مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات

مقال حول: مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات

مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

بقلم ذ عبـد ‬المالك ‬زعزاع

محام ‬بهيئة ‬الدار ‬البيضاء
أهمية هذا الموضوع تنبع من الظرفية الحالية التي تعيشها بلادنا، والنقاش السياسي والحقوقي الدائر حول موضوع الفيضانات وتحديد المسؤوليات وتنـزيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا سنحاول تحت العنوان المذكور أعلاه أن ندلي بدلولنا في الموضوع في فقرات مختصرة للمساهمة في المناقشة الرائجة حاليا وذلك عبر تعريف مقتضب للفيضانات والآثار والانعكاسات الناجمة عنها.

وهل الامر يتعلق بقوة قاهرة المشار إليها في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بمقتضيات المادة 79 من نفس القانون المتعلق بمسؤولية الدولة والجماعات الترابية عما حدث من أضرار للمواطنين في بلادنا. معرجين على ذكر السند القانوني للتعويض عن الأضرار والمحكمة المختصة ومفهوم نظرية المخاطر والخطأ المصلحي الموجب للتعويض ومسؤولية الدولة والجماعات الترابية عن عدم صيانة منشأة عمومية، مع الإشارة إلى الفصول القانونية ومواد الدستور المؤطرة للموضوع، مع عدم نسيان الحديث عن مبدأ تشطير المسؤولية والسلطة التقديرية للقضاء الإداري في المجال، معتمدين في ذلك على بعض الاجتهادات القضائية المنشورة سابقا والمتعلقة بنوازل مشابهة مع خاتمة مقتضبة أيضا للموضوع.

1 – تعريف الفيضانات: يمكن القول بأنه تراكم المياه التي تغمر الأرض وتتدفق بمنسوب عال جدا نتيجة أمطار كثيرة تتسبب في ارتفاع وزيادة حجم المياه في السدود وكل أنواع المجاري المياه، وذلك عندما يتجاوز الماء حدوده الطبيعية وينتج عن ذلك أضرار متنوعة بسبب انجراف التربة وقد يصاحب ذلك فـي عـدة أحيـان ريح قوية مثل العواصف ورعد وبرق شديد، وينتج عن الظاهرة عدة أضرار بليغة.

2 – الأضرار الناجمة عن الفيضانات: أول ضحايا الفيضانات هم البشر الذين تجرفهم مياه السهول والوديان و الانهار حيث لاحظ الجميع حجم الخسائر البشرية، وما يعبر عنه بالشهداء في التصور الاسلامي لأن الغريق شهيد مثل صاحب الهدم وغيره، وخسائر أيضا في البنية التحتية مثل الطرقات والقناطر وكل المنشآت العمومية التي انهارت وأتلفت بسبب كثرة الامطار مثل المدارس والمستشفيات.

كما أتت الفيضانات على الاخضر واليابس ، وانهارت المنازل في المدن والبوادي وخاصة المواطنين الذين يسكنون بالقرب من بعض الوديان والأنهار وأتلفت المزارع ومحاصيل الضيعات.

نتج عن ذلك كله أضرار وانعكاسات اجتماعية خطيرة، فشردت عائلات لم تجد لها مأوى يأويها وترملت نساء وتيتم أطفال وفقد كثير من المواطنين ذويهم وأهاليهم، وفقد السكان امتعتهم وأغراضهم ووسائل نقلهم وضاعت منهم ممتلكاتهم.

تحركت الدولة والجماعات والسلطات المحلية بعد النشرة الثانية لمديرية الارصاد الجوية، تحرك المجتمع المدني وجد نفسه غارقا في الأوحال ليس لديه وسائل الدعم اللوجستكي، وعاد المغاربة الأحرار إلى فكرة التويزة وتم إنقاذ ما يمكن انقاذه. والشروع في ترميم والترقيع من جديد لما يمكن ترميمه وترقيعه، لكن جراحات المواطنين الضحايا لم تلملم بعد ولازال في النفس حسرة وألم، لأن البغلة في المغرب غرقت ولم تعثر فقط ووجدت مسؤولين يعالجون الموضوع ببرودة أعصاب ودم مثلج.

لذلك نتساءل مع رجال القانون من قضاة ومحامين وحقوقيين وباحثين جامعيين وغيرهم من المسؤولين عما حدث، وهل سيتم تنزيل المبدأ الدستوري في هذه الأحداث الأليمة والكوارث الخطيرة على المواطنين من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أنه سيترك الحبل على الغارب ولن يحاسب أي مسؤول عما حدث؟ لذلك سنجيب أولا عن السؤال العريض والمطروح في إطار إشكال قانوني، هل الأمر يتعلق بقوة قاهرة طبقا لمقتضيات الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بنظرية الخطأ المصلحي المتعلق بالفصل 79 من نفس القانون.

في ملف إداري آخر، سار العمل القضائي في نفس الاتجاه، وهذه المرة بدرجة أعلى أمام الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، وبالضبط في القرار عدد 935 بتاريخ 04/12/2005 في الملف الإداري عدد 461 بتاريخ 4/1/2002.

لذلك، فالمسؤولية قائمة على أساس الخطإ المصلحي الموجب للتعويض، ويمكن قيامه أيضا على أساس نظرية المخاطر.

3 – المسؤولية على أساس نظرية المخاطر: فأساس مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات هو نظرية المخاطر، ويلزم المدعي بإثبات خطإ الدولة أو الجماعات، والعمل القضائي الإداري جاء صريحا فقال بوضوح في هذا المجال: “حيث إن الحادثة التي وقعت للضحية، والمتمثلة في سقوطه في الوادي نتيجة انجراف التربة وانقطاع الطريق، أودت بحياته حسب محضر الضابطة القضائية والشواهد الطبية المدلى بها، مما ألحق ضررا بالجهة المدعية تمثل في هلاك مورثها”. وعلل القاضي حكمه بقوله: “حيث إن عدم قيام الإدارة بوضع علامات وإشارات تدل على قطع الطريق التي تعتبر من الأملاك العامة طبقا لظهير 01/07/1914 يعتبر خطأ مصلحيا من شأنه قيام مسؤولية الدولة تجاه ما يصيب الغير من أضرار ناتجة عن ذلك، وبذلك تكون مسؤولية الدولة ثابتة”.

وفي قرار آخر للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، وهو القرار عدد 82/60 بتاريخ 07/05/1960، يثبت هذا العمل القضائي مسؤولية الدولة عند عدم صيانتها للمنشآت العمومية، مثل ما حصل بالنسبة إلى القناطر والطرق وعموم المنشآت التي تضررت بفعل الفيضانات الأخيرة نتيجة عدم الصيانة، وخاصة ما تعلق بحالة الطرق في هذه النازلة، حيث جاء في القرار المذكور “إذا أثبت مستعمل الطريق -سائق السيارة- أن الضرر الذي حصل له كان بسبب عدم الصيانة العادية لذلك الطريق، فلا يمكن إعفاء الإدارة من مسؤوليتها عن سوء حالة المنشأة المذكورة إلا إذا أثبت خطأ المتضرر وأنها (الإدارة) قامت بكل الاحتياطات لتلافي كل حادث، سواء في ما يخص قيامها بأعمال الصيانة أو وضع إشارة التنبيه إلى سوء حالة الطريق”.

ويمكن لكل سكان المدن الذين تضررت منازلهم، نتيجة عدم وجود قنوات للصرف الصحي، وكذا عدم صيانتها، أن يدفعوا دعاوى في مواجهة الجهة المسؤولة عن ذلك.

هذا القرار القضائي عمل قضائي متميز بشأن قضية البنية التحتية المهترئة في بلادنا بفعل عدم الصيانة وعدم التتبع والمراقبة.

وفي قرار آخر، واضح لا غبار عليه، ذهب المجلس الأعلى (محكمة النقض) إلى تبيان فكرة مهمة في المناقشة القانونية، وهي أن مسؤولية الدولة ثابتة عن تسيير إدارتها حتى ولو عند عدم ثبوت أي خطإ من جانبها استنادا إلى فكرة المخاطر الناتجة عن استعمال خطير كالسيارة ونحوها؛ وهو القرار عدد 10 بتاريخ 14/01/1993 في الملف الإداري عدد 10180/91 منشورات المجلس الأعلى 1958-1997 الصفحة 229.

إذا كان قد ثبت في حق الدولة والجماعات الترابية أنها مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات وثبت وجود مواطنين متضررين بفعل الإهمال وبفعل عدم الصيانة للطرق وعدم المراقبة للقناطر وغياب التشوير المتعلق بالطرق المقطوعة التي غمرتها المياه، فإن المتضررين لهم الحق في اللجوء إلى المحكمة المختصة للمطالبة بالتعويض.

4 – ما هي الجهة المختصة لرفع مثل هذه الدعاوى: إن المحكمة المختصة في رفع الدعاوى في مواجهة الإدارة هي المحكمة الإدارية التابعِ لنفوذها مكانُ وقوع الحادثة بالنسبة إلى الجماعات الترابية ومقر الإدارة، محليا أو مركزيا، حسب الجهة المدعى عليها، تطبيقا لقواعد المسطرة المدنية والإجراءات الشكلية الواردة في القانون المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية، وكذا قواعد الموضوع، وخاصة الفصل 8 من القانون المذكور، القانون 41.91، الذي يستشف منه أن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات القانون العام تكون مسؤولة عن تعويضها.

وقد أبان القضاء الإداري المغربي، بجدارة واستحقاق، عن كفاءته وقدرته على الإبداع والتطور في خلق عمل قضائي متميز يتصدى لتملص أشخاص القانون العام، بمن فيهم الدولة، من التعويضات عن الأضرار التي تسببها الكوارث الطبيعية والبيئية، وكذا عن أحداث الشغب وعدم توفير الأمن للسكان، والأخطاء التي يرتكبها موظفوها.. وألزم القضاء الإداري هذه الجهات بالتعويض جبرا لكل ضرر وحماية للحقوق.

5 – الأساس القانوني للتعويض عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات: يمكن إجمال الأدلة القانونية وفصول مواد القانون التي تؤطر مسألة التعويض وتقديره في ما يلي:

في ما يتعلق بالدستور: فإنه وردت به عدة فصول تسير في اتجاه إرساء دعائم مجتمع متضامن يتطلع فيه الجميع إلى الأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة. وردت هذه الكلمات في تصدير الدستور، وأهم فصول الدستور المتعلق بفكرة التضامن الوطني هو الفصل 40 الذي ينص على أن “على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد”، فكلمة “الجميع” تعني جميع أشخاص القانون العام، أي الأحزاب السياسية والنقابات وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والمحسنين والمحسنات وكل أبناء الشعب الذين عليهم أن يتضامنوا مع المتضررين كل حسب قدرته وطاقته للمساهمة في إعادة الإعمار والتأهيل للبنية التحتية وتعويض ما يمكن تعويضه. ولا مجال في مثل هذه الكوارث للمزايدات السياسية كما نشاهد في البرلمان وعلى أعمدة وصفحات وسائل الإعلام، ولا مجال للرقص على جراحات الآخرين من أجل كسب الأصوات في الانتخابات؛ بل الأمر أدهى وأكبر من السياسة والسياسيين، الجانب الإنساني يجب أن يحضر وبقوة بعيدا عن السياسة والصراع الإيديولوجي والتراشقات السياسية بين المعارضة والأغلبية.

ويحمل الفصل 93 من الدستور، كذلك، كافة الوزراء مسؤولية ما وقع، كلٌّ حسب القطاع المكلف به في إطار التضامن الحكومي (التعليم، الصحة، التجهيز، الداخلية،…)؛ أما الفصل 136 من الدستور فينص على فكرة التضامن والتدبير الحر واعتبارهما من مرتكزات التنظيم الجهوي والترابي، وعلى كل السلطات المحلية تأمين مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة.

كل هذه النصوص وغيرها يمكن اعتمادها أساسا للتضامن من أجل تعويض الضحايا عما أصابهم من أضرار من جراء الفيضانات.

يضاف إلى تلك المواد الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود كما سبقت الاشارة اليه والفصل 8 من القانون المحدث بموجبه المحاكم الادارية.

6 – كيفية تقدير التعويض:

إن القضاء الإداري، وفي كل نازلة على حدة، لا محالة سيلجأ في تقدير التعويض إلى خبرات فنية لتحديد قيمة الضرر الحاصل بناء على مقتضيات المادة 63 من المسطرة المدنية وما يليها، كما فعل لما غمرت المياه المنحدرة من وادي سبو إحدى الضيعات التي تملكها الفلاحون عن طريق الكراء طويل الأمد من الدولة، وتضررت هذه الضيعة، فأمر القاضي الإداري بانتداب وتعيين خبير فلاحي في الغرس والفلاحة، وذلك من أجل تقدير حجم الضرر الذي لحق ضيعات المدعين وتحديد أمده وتكلفة إعادة تشجير المساحة المشجرة المتضررة. هذا النوع من الخبرات الفنية يكون أرضية أساسية للتعويض جبرا للأضرار الحاصلة، وللسلطة القضائية حق التقدير والحق في تشطير المسؤولية من أجل تحميلها الدولة والمتضرر كل حسب تقصيره وتفريطه وإهماله.

فكل مواطن ثبت تهوره رغم وجود تشوير، وما يفيد -مثلا- بأن الطريق مقطوعة ورغم ذلك تجاوز الحدود، فقد يحمله القضاء مسؤولية إهماله وتهوره. وفي نوازل ذوي الحقوق، فإنه يتم الاستناد إلى وثائق الملف وعدد أفراد أسرة الهالك وحجم المدخول الذي حرموا منه جراء وفاة مورثهم، وحجم الضرر الذي أصاب العائلة التي حرمت ممن يعولها جراء وفاة رب الأسرة نتيجة الفيضانات، وظروف وملابسات القضية..

خــــاتمـة:

يمكن إجمال الحديث في أن الكوارث الحاصلة مؤخرا نتيجة الفيضانات تتحمل فيها الدولة والجماعات الترابية مسؤوليتها، وهي بذلك ملزمة بتعويض الضحايا عن الأضرار الناجمة عنها استنادا إلى نظرية المخاطر والخطإ المصلحي الموجب للتعويض، وكذا عدم القيام بصيانة منشأة عمومية، وفكرة التضامن الوطني الواردة في الدستور.

مع الإشارة إلى أن ما تقوم به حركة المجتمع المدني من عمل إنساني خيري، وما يقدمه المحسنون من دعم مادي للمتضررين، وكذا الهبات والمساعدات الملكية، كل ذلك لا يعفي الدولة والجماعات الترابية من مسؤوليتها عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات وتعويض الضحايا جبرا للضرر الحاصل.

بقلم ذ عبـد ‬المالك ‬زعزاع
محام ‬بهيئة ‬الدار ‬البيضاء

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.