دراسة قانونية في مدى دستورية مشروع اللقاء الأرثوذكسي لقانون الانتخابات النيابية في لبنان

نديم يوسف البستاني

انها الأيام السوداء ، ما أكربها ! يخيم على الألباب ادعاء ظاهري بالانفتاح ويتفشى تعام مقصود عن التصارح. أما النفوس فتسودها المحاولات الجوفاء لارساء المجاملة الخادعة بدلا من التصالح الصادق مع الذات.
بتكبيل الفكر النير و اسقاط العقلنة و تغييب النوايا الحسنة و طمس القاعدة المبدئية المعترفة بالحرية ، أي شعب و أي عقد اجتماعي و أي دستور وأي دولة تبقى؟

إنه لون جلدتنا ، أن نكون تعددين في لبنان . فلا يحاولنّ أحد أن يزرع فينا عنصرية خبيثة ضد جلدتنا، فالتعددية ليست مقيتة بل انها نعمة سامية جلل … “فليحل السلام إذن، ناشدتكم الله! و لتعش مختلف أديان البشر جنبا الى جنب…متحملا بعضها بعضا. لا ينبغي أن يسود شيء على هذه البسيطة في غياب نقيضه: لا ينبغي لأية قوة أن تقضي على القوة الأخرى. فانسجام البشرية انما ينجم عن بثها الحر لأشد الأنغام نشازا… لوكريس و القديسة تريزا، ارسطوفانوس و سقراط، فولتير و القديس فرانسوا داشيز، رفاييل و فنسان دو بول، يتساوون جميعا في حقهم في الوجود. و البشرية تنتقص وجودها إذا فقدت عنصرا واحدا من عناصر تركيبها…”[1]voted

ان لبنان طوال تاريخه كان دولة الطوائف و سيظل على هذه الحال الى أن تزول المبررات الاجتماعية التي دفعت بالمكونات البشرية في هذه النقطة من الشرق كيما تحافظ على وجودها الحر و الفاعل أن تتجه نحو الخصوصية الحياتية و السياسية . فقامت الدولة على أساس تعددية المجتمعات المكونة للشعب الواحد. فالشعب، المكون الاول من مكونات الدولة، هو مفهوم قانوني يقاس عبر معيار الجنسية التي تربط الدولة بمواطنيها  و تثبت انتماءهم لها [2].
و هو (الشعب ) ليس من الضروري أن يتكون بشكل تراكمي بسيط على أساس وحدة الفرد، بل يمكن في كثير من الحالات أن تحصل عملية تكوين شعب الدولة الواحدة بشكل تجمعي مركب على أساس الوحدة المجتمعية ، كما هي الحال في لبنان. [3].

و قد مرت علاقة الطوائف ببعضها بتقلبات مختلفة و بتواصلات جدلية متفاعلة عبر تطور التاريخ منذ عهد الامارة حيث لم يكن وجود للبنان بمفهومه كدولة لا من قريب و لا من بعيد، و حتى أن الامارة لم تكن مربوطة بتسمية لبنان بل كانت تعرف بالامارة الدرزية  و مركزها جبل الدروز [4]. فكان الطابع الطائفي هو الدافع الأكثر زخما للحراك السياسي الوطني ناقلا اياه من حالة الركود الاقطاعي نحو حالة بروز الدولة اللبنانية . و لكن الصدمات و القتال و الويلات و الحروب كانت تقع في كل مرة اندفعت العملية السياسية بشكل تجاوزي متخطية قاعدة احترام التعددية و الخصوصيات المجتمعية. بحيث أنه بدأت أركان الامارة تهتز بعدما أطاح الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير المعتنق للمذهب الماروني بالأمير بشير جنبلاط أكبر أعيان الدروز ، و قد أتبع أمير الجبل خطوته تلك بمحاولة فرض مركزية شديدة حاصرا كافة الصلاحيات التي كانت تتوزعها الطوائف عبر أعيانها ، جامعا اياها بيده متحكما وحده بفرض الضرائب و سفر برلك و ضبط التسلح [4-5] .

و اكتمل المشهد المتزعزع بنفي الأمير بشير الثاني ثم تبعه نفي الأمير بشير الثالث أخر أمراء آل شهاب المتنصرين عام 1842 ، مما ترك حسرة في نفوس الموارنة لتراجع دورهم في الحكم الذاتي على مناطقهم امام اعادة هيمنة السلطنة العثمانية من جديد على شؤونهم مع ما ترافق من تقلب في الوضعية الدرزية بين موالاة السلطنة و مناهضتها في ظل الهدف لتعزيز مكانتهم في الحكم و اعادة نفوذهم الى سابق عهده على حساب الموارنة . الى أن أعقبه في العام 1843 حلا للنزاع على أساس نظام القائمقاميتين حسب ما أوعز به رئس وزراء النمسا الفيلسوف ميترنيخ و الذي أبدى منذ ذلك الحين ملاحظاته حول الوضع اللبناني التي صبت باتجاه النظام الفدرالي بين الطوائف ليكون أساس الحل لصيغة الحكم في جبل لبنان. و بصدد التقاتل و القلاقل الطائفية المتزايدة طرح شكيب أفندي وزير خارجية السلطنة العثمانية في العام 1845 اصلاحاته للوضع القائم عبر انشاء مجلس ادارة مكون عن ممثلين من الطوائف التأسيسية في كل من القائمقاميتين ليعاون القائمقام في شؤون حكم كل من منطقتي جبل لبنان الذي تكرس بهذه الوضعية للمرة الأولى في تاريخه بكيان سياسي سيكون النواة لتأسيس دولة لبنان فيما يلي [7].

و لكن هذه التركيبة المتمثلة بنظام القائمقاميتين أبقت النار تحت الرماد لأنها لم تراعي قيام فدرالية حقيقية على أساس المجتمعات الطائفية ، انما كانت مجرد قسمة جغرافية بين منطقتين يفصل بينهما طريق الشام دون مراعاة لانتشار المسيحيين في القائمقامية الدرزية أو غيرها من المجموعات البشرية ذات الخصوصية و توجب اقران صيغة السلطة بهذا التواجد المجتمعي [8].

و ظل الوضع الهش مستمرا حتى أن حلت الضربة التي فقأت الدملة، ببروز طانيوس شاهين الذي قاد ثورة الفلاحين الموارنة ضد الاقطاع في كسروان، عند امتداد الحركة الشعبية الاجتماعية الى القائمقامية الجنوبية سنة 1859 حيث تحولت الى نزاع طائفي بفعل كون رجال الاقطاع في هذه المنطقة هم من الدروز و قد شعروا و يلفهم شعبهم أن في هذه الفورة اعادة تعد على سلطة الدروز في الجبل و دورهم في الحكم [9] . فما لبثت أن توسعت رقعة الأحداث حتى اشتعلت البلاد من جديد واقعة في حرب دموية  ليتم تسويتها فيما بعد عبر تأسيس متصرفية جبل لبنان سنة 1861 بحيث كان ينظم شؤونها مجلس ادارة من اثني عشر عضوا يمثلون الطوائف الست الكبرى بشكل متوازن بين المسيحيين و المسلمين [10].

استمر الوضع على صعيد تكوين السلطة على هذه المراوحة حتى سقوط السلطنة العثمانية و اعلان دولة لبنان الكبير الذي قوبل برفض واسع من الفئات الاسلامية التي كانت تطالب بالانضمام الى سوريا لتخرج من الهيمنة المسيحية المتحالفة مع الانتداب الفرنسي [11].
و مع زوال الانتداب تحقق تثبيت الدولة المستقلة حديثا عبر عقد اجتماعي تم على مستوى القادة يعكس حالة الثنائية المسيحية – المسلمة التي تبنت الكيان اللبناني و قيام الدولة السيدة فيه ، و هذا ما يعرف بالميثاق و الذي يغدو كونه روح الدستور، بحيث يجب فهم كل مادة من مواده في ظل و وحي هذه الثنائية الميثاقية المسيحية – المسلمة .
و بعد تحقق الاستقلال و سير عجلة الدولة بدأت الفئات المسلمة تشعر بالغبن جراء تفرد المسيحيين بالسلطة عبر ما عرف بالمارونية السياسية ، فكانت خضات مختلفة ابرزها في الأعوام 1952 ، و 1958 ، و 1973 و 1975 حتى عام 1989عند اقرار اتفاق الطائف  الذي وضع المبادئ العريضة للخروج من الازمة و تم بلورته بواسطة التعديلات الدستورية في العام 1990 التي أتت لتنصب في ما يعرف بقالب الاصلاحات السياسية لاعادة توزيع  السلطة بين الثنائية المسيحية – المسلمة بشكل عادل و مساواتي ضمن اطار تثبيت المناصفة، التي تراعي التعددية الطوائفية داخل كل فئة من الفئتين التي يقوم عليها الميثاق، و هو ما غيره التي نصت عليه الفقرة -ي- من مقدمة الدستور بأنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

يتوجب بالتالي لزاما، مقاربة أي سلطة و أي قانون انطلاقا من هذا المفهوم و هذا الجوهر، و كيف بالحري اذا كنا نتعاطى مع قانون الانتخابات النيابية الذي ينبثق  بواسطته السلطة التشريعية ، و التي تتشعب عبرها كل السلطات الباقية في الجمهورية  اللبنانية.
فاذا و تأسيسا على هذه المقدمة سنتطرق فيما يلي الى البحث  في” مشروع اللقاء الأرثوذكسي ” لقانون الانتخابات النيابية لتبيان مدى انطباقه على على أحكام الدستور اللبناني ، و لا سيما أنه الامثل لتأمين السلام الاجتماعي للطوائف اللبنانية عبر الاعتراف بخصوصيتها بشكل لا يستتبع أي تعدّ من أي مكون اجتماعي على الآخر.

و الا في العكس سيكون الانفجار. بحيث و اضافة على ما تقدم من سرد تاريخي يصب في مجرى التوكيد على صوابية هذا “المشروع”، نستزيد بالاستناد على النظرية العامة التي وضعها العلامة القانوني الكبير ليون دوغي الذي كتب أنه :
“من الملاحظ تاريخيا أن الصراعات الطبقية تكون أقل حدة في المجتمعات التي تتصف طبقاتها بأنها أكثر تباينا، و أشد خصوصية من الناحية القانونية. ففي هذه الحال تنشأ بين الطبقات تبعية متبادلة، مما يخفف الصراعات المجتمعية الى حدها الأدنى و يحمي الفرد المنخرط ضمن جماعته حماية شديدة، سواء من مطالب الطبقات الأخرى أو من تعسف السلطة المركزية …” [12].

1)     في النقطة الاولى سنتطرق الى البحث حول مدى امكانية مخالفة اتفاق الطائف عبر تقسيم الدوائر الانتخابية كما هو وارد في مشروع اللقاء الأرثوذكسي .

ان اتفاق الطائف هو شكل الحل السياسي الذي تم القبول به، فوافق عليه النواب الذين كانوا يشاركون في المؤتمر و ثم عاد و صادق عليه مجلس النواب قبيل انتخاب الرئيس رنيه معوض في الجلسة المعقودة في مطار القليعات العسكري في منطقة عكار شمالي لبنان بتاريخ 5/11/1989.

و لكن هذه المصادقة ذو طابع سياسي ، و ان كانت صادرة عن مجلس النواب   لا قيمة تشريعية لها اذ أن المجلس لم يكن يمارس دورا تشريعيا خلال هذه الجلسة، فلم يقترن هذا العمل بتوقيع رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة و لم ينشر في الجريدة الرسمية . ثم أنه بتاريخ 21/9/1990 تم انفاذ اتفاق الطائف باجراء التعديلات الدستورية اللازمة، فتمت دون أن تتبنى عدة مواد و منها مسألة تقسيم الدوائر فيكون الدستور قد ترك هذا الاختصاص للقوانين العادية دون الزام و لا تقييد، و الا كان ذكر ما هو وارد في اتفاق الطائف بدلا من التعمد باسقاطه ، ما يغدو دليلا واضحا على ارادة الدستور الجازمة باتجاه هذا الأمر.

و في ضوء عدم حيازة اتفاق الطائف اي قيمة دستورية او قانونية ، انما قيمته هي سياسية يجب فهمها باطارها الواسع و العريض [13-14].
فتصبح بالتالي صياغة اي قانون غير ملزمة بتحديد الدوائر كما ورد في اتفاق الطائف ( أي المحافظة بعد اعادة النظر بالتقسيمات الادارية ) انما يقتضي فقط التقيد بأحكام المادة /24/ من الدستور التي تنص أنه :
” يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم و كيفية انتخابهم وفاقا لقوانين الانتخاب المرعية الاجراء. و الى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية : أ- بالتساوي بين المسيحيين و المسلمين. ب- نسبيا بين طوائف كل من الفئتين. ج- نسبيا بين المناطق. و بصورة استثنائية، و لمرة واحدة، تملأ بالتعيين…”
و للتاريخ نذكر أن قانون الانتخابات للعام 1992 كان قد رفع عدد النواب الى <<128>> بما يخالف اتفاق الطائف الذي ينص أن يكون العدد <<108>>.

2)    في النقطة الثانية سنتطرق الى البحث حول مفهوم ميثاق العيش المشترك الذي تنص الفقرة -ي- من مقدمة الدستور على ضرورة توفره في أية سلطة تتوخى المشروعية، و حول مدى انطباق “المشروع” على هذه الفقرة .

تنص الفقرة -ي- من مقدمة الدستور على أنه: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” .
ففي هذه الفقرة يجب التركيز على مصطلحين هما كلمة “الميثاق” و كلمة “العيش المشترك”، و يجب فهم المقصد الدقيق وراء استعمالهما .
فالعيش المشترك يعني عيش اللبنانيين لحياتهم بشكل تآلفي بين المكونيين الاساسيين  للشعب اللبناني المتمتعين بخصوصيتهما السياسية و هما يشكلان الثنائية المسيحية – المسلمة.
و أما الميثاق فهو هذا الاتفاق الذي تم بين هذه الثنائية و انطلاقا من خصوصية كل مكون و حفاظا عليه من أجل تأسيس الدولة اللبنانية و حكمها بشكل طوائفي اتفاقي، اذ اتجه غالبية راجحة من الفقهاء الى تفسير الميثاق على أنه تسوية طائفية على المشاركة في الحكم  و الادارة، و من ألمع هؤلاء المفكرين نذكر بيار راندو و و يوسف يزبك و ادمون رباط و انيس الصايغ و البرت حوراني و كمال الحاج وميشال شيحا وأيضاً المفكر الماركسي مسعود ضاهر [15].

فيكون المقصد الواضح لهذه الفقرة أن أي سلطة في الدولة تكوينا و ممارسة تناقض هذا الميثاق المسيحي-المسلم في ممارسة السلطة و تشكيل الدولة و الاستفادة منها والخضوع لسلطانها، تكون فاقدة للشرعية الدستورية.
فإن أي صيغة لتشكيل السلطة تنطلق من مفهوم العيش الواحد، أو العيش الانصهاري، هي مناقضة بشكل فاضح للدستور لأنه بكل بساطة كان بإمكانه النص على العكس الا أنه استعمل عبارة ميثاق العيش المشترك .
و بالتالي يكون “المشروع” عبر اتاحته للطوائف بالمشاركة بالسلطة بشكل صادق و عادل بما يؤمن المساواة و المناصفة الفعلية فيما بينها يكون أكثر ما يراعي الفقرة -ي- من مقدمة الدستور .

3)    في النقطة الثالثة سنتطرق الى البحث حول معنى المناصفة المنصوص عليها في المادة /24/ من الدستور في توزيع مقاعد مجلس النواب .

ان المادة /24/ من الدستور تنص في فقرتها الثانية على أنه:
“ و الى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية : أ- بالتساوي بين المسيحيين و المسلمين. ب- نسبيا بين طوائف كل من الفئتين. ج- نسبيا بين المناطق.”

و بالتالي ان النص على الزامية المناصفة في توزيع المقاعد النيابية يجب أن يخدم هدفا معينا و الا كان النص بلا فائدة و مجرد ذكر تقسيم حسابي خارج عن الواقع . فالحقيقة أن الشعب اللبناني تحكمه قاعدة الميثاقية الثنائية للمشاركة في الدولة .
و من خلال هذه المادة يكفل الدستور لهذه الثنائية أن تكون متساوية مناصفةً فيما بينها في احتلال المراكز في السلطة ، و الا اذا كانت هذه المراكز قابلة للاحتلال دون اعتبار للمكون الذي يحتلها فما تغدو العبرة عندها من تكبد العناء و قسمة مقاعد مجلس النواب بين الطوائف بشكل اسمي و حسب؟!

و في ضوء معرفتنا أن الدستور بعد تعديله في العام 1947 لم يعد ينص على عدد النواب و لا على أية طريقة لتوزيعهم، فقد كان بالامكان من احلال المناصفة الشكلية في المقاعد بعد اتفاق الطائف بمجرد تعديل قانون الانتخاب فقط، اما و أن ارتقى الأمر و تم ذكر المناصفة بين المقاعد في الدستور بعد تعديله  عام 1990 فيجب عندها فهم هذه المناصفة كونها مناصفة فعلية تحترم قاعدة الميثاقية في تشكيل السلطة.

و بما أن “المشروع” هو قانون انتخابي للطوائف الثماني عشرة نسبيا فيما بينها ضمن المناصفة المسيحية-المسلمة و على أساس لبنان دائرة واحدة يكون قد أمن قاعدة النسبية بين الطوائف و قاعدة النسبية بين المناطق دون ضرورة الدخول بتوزيع جغرافي كون هذه الحيثية الجغرافية ستتمثل طبيعيا بمجرد اعتماد النسبية . و بالتالي يكون هذا “المشروع” قد راعى  المادة /24/ من الدستور و لا سيما قاعدة المناصفة شكلا و مضمونا .

4)    في النقطة الرابعة سنتطرق الى البحث حول ما اذا كان “المشروع” يخرق المساواة و يثير تمايزا أو تفضيلا أو فرزا بين الشعب اللبناني بما يناقض والفقرة -ج- و -ط- من مقدمة الدستور والمادة /7/ منه أيضاً.

ان الميثاق المؤسس للدولة اللبنانية منذ الاستقلال حتى يومنا الراهن و الذي هو روح الدستور اللبناني كما قلنا ، فهو بذاته يقيم تمايزا بين اللبنانيين على أساس الثنائية المسيحية-المسلمة المكونة للشعب اللبناني، و لكن هذا التمايز لا يجب أن ينظر اليه الا من وجهه الايجابي لأنه أتى بعيدا كل البعض عن العنصرية  و التفضيل و أي مضمون سلبي آخر بل جل دوره هو لتكريس الخصوصية للسماح للمكونات اللبنانية أن تعيش دورها الفاعل بحرية.

كما و من ناحية ثانية إن المادة /24/ من الدستور كما و المادة /95/ منه توجد تمايزا على صعيد مراكز السلطة (و العرف الدستوري أيضا أسهم بهذا التمايز على صعيد الرئاسات الثلاث )، فلماذا لا يفهم من هذا الأمر أن الدستور سمح بالتمايز الايجابي في كيفية انشاء السلطة على الصعيد الشعبي (أي قاعدة الهرم في عملية تكوين السلطة) و خاصة أن الفقرة -د- من مقدمة الدستور تنص أن الشعب هو مصدر السلطات و صاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية .
و الا اذا كان الحال أن تكون السلطة مشكلة على أساس تمايز في المراكز دون أن يكون هناك تمايز على صعيد القاعدة الشعبية في عملية تشكيل هذه المراكز في السلطة ستصبح عندها هذه السلطة في وضعية انفكاك عقدي مع مصدرها. فالتعددية في تركيب السلطة يجب أن تعكس لا بل أن تنبثق عن تعددية شعبية بحيث يكون من المفروض على أي قانون ينظم عملية الانبثاق هذه كقانون الانتخابات النيابية أن يحترم قاعدة التعددية الشعبية المصدّرة للسلطة التعددية .

و اذا أردنا أن نستطرد نقول أن الدستور يتكلم عن ضرورة التوجه نحو الغاء الطائفية السياسية في الفقرة -ج- من مقدمته و المواد /22/ و /24/ و /95/ منه ، و ذلك في ضوء التشديد على ميثاق العيش المشترك المنصوص عليه في الفقرة -ي- من مقدمته . مما يعني أنه يجب أن يكون العمل على الغاء الطائفية السياسية نابعا من صميم عقد اجتماعي طوائفي لا يستطيع أن يعكسه بشكل حق الا مجلس نيابي يمثل الطوائف بشكل أمين ، فتكون له الصلاحية  أن يتنازل عن الامتيازات الطائفية الذي أحاطه بها الدستور لوضعها في آلية تركن لها الطوائف . مما يسمح أن تأتي السلطة فيما بعد خارج القيد الطائفي بعد أن تأمنت مقتضيات ميثاقيتها ضمن هذه الآلية المبتكرة.

و هذا بالضبط، ما يقتضي الاشارة اليه عند صياغة أي قانون انتخابات يراعي التعددية بحذافيرها و لو على سبيل عدم تأمينه للمساواة الكاملة بين اللبنانيين من ناحية الكم في قدتهم على انتخاب أعداد متفاوتة من النواب، فيذكر عندها صراحة في النص :
” إن هذه التقسيمات للدوائر الانتخابية انما أتت بشكل استثنائي و مؤقت في انتظار الاتفاق على الصيغة المناسبة التي يستكمل بموجبها الغاء الطائفية السياسية دون المس بميثاق العيش المشترك عملا بأحكام الدستور .”
و نستند في تعزيز رأينا في هذا الاتجاه على القرار الصادر عن المجلس الدستوري رقم 4/1996 الذي فصل في خصوص طعن بقانون الانتخابات آنذاك الذي لم يساوي في المعايير المعتمدة في تقسيم الدوائر الانتخابية اذ أورد من ضمن حيثياته التالي ” و حيث أن القاعدة الديموغرافية في تقسيم الدوائر الانتخابية ليست قاعدة مطلقة، اذ يبقى للمشرع أن يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات المصلحة العامة التي من شأنها التخفيف من قوة هذه القاعدة الاساسية، كما يمكنه بصورة ضيقة ، الخروج عن مبدأ المساواة ، مراعاة لأوضاع و ظروف خاصة استثنائية …
و حيث أن قانون الانتخاب رقم 530/1996 في المادة الثانية الجديدة من مادته الأولى ، عندما اعتمد معايير مختلفة في تقسيم الدوائر الانتخابية دون أن يلحظ أن ذلك حاصل على سبيل الاستثناء من القواعد العامة، و لأسباب ظرفية يراها المشترع متصلة بالمصلحة العامة العليا ، و ان لم يأت على تبريرها ، يكون قد أخل بمبدأ المساواة أمام القانون، مما يقتضي بالتالي ابطال المادة الثانية الجديدة المذكورة.” [16]

و بالفعل عاد مجلس النواب و أقر القانون مضمنا اياه هذه الديباجة و مبقيا على الخلل في تقسيم الدوائر و على عدم المساواة بين المواطنين دون أن يفتقد للدستورية ، طالما أن هذه الحال انما ترد على سبيل استثنائي و مؤقت. و هذا بالتمام ما ينطبق على “المشروع” و لمبررات جوهرية  تتعلق في صميم الشعب اللبناني.

أما بالنسبة لمسألة ما اذا كان هذا “المشروع” يستتبع “فرز” الشعب اللبناني الذي حظرته الفقرة -ط- من مقدمة الدستور فإن الرد البسيط أن هذه الفقرة إنما أتت لتتكلم على أن ” أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين…” ، و بالتالي إن الفرز المقصود بهذه المادة هو فرز للسكان على أساس جغرافي أو ما يعرف بالـ  “ghetto”، و هذا ما لا ينطبق بتاتا على المشروع الذي هو مجرد آلية تقنية لاختيار النواب من قبل الشعب المنتشر على كافة أرجاء الوطن.

5)    في النقطة الخامسة سنتطرق الى البحث حول ما اذا كان “المشروع” يخالف وجوب تمثيل النائب للأمة جمعاء وفق ما تنص المادة /27/ من الدستور .

إن المادة /27/ من الدستور تنص أنه: “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء، و لا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه.”
و المقصد الأساسي من هذه المادة هو ارساء مبدأ الوكالة المطلقة و رفض مبدأ الوكلة المقيدة بحيث يصبح النائب شديد الارتباط بالمجموعة التي انتخبته أو الحزب الذي أدى الى وصوله مما يدفع به أن يجنح عن دوره في التجرد و العمومية في التشريع.

ثم إن مقدمة الدستور في الفقرة -د- منها تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات و لم تقل أن الأمة هي مصدر السلطات ، بل اكتفت بأن جعلت النائب ممثلا لها و هذا ما يدفع الى وجوب البحث عن مفهوم الأمة و ما مقصد الدستور منها .
فالأمة هي مفهوم معنوي يجسد تطور شعب معين نحو الحياة المجتمعية و السياسية المشتركة بحيث تتشكل له خصوصية ذاتية تميزه عن سواه. و تشترك عدة عوامل مادية و غير مادية في انشاء هذه الخصوصية  كالعرق أو العنصر الواحد و اللغة الواحدة و الدين الواحد و الأرض الجغرافية الواحدة و المصالح الاقتصادية الواحدة و التاريخ الواحد و الارادة في عيش الحاضر بشكل مشترك . بحيث تكون هذه الخصوصية مادية كلما تقدم دور العوامل المادية ، و تكون روحية كلما تقدم دور العوامل الروحية في بلورة قيام الأمة [17].

و يغدو بالتالي من المستحيل على الأمة في هذا الاطار المعنوي لكينونتها أن تقوم بأي حراك سياسي عضوي كانتخاب نائب دون غيره، و لكنها بمفهوم العلم الدستوري تكون هذا الرمز غير الحسي الذي يجب العمل على حمل ارادته من خلال ممارسة السلطات في الدولة . و من هنا نشأ خلاف دستوري فلسفي كبير بين المدرسة الفرنسية التي كانت تنادي بنظرية التمثيل بحيث كانت تفرق بين ارادة النائب و ارادة الأمة، و من جهة أخرى المدرسة الألمانية التي لم تكن تفرق بين ارادة النائب و ارادة الأمة و تقول بنظرية العضوية ، و هما قد لاقيا انتقادات كبيرة أدت الى تراجع دورهما في العلم الدستوري، بحيث بات الانتخاب في الديمقراطيات الحديثة، شكل الوسيلة الفنية العملية، التي تمكن الرأي العام ، أي الشعب ، من المساهمة في توجيه الدولة، توجيها ملائما لرغباته و احتياجاته  [18].

و الغاية من وراء هذا التفسير المقتضب هي للقول أن الدستور لا يتكلم عن مبدأ تمثيل الأمة من منطلق عملية اختيار النائب وفق آلية انتخابية أو أخرى و لو مهما كان معيار تقسيمات الدوائر، بل يتحدث على هذا المبدأ من منطلق الدور و الموقع الذي يقتضي بالنائب أن يلعبه في صفوف السلطة .

و على سبيل تعزيز كلامنا النظري نطلق الأمثلة الحسية التالية اذ نذكر أن المادة /21/ من الدستور تسمح فقط بالاقتراع لمن بلغ <<21>> سنة من العمر و ما فوق، و رغم ذلك يبقى النواب المنتخبون حائزين على صفة تمثيل الأمة جمعاء .
و أيضا ان المادة /24/ من الدستور قبل تعديلها عام 1943 كانت تنص أن بعض النواب يؤتى بهم بواسطة التعيين من قبل رئيس الجمهورية و نفس الحكم تم استعادته في دستور 1990 انفاذا لاتفاق الطائف حيث تم النص على أن تعين حكومة الوفاق الوطني المقاعد الشاغرة ، هذا مع العلم أن المادة /27/ من الدستور التي تنص على أن النائب يمثل الأمة جمعاء هي من المواد الأساسية من الدستور التي لم تتعدل منذ 1926 ، و مع العلم أن كل هذه الاجراءات لم تعتبر مخالفة لها .
و نذكر أنه في كافة القوانين الانتخابية التي شهدتها الجمهورية اللبنانية منذ 1926 حتى اليوم كان هناك الكثير من الدوائر لا يتوافر ضمن الكتل الناخبة المؤلفة لها وجود لجميع الطوائف، ناهيك عن أن تقسيمها كان يكون على اطار جغرافي مجتزأ، فرغم ذلك لم يعتبر ازاء هذا الوضع أن النائب المنتخب على أساس الدائرة الجغرافية المحددة بكتلتها الناخبة المحصورة، أنه يفتقد لصفة تمثيل الأمة ، فما الفارق مع تقسيم الدوائر على اطار طوائفي .

ناهيك عن أن المرأة اللبنانية لم تكتسب حق الاقتراع الا في العام 1952 و رغم ذلك لم يشكك في صفة تمثيل النواب للأمة مع اليقين أنه لا يقدر أحد أن ينكر دور المرأة العضوي و الالزامي في تكوين أي أمة !!!
و بالتالي يكون “المشروع” مطابقا للمادة /27/ من الدستور لأنه لم يتطرق لا من قريب و لا من بعيد الى اعطاء أدوار متمايزة للنواب تختص بطوائفهم انما شدد على دورهم الوطني الجامع الذي يؤمن بواسطة آلية الاقتراع الذي يدعو اليها .

6)    في النقطة السادسة سنتطرق الى البحث حول ما اذا كان “المشروع” يناقض الاعلان العالمي لحقوق الانسان المنصوص على التزام أحكامه في الفقرة –ب- من مقدمة الدستور .

إن الشعب اللبناني يتكون من الطوائف المتنوعة التي خرجت من طابعها الديني الحصري لتؤلف مجتمعات متعددة متراصة في داخلها و متآلفة فيما بينها .
و هذا الواقع المتحكم في قيام الدولة اللبنانية يشهد له مثيلا في كثير من دول العالم وأكثر  ما تتوضح الصورة في الدول ذات التنظيم الفدرالي. فهذا الأمر لا تضيره المواثيق الدولية و الاعلان العالمي لحقوق الانسان، و لا سيما أن البعض من هذه الدول التي تحترم الخصوصية الاجتماعية هي رائدة في مجال الحريات و حقوق الانسان و هي المدافع الأول عنها.

و القول أن المادة /2/ من الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما غيرها من المواثيق الدولية التي يلتزمها لبنان تكرس المساواة بين المواطنين دون أي تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، لا يمكن تفسيره أنه يقف سدّا مانعا في وجه الاعتراف بالخصوصية المجتمعية .
فالتمييز المقصود هو تمييزا سلبيا و الا لو كان الأمر شاملا لكل خصوصية على السواء لكان هذا الحكم يصطدم بالدستور اللبناني ما غيره الذي يعترف بحق الطوائف في التمايز الإيجابي فيما بينها في وضع نظم الأحوال الشخصية الخاصة بكل منها و حماية المصالح الدينية العائدة لكل منها على اختلافها بين طائفة وأخرى.

فعند الاعتراف بالمجموعات البشرية و بحقها بالاختلاف و التنوع و التعدد وبحيازة  حقوق سياسية انطلاقا من خصوصيتها نكون نلاقي الحرية و الحقوق الانسانية بكل أبعادها و لا نكون نقع في التمييز لأن التمييز يستند على فكرة فوقية متطرفة تعمد الى قمع الآخر و الاستيلاء عليه و استيعابه وقسره.

أما التمايز هو مجرد السماح بالحق بالاختلاف أكان على أساس فردي أو على أساس مجتمعي و ببلورة هذا الاختلاف الايجابي التنوعي الإثرائي بكافة مناحي الحياة و لا سيما السياسية، و هذا ما ينص عليه قسم كبير من المواثيق الدولية ولا سيما  ميثاق الأمم المتحدة و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية حيث ينصان في المادة الأولى بكل منهما على حق الشعوب في تقرير مصيرها.

و بما أن “المشروع” ينطلق من المبدأ الراسخ بنهائية الوطن اللبناني لجميع أبنائه ولا بل أكثر ما يرتكز اليه هو الميثاق و العيش المشترك لتعزيز الكيان و تحصينه في وجه الأخطار ، يكون عبر اعتماده لتقنيته الانتخابية المطروحة التي تسمح للطوائف – المجتمعات ببلورة نفسها يلاقي الدستور عبر كامل معانيه، و هذا أكثر ما يحقق الحرية في كافة مقتضياتها نابعا من صميم الاعلان العالمي لحقوق الانسان و كافة المواثيق الدولية التي تبناها الدستور في الفقرة -ب- من مقدمته.

و لا نجد خاتمة لبحثنا أفضل من التأمل بالكلام الذي وجهه البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني لما زاره الوفد النيابي في 29 أذار 1985 برئاسة دولة الرئيس حسين الحسيني للتباحث حول كيفية الخروج من الأزمة اللبنانية ، اذ قال : “إن احترام حقوق كل طائفة من الطوائف و تقاليدها و خصوصياتها ينبغي أن يكون الطابع الفريد للهوية اللبنانية.” [19]

——————————————————————————————-

1-  ارنست رينان، الرسالة، مقدمة، الأعمال الكاملة، الجزء الرابع، ص 470

2- ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام،ج2، دار العلم للملايين ط1 سنة 1965، ص 22

3- ادمون رباط، التكوين التاريخي للبنان السياسي و الدستوري، ج2، منشورات الجامعة اللبنانية، ط 2002 ، ص 926

4-  كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، ط4 سنة 1978 ، ص 12

5- أنطوان نجم، دولة لبنان الاتحادية ، ط1 سنة 2007، ص 21

6- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، مرجع مذكور ، ص 72 و 73

7- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث ، مرجع مذكور ، ص 107

8- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث مرجع مذكور ، ص 97

9- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث ، مرجع مذكور ، ص 122 و123

10- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث ، مرجع مذكور ، ص 148

11- زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني ، ج 1، ط 2006 ،
ص 136 و 137 و 138

12- النقابية ،في المجلة السياسية و البرلمانية، حزيران 1908، ص 479، نص مذكور عند أ. إسمين، عناصر من الحقوق الدستورية…ط 7، باريس 1927،
مجلد 1، ص 59

13- فؤاد بيطار، مقالة منشورة في جريدة الديار اللبنانية بتاريخ 7/11/1996 ، نص مذكور عند أنطوان الناشف و فرج كرباج، الدستور و تعديلاته في لبنان ، ط 1999 ، ص 19

14- ادمون نعيم، مقالة منشورة في جريدة الديار اللبنانية بتاريخ 4/11/1996،
نص مذكور عند أنطوان الناشف و فرج كرباج، الدستور و تعديلاته في لبنان ، ط 1999 ، ص 24 – ( و في ختام مقالته كان الكاتب و هو من كبار العلماء في القانون قد طرح كمشروع لقانون الانتخابات النيابية بشكل يصلح الحياة السياسية و بدون أن يخالف الدستور، الطرح نفسه الوارد في مشروع اللقاء الأرثوذكسي)

15- زهير شكر ، مرجع مذكور، ص 264 حتى ص 275

16- قرار رقم 4/1996 مجلس دستوري ، منشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 9/8/1996، العدد 36 ، ص 2197

17- ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري، مرجع مذكور، ص 34

18- ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري، مرجع مذكور،
ص 357 حتى ص 364

19- ادمون رباط، التكوين التاريخي للبنان السياسي و الدستوري، مرجع مذكور، ص 969