ما هو المقصود بالاعتصار في الهبة ؟

المقدمة.

يزخر ديننا الحنيف بمجموعة من الأحكام الشرعية التي ابتغى منها الشارع الحكيم بناء دولة قادرة و متماسكة، وذلك عن طريق سنه و تشريعه لكل ما يمكن أن يساعد على خلق التضامن و التآزر بين أفراد المجتمع، بمساهمة المسلم في جميع الأعمال التطوعية وبذل الجهد في الإنفاق لما فيه الخير و الإحسان والمساعدة على مشاق الحياة و متاعبها، خاصة و أن مال المسلم ليس له ولم يكن ليكون له لولا هبة الله له.

وتعد الأعمال التبرعية المأجورة التي يحث عليها الشرع الحنيف كثيرة من أهمها الزكاة و الوقف و الصدقة وأبرزها الهبة، التي تعتبر من أهم العطايا و التبرعات، فهي تصرف شرعي نظمه التشريع الإسلامي و التقنين الوضعي فأوجد له ضوابط ومحددات من أجل حسن سيره وأدائه للدور الايجابي المنوط به والمعول عليه في المساعدة على خلق جو من التراحم و التوادد بين أفراد المجتمع.

ونجد بالرجوع إلى مدونة الحقوق العينية المغربية أن المشرع قد عرف الهبة في المادة 273 على أنها “تمليك حق عيني عقاري لوجه الموهوب له في حياة الواهب بدون عوض”،أما فقهاء المالكية فقد قاموا بتعريفها وذلك بالقول بأنها :”تمليك مشمول بغير عوض إنشاء “.

وتطرح الهبة إشكالات عملية، خاصة الأحكام المتعلقة بالرجوع فيها أو الاعتصار -والاعتصار مصطلح مالكي صرف أبدعه المالكية دون غيرهم من المذاهب الأخرى التي تستخدم مصطلح الرجوع في الهبة-، وقد اختلفت آراء الفقه الإسلامي حول شروط الرجوع و الرجوع من الأصل ، وذلك نظرا لما يمكن أن يترتب عنه من إفساد للعلاقات وفك الأواصر بين أفراد المجتمع وعناصره المشكلة له.

ونجد أن هناك قواعد فقهية مقررة تحظى باتفاق واسع من لدن الفقهاء كما هو الشأن بالنسبة لقاعدة من اختار لا يرجع، وتعني هذه القاعدة أن التزام الشخص يجعله متحملا لكافة الآثار الناتجة عن التزامه ولا يجوز له التراجع عنه، ويتجلى أساسها الشرعي في قول الله عز وجل “ياأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود”.[1]

و تسري هذه القاعدة على الاتفاقات الملزمة للجانبين أو الاتفاقات الصادرة عن إرادة منفردة التي يتجلى الأساس القانوني لها في الفصل 18 من ق.ل.ع الذي ينص على أن : “الالتزامات الصادرة من طرف واحد تلزم من صدرت منه بمجرد وصولها إلى علم الملتزم له”، بمعنى أنه لا يجوز له الرجوع في حالة التزامه بشكل إرادي تجاه شخص آخر .

و خروجا عن الحالات المحددة قانونا، يمكن الرجوع عن الهبة بشروط محددة، وقد تم تعريف الرجوع عن الهبة أو الاعتصار من طرف مجموعة من فقهاء المالكية من بينهم ابن عرفة الذي قال “ارتجاع المعطي عطية دون عوض لا بطوع المعطى”[2].

أما المشرع المغربي فقد عرفها في المادة 283 من مدونة الحقوق العينية بالقول ” يراد بالاعتصار رجوع الواهب في هبته”.

ويطرح موضوع الرجوع في الهبة إشكالية مفادها مدى توفق المشرع المغربي والفقه الاسلامي في ملائمة تقييد حق الرجوع في الهبة مع الأصل فيها الذي هو عدم الرجوع.

وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة سنحاول الإجابة عنها، تتمثل في ماهي شروط الرجوع في الهبة؟وماهي موانعها؟ وما آثار الرجوع فيها؟.

ومن أجل الإجابة عن الإشكالية المركزية و أسئلتها الفرعية سنبحث موضوعنا هذا ضمن محورين نتناول في الأول شروط الرجوع في الهبة وموانعها وفي الثانية آثار الرجوع.

أولا : شروط الرجوع في الهبة وموانعها.

لم يترك الفقه الإسلامي و لا المشرع المغربي حق الرجوع في الهبة مفتوحا على عواهنه، إنما قيده بشروط محددة وعدد موانع لا يجوز معها التعسف في استعمال هذا الحق.

و سنتناول الاعتصار أو الرجوع في الهبة ضمن هذا المحور من خلال نقطتين، نتناول في الأولى شروط الاعتصار ثم في الثانية موانع الرجوع في الهبة.

1 : شروط الاعتصار.

يشترط من أجل الرجوع في الهبة لدى الفقه المالكي أن يكون للأب و الأم وبلفظ صريح،[3] وذلك مصداقا لمجموعة من الأحاديث النبوية كقوله صلى الله عليه وسلم “”لا يحل لأحد أن يهب هبة، ثم يعود فيها إلا الوالد”[4]،وقد تظهر حكمة بليغة في اعتبار الحق يكون فقط للأبوين من أجل الاعتصار،وذلك للمكانة الخاصة و الرفيعة التي يحظى بها هذان الفردان في المجتمعات الإسلامية، وخاصة أن الابن يعتبر وريثا أصليا لمال أبويه فيجوز له حسب نظام نصيبه في الإرث باعتباره وارثا بالتعصيب، التصرف فيه بعد وفاتهما من دون حاجته استغلال طرق أخرى للاستفادة.

أما فيما يخص التقنينات العربية خاصة منها المشرع المصري و السوري و الأردني[5]،فإنها سارت في اتجاه ما سار فيه الفقه الحنفي من جواز الرجوع في الهبة ، وأكدت على إمكانية الاعتصار في حالة قبول الموهوب له الرجوع في الهبة. وقيدت تلك التقنينات هذه المطالبة في حالة بلوغها القضاء وذلك في حالة الرفض الإرادي الصادر عن الموهوب له، بثلاثة شروط تتجلى في:

-إخلال الموهوب له بالتزاماته تجاه الواهب أو أحد من أقاربه.

-في حالة ما إذا أصبح الواهب عاجزا عن توفير قوت يومه، أو عدم قدرته على الإنفاق على من تجوز نفقته عليهم.

-أن يرزق الواهب بعد الهبة بولد يبقى حيا إلى وقت الرجوع، أو أن يكون للواهب ولد حي ظنه الواهب ميتا وقت الهبة.

أما في ما يخص التقنين المغربي فإنه بعد أن كان يشترط الاعتصار فقط للأبوين، فإنه بعد صدور مدونة الحقوق العينية أضاف شرطا آخر حسب المادة 283 وهو :

-أن يصبح الواهب عاجزا عن الإنفاق على نفسه أو على من تلزمه نفقته.

وحسب المادة 284 يجب لصحة الاعتصار أن يشهد الواهب على ذلك وينص عليه في عقد الهبة بعد قبول الموهوب له بذلك.

ويضيف القضاء شرطا آخر يتجلى في عدم قدرة الأبوين على الرجوع في الهبة في حالة اشتراطهما ذلك في عقد الهبة،وهو ما أكده القرار الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 18/06/2008″إن عقد الهبة قد اشترط فيه الواهب عدم الرجوع في هبته،وهو شرط لازم له كما هو منصوص في الفقه الجاري به العمل[6]”.

2 : موانع الاعتصار.

تتحدد الموانع التي توجب عدم الرجوع في الهبة ضمن الفقه المالكي في ثلاثة أصناف وهي الموانع الطارئة (مانع الموت ومرض الموت و توظيف الهبة في الزواج و وتداين الولد للهبة) وموانع الانتقال( هي إما انتقال تفويت أو انتقال تغيير) ثم مانع الافتقار[7].

أما التشريع المغربي فيحصر هذه الموانع في مدونة الحقوق العينية ضمن المادة 285 وقد عددتها في ثمانية موانع، نوجزها في الهبة التي تكون بين الزوجين أو زواج الموهوب له بعد الهبة ومن أجلها،كذلك في حالة وفاة الواهب أو الموهوب له قبل الاعتصار،أيضا مانع مرض الموت،أو تفويت الموهوب له للشيء الموهوب كاملا أو هلاكه إلا إذا كان جزئيا فيجوز الرجوع في الباقي،بالإضافة إلى تعامله مع الغير على أساس امتلاكه له،أو إجرائه لتغييرات مهمة تزيد من قيمته.

و يتضح من خلال المقارنة بين الموانع أن مدونة الحقوق العينية سايرت ما ذهب إليه الفقه المالكي إلى حد كبير وذلك نظرا لأن الفقه المالكي هو الذي كان يسري على عقد الهبة إلى حين صدور المدونة.

وبذلك يمكن تقسيم الموانع الثمانية التي تم ذكرها ضمن المادة 285 إلى صنفين هما الموانع الطارئة و موانع الانتقال.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض التقنينات العربية حاولت حصر تلك الموانع بشكل ملحوظ ومخالف تماما لم.ح.ع.،كما هو الشأن بالنسبة لمجلة الأحوال الشخصية التونسية ضمن الفصل 212 حيث جاء فيه ” لا يجوز طلب الرجوع في الهبة إذا وجد مانع من الموانع الآتية:

أ- إذا حصل للشيء الموهوب زيادة متصلة موجبة لزيادة قيمته
ب- إذا فوت الموهوب له الشيء الموهوب، أما إذا اقتصر التفويت على بعض الموهوب جاز للواهب أن يرجع في الباقي.
ج- إذا هلك الشيء الموهوب في يد الموهوب له سواء كان الهلاك بفعله أو بحادث أجنبي لابد له فيه أو بسبب الاستعمال، فإذا لم يهلك إلا بعض الشيء جاز الرجوع في الباقي.

ثانيا: آثار الرجوع في الهبة[8].

يتم التمييز حين دراسة الآثار المتعلقة بالاعتصار في الهبة، بين الآثار التي تترتب عن الرجوع فيما بين العاقدين (أولا) ثم الآثار المترتبة عن الرجوع في مواجهة الغير (ثانيا).

1 : آثار الرجوع في الهبة بين المتعاقدين

يعتبر الواهب و الموهوب له الطرفين الرئيسيين في عقد الهبة، فتسري الآثار عن عقد الهبة أو الرجوع فيها عنهما أولا وبدرجة كبيرة.

و الآثر الهام الذي يترتب عن الاعتصار في الهبة فيما بين الطرفين هو اعتبار الهبة كأن لم تكن أول الأمر بينهما، ما يجعل الطرفان يعودان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، سواء تم الرجوع عنها رضاء بين الطرفين أو قضاء، ما يجعل الموهوب له يلتزم برد الشيء الموهوب إلى الواهب على حالته وفي حالة تعيبه بعد اتفاق الطرفين على الاعتصار أو صدور حكم قضائي فإنه يتحمل تبعة هذا الهلاك،لكن إذا كان الشيء الموهوب مازال في حوزة الواهب فانه لا يلتزم بتسليمه.

أما فيما يخص ثمار الشيء الموهوب، فإنها تكون من نصيب الموهوب له قبل تمام الرجوع، وفي حالة الرجوع فإن القاعدة العامة التي يقررها الفصل 103 من قانون الالتزامات و العقود هي أن “الحائز عن حسن نية يتملك الثمار، ولا يلزم إلا برد ما يكون منها موجودا في تاريخ رفع الدعوى برد الشيء، وما يجنيه منها بعد ذلك. ….” وهذه القاعدة لا يمكن تطبيقها مادام النص الخاص يقيد النص العام فتكون له الأولوية في التطبيق، وهو ما يسري على المادة 287 من مدونة الحقوق العينية الذي تقول في فقرتها الثانية “لا يلتزم الموهوب له برد الثمار إلا من تاريخ الاتفاق أو من تاريخ الحكم النهائي في الدعوى”.

كذلك تؤكد نفس المادة على أن من حق الموهوب له استرجاع النفقات الضرورية التي أنفقها على الملك الموهوب، أما النفقات النافعة أو الزينة فإنه لا يسترجع منها إلا ما زاد عن القيمة الحقيقية لها.

ويختم المشرع الفصل المتعلق بالهبة ضمن مدونة الحقوق العينية بالتأكيد على أن مصروفات الاعتصار واسترجاع الملك الموهوب يتحملها الواهب.

2 : الآثار المترتبة عن الاعتصار في مواجهة الغير.

إن الرجوع في الهبة ليس له أثر رجعي، بل يسري بأثر فوري على المستقبل، وهو ما يحصن حقوق الغير حسن النية الذي تعامل مع الموهوب له بعد امتلاكه للشيء الموهوب فيما يخص ذلك الشيء، فلا يسري الأثر الرجعي إلا من وقت تمام الاعتصار.

وهو الأمر نفسه المتعلق بموانع الاعتصار التي نصت عليه المادة 285 من مدونة الحقوق العينية في ما يخص موانع الإعتصار التي تخص الانتقال.

الخاتمة.

يتضح من خلال ما سبق ، أن الفقه الإسلامي خاصة منه المالكي و المشرع المغربي بالإضافة للتشريعات العربية المقارنة ، سمحت بالخروج عن الالتزام من طرف واحد المتعلق بالهبة الموجه لطرف آخر و الرجوع فيه لكن وفق حدود معينة تظهر إما بتوافق إرادة الأطراف أو القانون، فإنشاء عقد الهبة الذي زكاه المشرع المغربي بالحماية من خلال حثه حسب الفصل 274 من مدونة الحقوق العينية على ثوثيقه رسميا لدى موثق أو عدل، منح المشرع الخروج عنه، وإمكانية الرجوع في الهبة وذلك لضرورات يمكن أن تتطلبها ظروف الحياة وتقلباتها.

لكن و رغم أن المشرع حاول من خلال مدونة الحقوق العينية الصادرة بتاريخ 24 نونبر 2011 تنظيم الرجوع في الهبة الواردة على العقارات ضمن الفصول من 283 إلى 289 ،إلا أنه يبقى تنظيما لم يحض بحلول لجميع الإشكالات التي يطرحها الاعتصار، لذا وجب إعادة النظر في التعريف الذي أعطاه للرجوع في الهبة ضمن المادة 283 من مدونة الحقوق العينية، بإضافة شروط تحدد بدقة كيفية الاعتصار،و سبل الحد منه واعتباره استثناء على الأصل الذي هو الالتزام بالعهد وعدم الإضرار بالمستفيد من الهبة ، مما سيساهم في احترام العلاقات فيما بين الأشخاص والاستمرار فيها بشكل سليم.

كما يبدو أنه يمكن أن تختلف أحكام المحاكم في ما يخص الإعتصار، وقد تعاني قراراتها من اضطراب خاصة و أن نصوص الاعتصار لم ترد فيها ألفاظ الوجوب أو سريانها تحت طائلة البطلان، كما فعل المشرع الوطني في ما يخص الهبة في إطار المادة 274 من نفس المدونة ضمن فقرتها الثانية بالقول.

… يجب تحت طائلة البطلان أن يبرم عقد الهبة في محرر رسمي.

فمثل هذه الألفاظ من شأنها أن تساهم في توحيد عمل القضاء على المستوى الوطني و تبتعد عن كل ما من شأنه أن يطرح الخلاف فيما بين الأحكام والقرارات القضائية الصادرة عن المحاكم.

أيضا وجب أن تحدد الأعذار القانونية الواجبة من أجل الرجوع في الهبة بدقة، ضمن التشريع المنظم لحق الهبة على العقارات ، بالإضافة لإيجاد تقنين ملائم ومناسب ينظم الهبة في المنقولات ويحدد كيفية الرجوع فيها إن دعت الضرورة لذلك.

[1] -الاية 1 من سورة المائدة.

[2] عبد الرحمان بلعكيد.الهبة في المذهب و القانون.مطبعة النجاح الجديدة.الطبعة الاولى.1997. ص.313

[3] -عبد الرحمان بلعكيد م.س . ص.314

[4] عبد الكريم شهبون.ةعقود التبرع في الفقه المالكي. مطبعة النجاح الجديدة .الدار البيضاء.2012.ص.198

[5] -المادة 500 و501 من القانون المدني المصري ، المادة 468 و469من القانون المدني السوري ، المادة 576و577 من القانون المدني الأردني.

[6] قرار عدد 348 صادر عن المجلس الأعلى(محكمة النقض حاليا) بتاريخ 18/06/2008 ملف شرعي عدد 539/2/1/2007.

[7] للمزيد من الاطلاع.انظر.عبد الرحمان بلعكيد.الهبة في المذهب و القانون.م.س ص.328 الى 348.

[8] للاطلاع أكثر: حسن منصف.الرجوع في الهبة في القانون المغربي.مقال منشور بمجلة سلسلة الانظمة والمنازعات العقارية.منشورات مجلة الحقوق. عدد7 فبراير 2013 ص.339.

جواد بوزيد

باحث بماستر القانون المدني

كلية العلوم القانونية

جامعة ابن زهر. اكادير