مسيرة حقوق الإنسان في العالم الغربي والإسلامي

حقــــــوق الإنســـــان
( مسيرة حقوق الإنسان في العالم الغربي والإسلامي )

د. محمد ناصر الخوالده

مقدمة:

هل أن حقوق الإنسان قضيةٌ سياسية أم هي قضيةٌ دينية؟ هل هو شأنٌ سياسي يهتم به السياسيون فقط أم أن المسألة مسألة دينية يجب أن يهتم بها المتدينون وأن يتحمل أعباءها كل من يجد نفسه مهتمٌ بأمر الدين؟
إذا قرأنا سياق الحديث والطرح لحقوق الإنسان وخاصةً في هذا العصر، في العصور الماضية لم يكن هناك مفهمٌ وعنوانٌ مستقل يُتداول في عالم البشر بهذا العنوان: «حقوق الإنسان» وإنما هو عنوانٌ تبلور في هذا العصر؟ كانت هناك مصطلحات ومفاهيم مرادفة، ولكن أن يتبلور الموضوع في مصطلحٍ وعنوانٍ واضح باسم «حقوق الإنسان» لم يكن إلا في هذا العصر الحديث، في القرون الأخيرة بدأ هذا المصطلح وذلك بسبب ما عاناه الإنسان طول تاريخه من اعتداءات ومن ظلم ومن جرائم مع تراكم السنين والقرون والأجيال تبلورت عند الإنسانية مسألة وقضية حقوق الإنسان، وكان أول طرح لهذا المصطلح بعد استقلال أمريكا من الاحتلال البريطاني سنة 1776م، وأعلن فيها عن وثيقة حقوق الإنسان الأمريكي، وبعد انتصار الثورة الفرنسية 1789م طُرح قانون حقوق الإنسان الفرنسي، وبعد قيام الأمم المتحدة سنة 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحتوي على (30) مادة تضمن حقوق الإنسان المادية والمعنوية، وفي سنة 1966م أصبح هناك ملحقان لحقوق الإنسان:
الملحق الأول: حول حقوق الإنسان الاقتصادية والثقافية والاجتماعية
الملحق الثاني: حول حقوق الإنسان السياسية والمدنية

ماذا عن العالم الإسلامي؟ في العالم الإسلامي تأخر ظهور هذا المفهوم والمصطلح تأخراً كبيراً، وكان أول طرح له سنة 1981م، حيث أنتجت منظمة المؤتمر الإسلامي بعد اجتماعها في الرياض ما يشبه القانون حول حقوق الإنسان في الإسلام، حيث تخلف قليلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ أنها تتضمن (25) مادة، وكان هذا القانون بحاجة لدراسة من قبل الخبراء والقانونيين المسلمين فلم تسلك طريقها إلى التطبيق، واستمر ذلك إلى سنة 1989م حيث أقرتها الدول الإسلامية، ومتى تُطبق؟ الله أعلم!
مفهوم «حقوق الإنسان» أصبح سائداً في الغرب، وأصبحت هناك منظمات ومؤسسات وجمعيات تهتم بحقوق الإنسان بشكلٍ عام، وبعضها تهتم ببعض الحقوق بشكلٍ خاص كمنظمة العفو الدولية.

* بينما تعاني الدول الإسلامية من مشكلتين:

الأولى: عملية، إذ أصبح العالم الإسلامي مسرحاً لانتهاكات حقوق الإنسان، ولذا نجد أن البلاد الإسلامية لها الحظ الأوفر من أغلب التقارير التي تصدر دولياً في كل عام عن انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا لا ينفي وجود انتهاكات في الدول الغربية.
الثانية: ثقافية نظرية
لماذا اهتمام الجهات الدينية بحقوق الإنسان محدوداً وضعيفاً، أو منعدماً؟ مع أننا إذا قرأنا الإسلام وتأملناه نجد أن حقوق الإنسان أصلٌ وأساسٌ في الإسلام، وما جاء الإسلام والرسالات السماوية إلا من أجل حقوق الإنسان وليس من أجل الدفاع عن مصلحة الله وهو القائل: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ (إبراهيم، 8)، وفي حديثٍ قدسي يقول تعالى: «يا عبادي، وعزتي وجلالي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، وعزتي وجلالي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم، لما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أسوأ قلب رجل فاجر منكم لما أنقص ذلك في ملكي شيئاً». ولذلك الآية الكريمة تقول: « لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ».
وإذا كان الدين يُشدد على موضوع ظلم الآخرين والاعتداء على حقوقهم، فليس هناك شيء يُشدد عليه الدين أكثر من ذلك، يقول الإمام علي: «إن الظلم ثلاثة: ظلمٌ لا يُغفر، وظلمٌ مغفورٌ لا يُطلب، وظلمٌ لا يُترك أبداً، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » (النساء، 48)، وأما الظلم الذي لا يُطلب ظلم العباد لبعضهم عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يُترك ظلم العباد بعضهم بعضاً»، ثم قال : «إن القصاص هناك شديد». وورد في حديثٍ قدسي عن الله تعالى: «وعزتي وجلالي لأنتقمن لكل مظلومٍ من ظالمه».

فإذا كان الإسلام هكذا، جاء من أجل حقوق الناس، ويُحذر من الظلم، فلماذا اهتمام الإسلاميون الجهات الدينية بموضوع حقوق الإنسان اهتماماً ضعيفاً؟ هناك عدة أسباب:
أولاً- سادت تاريخ الإسلام عهود الاستبداد والظلم. كما كان في عصر الأمويين والعباسيين، وكان من الصعب على الفقهاء والعلماء أن يتحدثوا حول حقوق الإنسان، لأن ذلك كان يعني المعارضة والمقاومة لتوجه تلك السلطات المستبدة والظالمة فاضطروا للسكوت، وشيئاً فشيئاً أصبح السكوت عن موضوع حقوق الإنسان هو النهج المستمر.
ثانياً- السبب الثقافي، حيث أن بعض الجهات الدينية ركزت على بعض المفاهيم الإسلامية وأغفلت مفاهيم أخرى؛ وبذلك لم يكن هناك توازنٌ في الطرح فمثلاً، أعطى التركيز على موضوع الصبر فهماً خطئاً له، حيث فُهم أنه يعني: السكوت على ضياع الحقوق، وهناك روايات فهمت بهذا المعنى، كالحديث المروي عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: «سيتولى عليكم أمراء لا يهتدون بهديي ولا يعملون بسنتي قلوبهم قلوب الشياطين في أجسام الإنس»، قلت: فما نصنع يا رسول الله؟ فأجابه رسول الله : «أطع أميرك وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك». وفي رواية أخرى أن الرسول قال: «من تولى عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، فإن عمل بكتاب الله أثيب وأثبتم، وإن خالف كتاب الله عوقب وأجرتم»، فإذا كان فهم مثل هذه الأحاديث النهي عن الإخلال بالنظام فهو فهمٌ مقبول، أما أنها يعني سكوت الإنسان عن حقه فهذا الأمر فيه إشكال.

هذا التوسع في موضوعٍ معين وإهمال الموضوع الآخر أخلّ بالتوازن. إذ أننا نجد أن هناك نصوصٌ تأمر الإنسان أن يطالب بحقه، يقول تعالى واصفاً المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ (الشورى، 39)، وفي آية أخرى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (الشورى، 40)، ﴿ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة، 194)، وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين يقول: واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من اضطهدني، وقدرةً على من كايدني، وأيضاً ورد: «الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس»، وأيضاً: «ما ضاع حقٌ خلفه مطالب»، ويقول أمير المؤمنين: «لنا حقٌ إن أعطيناه وإلا ركبنا له أعجاز الإبل وإن طال السرى».
فثقافة الإسلام لا تشجع الإنسان على السكوت عن انتهاكات حقوقه من أي جهةٍ كانت، مع ضرورة التوازن في طرح المفاهيم الإسلامية الأخرى.
فإغفال هذا الأمر جعل من الحديث حول موضوع حقوق الإنسان حديثاً ضعيفاً عند الجهات الإسلامية.

** مظاهر التقصير في موضوع حقوق الإنسان 

أولاً- العطاء الفكري والثقافي حول حقوق الإنسان غائباً أو منعدماً، وعلى العكس من ذلك جانب العقائد والتاريخ والقضايا الدينية المختلفة.
ثانياً- إلى الآن لم تتحول قضية حقوق الإنسان إلى مادة دراسية سواءً في الحوزات العلمية أو المعاهد الدينية أو كليات الشريعة في العالم الإسلامي، بينما على المستوى المعرفي العالمي نجد أن قضية حقوق الإنسان أخذت موقعها وتُدرس حتى إلى طلاب المدارس الابتدائية.
وعلى المستوى الفقهي ينبغي أن تحتوي الرسائل العلمية للفقهاء على باب يُعالج قضية حقوق الإنسان، إذ أن تبويبها متطوراً ولم يكن على هذا التبويب في العصور السابقة، والحاجة ماسة جداً لوجود باب متخصص لهذه القضية (حقوق الإنسان ).
ثالثاً- عدم التصدي من قبل الجهات الدينية لهذا الموضوع، ولو أنك قرأت عن منظمات حقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية فإنك قلَّ تجد أن هناك علماء أو شخصيات إسلامية تتبني الموضوع، ومع الأسف تُرك الموضوع للآخرين: الليبراليين، الفئات اليسارية.
رابعاً- اهتمام الغرب بقضية حقوق الإنسان، ويعلم الجميع أن الغرب عندما يرفع شعار حقوق الإنسان – وخاصةً بالنسبة للمسلمين- قد لا يكون ذلك إخلاصاً منه لواقع المسلمين ولحقوق الإنسان، وإنما المسألة في كثيرٍ من الأحيان استغلال إعلامي وسياسي، وتتضح هذه الحقيقة بسكوت الغرب عن الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وكذلك سكوت الغرب عن الجرائم التي ترتكبها أنظمة محمية من قبلهم .
ومع صحة هذه الحقيقة، إلى أنه ينبغي أن لا تكون مبرراً إلى عدم الاهتمام بقضية حقوق الإنسان، بل ينبغي على الإسلاميين أن يهتموا بهذه القضية بحجم اهتمام الإسلام بها.
وحينما نتحدث عن قضية حقوق الإنسان فهي قضية شاملة، ليس فقط في تعاطيه مع الحكومات، وإنما حتى مع تعامل الناس مع بعضهم البعض: في الأسرة، مع الموظفين، وفي مختلف المجالات ينبغي مراعاة حقوق الإنسان المادية والمعنوية بشكلٍ شامل.

** جمعيات حقوق الإنسان العربية

يشكل تأسيس جمعيات لحقوق الإنسان في البلدان العربية ، خطوة متقدمة، وقد لا يكون مجرد الإعلان عن أي من هذه الجمعيات حل كل المشاكل، ومعالجة كل المواضيع المتعلقة بحقوق المواطن العربي ، ولكنها خطوة جيدة على الطريق.

على المواطنين أن يهتموا بهذا الأمر، وأن لا يسكت صاحب حقٍ عن حقه، وأن يكون هناك تعاونٌ مع هذه الجهة ومع سائر الجهات التي تساعد في هذا الأمر من أجل أن يُصبح هذا الإعلان حقيقة.
ونحن نعلم أن أنظمة كثيرة تضعها الدولة، ولكن المسألة ليست مسألة النظام، وإنما المسألة في التطبيق، وقد تكون هناك جهات ليس من مصلحتها أن تطبق هذه الأنظمة، أو أن تراعى حقوق الإنسان، وعلى المواطنين تجاه ذلك أن يتعاونوا مع مختلف الجهات المتفهمة والمهتمة بالأمر لوضع حدٍ أمام ما قد يكون من انتهاكات لحقوق الإنسان.
بالطبع الطريق طويل، وليس من أول يوم تعالج القضايا والأمور، ولا يصح أبداً أن يكون هناك إحباط، أو يكون هناك يأسٌ، إذ أن ذلك يكون مبرراً للكسل وللتواكل، ومهما جرى أو حصل من القضايا ينبغي أن يكون هناك عزيمةٌ وإصرار للمضي قدماً في طريق الدفاع عن حقوق الإنسان.

ونحن نواجه قضية التواكل والكسل في كثيرٍ من الأمور، فالناس بمجرد أن يكون هناك مشروعٌ ما فإنهم يتوقعون أن يكون هناك حلولاً سحريةً، وكمثال الحوار الوطني، إذ يتوقع الناس أن يحل جميع القضايا بينما هو وسيلة وقناة وعلى المصلحين والواعين سلوك هذا الطريق لمعالجة ما يُمكن معالجته. وكذلك بالنسبة لجمعية حقوق الإنسان ينبغي أن يكون هناك تعاونٌ معها حتى مع وجود انتهاكات وقضايا مختلفة، لأن الأمور والمشاكل لن تُحل بين عشيةٍ أو ضحاها، وإنما تحتاج إلى إصرار، وإلى استقامة، وإلى أن يتشبث المواطنون بحقوقهم، ويتعاونون مع الجهات المعنية، وبالأسلوب الممكن يُطالبون بحقوقهم.

حقوق الإنسان بين مجتمع الشراكة وحقوق الإنسان

إن غائية التاريخ البشري قد حددت ماهية وطبيعة حقوق الإنسان .. كما أن استناد تلك الحقوق إلى قاعدة الحرية وارتباطها الوثيق بالحاجة فإن تحرير حاجات الإنسان وتمكنه من إشباعها هو المبدأ الأساسي والمعيار الحقيقي لتحرير هذه الحقوق ونيلها.
وقبل الحديث عن المبادئ التي تم تحديدها في أهم الإعلانات والوثائق والبيانات التي تعرضت لحقوق الإنسان يجدر بنا إستعراض المقومات الأساسية لحرية الإنسان، وكيف يمكن الوصول إلى هذه القواعد وبناء الواقع الإنساني الذي يضمن فيه الإنسان حقوقه وتتأكد حريته، من خلال الإشباع الأمثل لحاجاته، وتأكيد وجوده الفاعل ضمن إطار المجتمع الذي يتفاعل أفراده وتتكامل أدوارهم وممارساتهم بما يعزز تضافر جهودهم من أجل بناء المجتمع النموذجي الجديد؛ مجتمع الحرية والسعادة حيث يمارس الإنسان الحرية ويحقق توازنه النفس إجتماعي من خلال قاعدة الشراكة في المقومات الأساسية للحياة الحرة الكريمة.

إن وقوع الإنسان ضمن إطار يتم فيه إحتكار مقدراته السياسية والإقتصادية يوقعه بالضرورة داخل إطار العسف والإستغلال ويشعره بالغبن والقهر ويحفزه دائماً للثورة . . ويدفعه للصراع من أجل تحرير حاجاته ونيل حقوقه السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

وهنا يواجه من القوى المسيطرة على تلك الحاجات والمحتكرة لتلك المقدرات بمزيد من القهر والقمع وقد يكون أبشعها الأسلوب الغير مرئي الذي لا يتخذ طابع العنف .. حيث تلجأ تلك الأدوات من خلال دوائر الإحتكار إلى توجيه ردة فعل الإنسان المقهور وتشكيل عقله ووعيه، وألينته ليتجه طوعاً في الإتجاه المحدد الذي يخدم مصالحها وبإختياره، وبقرار منه ويتم إستغفاله وإيهامه بأنه يسير في الإتجاه والطريق الذي يؤكد حريته ويتم ذلك من خلال برامج التثقيف الإعلام والدعاية الموجهة التي تستخدم خلالها كافة أساليب الخداع والتضليل وتؤسس لها المناهج التربوية والإعداد والتوجيه النفسي ليتقبل الإنسان كافة أشكال الإستغلال والتكييف والتطويع العمدي ويتحول إلى مجرد آلة تعمل وفق البرنامج المرسوم، وحسب جرعة وشحنة الطاقة الممنوحة لها، فتصنع القيم .. وتوضع الضوابط .. وتسن القوانين .. وتعدل الدساتير وتحبك المسرحيات الهزلية فيما يسمى بالإستفتاءات والإنتخابات.. وتنتج الأعراف الإجتماعية حسب مشيئة قوى العسف والإستغلال ووفقاً لمناهجها ونظرياتها.

كما أن تلك الأدوات تعمل على تطوير تلك المناهج والنظم بحسب تطور وعي وحجم ومستوى إدراك الإنسان لكم الحقائق الممكن إدراكها، إذ يتم تعديل المناهج التربوية والتعليمية لا ليقدم من خلالها مزيداً من الحقائق، وإنما مزيداً من التجهيل والتزييف لأن تلك الأدوات تعلم جيداً ( أن الجهل سينتهي عندما يقدم كل شئ على حقيقته ) وهنا الخطر الذي تخشاه تلك الأدوات القامعة للحرية.

فإدراك حقيقة مجتمع العسف والإستغلال وزيف الواقع سوف يؤدي إلى الثورة عليها والكفاح من أجل هدم قواعدها التي فرضتها وبناء المجتمع البديل الجديد الذي يوفر الحرية .. الديمقراطية والعدالة والمساواة .. مع عدم الإخلال بقاعدة إختلاف الأدوار بين أفراده.
فعندما يدرك الإنسان تماماً ماهية حقوقه، وأنها ليست هبةً من أحد فأنه سيعي بالضرورة كذب وبطلان إدعاءات الأنظمة الزائفة المزيفة، بعد أن يفهم ويستوعب أن هذه الحقوق لا يمكن أن تتحقق في ظل مجتمعات العسف والإستغلال.
وإنتصار الإنسان على الأدوات المتسلطة والمتحكمة في إرادته والقامعة لحريته حتمياٌ، وهو مرتبطاُ بوعيه وإدراكه وإكتشافه للحقائق، ومدى وحجم ودرجة إستعداده للثورة وتحقيق النصر، وعندما يؤمن أنه لاوجود لحقوق الإنسان في مجتمع العبودية والإستغلال، مجتمع السادة والعبيد، مجتمع الأغنياء المترفين والفقراء المعدمين .. عندما يدرك أن بؤسه وشقاءه لن يزول وحقوقه لا تتأكد إلا من خلال المجتمع الذي يختفي فيه العسف والإستغلال، المجتمع الذي تختفي فيه الحكومات والجيوش وتسود فيه قيم الحرية حيث تتحرر الجماعات والشعوب من خطر الحروب وتسود علاقات السلام والأحترام والمحبة والتعاون بين الشعوب من أجل القضاء على المرض والفقر والجوع بانتصارها على الجهل وقوى التجهيل .. وعندما تدرك المرأة أنها قد تحولت من خلال منظومة العسف والقهر تلك إلى أي شئ آخر عدا أنها إنسان، حيث تم تشويهها وتزييفها، وإنتاجها بشكل مخالف لطبيعتها كأنثى.

عندما يدرك أبناء المجتمع أنهم قد تحولوا إلى جيش من العبيد يعملون ويكدحون ويحترقون ويتوجعون ويتألمون من أجل أن تنعم حفنة من المستغلين المستبدين الأشرار الذين أفسدوا الواقع الإجتماعي وجردوا المجتمع من كل محتوى إنساني.

عندما يدرك أبناء المجتمع أن الحرام والحلال وكل منظومة القوانين التي تكبل حريتهم ليست محل قداسة ولا يجب إحترامها لأنها لا تستند إلى مصدر هو محل قداسة أو أحترم، وإنما هي من صنع الجلادين والإستغلاليين، فيرفضوها ويتمردوا عليها بحثاً عن البديل العادل الذي يستند إلى الثابت المقدس الذي يحترمونه، إلى دينهم أو عرفهم أو يصوغونها بإرادتهم، لا لتكبلهم بل لتنظم حياتهم فيقدسونها ويحترمونها لأنها من صنعهم ويكون هدفها وغايتها الحفاظ على سلامة المجتمع وقوته وتماسكه وتأكيد حرية أفراده.
عندما يدرك أبناء المجتمع أن مبدأ النيابة وقاعدة التمثيل هي قاعدة باطلة، لأنه لا يمكن لإنسان أن ينوب عن إنسان آخر أو الإحساس بمعاناته، وأنه من حقه ممارسة سلطته مباشرةً دون نائب أو وسيط، وأن الحرية تتأكد من خلال المشاركة الحقيقية لبقية أفراد المجتمع في صنع القرار، والمشاركة المباشرة في تحديد وإختيار من ينفذ هذا القرار، وممارسة الرقابة على تلك الأداء التي تم إختيارها لتنفيذه، ومساءلتها بشكل حقيقي ومباشر عن أي تقصير، ولا مجال لذلك إلا من خلال المؤتمرات الشعبية حيث يصنع القرار وحيث مصدر الإلزام لتنفيذه، والمراقبة والمساءلة ومن خلال اللجان الشعبية التي يتم إختيار أعضائها لا للونهم ولا لوضعهم الطبقي أو الديني ولا لما يمتلكونه من ثروة، بل لثقة الجماهير في كفاءتهم ومقدرتهم على تنفيذ قراراتها وهنا فقط ينال الإنسان حقوقه في حرية التعبير ويؤكدها بالممارسة والمشاركة في صنع القرار ومراقبة ومتابعة تنفيذه، وتختفي بذلك أداة التسلط والقهر والعسف وتتأكد الديمقراطية المباشرة وحرية الإنسان السياسية ووجوده الحر الفاعل .. وتسقط الشعارات الزائفة التي تتحدث عن التعددية أي تعدد الأدوات المزيفة والمتحكمة في إرادة الشعوب، ليحكم الشعب نفسه بنفسه وبشكل مباشر دون نيابة أو تمثيل.

وتحترق المقولة الخادعة ( رقابة الشعب على الحكومة ) لتحل محلها المقولة الجديدة ( رقابة الشعب على نفسه) ويرتبط الإنسان بمجتمعه برباط أبهى وأجمل وأكثر إحتراماً وقداسة من قبل جميع أفراده، وتصبح قاعدة الحرية هي المعيار والأساس ومصلحة جميع الأفراد وسعادتهم هي المحرك والدافع لتأكيد هذه الحرية والحقوق.

ويتحرك جميع الأفراد أو الناس طوعاً واختياراً لا كرهاً وإجباراً، كل لممارسة دوره بهمة ونشاط وفاعلية بعد أن تجدرت في نفسه قيم الحرية والعدالة والمساواة والإنتماء إلى هذا المجتمع الجديد .. فيقوى شعور الأفراد بالأنتماء وتقوى حوافزهم للإنتاج والخلق والإبداع والتألق .. ويحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، حيث تنتصر قيم الخير والحق والحرية في نفسه فيتطهر قلبه ويسلم الناس فعلاً من لسانه ويده.. فلا يمارس الغوغائية والدجل والتزييف ولا يروج لقيم العسف والإستغلال، لأنه يرفض العسف والإستغلال فلا يمارسه.
وتسود المجتمع علاقات المحبة والإحترام المتبادل وينتهي الحقد والبغض والكره، لأنه لايوجد طرف يستغل طرف آخر ولا جهة تستغل جهة أخرى، فلا ظالم ولا مظلوم، ولا سيد ولا مسود، بل أفراد أحرار وسعداء لأنهم فعلاً شركاء في السلطة، شركاء في الثروة، شركاء في السلاح وهي أهم مقومات الحرية .. ولعمري إن المجتمع الذي تسوده المحبة والإحترام المتبادل بين أفراده كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً وينتهي فيه العسف والإستغلال والجهل والتزييف لهو المجتمع النموذجي الذي يحق للإنسان أن يكافح ويناضل ويضحي من أجل تحقيقه.

إذاً كيف يمكن الوصول إلى هذا الوضع الذي قد يبدو مثالياً للغاية في إطار عالم تسعى فيه العديد من القوى من أجل السيطرة على الشعوب والهيمنة على مقدراتها.

وكيف يمكن نفض الغبار عن الحقيقة وإعادة الأعتبار إلى القيم الحقيقية التي تجعل للإنسان قيمة ولوجوده معنى في ظل حملات المسخ والتشويه للإنسانية والتغريب والألينة التي تستهدف تفريغ المجتمع البشري من كل مضامينه الأخلاقية والإنسانية.

التنمية وحقوق الإنسان / بين الفشل المؤسساتي والوعي الاجتماعي 

تدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود والتقنيات الجديدة وعمليات الاندماج الاقتصادي تفتح البوابات وتمهد الطرق والوسائط المتنوعة امام ظهور اسواق عالمية، ومع تزايد معدلات النمو الاقتصادي في مناطق يتناقص النمو والغذاء في مناطق اخرى وبشكل اكثر حدة، ويتجاوز الفقر حدوده ليهدد شعوب كثيرة بالمجاعات والامراض والموت ..، وبينما تأخذ أطروحات العولمة والتنمية البشرية والتنمية المستدامة اتجاهات متنوعة ( عالمية، دولية، اممية، حكومية، غير حكومية ،……)، لاقتراح الحلول وانشاء الاستراتيجيات والخطط واصدار الاتفاقيات واعادة رسم السياسات ومابين التوازنات المختلفة الاقتصادية – الاجتماعية، وغيرها من التوازنات والتداعيات والتسارع التقني والمعلوماتي وتقلص سيادة الدولة، يطفو العائق الأساسي أمام التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية في العالم الثالث والدول العربية بشكل اكثر خصوصية والذي تمثله هذه المرة وبقسوة مؤسسات الحكم ( المركزية والمحورية )، وفي سبيل تكريس حكمها ومركزيتها وهيمنتها القائمة على الاستبداد والجهل والدكتاتورية واللامساوة واللاعدالة وعلى مختلف انماط الحياة المجتمعية، وبالشكل الذي تتحول فيه حقوق الانسان وحقوق المواطنة والحريات الاساسية الى مساحات للاتهام والتعذيب والتجويع والسجن والاختطاف والنفي والتهجير والقتل وتمارس شتى انواع الاضطهاد والابادة والتدمير….، وترتفع الشعارات الثورية الزائفة والمفاهيم المظللة باسم المصلحة الوطنية ،ويتم تدويرها عبر وسائل الأعلام ووسائط التعبير المتلونة بالاستبداد ومن خلال مرتزقة الانظمة الاستبدادية، وتزيد من حدة طغيانها لتنهش وتقمع وتستعبد ويتصاعد الظلم وتنمو مخالبه، وهي في ظل كل ذلك تعاني من فساد مؤسساتي وقانوني وامني واخلاقي يهدد بانهيارات بنيوية وحيوية تطال مختلف مكونات المجتمع الجوهرية والعرضية، وبالتالي تزداد المعاناة والمأساة والبؤس، وهذه التداعيات تنعكس على المشهد الانساني العالمي وملامح وابعاد السياسة العربية عموما الداخلية والخارجية، تؤكدها جملة من المعطيات والوقائع وتدعمها الاحداث والدراسات والتقارير وما نشاهده ونراه ونسمعه في كل لحظة، يؤكد هذه الحقيقة المؤلمة والمرة في آن واحد ،والتي تستفز الوجدان والمشاعر الإنسانية في كل مكان.

وتتزايد معدلات الفشل المريع ويفقد (النظام السياسي العربي في عمومه وعلى مستوياته القطرية)، كل عوامل الاستقرار والتكيف والقدرة على الاستيعاب والاستجابة لمتطلبات التنمية وحقوق الإنسان، في ظل ضرورات واشتراطات عالمية وعولمية، يمكن تلخيصها في عدة جوانب وتكمن في انعدام ابسط ضرورات الحياة الإنساني؛ (نقص في الغذاء والأمراض وفشل وانهيار التعليم وتزايد الاستبداد والعنف المتعدد الأوجه، مع اختفاء مفاهيم العدالة وقمع الحريات المدنية وانتهاك حقوق الإنسان والفساد الإداري والاقتصادي.

وفي خضم التسارع التاريخي الذي يحمل معه مختلف تشكلات الحياة المجتمعية (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، ويؤسس لمرحلة اكثر تعقيدا (مرحلة ما بعد العولمة) وأنماط التباساتها وتوجساتها علي الصعيد المعرفي والفكري وثورة تقنية ومعلوماتية جديدة، وتصبح السمة والعلامة الأساسية المحددة لهذا الشكل الحكومي الدكتاتوري (مؤسسات إدارة ضعيفة وفاشلة وساذجة …، وفجوات معرفية وتكنولوجية واضحة تدعو إلى الرثاء)، ومع التخلف والانحدار المريع والذريع لمشاريع الإنماء والتنمية المختلفة والتوهمات الغائية المتبلدة للايديولوجيات التعبوية وهشاشة التنظيرات وتصدعات الممارسات النمطية المؤطرة بالقمع الاذلال والانتهاكات المستمرة بوحشية وسادية، ومع تقييد الحريات العامة واختصار المشاركة السياسية في حفنة أعوان هذا النوع من الأنظمة، تتزايد وترتفع معدلات الفقر والعنف المؤسساتي وارتفاع معدلات اللامساوة وتفشي الظواهر اللاخلاقية ( مخدرات، دعارة، نهب، سرقة الأموال العامة، إبادة، اغتصاب، انتهاك لحقوق الأقليات والضعفاء،…) وتضيق بالتالي وتنحسر فرص التنمية الشاملة والتنمية السياسية تخسر أجندتها التي وضعتها تحت وسادة الطغاة وبين مخالب مراكز القوة التي اخترعتها فقط للقمع والقتل والتعذيب بمختلف صوره وأشكاله…، ويتم تجميد كل محاولة للإصلاح والتقدم، كل ذلك وأكثر يدعو للنضال من اجل الديمقراطية لتحقيق التنمية والعدالة واحداث تغيرات أساسية جوهرية في بُنى المؤسسات الحاكمة وإحداث انتقال نوعي اجتماعي وانتاج خطاب واعي بالتغيرات الكبرى التي تشكل مشهد وصورة وواقع الحياة المعاصرة.

إن الوعي المجتمعي الجمعي بضرورة الديمقراطية و التنمية البشرية وحقوق الانسان والمواطنة النابعة من احتياجات المجتمع والتي تعكس مفاهيمه السوسيو- ثقافية ومكوناته المعرفية ومفاهيمه الاخلاقية تعد الهدف الاستراتيجي لأي سياسة رشيدة واعية بدورها وبرسالتها في ظل ظروف عالمية يحكمها منطق الصراع في مختلف جوانبه وتوجهاته السياسية والاقتصادية والثقافية.

كما إن ضرورة التفريق بين الغايات والوسائل، بين المصلحة العامة والمنفعة الشخصية يصيغ السؤال الاساسى لخلق بيئة تمكن المجتمع من تحديد اولوياته والمشاركة بفعالية في عملية التنمية الشاملة لتوسيع الخيارات وتعددها وتنوعها، أمام المجتمع وحراكه الاجتماعي الساسي لتحقيق حياة مستقرة، كإحساس ومسؤولية بدوره الإنساني والاجتماعي والوطني لتحقيق النمو والرفاهية ويصبح للفرد حياة ذات معنى.

تتأكد أهمية التنمية واستراتيجيات التطوير وبشكل متصاعد في طور مرحلة حضارة المعلومات والاتصالات ومجتمع المعرفة، وفق أسس بنيوية ووظائفية متنوعة ومتعددة الأوجه والتي لا يمكن اختزالها في مفهوم واحد ورؤية أحادية هي التنمية الاقتصادية وفي شكل ( نمط ) اقتصادي واحد هو الدخل القومي (إجمالي الناتج القومي) دون الاهتمام ووضع الحلول المنطقية لمعطيات الحياة الأخرى ( مادية ومعنوية)، والتنمية كضرورة حياتية أساسية تستهدف دراسة ووضع الحلول الشاملة من إدارة فاعلة للمؤسسات وإصدار التشريعات وإدارة جيدة للإعلام والتعليم ومخرجاته، واستدراكا لهذا الجانب يمكننا القول: إن زيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي الحقيقي وزيادة الاستثمارات والتقدم المعرفي والتفني والصناعي وتنمية القدرات والمهارات البشرية تعد رسائل ومخططات اولى للتنمية الشاملة الحقيقية وليست انعكاسات لغايات، كما إن هذه المؤشرات ضرورية واساسية ولايمكن تحييدها او استبعاد احد عناصرها، وفي ظل نظام اقتصادي عالمي ومعولم يكتسح مختلف بنى ومكونات المجتمعات المتقدمة والمتخلفة ويؤثر تاثيرا عميقا على نمط الحياة وبفعالية متسارعة، وعلى ضوء كثير من المعطيات والمؤشرات المعلنة والمتسترة التى سبق تناولها، وكذلك التداخلات السياسية والجيو – سياسية المتشابكة، لازلنا نلمس ونرى حجم المأساة التي يعيشها التخطيط المؤسساتي الحكومي ويقرها بوعي وبدون وعي في أحيان كثيرة، وكأنها حالة من التخبط العشوائي والمراوحة داخل حيز ونفق مظلم ومعتم، وبحجم تخبطاته وفقدانه لتوازنه الداخلي والخارجي سيفقد دوره وستفلت من بين يديه خيوط اللعبة والمنتصر الوحيد: الاسواق والتحرر السياسي، والحكومات التي لم تعي المعادلة واستراتيجيات العولمة ومابعدها ( كتطور حضاري معرفي وتقني) فإنها ستتحول إلي مرحلة تبعية مطلقة، ولكن هذه المرة لصالح الشركات الكونية (مافوق الدولية ) وسستتجزاء سيادة الدولة في سوق المضاربات وداخل سلة الأوراق المالية وتحت طاولة المفاوضات السياسية تمر القرارت خارج سيادة الحكومات الهامشية والكرتونية، وشرارة اللهب بداءت تظهر هالتها في الافق وقريبا ستعيد صياغة المشهد برمته، وبمراجعة سريعة لمنجزات الدول العربية ومخططاتها المستقبلية تتضح لنا حجم الكارثة والمأساة ولعل تقارير التنمية البشرية تطل بنا على حقائق دامغة ومؤلمة، مثيرة ودرامية، للمسببات الرئيسية لفشل التنمية البشرية بمختلف مستوياتها وانتكاس الديمقراطية وانعدام الحريات الاساسية في المجتمع العربي عموما تمنحنا هي الاخرى رؤية واضحة وصورة جلية وتقودنا لاكتشاف عمق ومدى فشل السياسات الحكومية في الدول النامية والعربية على وجه التحديد، وتزداد التحديات وبشكل متسارع وتتغلغل في مختلف أوجه الحياة المجتمعية وبشكل متسارع وامام تحديات متعددة ومتنوعة الجوانب والابعاد على المستوى العالمي وكأنه ( شكل لحكم جديد في عالم يتجه نحو العولمة ليفضى لمرحلة اكبر واوسع واكثر شمولية ( امبر طورية كونية )، وهذا النظام الجديد يفرض منهجيته وقراراته وادواته ووسائطه واشتراطاته وهو أيضا بالمقابل يحدد شروط ونوع هيمنته، وما يسّهل المهمة ويسرع من تحققها شكل الحكومات العربية ولونها الباهت، فهي تمهد الطريق وتضع العلامات التي تسهل العبور والمرور وكأنها بذلك تسلم وتؤكد الفرضيات التى نتناولها ونحاول ايضاحها تبسيطها.

شعوب بأكملها يتم انتهاكها يوميا بحجج واهية ومريضة تؤكدها الامراض والمجاعات والتهريب والمخدرات والتفكك الاجتماعي والبطالة والامية والعنف والقمع والقتل والابادة والجهل والفساد المؤسساتي والتهجير،….، وكل هذه المعوقات والانتكاسات والدمار تدعمها وتحركها جملة من العوامل والأهداف ( محلية ودولية)، ومع التدفق الحر للمعلومات والأموال والثورة التقنية الجديدة والتحول نحو الديمقراطية والمنافسة الاقتصادية والتجارة الالكترونية…، فإن هذه الانهيارات والبناءات والتوصيفات والتوظيفات العالمية لشكل ولون ومؤديات واستراتيجيات العالمية الجديدة، تفرض إعادة التفكير والتخطيط والاسراع في التنمية البشرية، مع اعتبار ان التنمية شاملة يساهم المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه للمشاركة في انجازها وتحقيقها والأخذ في الاعتبار اهمية ودور المؤسات الاهلية والغير حكومية المحلية والدولية في القفزعلى الانهيارات والتداعيات والتفككات والتي تتعمق وتزداد حدة، ويمكن توجيه البعد الاستراتيجي للتنمية والتطوير وذلك باتجاه توسيع فرص الاختيار والمشاركة تأسيسا على المعرفة والمهارات والقدرات والكفاءات العلمية والفكرية والصحية، وتوفير شروط مواطنة (الحقوق/ الواجبات) في إطار دينامي متطور نابع من تفاعل الفكر والعمل الانساني والاجتماعي

حركة حقوق الإنسان وشروط المصداقية

رغم التقدم النسبي الذي حققته الحركة العربية لحقوق الإنسان؛ فإن هذه الحركة تعيش في نهاية القرن أزمة عميقة متعددة الأبعاد والجوانب، وبرأيي من الصعب تجاوز هذه الأزمة دون الاعتراف بوجودها أولاً ثم التقييم المعمق لمقوماتها ثانياً وعقلنة رغبة الخروج منها ثالثاً.
لقد دخلت حركة حقوق الإنسان العالم العربي كتعبير عن حاجة، الأمر الذي لا ينقص من أهميتها بل على العكس يعطيها شرعية البعد الموضوعي الهام لأية حركة، ولكن دخولها جاء في لحظة صعبة وحرجة من تاريخ المنطقة ومن جيل حرم من أبسط تعبيرات الحرية، ولعل نهاية “الدولة الكاست” (المغلقة) التي تسد الباب والنافذة على رعاياها مع اختراع موجات لا تعرف الحدود وصور تعبر القارات قد جعل من كل شخص في هذا العالم كائناً قادراً على تعزيز الثقافة الشعبية الشفهية المناهضة للعسف بأحاديث الإذاعة وبرامج التلفزة والتداول السري للكتاب الممنوع عبر الوسائل الإلكترونية، لقد عاد المفهوم اليوناني للإنسان كعالم صغير معززاً بتقنية حولت العالم برمته إلى قرية، وكل هذا التقدم كان يطرق أدمغتنا، ولم يعد بالمستطاع القول فقط أبوابنا، بعد حقبة أزمنت فيها السلطات التسلطية في الحكم وغيب فيها المواطن العربي عن كل ما يقرر مصيره الفردي والعام، كان الجو ومازال مهيئاً إذن لحركة منتجة وغنية قادرة على التأثير والفعل.

إلا أن المفترض شيء والحياة الفعلية شيء آخر، فكل رأي مفيد أو فكرة نبيلة تشكل موضوع احتواء كما يقول ثيودور أدورنو، ولا تنجو فكرة حقوق الإنسان من أن تكون مستهدفة أو أن تستعمل من مختلف أشكال السلطات وبوسائل مختلفة، كذلك لا تعدم أن يكون في داخلها من يوظفها لغايات شخصية مالية أو سياسية أو غير ذلك، ولكي تحافظ حركة حقوق الإنسان على الحد الأدنى لمصداقيتها علينا أن نتذكر باستمرار أننا لسنا فوق البشر وأن حقوق الإنسان هي قضية التزام قبل أن تكون قضية امتياز، ومادة عطاء لا موضوع كسب، وبيئة تجاوز للأخلاق التي أنتجها الاستبداد لا إعادة إنتاج لهذه “الأخلاق” لقد دخل عدد هام حركة حقوق الإنسان نتيجة الإحباط والفشل السياسيين، وللأسف لم يدرك البعض أنه يحمل كل عوامل الفشل عبر إعادة إنتاج أسبابه في العالم الحقوقي، ولم تأخذ حقها للأسف حتى اليوم قواعد منهجية أساسية اختصرها بخمسة: حق النقد، حق الاختلاف، واجب أخلاقية المحاسبة، ديمقراطية العلاقات والشفافية الكاملة، وفي العديد من موضوعات المؤتمر سنجد هذه القواعد ماثلة أمامنا بشكل أو بأخر.

إن حركة حقوق الإنسان سلطة مضادة جديدة ضرورية وحاسمة في عملية بناء المجتمع المدني . وهناك عدة نقاط ضعف في بيتها وأسلوب عملها سمحت ويمكن أن تسمح في المستقبل بإنهاك الحركة والإساءة لصورتها وفعاليتها . وسأحاول سريعاً التعرض لأمثلة عملية وأخرى نظرية تسمح بتوضيح نظرتي لبعض معالم الأزمة:

** أولى هذه النقاط المسألة المالية، في حقبة العولمة 

من المضحك أن نطالب بجمعية ليس لها أمين صندوق وتتعامل بالنقود، وكما سبق وقلت دائماً إن السياسة المالية لأية جمعية يحددها المنتسبون إليها فقط وبخيار ديمقراطي حر، وأية قيود مفروضة من قبل السلطات الحاكمة تعني حرمان المنظمة غير الحكومية من حقها الطبيعي في استقلالية القرارات، ولكن لا يجوز لنا بحال أن ننسى أن المال لا يصنع حركة حقوق الإنسان ولا يفرخ مناضلين، وأن تلقي المساعدات للشأن العام وللعمل من أجل حقوق الآخرين شيء وتوظيف هذه المساعدات لأشياء أخرى شيء آخر، ولعل بارانويا الاغتناء السريع من أخطر الأمراض التي يمكن أن تعاني منها حركتنا، فالمال سلطة، وعندما يوضع مليون دولار بيد شخص لإدارة جمعية وإصدار مجلة، يصاب هذا الشخص بفقدان التوازن، وإن لم يكن لديه من الصلابة النضالية والأخلاقية السلوكية الرصيد الكافي فلا نستغرب أن يتحول الحفاظ على هذا الامتياز إلى غاية في ذاته ومن أجل ذلك إيذاء من يستطيع خوفاً من المنافسة على الغنيمة.

** النقطة الثانية هي الشفافية 

وهي كلمة للأسف استعملت من قبل ألد أعدائها لضربها، الأمر الذي لا يفقدها مصداقيتها بحال، في العالم السياسي المتعدد السلطات أو بلدان الديمقراطية الشكلية باستعارة تعبير المدارس النقدية الغربية لأنظمتها، رجل السياسة موضوع محاسبة دائمة، وكذلك حال كل من يعمل في هذا الشأن العام، وهذه القاعدة أساسية لديمقراطية ومصداقية حركة حقوق الإنسان، عندما يزّور رجل السياسة وثيقة يستقيل من منصبه ليمثل أمام القانون، هذه مسألة ضرورية لنا جميعاً، لن نكتسب مشروعية محاربة الفساد المجتمعي قبل إبعاد الفساد عن عالمنا، ولن نكتسب مشروعية محاربة سوء استعمال السلطات فوق رؤوسنا قبل أن نتجاوز سوء استعمال السلطة المضادة وبشكل خاص سوء استعمال السلطة في عالم حقوق الإنسان.

** أما النقطة الثالثة

فهي نظرية وبنيوية وقد سبقنا ابن خلدون بالتطرق لها عندما تحدث عن ولع المغلوب في تقليد الغالب. ويسميها البعض “نحن ضعاف (كأبناء جنوب) وعلينا أن نتعامل بشكل ذرائعي وتابع مع الأقوياء في حركة حقوق الإنسان (المنظمات الغربية)” . هذه النظرة تذكرني بعقدة النقص عند الأحزاب الستالينية تجاه الرفيق الأكبر في موسكو أو بكين . وفي عالم حقوق الإنسان تحمل إساءة لا حد لها لفكرة الإنسان نفسها. وقد أثبت بطلانها وجود كوادر جنوبية عالية المستوى أغنت حركة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي وفرضت أسلوباً جديداً في التعامل قائم على الاحترام المتبادل. صحيح أنه في عالم قائم على غياب التكافؤ الاقتصادي والإعلامي والجيوسياسي بين الشمال والجنوب توجد عوامل نفسية وبشرية تفسر عدم انعتاق البعض في بلدان الشمال من عقدة التفوق الاستعمارية، إلا أن هذا لا يسمح لنا بحال أن نقبل بوجود شكل آخر للتبعية في أنبل تعبير عن المساواة.

** النقطة الرابعة 

هي دخول المنافسة بالمعنى السلبي للكلمة عالم حقوق الإنسان فالتنافس ليس جريمة في ذاته، خاصة في عالم يحتاج إلى أضعاف عدد المنظمات غير الحكومية في الكم والنوع، أي بتعبير آخر عالم لم يستجب بعد للعلاقات التكاملية لتحقيق جزء من المهام التي يطرحها على نفسه. فكيف به والحال كذلك، يدخل في منافسة سلبية تحمل أمراض الشللية والعقلية التآمرية ورخصة الإساءة الخ؟!

حقوق الإنسان بين مجتمع الشراكة وحقوق الإنسان

إن غائية التاريخ البشري قد حددت ماهية وطبيعة حقوق الإنسان .. كما أن إستناد تلك الحقوق إلى قاعدة الحرية وإرتباطها الوثيق بالحاجة فإن تحرير حاجات الإنسان وتمكنه من إشباعها هو المبدأ الأساسي والمعيار الحقيقي لتحرير هذه الحقوق ونيلها.
وقبل الحديث عن المبادئ التي تم تحديدها في أهم الإعلانات والوثائق والبيانات التي تعرضت لحقوق الإنسان يجدر بنا إستعراض المقومات الأساسية لحرية الإنسان، وكيف يمكن الوصول إلى هذه القواعد وبناء الواقع الإنساني الذي يضمن فيه الإنسان حقوقه وتتأكد حريته، من خلال الإشباع الأمثل لحاجاته، وتأكيد وجوده الفاعل ضمن إطار المجتمع الذي يتفاعل أفراده وتتكامل أدوارهم وممارساتهم بما يعزز تضافر جهودهم من أجل بناء المجتمع النموذجي الجديد؛ مجتمع الحرية والسعادة حيث يمارس الإنسان الحرية ويحقق توازنه النفس إجتماعي من خلال قاعدة الشراكة في المقومات الأساسية للحياة الحرة الكريمة.
إن وقوع الإنسان ضمن إطار يتم فيه إحتكار مقدراته السياسية والإقتصادية يوقعه بالضرورة داخل إطار العسف والإستغلال ويشعره بالغبن والقهر ويحفزه دائماً للثورة . . ويدفعه للصراع من أجل تحرير حاجاته ونيل حقوقه السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وهنا يواجه من القوى المسيطرة على تلك الحاجات والمحتكرة لتلك المقدرات بمزيد من القهر والقمع وقد يكون أبشعها الأسلوب الغير مرئي الذي لا يتخذ طابع العنف .. حيث تلجأ تلك الأدوات من خلال دوائر الإحتكار إلى توجيه ردة فعل الإنسان المقهور وتشكيل عقله ووعيه، وألينته ليتجه طوعاً في الإتجاه المحدد الذي يخدم مصالحها وبإختياره، وبقرار منه ويتم إستغفاله وإيهامه بأنه يسير في الإتجاه والطريق الذي يؤكد حريته ويتم ذلك من خلال برامج التثقيف الإعلام والدعاية الموجهة التي تستخدم خلالها كافة أساليب الخداع والتضليل وتؤسس لها المناهج التربوية والإعداد والتوجيه النفسي ليتقبل الإنسان كافة أشكال الإستغلال والتكييف والتطويع العمدي ويتحول إلى مجرد آلة تعمل وفق البرنامج المرسوم، وحسب جرعة وشحنة الطاقة الممنوحة لها، فتصنع القيم .. وتوضع الضوابط .. وتسن القوانين .. وتعدل الدساتير وتحبك المسرحيات الهزلية فيما يسمى بالإستفتاءات والإنتخابات.. وتنتج الأعراف الإجتماعية حسب مشيئة قوى العسف والإستغلال ووفقاً لمناهجها ونظرياتها.
كما أن تلك الأدوات تعمل على تطوير تلك المناهج والنظم بحسب تطور وعي وحجم ومستوى إدراك الإنسان لكم الحقائق الممكن إدراكها، إذ يتم تعديل المناهج التربوية والتعليمية لا ليقدم من خلالها مزيداً من الحقائق، وإنما مزيداً من التجهيل والتزييف لأن تلك الأدوات تعلم جيداً ( أن الجهل سينتهي عندما يقدم كل شئ على حقيقته ) وهنا الخطر الذي تخشاه تلك الأدوات القامعة للحرية.

فإدراك حقيقة مجتمع العسف والإستغلال وزيف الواقع سوف يؤدي إلى الثورة عليها والكفاح من أجل هدم قواعدها التي فرضتها وبناء المجتمع البديل الجديد الذي يوفر الحرية .. الديمقراطية والعدالة والمساواة .. مع عدم الإخلال بقاعدة إختلاف الأدوار بين أفراده.

فعندما يدرك الإنسان تماماً ماهية حقوقه، وأنها ليست هبةً من أحد فأنه سيعي بالضرورة كذب وبطلان إدعاءات الأنظمة الزائفة المزيفة، بعد أن يفهم ويستوعب أن هذه الحقوق لا يمكن أن تتحقق في ظل مجتمعات العسف والإستغلال.
وإنتصار الإنسان على الأدوات المتسلطة والمتحكمة في إرادته والقامعة لحريته حتمياٌ، وهو مرتبطاُ بوعيه وإدراكه وإكتشافه للحقائق، ومدى وحجم ودرجة إستعداده للثورة وتحقيق النصر، وعندما يؤمن أنه لاوجود لحقوق الإنسان في مجتمع العبودية والإستغلال، مجتمع السادة والعبيد، مجتمع الأغنياء المترفين والفقراء المعدمين .. عندما يدرك أن بؤسه وشقاءه لن يزول وحقوقه لا تتأكد إلا من خلال المجتمع الذي يختفي فيه العسف والإستغلال، المجتمع الذي تختفي فيه الحكومات والجيوش وتسود فيه قيم الحرية حيث تتحرر الجماعات والشعوب من خطر الحروب وتسود علاقات السلام والأحترام والمحبة والتعاون بين الشعوب من أجل القضاء على المرض والفقر والجوع بانتصارها على الجهل وقوى التجهيل .. وعندما تدرك المرأة أنها قد تحولت من خلال منظومة العسف والقهر تلك إلى أي شئ آخر عدا أنها إنسان، حيث تم تشويهها وتزييفها، وإنتاجها بشكل مخالف لطبيعتها كأنثى.

عندما يدرك أبناء المجتمع أنهم قد تحولوا إلى جيش من العبيد يعملون ويكدحون ويحترقون ويتوجعون ويتألمون من أجل أن تنعم حفنة من المستغلين المستبدين الأشرار الذين أفسدوا الواقع الإجتماعي وجردوا المجتمع من كل محتوى إنساني.

عندما يدرك أبناء المجتمع أن الحرام والحلال وكل منظومة القوانين التي تكبل حريتهم ليست محل قداسة ولا يجب إحترامها لأنها لا تستند إلى مصدر هو محل قداسة أو أحترم، وإنما هي من صنع الجلادين والإستغلاليين، فيرفضوها ويتمردوا عليها بحثاً عن البديل العادل الذي يستند إلى الثابت المقدس الذي يحترمونه، إلى دينهم أو عرفهم أو يصوغونها بإرادتهم، لا لتكبلهم بل لتنظم حياتهم فيقدسونها ويحترمونها لأنها من صنعهم ويكون هدفها وغايتها الحفاظ على سلامة المجتمع وقوته وتماسكه وتأكيد حرية أفراده.

عندما يدرك أبناء المجتمع أن مبدأ النيابة وقاعدة التمثيل هي قاعدة باطلة، لأنه لا يمكن لإنسان أن ينوب عن إنسان آخر أو الإحساس بمعاناته، وأنه من حقه ممارسة سلطته مباشرةً دون نائب أو وسيط، وأن الحرية تتأكد من خلال المشاركة الحقيقية لبقية أفراد المجتمع في صنع القرار، والمشاركة المباشرة في تحديد وإختيار من ينفذ هذا القرار، وممارسة الرقابة على تلك الأداء التي تم إختيارها لتنفيذه، ومساءلتها بشكل حقيقي ومباشر عن أي تقصير، ولا مجال لذلك إلا من خلال المؤتمرات الشعبية حيث يصنع القرار وحيث مصدر الإلزام لتنفيذه، والمراقبة والمساءلة ومن خلال اللجان الشعبية التي يتم إختيار أعضائها لا للونهم ولا لوضعهم الطبقي أو الديني ولا لما يمتلكونه من ثروة، بل لثقة الجماهير في كفاءتهم ومقدرتهم على تنفيذ قراراتها وهنا فقط ينال الإنسان حقوقه في حرية التعبير ويؤكدها بالممارسة والمشاركة في صنع القرار ومراقبة ومتابعة تنفيذه، وتختفي بذلك أداة التسلط والقهر والعسف وتتأكد الديمقراطية المباشرة وحرية الإنسان السياسية ووجوده الحر الفاعل .. وتسقط الشعارات الزائفة التي تتحدث عن التعددية أي تعدد الأدوات المزيفة والمتحكمة في إرادة الشعوب، ليحكم الشعب نفسه بنفسه وبشكل مباشر دون نيابة أو تمثيل.

وتحترق المقولة الخادعة ( رقابة الشعب على الحكومة ) لتحل محلها المقولة الجديدة ( رقابة الشعب على نفسه ، ويرتبط الإنسان بمجتمعه برباط أبهى وأجمل وأكثر إحتراماً وقداسة من قبل جميع أفراده، وتصبح قاعدة الحرية هي المعيار والأساس ومصلحة جميع الأفراد وسعادتهم هي المحرك والدافع لتأكيد هذه الحرية والحقوق.
ويتحرك جميع الأفراد أو الناس طوعاً واختياراً لا كرهاً وإجباراً، كل لممارسة دوره بهمة ونشاط وفاعلية بعد أن تجدرت في نفسه قيم الحرية والعدالة والمساواة والإنتماء إلى هذا المجتمع الجديد .. فيقوى شعور الأفراد بالأنتماء وتقوى حوافزهم للإنتاج والخلق والإبداع والتألق .. ويحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، حيث تنتصر قيم الخير والحق والحرية في نفسه فيتطهر قلبه ويسلم الناس فعلاً من لسانه ويده.. فلا يمارس الغوغائية والدجل والتزييف ولا يروج لقيم العسف والإستغلال، لأنه يرفض العسف والإستغلال فلا يمارسه.

وتسود المجتمع علاقات المحبة والإحترام المتبادل وينتهي الحقد والبغض والكره، لأنه لايوجد طرف يستغل طرف آخر ولا جهة تستغل جهة أخرى، فلا ظالم ولا مظلوم، ولا سيد ولا مسود، بل أفراد أحرار وسعداء لأنهم فعلاً شركاء في السلطة، شركاء في الثروة، شركاء في السلاح وهي أهم مقومات الحرية .. ولعمري إن المجتمع الذي تسوده المحبة والإحترام المتبادل بين أفراده كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً وينتهي فيه العسف والإستغلال والجهل والتزييف لهو المجتمع النموذجي الذي يحق للإنسان أن يكافح ويناضل ويضحي من أجل تحقيقه.
إذاً كيف يمكن الوصول إلى هذا الوضع الذي قد يبدو مثالياً للغاية في إطار عالم تسعى فيه العديد من القوى من أجل السيطرة على الشعوب والهيمنة على مقدراتها.
وكيف يمكن نفض الغبار عن الحقيقة وإعادة الأعتبار إلى القيم الحقيقية التي تجعل للإنسان قيمة ولوجوده معنى في ظل حملات المسخ والتشويه للإنسانية والتغريب والألينة التي تستهدف تفريغ المجتمع البشري من كل مضامينه الأخلاقية والإنسانية.