ما هي وظيفة قانون العقوبات؟

كتب د. أحمد المغربي :

الفقيه الجنائي الايطالي انتوليزي (Antolisei) يقول إن القانون الجنائي هو المربي المهذِّب للشعب. في إطار هذا المفهوم نتساءل ما هي وظيفة قانون العقوبات؟ من الناحية النظرية والفلسفية والأكاديمية البحتة نقول إن وظيفة قانون العقوبات هي حماية المصلحة العامة، وحماية المصلحة الخاصة، وحماية ممارسة الحقوق والحريات الفردية والجماعية، كل ذلك في إطار التوازن بين تلك المصالح والحقوق والحريات، مع تقديم وتأخير وتضحية ببعضها خاصة الخاص منها، في سبيل صيانة المصالح العامة الأكثر شمولا في إطار التجرد والنزاهة والشفافية التي يكفلها الدستور نصا وروحا.

يصدق الفقيه الإيطالي في وصفه وتوصيفه لوظيفة قانون العقوبات، فلا نشك أن الدولة تبغي تربية الشعب من خلال نصوص التجريم التي تصوغها هي بحسب فكرها السياسي وواقعها التنظيمي وفلسفتها في العلاقة بينها كسلطات ثلاث وبين الشعب كمتلق لعملية التربية السياسية- الاجتماعية- الاقتصادية.

قانون العقوبات الأردني عمره الآن جاوز خمسين عاما، وقد كان أمينا جدا على صيانة متطلبات مرحلة ولادته، وهي مرحلة الفكر السياسي التنظيمي المتشعب، من قومي إلى يساري إلى بعثي إلى إسلامي بأطياف مختلفة إلى رأسمالي، إلى الفكر البنائي للتنظيم السياسي في دولة وليدة يكون همها الوحيد الأوحد توطيد دعامتها على الأرض بأي أسلوب. لذلك كانت عملية خلق النص القانوني الجنائي، وبالذات النص العقابي يوفر للسلطة التنفيذية أقصى درجات التحكم بحق وبغير، وللسلطة القضائية أقصى درجات الحرية في مراعاة متطلبات تلك المرحلة من حيث تأديب الأفراد بحق وبغير حق، ليكونوا في مواجهة أفكارهم، وأن ينساقوا مع توجه السلطة التنفيذية في تشكيل الناس قطعانا لا يعرفون إلا قول آمين.

ما زلنا نحكم بهذا القانون، وما زال النص العقابي يحتمل من التأويلات ما يمكن السلطة القضائية أن تسند أي فعل -حتى لو كان محميا دستوريا- إلى الشخص وتجرمه، لأن القانون، في ظنها، يسعفها في ذلك.

ولا نبتعد كثيرا عن إثبات قولنا، فهاهي المحكمة تحكم بعدم مسؤولية كل من التل ومحادين في قضية جاهدت أصابع كثيرة في إثباتها، ظنا منها أن هذا القانون المربي الذي يتوافق مع نظرتها إلى الشعب سوف يسعفها في إقصاء أي معارض، ولكن سلطة القضاء الرقيب (الذي يمثل الموجه التربوي الذي يراقب سير عملية التربية) كان في جانب مرتكزات التربية الحديثة لقانون العقوبات.

في بريطانيا حكمت محكمة ببراءة شخص لأنه أقدم على فعل مجرم في القانون، ولكنه لم يستطع أن يفهم من النص القانوني أن ما قام به يعد جريمة، وبالتالي فالنص غامض، وأي نص غامض في قانون العقوبات يعد مخالفا للدستور، ومخالفا لقاعدة في القانون الجنائي وهي العلم بالقانون، والعلم بالقانون لا يتحقق إذا كان النص غامضا، فاستدعى القاضي عددا ممن يوجدون في المحكمة وسألهم ماذا يفهمون من النص، فكانت إجاباتهم متفاوتة ومتغايرة ومتناقضة، فحكم بعدم مسؤولية الشخص لأن النص لم يكن يساعد في عملية التربية المنشودة.

وقانون العقوبات عندنا مليء بالمتشابهات التي لا يعلمها أحد، والمتناقضات التي لا تسعف من يريد أن يبتعد عن موطن مجابهته، لذلك هذه النصوص تحير. إليك بعض النصوص وقل لي ماذا تفهم منها، والمناقشة مناقشة الشخص العادي الذي وضع القانون على أساسه كمعيار (معيار الشخص العادي) لا على أساس التخصص القانوني:

مادة118/2: (من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تجزها الحكومة، من شأنها أن تعرض المملكة لخطر أعمال عدائية أو تعكر صلاتها بدولة أجنبية أو تعرض الأردنيين لأعمال ثأرية تقع عليهم أو على أموالهم). فهل يعني أن على من يقوم بعمل أو كتابة أو خطاب أن يذهب إلى الحكومة ثم تجيزه ليصبح مشروعا؛ وما هي الأعمال أو الكتابات أو الخطب التي تعكر الصلة بدولة أجنبية، خاصة أننا نرى في الدول الأخرى الكثير من تلك الأشياء تقال في الدول الأخرى وتعمل ولا تتم المحاسبة، لأن مفهوم تعكير الصلات بين الدول ما عاد له المفهوم الذي نطبقه نحن، وأضف هنا ما شئت من ملاحظات كثيرة وستكون صادقا.

مادة 150: (كل كتابة وكل خطاب أو عمل يقصد منه أو ينتج عنه إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة…). هذه المادة مليئة بالألغام القانونية التي تخفى على القانوني فكيف بالشخص العادي، خاصة أن التطبيقات القضائية لهذه المادة تحير وتدهش، ولو سألت أهل الأردن بملايينه الستة عن معنى النعرات الطائفية أو العنصرية ما سمعت إجابات متشابهة. وهناك الكثير الكثير.

ويقول الفقيه الجنائي الإيطالي أيضا: “إن سيف العقاب لا مقبض له ويجرح بالتالي كل من يستخدمه”، وهو يعني أن الاستخدام السيئ لقانون العقوبات يسئ لجميع الأطراف، ويتسبب في خسارات للأطراف كافة، لمن يستخدمه ولمن يستخدم ضده. وملك البلاد أكثر الأطراف استيعابا لهذه الحقيقة، وأكثر الأطراف تفهما لمطالب ومتطلبات هذه المرحلة من حياة البلاد والعباد، فهو عندما يأمر بالإفراج عن الصحفي علاء الفزاع يدرك تماما أن وظيفة قانون العقوبات التربوية القديمة قد تجاوزها الزمن، فنحن في عصر الانفتاح اللا محدود، والكلمة اليوم لا وطن لها ولا سماء ولا تحد بزمن، وما لم يكتب هنا يمكن بسهولة أن يكتب في آخر بقعة في الأرض، وآخر بقعة في الأرض لا تتجاوز كبسة زر في أي بيت.

إن تهمة (العمل على تغيير الدستور بطريقة غير مشروعة) هي من المتشابهات التي تسبب تشوها للدستور ذاته، وتشويها للعلاقة بين الشعب وبين الدستور وما يتضمنه، والذي يريد أن يغير الدستور لن يلجأ إلى طريقة الصحفي “الفزاع”، ثم إن الدساتير كلها اليوم هي محل نسف وإعادة بناء على أسس جديدة يتضمنها عقد اجتماعي مبني على تبصر تام من كافة الأطراف، ومن لا يستطيع أن يستوعب متغيرات اليوم، فإن قبره جاهز غدا. وكما قلت، فإن ملك البلاد أكثر وعيا وتفهما من الجميع، وعلى الذين ينظرون في قانون العقوبات بعقلية الستينيات أن يركبوا قطارا سريعا ليلحقوا بفكر الملك وفكرته.

في الدول الأخرى التي تعد الفرد هو أساس وجود الحكومة والدولة، وفي هذا العصر الذي تساقطت فيه مكونات الدولة الثلاث (السلطة والإقليم والشعب) ليبقى الشعب هو أثبت المكونات ودخول السلطة والإقليم في رأس قائمة المتغيرات، في هذا العصر، وفي تلك الدول، توجد لجنة دائمة من أجل إعادة تأهيل قانون العقوبات (criminal law reform committee)، ذلك لأن قانون العقوبات يتعامل مع حياة الفرد وحريته وسمعته وماله، وحاضره ومستقبله، أما في عالمنا العربي فيمكننا أن نشكل لجانا لكل شيء، ولأي شيء إلا ما يهم الفرد بشكل مباشر ودائم، كقانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية مثلا.

لذلك، ومن أجل ما سبق، نقول أن قانون العقوبات عندنا هو بحاجة حقيقة إلى إعادة تأهيل من ألفه إلى يائه، هو بحاجة إلى إعادة تربيته ح
تى يتمكن من تربيتنا التربية الصحيحة التي تؤهلنا لحياة الغد، لا أن يبقينا نعيش عشرات السنين في الماضي.