأخلاقية في سبب العقد ، فقد أوجب الشارع أن يكون العقد مبنياً على سبب مشروع ، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً كان العقد باطلاً ، وإن لم يذكر له سبب فيفترض أنه قائم على سبب مشروع وفي كل الأحوال فقد أجاز المشرع الإثبات بالبينة على عدم مشروعية السبب أو أن السبب لا وجود له .

ولكن ما هو السبب غير المشروع ؟ السبب غير المشروع هو كل ما حرمه القانون وخالف النظام العام والآداب العامة ، كمن يتعهد بدفع مبلغ من النقود لآخر لير تكب جريمة أو كمن يلتزم القيام بعمل يجب عليه القيام به دون إجازة ، أو كمن يجيز اللص ليرد إليه الشيء المسروق ، أو كالحريص على كرامته يجيز بذيء اللسان حتى لا يسبّه ، أو كمن يخشى أذى شخص فيجيز هذا الشخص حتى يكفّ عنه أذاه .

كذلك تتميز مظاهر القيم الأخلاقية في الرضاء إذا شاب العقد إكراه أو تدليس أو غبن فاحش أو غلط جوهري جسيم ، فقد حمى المشرع المتعاقدين لكي لا يبغي أحدهما على الآخر بقوته أو مَكرِه ودهائه ، فأبطل العقد إذا تم بطريق الإكراه المادي أو المعنوي بحيث يؤثر في صحة الرضا كمن يوقع عقداً بتأثير الضرب أو التهديد بالقتل وهذا هو الإكراه المادي الذي يقع على الجسم فيحدث له ألماً مادياً فيتفادى المُكرَه الألم بإظهار رضائه ، أو كمن يوقع عقداً بتأثير ظروف نفسية اضطرته على التوقيع ، وقد اعتبر القضاء المختلط المصري من قبيل الإكراه المعنوي أو النفسي حالة موظف أجبر على قبول مبلغ على سبيل التعويض وكان مصراً على عدم قبوله لولا أن الحكومة وقفت عن دفع مرتبه واستمرت على ذلك أكثر من ستة شهور ثم تلقى أمراً من السلطة العسكرية بمغادرة البلاد فاضطر وهو يعول أسرة كبيرة أن يقبل ما عرضته عليه الحكومة من التعويض على قلّته .

ومن هذا القبيل ما نصت عليه المادة 164 من قانون العمل التي أبطلت كل نص يرد في عقد العمل إذا خالف الأحكام المتعلقة بالأجور وبتعويض التسريح ، كما أبطلت كل عقد يتضمن تنازل العامل عن تعويض تسريحه أو مصالحته على هذا التعويض إذا جرى ذلك قبل انقضاء شهر على التسريح . وإنما أوجب القانون هذا البطلان ليحمي العامل الضعيف إذا اضطرته الحاجة الملحة للتنازل عن حقه .

كذلك أبطل المشرع العقد إذا وقع بتأثير تدليس أحد المتعاقدين ، لأن التدليس هو استعمال الحيلة والخديعة لتضليل المتعاقد الآخر تضليلاً يحمله على التعاقد ، كمن يظهر بمظهر السعة واليسار ، أو يتخذ لنفسه صفة منتحلة ليؤثر بها في ذهن من يحمله على التعاقد معه بهذه الطريق ، أو يكتم واقعة أو ملابسة ما كان للمتعاقد أن يبرم العقد لو علم بها ؛ فإذا كتم بائع العقار عن المشتري أن هذا العقار مستحق كلياً أو جزئياً وهو يعلم ذلك ، أو أخفى عنه ما يتصل بالعقار من الحقوق كان هذا تدليساً . ويعدّ تدليساً أيضاً أن يكتم المدين عن دائنه ، والمدين رجل أمي واقع في عوز شديد ، مقدار الدين الذي حكم به للدائن ، فحمله بذلك على التنازل عن جزء كبير من هذا الدين ، ما كان ليتنازل عنه لو عرف حقيقة الأمر .

وكذلك أجاز المشرع إبطال العقد إذا وقع المتعاقد في غلط جسيم بحيث يمتنع عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط ، كما سوّغ للمتعاقد المغبون طلب إبطال العقد إذا أثبت أنه أبرم العقد بتأثير طيش بيّن وهوىً جامح . وأوجب المشرع بطلان كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان وأجاز لمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك ، وله أن يثبت ما أداه بجميع الطرق المثبتة .

ولم يقتصر المشرع على تأييد القيم الأخلاقية بالبطلان ، وإنما قرر كذلك مبدأ التعويض إذا تبين أن أحداً استعمل حقه استعمالاً مضراً بالغير أو ارتكب خطأ أو نال من أحد ما لا يستحق ، فأوجب القانون على الإنسان أن يحسن استعمال حقه وإلا كان مسؤولاً عما يُحدث من ضرر ، وأبان الأحوال التي يكون فيها استعمال الحق غير مشروع وهي :

1 – إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير .

2 – إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها .

3 – إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة .

وأيدت المادة 165 فجعلت كل شخص مسؤولاً عن أعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز .

وقد أراد المشرع أن ينظم العلاقات بين الأفراد في حياتهم الاجتماعية على أساس العدل والإنصاف . فالحق بعد أن أضحى وظيفة اجتماعية لا يحق لصاحبه أن يستعمله إلا في الحدود المعقولة بحيث لا يطغى في استعماله على حقوق الآخرين . وقد ضرب القانون بهذا المبدأ الأخلاقي مثلاً في المادة 776 حينما بحث عن العلاقات الجوارية فأوجب على المالك أن لا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار ، وأن ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعى في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منهما بالنسبة إلى الآخر ، والغرض الذي خصصت له ، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق .

وقد قرر الاجتهاد المصري والفرنسي مبدأ إزالة ضرر الجار بهدم كل سور شاهق يتبين أن صاحبه أقامه كيداً بجاره ليمنع عنه الضوء والشمس والهواء ، وقد ورد في تعليل هذا الاجتهاد أنه ليس لأحد أن يرفع بناء شاهقاً بقصد الإضرار بالجار أو كان النفع من هذا البناء قليل الأهمية بحيث لا يتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببه زاعماً بأنه إنما يستعمل حقاً ممنوحاً له وإنه حر بالتصرف في هذا الحق كما يشاء ويهوى ، فإذا فعل فقد ارتكب إثماً بتجاوزه حرمة تلك القاعدة الأخلاقية التي قررها المشرع وأوجب على القاضي أن يلزم المتجاوز باحترامها(1) .

وجعل المشرع كل شخص ألحقَ بالغير ضرراً مسؤولاً عن تلافيه بتعويض يقدره القاضي بالنسبة للظروف ويراعي فيه مقتضيات العدالة ، وألزم كل شخص ، ولو كان غير مميز ، إذا أثرى دون سبب مشروع على حساب شخص آخر بتعويض هذا الشخص عما لحقه من خسارة ، كما أوجب على كل من استوفى ما ليس له به حق أن يرده إذا كان حسن النية وأن يرده مع فوائده وثمراته إذا كان سيئ النية .

وهكذا نرى أن سلطان الإرادة المطلق في العقد قد انهار وأصبح نفاذ العقود منوطاً بحسن النية وبمقتضيات العدالة وبظروف العاقدين وبكل ما يحقق المساواة بين الطرفين بحيث لا يتحكم أحدهما بالآخر أو يستفيد من ضعفه أو من ظروفه أو يستغل طيشه وهواه أو يستهويه بالحيلة والخديعة أو يغالطه أو يكرهه على أمر يُفسد رضاه .

فلم يعد العقد شريعة المتعاقدين إلا بمقدار ما يحقق العدل والمساواة ويحافظ على مكارم الأخلاق.

ولكن من الذي يتولى هذه المهمة ويؤدي هذه الأمانة . إنه القاضي ؛ القاضي الذي يتولى هذه المهمة الصعبة الشاقة ويحمل هذه الأمانة الثقيلة ! إن كل مهمة في الحياة هي دون هذه المهمة ، وكل أمانة فيها أقل ثقلاً من أمانته وأهون نصباً .

لم يعد القاضي مكتشفاً للحق فحسب بل أصبح مبدعاً فيه ، عليه أن يبحث عن الحق فيبدعه ويجلو صورته كما يبحث الفنان الملهم عن الجمال ويبدع صورته ، والقاضي أجلّ من الفنان شأناً ، لأن الفنان يبحث عن الجمال في المادة ، والقاضي يبحث عن الجمال في الحقيقة ، وقد أوسع له المشرع نطاق البحث والتحري ومنحه الكثير من سلطانه ليتمكن من إنجاز مهمته الصعبة العسيرة . فلم تعد يد القاضي مغلولة في النصوص أو بإرادة العاقدين ، بل أصبح في وسعه أن يقلب هذه النصوص ويغوص على معانيها ، ويمتحن إرادة المتعاقدين ، وينفذ إلى أعماق نفوسهم ليتحرى الصدق والسلامة ، ويتحقق الخير والنفع .

وقد سخا المشرع على القاضي وبذل له فيما منحه من سلطة التقدير وجعل له من قواعد الأخلاق الفاضلة مقياساً يقيس به أعمال الناس وتصرفاتهم ، وفتح له آفاقاً واسعة يستعين بها على إظهار الحق ، وبذلك أصبح القاضي رقيباً على جميع العقود التي تنظم علاقات الأفراد وإليه يعود تقدير المصالح والمنافع التي تحددها هذه العقود .

ويحسن أن نورد نص المادة 148 من القانون المدني مثلاً يشهد بذلك :

« العقـد شريعة المتعاقدين ، فلا يجوز نقضه ولا « تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررهـا « القانون . ومــع ذلك إذا طرأت حــوادث استثنائية « عامة ولم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها « أن تنفيـذ الالتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلاً ، « صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحــة ، « جــاز للقاضي تبعــاً للظروف أو بعـد الموازنـة بـين « مصلحــة الطرفين أن يرد الالتزام إلى الحــد المعقول ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك » .

وهكذا نرى أن المشرع قد منح القاضي سلطة واسعة في إعطاء القيم الأخلاقية قوة القانون ومكنه أن يحكم بالقاعدة الأخلاقية فيبقي على العقد أو يعدله أو يهدمه ، فهو لم يعد واسطة لتنفيذ إرادة المتعاقدين ومشيئاتهم ، وإنما أصبح سلطة توجه للخير وتقيم ميزان العدل والإنصاف .

إن الغاية من العقد ليست في تبادل الثروات والخدمات والمنافع وإنما هي في تنظيم هذا التبادل بما يعود لخير المجتمع ، فالحق الذي يبنى عليه العقد هو وظيفة اجتماعية لا يمكن أن يتأمن إلا في جو من الثقة والطمأنينة ، كما لا يمكن أن ينفع إلا إذا تحققت فيه المساواة . فكل عقد يتم بالمكر والخداع أو ينتهي إلى ضرر أحد المتعاقدين أو يؤدي إلى منفعة أحدهما من دون الآخر لا يترتب عليه حق ، لأنه لا يؤدي في هذه الحال وظيفة اجتماعية .

ومن هنا يمكن أن نقرر القاعدة الآتية وهي : إن كل قاعدة قانونية لا تكون صحيحة إذا لم يدعمها مفهوم أخلاقي يبرر إنشاءها ، وعلى القاضي أن يتحرى عن هذه المفاهيم ليس في العقود فحسب ، بل في جميع التصرفات التي تقرر الحق وتنشئه .

ولكن ما هي الوسائل التي يعتمد عليها القاضي في التحري عن القيم الأخلاقية في القواعد القانونية ؟ ليس هناك وسائل محدودة ، ولكن هناك مبادئ قرر بعضها المشرع ، ومهّد للقاضي في البعض الآخر طرائق البحث عنها وإقرارها .

وقد نصت المادة الأولى من القانون المدني :

1 – تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها .

2 – فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه ، حكم القاضي بمقتضى الشريعة الإسلامية ، فإذا لم توجد فبمقتضى العرف وإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانوني الطبيعي وقواعد العدالة .

في هذه المادة أوضح المشرع مهمة القاضي وأبان له الطرائق التي يستطيع بها في قضائه إحقاق الحق ونشر العدل بين الناس . فالقاعدة القانونية لم تعد نصاً مجرداً وهيكلاً جامداً بل تحولت إلى قاعدة فيها روح وحياة ((une regle de vie)) لا تعيش في لفظها المغلق المحدود ، وإنما تعيش في المعنى أي في الغاية التي وجدت من أجلها . وهذه الغاية هي إنشاء رابطة صحيحة بين الأفراد في المجتمع تقوم على أساس احترام حياة الإنسان وحفظ كرامته وصون ماله ودفع الضرر عنه ، وفي نطاق هذه الغاية تحيى القيم الأخلاقية وتتطور .

فإذا لم يتسع نص القانون للحق ، فهناك آفاق رحبة يستطيع القاضي أن يجول في مداها . وهناك أفق الشريعة الإسلامية الواسع وينبوعها الصافي العذب ، فيه ملاذ لكل حق هضيم ، وشفاء من كل جور وظلم ، ثم هناك أفق العادات والأعراف ، وهي صور حية لتلك القواعد الاجتماعية والمفاهيم الأخلاقية التي قررها الأفراد وهي مستمدة من حاجاتهم وتتمثل فيها أخلاقهم وعقائدهم . وأخيراً هناك أفق القانون الطبيعي والعدالة الاجتماعية ، وهو أفق تلتقي فيه جميع المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية التي قررتها شرائع الأنبياء ودعت إليها حكمة الحكماء .

في هذه الآفاق الواسعة يجوب القاضي باحثاً عن الحق ، ومن تلك المفاهيم الأخلاقية ينحت صورة للعدل ، صورةً إذا شاء مسخها ، وإن شاء أبدعها ، وجلال القضاء أن يظهر فيه جمال الحق وتتجلى فيه محاسن الأخلاق .

وهكذا لم تعد القيم الأخلاقية بالنسبة للعقود مبادئ نصح وإرشاد ، بل أصبحت قوة توجيه ، يستطيع القاضي بثقافته أن يصب فيها مثله الأخلاقي ويحولها إلى قواعد قانونية ملزمة ، وبذلك فقد أزيل ذلك الحاجز الموهوم الذي حاول بعض المؤلفين رفعه بين القانون والأخلاق .

***

والآن ما هو نوع القيم الأخلاقية التي يجب أن تهيمن على تشريعنا الحديث ؟

لا شك ، أن تشريعنا ، وبالأخص قانوننا المـدني – ما دمنا نبحث في موضوع العقود – مستمد من القوانين الغربية وبتعبير آخر أنه مستمد من عقل غربي وشعور غربي ومذاهب غربية ، وقد قبلناه إقراراً بواقع محسوس وهو أن العقل الغربي هو العقل المتحكم في الأرض المتفوق فيها بالنسبة لرقي العصر ، وأن الشعوب تخضع لشرائع المتحكم الذي ينظم بشرائعه علاقاته معها . وقديماً خضعت لشريعة الرومان جميع الشعوب التي خضعت لسلطانهم ، كما خضع لشريعة الإسلام جميع الشعوب التي دانت لحكمهم ، بفارق أساسي وهو أن الإسلام لم يخضع الشعوب إلى شريعته قسراً وإنما أخضعها بالهداية والحجة الصادقة ، وإذا كان الفتح الإسلامي قد انتشر بالجهاد فإن الشريعة الإسلامية قد انتشرت بالدعوة إلى الحق وإقامة العدل بين الناس . وقد خضعت للمفاهيم الأخلاقية السامية التي دعت إليها الشريعة الإسلامية جميع الشعوب التي عاشت في ظل الحكم الإسلامي مسلمة وغير مسلمة ، وأصبحت هذه المفاهيم جزءاً من عاداتها وتقاليدها وأخلاقها الفطرية التي تمتـاز بهـا عن بقية الشعوب ، لا سيما وأن هذه الشريعة لم تدعُ إلى غير ما دعت إليه الأديان السابقة من الفضائل والأخلاق الكريمة . غير أنها امتازت عليها بجعل هذه الفضائل والأخلاق قواعد ملزمة تخضع إليها جميع المعاملات .

فالشرع الإسلامي هو أول الشرائع المدنية التي دونت الأخلاق وأعطت مفاهيمه قوة القانون وجعلت الصدق والوفاء والأمانة والشرف والمروءة قوى موجهة للحق ، بحيث إذا تجرد منهـا انهـدم ولم يعد ملزماً بشيء . وهو الـذي منح القاضي سلطة مطلقة في تحري القيم الأخلاقية في العقود وفي جميع العلاقات المنشئة للحق ، وأمره أن يزن قضاءه بميزان العدل وأن يجعل الناس عنده في الحكم سواء . ولعل أحسن شاهد على ذلك تلك الرسالة الخالدة على الدهر التي وجهها سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري حينما ولاه قضاء الكوفة وقد جاء فيها :

« أمـا بعـد فـإن القضـاء فريضـة محكمـة « وسنّة متبعـة ، فافهــــــم إذا أدلي إليـــك ، فإنـه « لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ لـــه ، آسِ بين الناس « في وجهك ومجلسك وعدلــك ، حتى لا يطمــع « شريف في حيفك ولا ييـأس ضعيف من عدلك « … البيّنـــة على المدعي واليمين على من أنكر . « الصلح جائز بــين المسلمين إلا صلحــاً أحـــلّ « حرامــاً أو حـرّم حلالاً ، ولا يمنعنّـك قضــاء « قضيتـــه بالأمس راجعت فيــه نفســك وهـديت « فيــه لرشدك أن تراجع الحق ، فإن الحق قديم « لا يبطل ، ومراجعة الحق خير من التمادي في « البـاطل . الفهـمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما « لــم يبلغــك في القرآن العظيم والسنّــة ، ثم اعرف « الأمثــال والأشباه وقس الأمور عنــد ذلك فاعمد « إلى أحبّها إلى الله تبارك وتعالى وأشبههـا بالحق . « اجعل للمدعي أمـداً ينتهي إليه ، فإذا أحضر « بيّنته أخذ بحقه وإلا وجب القضاء عليــــه فإن « ذلــك أبلــغُ في العـذر وأجلى للعمى . المسلمون « عدول بعضهــم على بعض إلا محدوداً في قذف « أو ظنينـاَ في ولاء أو قرابة أو مجرباً عليه شهادة « زور فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم « بالبينــات . إيـــــاك والغضب والقلق والضجــــر « والتــأذي بالناس للخصوم في مواطن الحـق الذي « يوجب الله سبحانــه وتعالى بـه الأجر ويحسن « به الذخر وإن من يخلص نيتــه فيمـا بينـه وبين « الله تعــالى ولــو على نفســه في الحق يكفــــه الله « تعالى فيمـا بينـــه وبين الناس ومن يتزين للنـاس « بمـا يعلــم الله منه خلافه شانــه لله عز وجل ، « فإنــه سبحانه وتعـــالى لا يقبل من العبـــــادة إلا « ما كان خالصــاً ، فمـــا ظنـك بثـــواب عــن الله « سبحانه وتعالى مـــن عاجل رزقــه وخزائن رحمته والسلام » .

أيّ رسالة إنسانية سامية هذه التي صدرت عن عربي يؤمن بأن الحق عقيدة صافية وتفكير خالص وخلق كريم ؟ لقد رسم عمر منذ أربعة عشر قرناً منهج العدل الذي ما زالت تختصم فيه مذاهب العلماء ونظريات الفقهاء ، إنه المنهج الثابت الذي لا يتغير على الدهر ، ولا تؤثر فيه عوامل الزمان ، لأنه صدر عن ينبوع العقل السليم والأخلاق الفاضلة .

لقد أظهر الشرع الإسلامي فقهاً وقضاء جمال القيم الأخلاقية وروعتها في المعاملات وخاصة في العقود واعتبر الحق وظيفة اجتماعية يجب أن يتحقق فيه خير المجموع ، وقرر أن الإنسان حر في تصرفاته إلا فيما يضرّ نفيه وغيره ، ومنع الناس من إساءة استعمال حقوقهم وهذا أحدث ما قررته الشرائع الحديثة ، وأبطل العقود التي لا تتساوى فيها حقوق العاقدين وواجباتهم ، كما أبطل العقود المضرة بالصحة العامة إلا بمقدار ما تبيحه الضرورات .

وهكذا نرى أن الشرع الإسلامي حريص على سلامة الفرد كما هو حريص على سلامة المجتمع . فليس لنا إذن بدّ من الاعتراف بتلك الحقيقية التي اعترف بها كثير من حكماء الغرب وعلمائه وهي أن أفق الشريعة الإسلامية أوسع آفاق الشرائع لأنها تصدر عن العقل والأخلاق ، فكل ما يقرره العقد السليم وتسمح به الأخلاق الفاضلة هو من الشرع ، وليس الشرع كل ما هو مدون في كتب الفقه من أحكام ، وإنما هو ذلك النهر الجاري في كل عصر وزمن ، والذي لا يمكن أن ينضب معينه أو يجف ما برح يصدر عن العقل ويفيض من الشعور والوجدان .

وإذا كانت شرائع الأمم صورة لحياتها العقلية والأخلاقية ، فالشريعة الإسلامية هي صورة العقل العربي الصافي والأخلاق العربية الصافية ؛ ذلك العقل الذي لم يكن خيالياً ولا محدوداً بل كان واقعياً شاملاً ، فلم يسخر مهمته لشعب ولم يحددها بزمن وإنما جعلها للشعوب والأزمان .

كذلك لم يكن عقلاً أنانياً ، بل كان عقلاً إنسانياً يخضع للحجة ويراعي مصالح العصر فاستطاع أن يتمثل ثقافات الأمم وحضاراتها ، وأن يكسوها بطابعه الإنساني ليجعل منها قاعدة حياة لعالم واحد .

والشعب العربي هو وريث ذلك العقل والوجدان الإنساني المطبوع في عاداته وتقاليده وما زال قادراً على تسخيره لخير الإنسانية بإحياء تراثه وإذكاء شعلته ، وإذا كان العقل الغربي قد تخلى عن القيم الأخلاقية ليوحد العالم ويخضعه إلى قوة المادة ونظامها ، فإن الآلام المريرة التي عاناها العالم وما زال يعانيها قد أثارت غضبة الوجدان الإنساني على عقل قد استخف بالأخلاق . وقد تجلت آثار هذه الغضبة في المحاولات التي ظلت يائسة في محيط النظام الدولي ، وفي الاتجاه الحديث الذي اتجهت فيه حملة التشريع الحديث في النظام الداخلي ، فالدعوة إلى بعث القيم الأخلاقية أصبحت طابعاً مميزاً للدساتير الحديثة والتقنين الجديد ، ذلك أن الشعوب أدركت أن المادة لا يمكن أن تسد فراغ الأخلاق ، وأن علاقات الأفراد ليست في حقيقتها تبادلاً مادياً ، ولكنها تبادل أخلاقي لتأمين منافع مادية تعود على المجتمع بالخير وتصونه من الفساد .

وهنا نرى أن الفكر البشري يتجه نحو ذلك الطريق الذي شرعه العقل العربي منذ أربعة عشر قرناً حينما قرر قواعد الأخلاق وجعلها أساساً لتصرف الناس في أعمالهم .

فالشعب العربي الذي انبعثت في بلاده القوى الروحية والمبادئ الأخلاقية التي نشرت الخير والجمال في الوجدان الإنساني خليق بأن يساهم من جديد في تسكين قلق الإنسانية بشحذ قواه الروحية واستلهام مبادئه الأخلاقية ، تلك القوى والمبادئ التي تفجرت من شعاب مكة وأركان بيت المقدس عن عقيدتين تهدفان إلى غاية واحدة هي الدعوة إلى المحبة وفعل الخير وإقامة العدل بين الناس .

إن هذه الدعوة التي أطلقت الإنسان قبل قرون من أغلال العبودية وأنقذته من براثن الوحشية والهمجية هي وحدها التي تستطيع أن تطلقه وتنقذه من جديد وتقف دون الطغيان المادي البربري الذي يحصد النفوس البريئة ويهدد الحضارة الإنسانية بالفناء.

والشعب العربي هو صاحب هذه الدعوة ورسولها إلى العالم ، وهو مهما اختلفت مذاهبه وأديانه فغايته واحدة وقد عبر عنها الرسول العربي العظيم بقوله الصحيح : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات ديننا واحد والأم مختلفة » .

وإذا كانت القيم الأخلاقية قد صدرت إلى العالم عن عقائدنا ووجداننا وتمثلت في شريعتنا ، وما زالت تعيش في عاداتنا وتقاليدنا فإن جميع ما نتلقاه من سنن العقل الغربي من شرائع ونظم وقوانين يجب أن يطبع بطابعنا الأخلاقي . فالعقل العربي الذي استطاع أن يتمثل ثقافات الأمم السابقة ما زال قادراً بالمناهج السليمة والمبادئ القويمة التي وضعها على أن يتمثل الثقافات الحديثة مهما اختلفت ألوانها ، وأن يخرج منها ثقافة عربية خالصة .

غير أن الحقيقة تقتضينا أن نعترف أننا لا نستطيع أن نتمثل هذه الثقافات عن طريق الإبداع فنحن أمة متخلفة عن ركب الحضارة الحديثة ولم تتوفر فينا كفاءات الإبداع لا سيما وأن نظمنا السياسية على اختلاف ألوانها وفي جميع أدوارها لم تتجه بعد إلى اختيار الكفاءات في التمثيل ولذلك فإن مجالسنا النيابية تكاد تكون خالية مقفرة من مشرع قادر على الإبداع . فنحن مضطرون إذاً على التلقي والاقتباس لنؤمن اتصالنا وتعاوننا مع بقية الشعوب ، وعلينا أن نحسن اختيار ما نتلقى وما نقتبس وأن نطبقه على هدى شريعتنا ونفسره بروح مبادئنا وتعاليمنا الأخلاقية .

وإذا كان المشرع هو الذي يتولى الاختبار فالقاضي هو الذي يتولى التطبيق ، ولا شك أن مهمة القاضي أكبر خطراً من مهمة المشرع لأن على حكمه تتقرر مفاعيل القانون وآثاره ويظهر أثره في المجتمع . فالقاعدة القانونية حينما يضعها المشرع تكون قاعدة جامدة لا حياة فيها غير أنها تكتسب حياة ونشاطاً حينما تصبح بين يدي القاضي فهو الذي يهبها الحياة والقوة والنشاط ويقرر مصير الحق الذي ينشأ عنها ؛ وحياة القاعدة القانونية هي في المفهوم الأخلاقي والوجداني الذي يكسوها القاضي به ، وفي تحري المنفعة الاجتماعية التي تهدف إليها .

غير أنه لا يمكن للقاضي أن يقوم بهذه المهمة إذا لم يكن المفهوم الأخلاقي حياً في نفسه ، متمكناً في قلبه وتفكيره . لقد أطلق المشرع للقاضي الحرية في البحث عن موضع الحق في كل رابطة حقوقية بين الأفراد وخاصة في العقود ، فعليه أن يجتلي الحقيقة من معين تراثنا العقلي والأخلاقي وأن يطبع القاعدة القانونية الحديثة بطابع الفكر العربي والأخلاق العربية .