الاستاذة أحلام العاتي

من سمات المجتمع المسلم أنّه مجتمع متكافل ومن مظاهر التكافل في المجتمعات الإسلامية قيام المسلم بالتبرّع لفائدة أخيه المسلم، وقد يأتي التبرّع في شكل صدقة أو هبة أو وصيّة أو غيرها من تصرفات التبرع، على أن الذي يهم دراستنا هو التبرع الخالص الذي يقع بواسطة عقود كالهبة.

وللهبة تأثير بالغ في العلاقات والروابط الإنسانية باعتبار أنها تهدف إلى البر والإحسان وإلى تدعيم صلة الأخوة والتعاون والمحبة بين الأقارب والمعارف فالهبة مظهر من مظاهر تكريم الإنسان لأخيه الإنسان وقد ورد ذكرها بالقرآن.[1]

والواهب قد يقصد بتبرعه بماله إمّا ابتغاء وجه الله ممّا يتطلّب إخلاص النيّة والبعد عن التفاخر والرياء احتراما لكرامة الإنسان وهذا ما دعت إليه الشريعة الإسلامية، وإمّا أن يقصد المتبرع بماله التودد أو توطيد الصداقة والمحبّة امتثالا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام “تهادوا تحابوا”[2].

ولعلّ معنى التفضل والإحسان الذي هو قوام عقد الهبة يعد السبب الذي حدا بالمشرع التونسي إلى إدراج القواعد الخاصّة بالهبة ضمن مجلّة الأحوال الشخصيّة وإخراجها من باب العقود المسماة بمجلّة الالتزامات والعقود. ولا شكّ في أنّ هذا التوجه كان راسخا حتى قبل إدراج الكتاب الثاني عشر المنظم لعقد الهبة ضمن مجلّة الأحوال الشخصيّة وهو ما أكّده فقه القضاء منذ سنة 1961 حيث جاء في القرار التعقيبي المدني عدد 1202 المؤرخ في 3 جويلية 1961 أنّ “الهبة من العقود التبرعية الداخلة في الأحوال الشخصيّة”.[3]

ونفس التمشي نجده لدى المشرع الفرنسي الذي أدرج أحكام الهبة ضمن قانون الأحوال الشخصيّة والمواريث وذلك خلافا لبعض التشريعات المقارنة التي نظمت الهبة ضمن باب العقود المسماة في المجلة المدنية ومثال ذلك القانون المصري[4] والقانون اللبناني.[5]

وللهبة ثلاث معان: معنى في اللغة ومعنى في الإصطلاح الفقهي ومعنى في القانون الوضعي، فمعناها في اللغة التبرع والتفضل على الغير بما ينتفع به مطلقا، فالهبة هي “العطيّة الخالية من الأعواض والأغراض”.[6]

وأماّ معناها في اصطلاح الفقهاء المسلمين فقد لخصه فضيلة الشيخ “محمّد الطاهر بن عاشور” بقوله أنّ الهبة “إعطاء شيء بلا عوض”.[7]

ويخرج عن هذا التعريف العارية لأنها تمليك منفعة والإجارة لأنها تمليك منفعة بعوض والوصية لأنها تمليك بعد وفاة المملّك[8].

ويدخل في تعريف الهبة بهذا المعنى الهديّة والصدقة فكلها تمليك في الحياة بدون عوض[9] وإنّ تعريف كلّ منهما على حده كما سيأتي لا يوجب خروجهما من الهبة.

فالهديّة هي المال الذي يعطى لأحد إكراما له[10] والصدقة هي المال الذي وهب لأجل الثواب الأخروي، وهنا قال عليه الصلاة والسلام “الصدقة يبتغى بها وجه الله تعالى والدار الآخرة والهديّة يبتغى بها وجه الرسول وقضاء الحاجة والهديّة هبة”[11].

وأماّ الهبة في التشريع الوضعي فقد ورد تعريفها بالفصل 200 من مجلّة الأحوال الشخصيّة[12] الذي عرّفها بأنها “عقد بمقتضاه يملك شخص آخر مالا بدون عوض” ويسمح هذا التعريف بمعرفة خصائص الهبة، فالهبة عقد، وهذا العقد ليس أحادي الجانب كالوصيّة لا يترتب عنه أي أثر قانوني إلاّ بعد وفاة الموصى وإنما هو عقد لا بدّ أن يتوفر فيه الإيجاب والقبول.

وهي كذلك ليست عقد معاوضة كعقد البيع وإنما هي عقد تبرع حتى ولو فرض الواهب على الموهوب له القيام بالتزام معيّن لأن ذلك يجب أن يتمّ دون أن يتجرّد الواهب عن نيّة التبرع كما جاء بالفقرة الثانية من الفصل 200 من مجلة الأحوال الشخصيّة فعقد الهبة يختلف عن عقد البيع من حيث أنّ هذا الأخير يفرض على الأطراف المتعاقدة التزامات معينة، ومن حيث طبيعة أو وظيفة التسليم فيه، فلئن كان من الواضح أنّ التسليم في عقد البيع هو التزام محمول على البائع يأتي في مرحلة ثانية بعد إبرام العقد، فإنّ طبيعة التسليم في عقد الهبة قابلة للنقاش وستكون محلّ نقاش.

ويعرّف التسليم لغوياّ بأنّه الدفع أو الإعطاء، وجاء في لسان العرب لابن منظور ” تسلّمه منّي أي قبضه وسلّمت إليه الشيء فتسلّمه أي أخذه”.[13]

أماّ معنى التسليم في اصطلاح الفقهاء فيفيد عموما خروج الشيء الموهوب من حوز الواهب وتمكين الموهوب له من حوزه[14].

وأماّ فيما يخصّ التعريف القانوني للتسليم، فالملاحظ أنّ المشرع لم يعط تعريفا للتسليم في القواعد الخاصّة بالهبة وبما أنّه أحال إلى عقد البيع فيما يتعلق بتطبيق قواعد التسليم في عقد الهبة فإنّه لا مفرّ من الرجوع إلى تعريف التسليم في عقد البيع، حيث ينصّ الفصل 592 من مجلة الالتزامات والعقود[15] على ما يلي “يتمّ التسليم إذا تخلى البائع عن المبيع وصدر منه أو من نائبه إذن للمشتري في تسلّم المبيع ومَكَّنَ المشتري من حوزه بلا مانع”.

وأوّل ما تجدر ملاحظته بخصوص هذا التعريف هو أنه يحتوي على عنصرين هما وضع المبيع تحت تصرف المشتري والإذن له بالتسلّم.

ويتحقق وضع المبيع تحت تصرف المشتري عبر تخلّي البائع عنه وهو عمل سلبي يقوم به البائع ويعتبر ضروريا لأنّه يحقّق رفع يد البائع عن المبيع كأوّل مرحلة لتسليمه للمشتري، كما يتحقق وضع المبيع تحت تصرف المشتري عبر تمكين هذا الأخير من حوز المبيع بلا مانع وهو عمل إيجابي من قبل البائع. أمّا العنصر الثاني في تعريف التسليم فهو الإذن للمشتري بتسلّم المبيع وهو ما جاء بالفصل 592 المذكور “…وصدر منه أو من نائبه إذن للمشتري في تسلّم المبيع…” وذلك حتى يفهم المشتري نيّة البائع في جعل المبيع تحت تصرفه.

وقد استعمل الفقه وفقه القضاء وحتى المشرع عديد المصطلحات للدلالة على التسليم من ذلك مصطلح المناولة[16]، أو التسلّم[17]، أو “الحوز”[18] ولتفادي الخلط بين هذه المصطلحات يتوجب تمييزها عن مصطلح التسليم نظرا لأنها تختلف عنه في بعض الجزئياّت.

فالتسليم يختلف عن المناولة من جهة أنه وإن كان له طابع مادي فإنه في حدّ ذاته عمل قانوني يفيد تمكين الموهوب له من الحوز القانوني دون ضرورة الحوز الفعلي أو المادي، أمّا المناولة فهي عمل مادي يفيد الإعطاء وهي طريقة من طرق التسليم خاصّة بالمنقول المادي وذلك منطقي إذ لا يعقل تصوّر المناولة في العقارات وبالتالي يكون مفهوم التسليم أعمّ وأشمل من مفهوم المناولة.

كما يختلف التسليم عن التسلّم، فإن كان التسليم يتمثل في وضع الموهوب تحت تصرّف الموهوب له فإنّ التسلّم يفيد الأخذ أي القبض من طرف الموهوب له[19]، فالتسلّم أو الاستلام هو عملية مادية تكمن في السيطرة المادية على الشيء الموهوب من طرف الموهوب له أي وضع يده عليه على أنّه رغم هذا الاختلاف الجزئي بين هذين المفهومين إلاّ أنّ ارتباطهما وثيق إذ لا يمكن للموهوب له تسلّم الشيء الموهوب إذا لم يضعه الواهب تحت تصرفه.

ويختلف كذلك مفهوم التسليم عن الحوز، فإن كان التسليم عمل قانوني يسمح بوضع الموهوب تحت تصرّف الموهوب له فإن الحوز معناه السيطرة الفعليّة لشخص بنفسه أو بواسطة على حق أو شيء[20] ورغم أنّ المشرّع[21] وبعض الفقهاء[22] استعملوا عبارة الحوز عند تعريفهم للتسليم إلاّ أنهما في الحقيقة ليسا مترادفين، على انه يمكن القول بأن الحوز يعد قرينة على التسليم.

ويكتسب موضوع التسليم أهمية كبرى على جميع المستويات، فتاريخيا يعدّ موضوع التسليم في عقد الهبة من أقدم المواضيع حيث تناولها الفقهاء المسلمون بالبحث وحظيت باهتمام كبير من قبلهم نتج عنه بروز جدل فقهي.

وأمّا من الناحية النظريّة فيكتسي هذا الموضوع أهميّة كبرى لما يطرحه من إشكاليات حول بعض المسائل المتعلّقة به خاصّة الطبيعة القانونية لهذا التصرف وما يطرحه ذلك من آثار هامة كما تبرز الأهمية من خلال التعرض إلى الجدل الفقهي الذي دار حول مسألة التسليم وكذلك ما يثيره النظام القانوني من صعوبات تتعلق بكيفيّة انسحاب القواعد الخاصة بالتسليم في عقد البيع على قواعد تسليم الموهوب ومحاولة تكييف هذه الأخيرة حتّى تنسجم مع القواعد الأولى.

كما تكمن الأهمية النظرية للموضوع في صعوبة إيجاد دراسة نظرية خاصة بالتسليم في عقد الهبة في القانون التونسي رغم أهمية أحكامه القانونية ممّا يفسّر ندرة المراجع الخاصة بهذا الموضوع ولعلّ السبب في ذلك هو الاعتقاد بأنّ هذه المسألة قد لقيت حظّها من الدراسة بما فيه الكفاية في مؤلفات الفقه الإسلامي.

وعلاوة على ذلك فإنّ موضوع التسليم يتمّ تناوله في إطار النظريّة العامة للعقود وعند دراسة عقد البيع بصفة خاصة الذي يمثل التسليم في إطاره القانون العام بالنسبة للتسليم في بقيّة العقود الأخرى والدليل على ذلك أنّ المشرّع غالبا ما يحيل إلى قواعد التسليم في عقد البيع لتطبيقها في بعض العقود مثل عقد الرهن مع الأخذ طبعا بخصوصيّة وطبيعة التسليم في كلّ عقد، وذلك منطقي بما أنّ التسليم تختلف طبيعته القانونية من عقد إلى آخر فإن كان يمثل التزاما أو أثرا للعقد في عقد البيع[23] فإنّه يمثل شرط صحّة في بعض العقود الأخرى مثل عقد الوديعة كما جاء بالفصل 1001 من مجلّة الالتزامات والعقود وعقد رهن المنقول الحيازي مثلما جاء بالفصل 212 من مجلّة الحقوق العينية.

كما لا تقلّ الأهميّة العمليّة لموضوع البحث فائدة عن سابقتها وذلك لما يطرحه التسليم من مشاكل عند التطبيق فكيف يتمّ التسليم خاصّة مع توسّع مفهوم محل التسليم إذ لم يعد محل التسليم مقصورا على الأشياء المادية كالعقارات أو المنقولات فقط وإنما قد يكون محلّ التسليم حقوقا مجردة.

كذلك تتأتى أهميّة دراسة التسليم في عقد الهبة من اتصال التسليم بأهم أثر للعقد وهو انتقال الملكية، وهنا لا يجب الخلط بين الالتزام بإعطاء الذي هو التزام بنقل حقّ عيني مثل حقّ الملكية والالتزام بالتسليم المادي للشيء موضوع الحقّ[24] فلئن كان انتقال الملكية في إطار عقد البيع يتمّ آلياّ بمجرّد العقد فإنّ الأمر ليس على تلك الصورة في إطار الهبة اليدوية على الأقل، فالتسليم في عقد البيع يعدّ أثرا ينتج عن تطبيق التزام بنقل الملكيّة وهو أثر منطقي إذ الملكيّة تنتقل فور التقاء الإيجاب والقبول في عقد البيع ويستطيع المشتري أن يتصرف في المبيع ولو لم يتسلمه.

إنّ أهميّة موضوع التسليم وما يطرحه من إشكاليات كان الدافع إلى البحث في هذه المسألة في القانون ولكن قبل ذلك يتوجب دراسة ما توصّل إليه الفقه الإسلامي في هذا الخصوص ورصد ملامح هذا الموضوع في القانون المقارن.

وبالرجوع إلى الفقه الإسلامي يستشفّ اختلاف فقهاء الشريعة الإسلاميّة في اشتراط القبض. لكن قبل الخوض في أوجه هذا الاختلاف لا بدّ من أن نلاحظ في البدء أنّ الفقه الإسلامي يستعمل عبارة “القبض” عوضا عن مصطلح التسليم. وأماّ في خصوص الجدل القائم بين مذاهب الشريعة الإسلامية حول طبيعة التسليم في عقد الهبة فلئن اتفق الفقهاء المسلمون على أنّ القبض هو شرط في الهبة فقد اختلفوا في تحديد نوع هذا الشرط إن كان شرط صحة أو شرط تمام ممّا نتج عنه بروز اتجاهين:

الاتجاه الأوّل يمثّله فقهاء المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي ويرون أنّ الهبة لا تتمّ إلاّ بالإيجاب والقبول والقبض، فالقبض هنا يعدّ ركنا في الهبة[25] فهي تنعقد بالرضا ولكنها لا تلزم و لا تصحّ إلاّ بالقبض.[26]

وأماّ الاتجاه الثاني فيمثله فقهاء المذهب المالكي الذين يعتبرون أنّ الهبة شرط تمام فهي تتمّ وتلزم بإيجاب الواهب ويستطيع تبعا لذلك الموهوب له أن يجبر الواهب على التسليم فينتقل إليه الملك.[27]

ولا يسعنا في هذا الإطار المرور دون تبيان الفروق بين الركن وشرط التمام وشرط الصحة والالتزام، فإذا كان التسليم ركن في العقد فذلك يعني أنّه لا يمكن الحديث عن عقد هبة إذا لم يوجد التسليم باعتبار أنّ ركن الشيء كما جاء على لسان احد الفقهاء هو “جزؤه الذي يتركب منه ويتحقق به وجوده في الوجود بحيث إذا انتفى لم يكن له وجود”[28]، أمّا شرط التمام فيعني لغة كما قال ابن منظور “تمّ على الشيء، أكمله”[29]، أمّا اصطلاحا فقد عبّر عنه أحد الفقهاء بأنّه “تنفيذ موجب العقد بعد أن تكوّن ونشأ”[30]، وبذلك يمكن القول أنّ شرط التمام هو شرط لنفاذ واكتمال العقد بعد أن تكوّن ونشأ بتوفر شروط انعقاده.

وأمّا إذا كان التسليم شرط لصحة العقد ففي غيابه يوجد هذا الأخير لكنه لا يكون صحيحا، وأمّا إذا كان التسليم مجرد التزام فالعقد يعدّ صحيحا وتاما وليس التسليم سوى أثرا من آثاره.

وأمّا بخصوص التشريعات المقارنة فالملاحظ أنّ المشرّع الفرنسي ركّز على الشكل حيث يفرض الحجّة الرسمية[31] وضرورة القبول[32] كشرط لصحّة التصرف ويستثني الفقه من هذه الشكليّة الهبة اليدوية التي يعتبر أنّ ليس لها وجود إلاّ بالتسليم الفعلي.[33] وأمّا التشريعات العربيّة من ذلك التشريع المصري[34] واللبناني[35] والعراقي[36] فقد اشترطوا الرسمية في هبة العقار من خلال استلزام الحجّة الرسمية لصحتها أمّا التسليم فقد جعلوا منه ركنا في عقد الهبة اليدوية لا تنعقد بدونه وبذلك جعلوا من عقد الهبة عقدا عينيا في المنقول المادي مع جواز أن تتمّ هبة المنقول بالورقة الرسمية.

ويبدو أنّ هذا الاختلاف في الفقه الإسلامي حول تحديد طبيعة التسليم ووظيفته قد امتدّ أثره إلى التشريع الوضعي، حيث يلاحظ أنّ المشرّع لم ينحز إلى مذهب معيّن دونا عن الآخر ولم يأخذ موقفا واضحا من المذاهب الفقهية، وفعلا فبقراءة الفصل 200 من مجلة الأحوال الشخصية يبدو أنّ المشرّع قد اتبع المذهب المالكي الذي يكتفي بالإيجاب والقبول لصحّة الهبة دون اشتراط التسليم ولكن بقراءة الفصل 201 من نفس المجلة يبدو المشرع متأثرا بالمذهب الحنفي بما أنّه جعل من التسليم ركنا في العقد[37] ليعود فيما بعد في الفصل 203 من نفس المجلة إلى المذهب المالكي الذي يجعل من التسليم شرط تمام والذي يجيز للموهوب له إمكانية المطالبة بالتسليم.

ويعتبر هذا التراوح في موقف المشرع التونسي من تحديد طبيعة التسليم انعكاسا لاختلاف المذاهب الإسلامية حول الموضوع، ففي حين يفهم من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية أنّ التسليم ركن من أركان العقد فإنّ الفصلين 202 و 203 من نفس المجلة يوحيان بغير ذلك.

هذا في ما يخصّ موقف المشرع فماذا عن موقف فقه القضاء؟

يشار في البداية إلى أنّ للمحكمة الحريّة في تطبيق وإتباع أحد المذهبين الحنفي أو المالكي، حيث جاء في الحكم المدني المؤرخ في 12 أفريل 1961[38] أنّ “للمحكمة حقّ الاجتهاد في تطبيق أحد المذهبين المالكي أو الحنفي في المواضيع التي ترجع لتطبيق الفقه الإسلامي”.

وبالعودة إلى فقه القضاء يتبيّن أنّ هذا الأخير من جهة يتخذ منهجا حنفيا من خلال التأكيد على أنّ التسليم يعدّ ركنا أساسياّ في العقد بدونه تبطل الهبة[39] دون أن يميّز بين هبة العقار وهبة المنقول، ويقرّ من جهة أخرى بأنّ الهبة هي عقد شكلي[40] تبطل بدون الحجّة الرسمية وهو ما يزيد الأمر صعوبة وما يدفع إلى البحث في موضوع التسليم لمعرفة حقيقته التي لا تتجلّى إلاّ من خلال الإجابة عن السؤال التالي:

ما هي الطبيعة القانونية للتسليم وما مدى تلاؤمها مع النظام القانوني للتسليم في عقد البيع الذي ينطبق عليها؟

والجواب عن هذا السؤال يحتم التطرق أولا إلى طبيعة التسليم وبيان دورها في إفراز نوعية معيّنة من الأثار فضلا عن إبراز مدى تلاؤمها مع النظرية العامة للقانون ومدى توفق المشرع في إرساء نظام قانوني يتجاوب مع طبيعة هذه المؤسسة.

الجزء الأول:الطبيعة القانونية للتسليم

تبدو الطبيعة القانونية للتسليم في عقد الهبة غامضة، ومصدر هذا الغموض أساسا هو الفصول القانونية المتعلّقة بالهبة ذاتها، فلئن يفهم من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية أنّ التسليم ركن من أركان العقد فإنّ الفصل 203 من نفس المجلّة يوحي بأنّّ التسليم شرط لتمام العقد. ويبدو أنّ مردّ هذا الموقف المتضارب في ظاهره هو اختلاف المواقف الفقهية في الشريعة الإسلامية التي تعدّ مصدر إلهام المشرّع في مادة الأحوال الشخصية بما في ذلك عقد الهبة.

وتقتضي الدراسة الموضوعية لطبيعة التسليم مسايرة هذا التمشي التشريعي والفقهي الذي يعتبر أنّ التسليم هو من جهة ركن في العقد (الفصل الأول) وهو من جهة أخرى شرط لتمام العقد (الفصل الثاني). للترجيح في الأخير بين هذين الموقفين في محاولة لتحديد طبيعة التسليم (الفصل الثالث).

الفصل الأول: التسليم ركن

إنّ القول بأنّ التسليم في عقد الهبة هو ركن، ليس من باب التزيّد بل إنّ له أساسا قانونيا وأساسا فقهيا.

ولبيان ذلك يتجه تناول الأساس القانوني من جهة (المبحث الأوّل) للبحث في الأساس الفقهي من جهة أخرى (المبحث الثاني).

المبحث الأول: الأساس القانوني

نصّ المشرع بالفصل 201 مجلة الأحوال الشخصية على ما يلي ” تتمّ الهبة بتسليم الشيء الموهوب إلى الموهوب له والهبة باطلة إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل التسليم وإن اجتهد الموهوب له في طلبه”.

وأول ملاحظة يمكن إعطاؤها في هذا الصدد هو أن المشرع لم يفرق صلب هذا الفصل بين هبة المنقول وهبة العقار بل جاء مطلقا وكما هو معلوم إذا كانت عبارة القانون مطلقة جرت على إطلاقها.[41]

ويفهم من خلال قراءة هذا الفصل أن المشرع يجعل من التسليم في عقد الهبة ركنا وذلك على خلاف عقد البيع أين يعد التسليم التزاما[42] وبالتالي لا يمكن الحديث عن هبة إذا لم يتمّ فيها التسليم والدليل على ذلك أنه في صورة موت الواهب أو الموهوب له قبل التسليم تعدّ الهبة باطلة.

فالهبة إذن حسب الفصل 201 المذكور لا تتمّ إلاّ بالتسليم، وما نشير إليه في هذا السياق هو سكوت المشرّع عن ذكر عنصري الإيجاب والقبول صراحة وذلك سواء عند تعريفه للهبة بالفصل 200 من مجلة الأحوال الشخصية أو حتى في الفصول اللاحقة له ولعلّ ذلك راجع إلى اختلاف المذاهب الفقهية في الشريعة الإسلاميّة التي تعدّ المصدر الأساسي الذي اقتبست منه أحكام الهبة حيث اختلف الفقهاء حول هذه النقطة، وبصفة إجماليّة يرى الشافعيّة والحنابلة أنّ كلا من الإيجاب والقبول يمثلان ركن الهبة شأنها في ذلك شأن أي عقد آخر، ويرى فريق من المالكيّة نفس الرأي، أمّا الفريق الآخر منهم وعلى رأسهم الإمام مالك فيرى أنّ الهبة تنعقد بالقبول ويجبر على القبض[43].

أماّ فقهاء المذهب الحنفي فقد اختلفوا فيما بينهم كذلك في اعتبار الإيجاب والقبول ركنا في الهبة فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحباه أن الإيجاب وحده هو الذي يعد ركنا في الهبة[44] أماّ القبول فليس بركن استحسانا وإنما هو شرط لثبوت الملك لا شرط لوجود الهبة، أما الإمام “زفر” وهو أحد الفقهاء الحنفيين فيرى أن القبول ركن في الهبة بالإضافة إلى الإيجاب.

ورغم سكوت المشرع عن ذكر عنصري الإيجاب والقبول إلاّ أن ذلك لا يعني إمكانيّة الاستغناء عنهما، فالهبة كعقد لا بدّ فيها من اقتران إرادتين متطابقتين.

“فالهبة إذن عقد وهذا العقد ليس أحادي الجانب كالوصيّة لا يترتّب عنه أي أثر قانوني إلاّ بعد وفاة الموصي وإنما هو عقد لا بدّ أن يتوفر فيه الإيجاب والقبول ويستنتج ذاك ضمنياّ من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية فمن خلاله التسليم لا يكون إلاّ برضاء الموهوب له فلا يمكن إكراهه على قبول شيء لا يرتضيه”.[45]

ولئن سهى المشرع عن ذكر عنصري الإيجاب والقبول صراحة إلاّ أنه في المقابل لم يسهى عن ذكر التسليم معتبرا إياه ركنا من أركان العقد لا تتم الهبة إلاّ به وينجرّ عن عدم توفّره بطلان الهبة.[46]

فبعد أن كان التسليم أثرا لعقد البيع بعد انتقال الملكيّة أصبح ركنا في عقد الهبة وأصبح انتقال الملكية أثرا لعقد الهبة بعد التسليم وذلك نظرا لأن ملكية الشيء الموهوب حسب الفصل 201 مجلة الأحوال الشخصية لا تتنقل إلاّ عند التسليم ويصبح حينئذ التسليم ركنا من أركان الهبة وليس أثرا من آثارها.[47]

وفي الحقيقة يعكس الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية تأثر المشرع بالفقه الحنفي الذي يعتبر أن التسليم ركن.

المبحث الثاني: الأساس الفقهي

إنّ دراسة الأساس الفقهي يتطلب الرجوع إلى فقهاء الشريعة الإسلامية، وفي هذا الإطار اعتبر الفقه الحنفي والشافعي والحنبلي أن التسليم أو القبض كما يحلو لهم تسميته هو شرط لصحّة الهبة وما لم يتمّ القبض لم يلزم الواهب.

وللتعمق أكثر ولفهم هذا الموقف ينبغي التعرض أولا إلى حججه (الفقرة الأولى) قبل رصد نتائجه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: حجج الموقف

يعتبر فقهاء المذهب الحنفي والشافعي والبعض من فقهاء المذهب الحنبلي أن التسليم شرط صحّة فإذا لم يتمّ التسليم لا يلزم الواهب في شيء، وذلك دون تمييز بين هبة المنقول وهبة العقار فالملكيّة عند الحنفيّة لا تنتقل إلاّ بالقبض، أمّا قبل القبض فالملك للواهب يتصرف فيه كيف شاء وله أن يرجع في هبته إذا أراد فتنعقد الهبة إذن قبل القبض ولكنها تكون هبة غير لازمة يرجع فيها الواهب إذا أراد دون اعتداد بموانع الرجوع[48] و لا ينتقل الملك فيها إلى الموهوب له فإذا قبضت الهبة انتقل الملك إلى الموهوب له وأصبح لا يجوز للواهب الرجوع إلاّ إذا لم يوجد مانع من موانع الرجوع المعروفة.

فالقبض إذن عند الحنفية هو شرط لصحة الهبة والدليل على ذلك أنّها تبطل بموت الواهب أو الموهوب له قبل القبض وإن اجتهد في طلبها[49] وذلك على عكس ما ذهب إليه المالكية. فللهبة عند الحنفيّة مراحل ثلاث: مرحلة العقد ويكون غير نافذ فلا ينقل الملك وغير لازم فيجوز الرجوع فيه، ومرحلة القبض وبه ينفذ العقد فينقل الملك ولكنّه لا يلزم، وقيام مانع من موانع الرجوع وبه يلزم العقد.

أمّا عند الشافعية والحنابلة فإنّ الهبة لا تلزم ولا ينتقل الملك إلاّ بالقبض بإذن الواهب فقبل القبض يجوز للواهب الرجوع ولا ينتقل الملك أما بعد القبض بإذن الواهب ينتقل الملك وتلزم الهبة ولا يجوز للواهب الرجوع أصلا إلاّ في حالة اعتصار الوالد الهبة لولده.

فللهبة عند الشافعيّة والحنابلة مرحلتان: المرحلة الأولى، مرحلة العقد ويكون غير نافذ فلا ينقل الملك وغير لازم فيجوز الرجوع فيه – وهذه المرحلة الأولى عند الشافعيّة والحنابلة هي كالمرحلة الأولى عند الحنفيّة – والمرحلة الثانية، مرحلة القبض وبه ينفّذ العقد فينقل الملك ويلزم إلاّ في اعتصار الهبة وهذه المرحلة الثانية تقوم مقام المرحلتين الثانية والثالثة عند الحنفيّة[50].

تنعقد إذن الهبة عند أبي حنيفة وأصحابه بالرضا ولكنها لا تلزم و لا تصحّ إلاّ بالقبض[51] وهو ما نصّت عليه المادة 837 من مجلة الأحكام العدلية –التي تعدّ تقنينا للمذهب الحنفي- التي جاء بها أنّه “تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول وتتمّ بالقبض”.

ويفهم من ذلك أنّ الهبة لدى الحنفيّة عقد غير لازم[52] يملك فيه الواهب بعد الهبة الخيار بين الإمضاء والرّد فإذا أراد الواهب أن يمضي الهبة سلّم موضوعها إلى الموهوب له وتصبح الهبة منذئذ لازمة وإن أراد إلغاء الهبة ترك الموهوب تحت يده فلا يستطيع الموهوب له أن يطالب به.[53] ونتيجة لاعتبار التسليم شرطا لصحة الهبة فالموهوب له لا يصحّ له بيع الهبة أو هبتها قبل قبضها إذ لا يملكها إلاّ بالقبض.[54]

ولئن أقرّ فقهاء المذهب الحنفي أن القبض هو ركن في الهبة وأنه إذا لم يتم لم يلزم الواهب[55] فقد احتجوا في ذلك بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ” لا تجوز الهبة إلاّ مقبوضة”[56].

ومفاد ذلك حسب أحد الفقهاء أنّ “الملك لا يثبت إذ الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق، ولأنّ هذا عقد تبرع فلا يثبت الملك فيه بمجرد القبول كالوصيّة وتأثيره أن عقد التبرع ضعيف في نفسه ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم والملك الثابت للواهب كان قوياّ فلا يزول بالسبب الضعيف حتّى ينضمّ إليه ما يتأيّد به وهو موته في الوصيّة لكون الموت منافيا لملكه وتسليمه في الهبة لإزالة يده عنه بعد إيجاب عقد التمليك لغيره يوضّحه أنّ له في ماله ملك العين وملك اليد فتبرعه بإزالة ملك العين بالهبة لا يوجب استحقاق ما لم يتبرع به عليه وهو اليد ولو أثبتنا الملك للموهوب له قبل التسليم وجب على الواهب تسليمه إليه وذلك يخالف موضوع التبرع بخلاف المعاوضات”.[57]

واحتجوا كذلك بما روي عن “علي” عليه السلام أنّه قال “لا تجوز هبة ولا صدقة إلاّ معلومة مقسومة مقبوضة إلاّ أن تكون صدقة أوجبها الرجل على نفسه فيجب عليه أن يؤديها لله خالصة كما أوجب على نفسه”.[58]

كما احتجوا بحديث “أبي بكر الصديق” رضي الله عنه أنه كان نحل السيّدة “عائشة” رضي الله عنها جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال لها “والله يا بنيّة ما من الناس أحد أحبّ إليّ غنّي بعدي منك ولا أعزّ عليّ فقرا بعدي منك وإنّي كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك وإنما هو اليوم مال وارث”.[59] ويستند كذلك هذا الاتجاه الفقهي الذي يعتبر أنّ القبض هو ركن في عقد الهبة إلى ما روي عن “عمر” رضي الله عنه أنّه قال ” من وهب هبة لذي رحم محرم فقبضها فليس له أن يرجع فيها ومن وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع فيها ما لم يثبت منها” وفي ذلك دليل على أن الهبة لا تتم إلاّ بالقبض لأنه اعتبر القبض للمنع عن الرجوع.[60]

كما احتج مناصري هذا الاتجاه الفقهي بأنّ الهبة هي “عقد تبرع فلو صحّت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم فتصير عقد ضمان وهذا تغيير المشروع بخلاف الوصيّة لأنه ليس في إيجاب الملك فيها قبل القبض تغييرها عن موضعها إذ لا مطالبة قبل المتبرّع وهو الموصي لأنه ميّت”[61].

وما تجدر الإشارة إليه هو انه حسب هذا الاتجاه الفقهي تعتبر الصدقة كالهبة في انه لا يثبت الملك للمتصدق عليه إلاّ بالقبض.[62] ويحتجون بما روي عن ” عمر رضي الله عنه” أنه قال ” ما بال أحدكم يتصدّق على ولده بصدقة لا يحوزها و لا يقسمها، يقول إن أنا متّ كانت له وإن مات إلاّ صارت ميراثا بالقبض” لأن المراد بالحيازة المذكورة في هذا الحديث هو القبض.[63]

وينتج عن إقرار هذا التوجه الفقهي بأنّ الهبة تكون غير ملزمة وغير صحيحة إلاّ بالقبض العديد من النتائج.

الفقرة الثانية: نتائج الموقف

بما أنّ التسليم شرط صحّة في الهبة وبدونه تكون هذه الأخيرة غير ملزمة وغير صحيحة فإنه تبعا لذلك يجب أن يكون التسليم فورياّ فلا تصحّ الهبة حسب هذا الاتجاه إذا لم يتمّ التسليم الحيني وهو ما يبرّر عدم إجازتهم لهبة المشاع فيما لا يقسم لأن القبض شرط جواز هذا العقد والشيوع يمنع من القبض “فلو قسم الواهب ما وهب وافرزه ثمّ سلمه إلى الموهوب له جاز لأن هبة المشاع عند الحنفيّة منعقدة موقوف نفاذها على القسمة والقبض بعد القسمة هو الصحيح إذ الشيوع لا يمنع ركن العقد ولا حكمه وهو الملك فإذا قسّم وقبض فقد زال المانع من النفاذ فينفذ”.[64]

كما ينتج عن القول بأنّ التسليم يجب أن يكون حينياّ ضرورة أن يكون الموهوب موجودا وقت الهبة وهو ما نصت عليه مجلة الأحكام العدلية التي تعدّ تقنينا للمذهب الحنفي بالفصل 856 الذي جاء به أنّه “يشترط وجود الموهوب في وقت الهبة” وذلك لأن ” الهبة تمليك للحال وتمليك المعدوم محال”[65] فلا تصحّ عند المذهب الحنفي والحنبلي هبة المعدوم كأن يهب ما تلد الغنم أو يثمر النخل وإن سلّطه على القبض عند الوجود[66] ويبدو هذا الشرط منطقي إذ لا يتصور التسليم الفوري لشيء غير موجود، إذ أنّ ذلك لا ينسجم مع عينيّة عقد الهبة.

أمّا إذا كان الشيء موجودا فإنّ هبته تجوز ولو كان معلقا بشيء آخر كما إذا وهب الواهب للموهوب له الصوف الذي على ظهر الغنم ثمّ جزّه وسلّمه إيّاه فإنّه يصحّ وتكون الهبة لازمة.[67]

كما يفترض فقهاء المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي أنّ الشيء الموهوب يجب أن يكون معلوما، وقد ذهب أبي حنيفة والشافعي إلى أنّ الشيء الموهوب يجب أن يكون معلوما بالعدد في النقود وبالحدود في الأرض وبالموقع في الدور، فإذا تعدّد الموضوع كدارين لزم التعيين الكامل لرفع أيّ التباس بين الموضوعين.[68] وأمّا ابن حنبل فقد اعتبر أنّ الهبة تمليك مال جائز التصرف، مالا معلوما أو مجهولا تعذّر علمه، ومعنى ذلك أنّ المال الذي يوهب لا بدّ أن يكون معلوما فلا تصحّ عندهم هبة المجهول إلاّ إذا تعذّر علمه كما إذا اختلط قمح شخص بقمح جاره فإنّه يصحّ أن يهب أحدهما قمحه لصاحبه.[69]

ويستوجب التسليم الفوري كذلك أن لا يكون الموهوب معلقا على شيء غير محقق الوقوع[70] كقوله وهبت لك الدار متى حضر أخوك من السفر لأن الحضور من السفر أمر محتمل، قد يحدث قبل موت الواهب وقد لا يحدث وإذا لم يحدث فإن التسليم لا يتمّ وينجر عن ذلك بطلان الهبة.

ويستلزم كذلك التسليم بمفهومه المادي والحيني أن لا يكون الموهوب مضافا إلى وقت[71] حيث نصت المادة 854 من مجلة الأحكام العدلية على أنّ “الهبة المضافة ليست بصحيحة وذلك لكونها تمليك والتمليك لا تصحّ إضافته”، ومثال ذلك قول أحدهم للآخر “وهبت لك هذا الشيء غدا أو الشهر القادم” فذلك غير وارد لأن بقاء الواهب أو الموهوب له على قيد الحياة إلى ذلك الحين غير مضمون وبالتالي فإن التسليم في حدّ ذاته غير مضمون إذ قد يقع وقد لا يقع.

وينسجم اشتراط التسليم الفوري للشيء الموهوب عند الحنفية مع عينية العقد عندهم مادام التسليم شرط صحّة للعقد وركنا من أركانه كما ينسجم التمشي التشريعي الذي يعتبر أن التسليم ركن مع التمشي الفقهي وذلك ليس بالغريب إذا ما اعتبرنا أنّ المشرع قد تأثر بتيار فقهي ما ولكن ما يدعو إلى الحيرة هو أن يكون هناك اتجاهان فقهيان مختلفان حول نفس المسألة ونجد أن المشرع تأثر بهما الاثنين في نفس الوقت.

فلئن يستنتج من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية أن التسليم ركن في العقد وبدونه لا تتم الهبة ويفهم من ذلك أنّه تأثر بالمذهب الحنفي فأنه من جهة أخرى يبدو متأثرا بالمذهب المالكي الذي يجعل من التسليم شرط تمام ممّا يتيح للموهوب له المطالبة به.

الفصل الثاني: التسليم شرط تمام

يرتكز اعتبار التسليم شرط تمام على ركائز تشريعيّة إذ ورد بالقانون ما يفيد ذلك وأخرى فقهيّة ولبيان ذلك سيتم التعرض إلى الأساس القانوني لهذا القول (المبحث الأول) ليتم النظر بعد ذلك في أساسه الفقهي استنادا إلى مصادره (المبحث الثاني).

المبحث الأول: الأساس القانوني

إنّ القول بأنّ التسليم في عقد الهبة هو شرط تمام ليس كذلك من باب التزيّد الذي لا أساس له بل إن هذا القول له أساس تشريعي نجده في الفصول القانونية، حيث ينصّ الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية[72] على ما يلي “إذا لم يتمّ التسليم كان للموهوب له أن يطالب به” وبقراءة هذا الفصل يطرح التساؤل التالي: على أيّ أساس يمكن للموهوب له المطالبة بالتسليم؟

فإذا ما تمّ الأخذ بأنّ التسليم هو ركن في العقد فإنّه تبعا لذلك وفي صورة غيابه لا يمكن الحديث عن هبة أصلا وإذا لم يكن هناك هبة أصلا فلا يمكن بالتالي للموهوب له أن يطالب بشيء إذ أنّ الملزم هنا هو عمليّة التسليم.

أماّ القول بأنه إذا لم يتمّ التسليم كان للموهوب له أن يطالب به حسب الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية فتفسيره المبدئي هو أنّ الهبة قد انعقدت بعد بمجرد توفر عنصري الإيجاب والقبول أي بمجرّد العقد، ويصبح تبعا لذلك عقد الهبة ناقلا للملكية ويرتب حقوقا للموهوب له دون أن يتوقف ذلك على حصول التسليم لأنّ ملك الموهوب له ثابت قبل التسليم، وبالتالي يمكن للموهوب له مطالبته بتنفيذ التزامه شأنه في ذلك شأن المشتري في عقد البيع الذي يعدّ التسليم فيه التزاما محمولا على البائع وليس شرط صحّة في تكوين وإنشاء العقد.

وبناءا على ذلك يصبح عقد الهبة عقدا رضائياّ يتكون دون توقف على القبض ويرتّب حقوقا للموهوب له دون أن يتوقف ذلك على حصول التسليم لأنّ ملك الموهوب ثابت قبل التسليم وله أن يطالب بالشيء الموهوب بعد إبرام العقد وأن يجبر الواهب على التسليم، وهو ما أسّسه الفقه المالكي الذي يبدو أنّ المشرع تأثّر به من خلال الفصل 203 المذكور لذلك يتجه النظر في هذا الأساس الفقهي.

المبحث الثاني: الأساس الفقهي

إنّ اعتبار التسليم في عقد الهبة شرط تمام له أساس فقهي حيث يرى الفقه المالكي أن الهبة تتم وتلزم بإيجاب الواهب ويستطيع الموهوب له أن يجبر الواهب على التسليم، فالهبة عند مالك هي عقد رضائي.[73]

ولفهم هذا التوجه الفقهي سوف يتم رصد المبادئ والحجج التي يستند إليها أصحاب هذا الفكر (الفقرة الأولى) لمعاينة انعكاسات أو نتائج هذا التوجه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: عرض الحجج

يرى الفقه المالكي أنّ التسليم في الهبة شرط تمام وليس شرط صحّة[74] فالهبة تنعقد على وجه الصحة بمجرد توفر الإيجاب والقبول ويصبح من حق الموهوب له أن يطالب بالشيء الموهوب.[75]

وقد ذهب الفقهاء المالكيون إلى القول بأنّ الحوز هو شرط في التمام والاستقرار لا في الصحة واللزوم.[76] ورغم أنّ هناك من الفقهاء من يعتبر أن القبض عند الإمام مالك شرط من شروط صحّة الهبة لا من شروط انعقادها[77] إلاّ أن هذا الرأي مردود إذ لو كان القبض عند الإمام مالك شرط من شروط صحّة الهبة لما أمكن إجبار الواهب على تسليم الشيء الموهوب.

وتلزم الهبة إذن حسب المذهب المالكي بالقول فإذا “امتنع الواهب من التحويز فللموهوب له طلبها منه عند حاكم والحاكم يجبره على تمكينه منها”[78]، وتبعا لذلك تكون للهبة عند المالكية مرحلة واحدة هي مرحلة العقد فيكون بمجرّد انعقاده نافذا لازما ومن ثمّ يلزم الواهب بتسليم الموهوب ومتى تمّ التسليم انتقل الملك.[79]

ويقول في هذا الخصوص أحد الفقهاء المالكين أنّ ” عقد الصدقة والهبة يصحّ ويلزم من غير قبض لكن القبض شرط في نفوذه وتمامه فإنّ قال تصدّقت عليك بهذا الثوب أو العبد أو الدار أو غير ذلك من الأملاك أو وهبته لك ولم يرد بالهبة عوض الثواب فقال قد قبلت منك فقد انعقد وليس للواهب ولا للمتصدق الرجوع فيه ويلزمه إقباضه للموهوب له أو التصدّق عليه إذا طالبه ويجبر على ذلك إذا امتنع منه”.[80]

ويؤخذ من ذلك أنّ التسليم لدى المالكية هو شرط تمام بدليل أنّه إذا اجتهد الموهوب له في قبض الهبة حتّى مات الواهب تصحّ الهبة ويتنزّل الاجتهاد في القبض منزلة الحوز حتى أنّه إذا باع الموهوب له الهبة أو وهبها قبل قبضها ومات الواهب تصحّ الهبة إذا أشهد الموهوب له على البيع أو الهبة وأعلن عند الحاكم بما فعله.[81]

وما تجدر الإشارة إليه والملفت للنظر في هذا الإطار هو انه رغم أن عقد الهبة يتمّ بمجرّد اتحاد الإدارتين ويكون بمجرّد انعقاده نافذا لازما إلاّ أنّ الملكيّة لا تنتقل إلى الموهوب له إلاّ بالقبض.[82] وتبعا لذلك فإنه إذا لم يتمّ التسليم لا تنتقل ملكيّة الشيء الموهوب، فإذا مات الواهب قبل أن يسلّم الشيء الموهوب إلى الموهوب له وقبل أن يتسلمها هذا الأخير يصبح عقد الهبة باطل لأنّ الهبة وإن كانت تلزم بالعقد إلاّ أنّها لا تتمّ إلاّ بالقبض، أمّا إذا مات الموهوب له فإنّ ذلك لا يؤثر على لزوم الهبة حسب الإمام مالك لأنّ الورثة يأخذون منزلة الموهوب له ويتسلمون الموهوب من الواهب باعتباره جزءا من ثروة مورثهم.[83]

وقد احتجّ أصحاب المذهب المالكي لتبرير موقفهم بأنّ عقد الهبة شبيه بعقد البيع إذ الأصل في العقود أنّ التسليم غير مشترط في صحّتها حتى يقوم الدليل على اشتراط التسليم.[84]

كما اعتبروا أنّ ” الملك يثبت في الهبة بالعقد قبل القبض لأنه عقد تمليك فلا يتوقف ثبوت الملك به على القبض كعقد البيع بل أولى لأنّ هناك الحاجة إلى إثبات الملك من الجانبين وهنا من جانب واحد فإذا كان مجرّد القول يوجب الملك من الجانبين ففي جانب واحد أولى”.[85]

وردّوا على أدلة الفريق الأوّل بأنّ الحديث “لا تجوز الهبة إلاّ مقبوضة” لم يثبت إسناده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واعتبروا أنّ رجوع أبي بكر الصديق في هبته قبل القبض هو اجتهاد منه وأنّ اجتهاد الصحابي لا ينهض دليلا لوحده.[86] كما اعتبروا “أنّ الهبة عقد من العقود ومبنى العقود على اللزوم ومحلّها القول منه يكون وبه يلزم وما الإنسان لولا اللسان”[87]، وتبعا لذلك يكون الواهب مجبور على الوفاء بعقده وتسليم ما وهب لصاحبه. وينتج عن اعتبار أنّ الهبة تكون ملزمة وصحيحة بمجرّد العقد عديد النتائج.

الفقرة الثانية: نتائج الموقف

بما أنّ الهبة تنعقد لدى المالكيّة على وجه الصحّة بمجرّد توفر الإيجاب والقبول، فإنّ المالكيّة يقبلون التسليم المؤجّل وحتى التسليم غير محقق الوقوع.[88]

فيجوز عندهم هبة العبد الهارب والبعير الشارد والمغصوب[89] وكذلك يجيزون هبة المجهول إذ لا “يشترط في الموهوب أن يكون معلوما فيجوز أن يهب مجهول العين والقدر ولو كان يظن أنه يسير فظهر أنه كثير فإذا وهب ميراثه من عمّه لشخص وكان قد يعرف قدره ويظنّ أنه يسير فاتضح أنه كثير فإنّ الهبة تصحّ”[90]، حتّى أنّهم يجيزون الهبة للجنين حيث يوقف الشيء الموهوب فإن مات بعد ولادته حيّا كان الموهوب لورثته وإن ولد الجنين ميتا بقي الشيء الموهوب للواهب[91].

ويبدو هذا منطقياّ إذا ما أخذنا بأن الهبة تكون ملزمة وصحيحة بمجرّد العقد ولكن ما نشير إليه هو أن هناك خلاف بين الفقهاء المالكيين أنفسهم حول هذه المسألة فلئن اعتبر الرأي الأول أن الهبة لا تبطل بموت الواهب أو الموهوب له قبل التسليم وذلك لأن الهبة أصبحت ملكا للموهوب له بمجرد العقد فإنّ هناك رأي ثاني يفرق بين حالة موت الواهب وحالة موت الموهوب له ويعتبر أن موت الواهب قبل أن يسلم الهبة للموهوب وقبل أن يقبضها هذا الأخير يجعل الهبة باطلة وحجتهم في ذلك أن الهبة وإن كانت تلزم بالعقد إلاّ أنها لا تتم إلاّ بالقبض.

أماّ في صورة موت الموهوب له فإنّ الهبة لا تبطل ويأخذ منزلة الموهوب له ورثته فيتسلمون موضوع الهبة من الواهب باعتباره جزءا من ثروة مورثهم.

على أن هناك رأي آخر يعتبر أنه إذا مات الموهوب له وهو على المطالبة بالتسليم غير متراخ في ذلك لم يبطل العقد بموته ولورثته من بعده المطالبة بالتسليم، أماّ إذا تراخى الموهوب له في المطالبة بالتسليم أو أمكنه تسلّمها فلم يتسلّم حتى مات الواهب أو مرض بطل العقد.[92]

إنّ اعتبار التسليم في الهبة ركن من أركان العقد مثلما يفهم من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية ومثلما ذهب إلى ذلك الفقه الحنفي أو اعتباره شرطا لتمام العقد مثلما يفهم من الفصل 203 من نفس المجلة، ومثلما ذهب إلى ذلك الفقه المالكي يعتبر أخذا بظاهر الأمور لذلك يتجه الترجيح بين هذه المواقف في محاولة لتحديد طبيعة هذا التسليم.

الفصل الثالث: الترجيح بين الموقفين

إنّ القول بأنّ التسليم في عقد الهبة يعد ركنا حتما أو القول بأن التسليم يعدّ شرط تمام بالضرورة يعتبر أخذا بظاهر الأمور إذ لا يمكن الجزم بذلك، على أنّه يمكن في المقابل اعتبار أنّ التسليم هو شرط صحّة من جهة والتزام من جهة أخرى، فالتسليم يكون في حالات شرط لصحّة العقد إذا ما تعلّق الأمر بمنقول مادي نظرا لأنّ التسليم فيه ليس تنفيذا لالتزام لأنّ الهبة لم تتمّ أصلا قبل التسليم، فهبة المنقول المادي هي عقد عيني لأنه لا يتمّ إلاّ بالتسليم الذي يعدّ شرطا أساسيا لتكوينه وقيامه صحيحا (المبحث الأول).

على أنّ التسليم يصبح في حالات أخرى التزام وذلك إذا ما تعلّق الأمر بهبة العقارات نظرا لأنّ هبة هذه الأشياء لا تصحّ إلاّ بالحجة الرسميّة وبذلك تصبح الحجّة الرسمية هنا ركن من أركان صحّة عقد الهبة ينضاف إلى الأركان الأربعة لوجود العقد وتكوينه كما ذهب إليه الأستاذ « Carbonnier[93] » ممّا يسمح بالقول بأنّ التسليم في الهبة العقارية هي عقد شكلي وما التسليم في إطارها إلاّ التزاما ناتجا عن العقد وليس شرطا له باعتبار أنّ العقد قد تكوّن بمجرّد تحرير الحجّة الرسمية (المبحث الثاني).

المبحث الأول التسليم شرط صحّة في هبة المنقول المادّي

يعدّ التسليم في هبة المنقولات الماديّة أو الهبة اليدوية[94] كما يحلو للفقه تسميتها شرط صحّة وركن من أركان العقد وليس التزاما، فالتسليم ضروري لتمام هبة المنقول ولنقل ملكيته. ولا بدّ في هذا الإطار من إيضاح أمر وهو أنّه ولئن استعمل المشرّع عبارة “تصحّ” عندما تعرّض لهبة المنقول المادي فإنّه قصد بذلك أنّ التسليم هو ركن في العقد وذلك لاختلاف اللفظين في المعنى،

فالركن هو ما كان داخل ماهية الشيء[95] لذلك عندما يكون التسليم ركن ففي غيابه لا يمكن الحديث عن عقد هبة أصلا، أمّا إذا كان التسليم شرط صحة ففي غيابه يوجد العقد لكنّه لا يكون صحيحا لكن الأكيد أنّ المشرع اتجهت نيته أساسا نحو اعتبار التسليم في عقد هبة المنقول المادي ركنا للعقد ينعدم بانعدامه وهو ما سيتبيّن من خلال دراسة صحّة الهبة اليدويّة (الفقرة الأولى) التي تتطّلب شروطا معيّنة حتى تكون صحيحة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: صحّة الهبة اليدويّة

أقرّ المشرع بصحة الهبة اليدوية رغم أنّه لم يستعمل هذا المصطلح تحديدا وإنّما هو مصطلح فقهي يفيد هبة المنقول المادي (أ) الذي تبرّر طبيعته الخاصة أن يكون التسليم فيها شرطا لتكوينها (ب).

أ- مبدأ صحّة الهبة اليدوية

تنصّ الفقرة الثانية من الفصل 204 من مجلّة الأحوال الشخصيّة على ما يلي “…أمّا فيما يخصّ المنقولات الماديّة فالهبة تصحّ بالمناولة”.[96]

ويؤخذ من هذا الفصل أنّ المناولة هي شرط صحّة في هبة المنقول المادي فهبة هذا الأخير لا تصحّ إلاّ بالتسليم فإذا لم يتم التسليم لا يمكن الحديث عن عقد هبة في المنقول المادي.[97] فمن الواضح أنّ التسليم في هبة هذا الأخير له دور إنشائي للعقد إذ لا يقوم العقد إلاّ بتوفر التسليم، وقد أكد الفقه هذه الصبغة العينية لهبة المنقول المادي من خلال الإقرار بأنّ انتقال ملكية الشيء الموهوب إن كان منقولا ماديا تحصل بتمام الإيجاب والقبول والتسليم أي وضع اليد أو المناولة.[98]

وتعرّف الهبة اليدوية التي تسمّى أيضا الهبة العينية أو الهبة بالتعاطي أو المعاطاة[99] بأنّها “هبة المنقول التي تحصل بمجرّد تسليم الواهب الشيء الموهوب إلى الموهوب له وسميت يدويّة لأنها تنتقل من يد الواهب إلى يد الموهوب له”.[100]

وما تجدر ملاحظته أنّه في فرنسا لا يوجد نصّ بالمجلّة ينصّ بصفة صريحة على الهبة اليدوية ولكن الفقه وفقه القضاء مجمعان على صحّة الهبات اليدويّة والتي تتم بمجرد المناولة دون حاجة إلى ورقة رسمية[101] وذلك على عكس بعض التشريعات العربية التي أقرّت صراحة الهبة اليدويّة من ذلك قانون الموجبات والعقود اللبناني الذي جاء بالفصل 509 منه أنّ “الهبة اليدوية تتم بأن يسلّم الواهب الشيء إلى الموهوب له”.

وقد ذهب الفقه في نفس الاتجاه حتّى أنّ هناك من الفقهاء من اعتبر أنّ الهبة اليدوية والتسليم ليسا سوى شيئا واحدا[102] وأنّ الهبة اليدويّة عقد عيني وتكون قبل قبض الموهوب مجردة عن كلّ أثر قانوني[103]. كما اعتبر جانب آخر من الفقه أن المناولة أو وضع اليد في الهبات اليدويّة إنما هي تطبيق للشكل وبقاء لمبدأ اشتراط الشكليّة في عقد الهبة وليس استثناء له.[104]

ولا يسعنا الحديث عن التسليم في هبة المنقول المادي دون التعرض إلى كيفية إثباته، فلمّا كان التسليم واقعة مادية[105] فإنّ إثباتها يجوز بكافة الطرق التي نصّ عليها الفصل 427 من مجلة الالتزامات والعقود وهو ما أكده فقه القضاء حيث جاء بالقرار التعقيبي عدد 5191[106] ما يلي: “إنّ تسليم موضوع الهبة للموهوب له هو واقعة يجتهد قضاة الموضوع في تقديرها وضبط عناصرها دون رقابة عليه في ذلك طالما علّلوا قضائهم”.

وتفرض مسألة إثبات التسليم في الهبة اليدوية التعرض إلى فرضيتين:

الفرضيّة الأولى أن يدعي حائز المنقول أنه قد تسلّم هذا الشيء من طرف شخص على أساس هبة وتطرح هذه الفرضيّة خاصة عند موت الواهب فيجد الموهوب له نفسه في مواجهة الورثة فيحصل النزاع، إذ يدعي الورثة أن المنقول ملك للمورّث وبالتالي يدخل في التركة ويتمسك الحائز بأن المورث وهبه ذلك المنقول قبل موته وسلّمه إياه ويرتكز هنا هذا الحائز على قرينة هامة هي الحيازة التي تعدّ قرينة على الملكيّة[107] خاصة إذا كان ذلك المنقول غير خاضع لشكليات الإشهار وهو ما نصّ عليه الفصل 53 من مجلة الحقوق العينية[108] الذي جاء به أنّ “من حاز شيئا منقولا أو صبرة من المنقولات شبهة حمل على أنه ملك ذلك بالوجه الصحيح وعلى من يدعي خلاف ذلك أن يثبته.”

ومن هذا المنطلق يعد الحائز مالكا للمنقول حتى يقيم الورثة الدليل بجميع الطرق على أنّه غير مالك وأنّه قام باختلاس ذلك المنقول.
أمّا الفرضيّة الثانية فهي أن يدعي شخص أنّه وهب منقولا لشخص وسلّمه إياه وتراءى له فيما بعد الرجوع عن هذا الهبة ولكن في المقابل ينفي الحائز للمنقول تلقيه للهبة وللتسليم، ففي هذه الحالة يكون على الشخص الذي إدعى حصول التسليم أن يثبت ذلك في مواجهة الحائز أمّا هذا الأخير فليس عليه إثبات شيء لأن هناك قرينة تحميه وهي أن الحيازة قرينة على الملكيّة في المنقول الذي تبرّر طبيعته مناولته يدا بيد.

ب- تبرير صحّة الهبة اليدويّة

تعدّ الهبة اليدويّة عقدا عينياّ لا يتمّ إلاّ بالتسليم الذي يشكّل ركنا أساسياّ من أركانه وتبرير ذلك أن طبيعة الهبة اليدويّة توجب أن لا تكون في غير المنقولات المادية لأنها تكون قابلة للحوز المادي فموضوع الهبة اليدويّة وهو المنقول المادي يكون التسليم الفعلي في إطاره ممكنا حيث يمكن للواهب أن يناول المنقول الموهوب إلى الموهوب له يدا بيد وبذلك تنتقل حيازة الشيء الموهوب من الواهب إلى الموهوب له وبذلك تتمّ الهبة دون الحاجة إلى أيّ إجراء آخر، إذ أنّ ” المناولة في هذه الصورة هي إجراء يغني عن الحجة الرسميّة ولا محلّ للجمع بين الحجة الرسمية والمناولة الفوريّة”[109] فصحة الهبات اليدوية تتأتى من أنها تتمّ بمجرد التسليم الفعلي للشيء محل الهبة دون حاجة إلى توثيق ذلك بحجة رسمية.

فالمناولة تعدّ أكثر ملائمة لطبيعة المنقول المادي، وهو عمل مادي كفيل بأن ينبّه الواهب إلى خطر ما أقدم عليه إذ يتجرد عن حيازة الشيء الموهوب وهو ما جعل المشرع يجيز هذا النوع من الهبات وذلك عندما نصّ على الهبة تصحّ بالمناولة عندما يتعلق الأمر بمنقولات ماديّة مستثنيا بذلك المنقولات المعنويّة التي لا يمكن في إطارها تصور التسليم الفعلي الذي يعدّ الشرط الأساسي لصحة الهبة اليدويّة (الفقرة الثانية).

الفقرة الثانية : شروط صحّة الهبة اليدويّة

يشترط لصحّة الهبة اليدويّة توفر نوعيّة معينة من الشروط التي تنقسم إلى شروط شكليّة تتعلق بشكل التسليم (أ) وأخرى موضوعيّة تتعلق بموضوع التسليم (ب).

أ- الشروط الشكليّة

تصحّ الهبة اليدويّة حسب الفقرة الثانية من الفصل 204 من مجلّة الأحوال الشخصيّة بالمناولة حيث يقوم الواهب بمناولة الشيء الموهوب إلى الموهوب له يدا بيد وهو ما يسمى بالتسليم الفعلي الذي يستدل على حصوله من خلال وضع الموهوب له يده على المال المنقول الموهوب، فإذا ما وقع هذا التسليم الفعلي تتمّ الهبة وتنتقل بذلك ملكية الأموال الموهوبة من الواهب إلى الموهوب له.

يبدو الأمر إلى هذا الحد على غاية من السهولة بما أنّ التسليم الفعلي هو شرط لصحّة الهبة اليدويّة ومتى تمّ هذا التسليم تمّت الهبة وانتقلت ملكيّة المنقول المادّي إلى ملك الموهوب له، على أنّ الأمر ليس بتلك السهولة إذ قد يحصل أن يكون المال المنقول موجودا تحت يد الموهوب له قبل الهبة وذلك بالاستناد إلى عقد إيجار أو إعارة أو وديعة فكيف يتمّ التسليم في هذه الحالة؟ خاصّة مع وجود عبارة “المناولة” الواردة بالفقرة الثانية من الفصل 204 المذكور والتي تحيل إلى التسليم الفعلي.

لئن اعتبر جانب من الفقه أنّ الهبة اليدويّة لا تتم إلاّ بالتسليم الفعلي والقبض التام[110] وأن الأساس أن يكون التسليم حقيقيا بأن يقبض الموهوب له المنقول الموهوب فعلا و لا يكفي أن يكون حكمياّ كتسليم مفاتيح المخازن الموضوعة فيها المنقولات أو سند إيداع الأوراق المالية في احد المصارف إذا كانت لحاملها ولو أنّ كلّ ذلك يعتبر في عقد البيع تسليما للمبيع مبرئا لذمّة البائع[111] فإنّ جانبا آخر من الفقه اعتبر أنّ هذا الوجه من التسليم يتناسب مع أحكام الهبة حيث يتفق الواهب والموهوب له على أن يبقى المنقول تحت يد هذا الأخير ولكن ليس كمستأجر أو مستعير أو مودع لديه أو مرتهن وإنما كمالك عن طريق الهبة فيكون التسليم في هذه الحالة قد حصل حكما[112].

وبالعودة إلى موقف المشرع نرى أنه ولئن أقرّ بصحة هذا الوجه من التسليم أي التسليم الحكمي وذلك عند ضبطه لكيفيات التسليم في عقد البيع حيث اعتبر أن التسليم يحصل بمجرّد اتفاق المتعاقدين إن كان تسلّم المبيع محتاجا لمؤونة أو كان المشتري واضعا يده عليه بوجه آخر.[113]

إلاّ أن الفقرة الثانية من الفصل 204 من مجلة الأحوال الشخصية كانت واضحة وجليّة من حيث اشتراطها للتسليم الفعلي الذي يتمّ من خلال المناولة وذلك فيما يخصّ المنقولات الماديّة وهو ما يحيلنا إلى القول بأن المشرع لا يعتدّ إلاّ بالتسليم الفعلي عندما يتعلق الأمر بهبة منقول مادي لأن التسليم الفعلي هو الذي يحقق نقل الملكية التي تعدّ قوام عقد الهبة باعتباره من أعمال التصرّف. وقد ذهب الفقه في هذا الاتجاه مؤكدا على أنّ القبض الواجب لنقل الملكية يجب أن يكون حقيقيا وكاملا، فلا عبارة بالقبض الحكمي لأنه لا ينقل الملكية[114] في المنقول المادي الذي يعدّ الشرط الموضوعي لصحة الهبة اليدوية.

ب- الشروط الموضوعيّة

جاء بالفقرة الثانية من الفصل 204 من مجلة الأحوال الشخصية أنّ هبة المنقولات المادية تصح بالمناولة وتعتبر هذه القاعدة امتدادا للفصل 53 من مجلة الحقوق العينية الذي ينص على أنّ “من حاز شيئا منقولا أو صبرة من المنقولات شبهة حمل على أنّه ملك ذلك بالوجه الصحيح…” فالحيازة تعتبر شرطا ضروريا في هبة المنقول المادي.

وقد عرّف المشرع المنقول صلب الفصل 13 من مجلّة الحقوق العينية معتبرا أنّ المنقول إماّ أن يكون منقولا بطبيعته أو بحكم القانون، وبالرجوع إلى الحياة العمليّة يتضح أن المنقول طبيعيا كان أو حكمياّ ينقسم بدوره إلى صنفين الصنف الأول يضمّ المنقولات الماديّة وهي كلّ المنقولات الملموسة التي لها كيان مادي كالأثاث والآلات أماّ الصنف الثاني فيضمّ المنقولات غير الماديّة أو المعنويّة وهي جميع المنقولات التي لا تتمتع بوجود مادّي في ذاتها ولكنها حقوق ذات قيمة مالية لها مكانها في الذمّة المالية.

وبما أنّ الهبة اليدويّة تقتصر على المنقولات المادية بناءا على أنّ “ما يصحّ تملكه بوضع اليد يجوز أن يكون محلا لعقد الهبة اليدوية”[115] فإنّه يخرج من نطاقها سائر المنقولات المعنويّة كالديون وحقوق الملكيّة الأدبيّة والفنيّة والصناعيّة والتجاريّة والأسهم الإسميّة أو الإسم التجاري رغم أنّ الفقه بفرنسا يرى أنّ هبة المخطوط تتضمّن حقّ الموهوب له في نشره فينتقل بالهبة اليدويّة التي تقع على المخطوط حق المؤلف إلى الموهوب له[116].

كما يستثني الحقوق التي تقع على أشياء مادية وهي الحقوق العينية كحق الملكية وحقّ الانتفاع والحقوق التي ليس لها اتصال بالأشياء المادية وهي التي تتمثل في حصص الشركاء في شركات الأشخاص والشركات ذات المسؤولية المحدودة وفي السندات مثل الأسهم والرقاع[117].

إنّ اشتراط المنقول المادّي كمحل لصحّة الهبة اليدويّة يبدو منطقياّ إلى حدّ بعيد فطبيعة هذا المنقول تتيح مناولته وتحقق عمليّة التسليم الفعلي فيه وذلك على عكس المنقولات المعنويّة التي لا يتصوّر فيها إمكانيّة المناولة يدا بيد، رغم أنّ بعض القوانين مثل القانون المصري تجيز أن يكون محلاّ للهبة اليدوية المنقولات المادية والمنقولات المعنوية فكلّ منقول يصحّ أن يكون محلاّ للهبة اليدوية عندهم، وتبعا لذلك يصحّ أن ترد على الديون وإن كانت منقولات معنوية، كما ترد على “السندات سواءا كانت لحاملها أو كانت تحت الإذن أو كانت سندات إسميّة فهي منقولات معنوية يقبضها الموهوب له بالتسلّم الفعلي في السندات لحاملها وبالتظهير مع تسلّم السند في السندات تحت الإذن وينقل السند إلى إسمه طبق الإجراءات المقرّرة لذلك مع تسلّم السند في السندات الإسمية”.[118]

أمّا في فرنسا فترد الهبة اليدوية على السندات لحاملها دون غيرها لأنّها تعدّ منقولات مادية ولا ترد الهبة اليدوية على السندات تحت الإذن ولا على السندات الإسمية ولا على الديون لأنها غير قابلة للقبض الفعلي[119].

كما يستثنى من الهبة اليدوية هبة العقارات لعدم إمكانية تصور المناولة فيها ونظرا لأنّ هبة المنقول المادي تتطلّب التسليم الفوري والحيني زمن إبرام عقد الهبة وهو ما لا يمكن في هبة العقارات والمنقولات المسجّلة، فهذه الأخيرة تخضع لنظام خاص لانتقال ملكيتها نظرا لقيمتها المالية المعتبرة وهو ضرورة توفر الكتب[120]

وكذلك موجب التسجيل الذي يسري على السفن[121] والسيارات والعربات وبعض الدراجات النارية[122] وكذلك الطائرات[123]، فعقد الهبة الذي يكون موضوعه عقارا أو منقولا مسجلا يكون التسليم في إطاره التزاما أي أثرا شخصيا للعقد.

المبحث الثاني: التسليم التزام في هبة العقارات

يعدّ التسليم في هبة العقارات التزاما وليس شرطا لصحة العقد باعتبار أنّ الحجة الرسميّة هي التي تمثل شرط الصحة عوضا عن التسليم (الفقرة الأولى) الذي يصبح التزاما واجبا على الواهب (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى: تعويض التسليم بالحجة الرسميّة

تعتبر الحجّة الرسمية شرطا وجوبيا لصحة الهبة (أ) ينجر عنها في صورة توفرها أو غيابها عديد الآثار (ب).

أ- وجوبيّة الحجّة الرسميّة

تتأتّى وجوبية الحجة الرسمية من النصّ القانوني (1) الذي بيّن في نفس الوقت نطاقها (2)

1- وجوب الحجّة الرسميّة

تنصّ الفقرة الأولى من الفصل 204 من مجلّة الأحوال الشخصيّة[124] على ما يلي “لا تصحّ الهبة إلاّ بحجّة رسميّة والحقوق العينيّة المترتبة عنها بالنسبة للعقارات المسجّلة لا تتكون إلاّ بترسيمها بالسجل العقاري” وبذلك تكون الحجة الرسميّة شرط صحّة في عقد الهبة أي ركنا من أركانه، حتى أنّها تعدّ عنصرا إنشائيا للعقد فهي ليست مجرد أداة إثبات بل هي شرط لتكوينه.

إنّ اشتراط الحجّة الرسمية له ما يبرّره إذ أنّ عقد الهبة يعدّ عقدا خطيرا نظرا لأنّ الواهب يتجرد في إطاره عن ماله دون مقابل وذلك على عكس عقد البيع الذي يأخذ فيه البائع مقابلا لما أعطى لذلك اشترط المشرّع الحجة الرسميّة لصحّة العقارات، فالحجة الرسميّة وما تستلزمه من إجراءات من شأنها أن تعين الواهب على التريث والتأمل في صحة تصرفه وفي ذلك حماية له، كما تعين الحجة الرسمية أسرة الواهب[125] وذلك بإحاطتهم علما بتصرفات مورثهم الذي قد يسلبهم حقهم من التركة إذا ما قام بهبة أمواله كما تساهم الحجة الرسميّة في حماية الموهوب له وذلك بضمان حقّه وإثباته بشكل أكيد منعا من رجوع الواهب عن هبته دون سبب قانوني ومشروع[126] فخير للموهوب له أن يتسلّح بهذه الرّسميّة للدفاع عن حقّه[127] خاصة في صورة نشوب نزاع حول التنفيذ.

فالحجة الرسمية رغم ما تستلزمه من إجراءات وتعقيد في بعض الأحيان إلاّ أنّ فوائدها كثيرة من حيث أنّها تحمي الرضا[128] وتسهلّ عمل القاضي في فصل النزاع وتحمي سير الدعوى على مستوى الإجراءات،[129] كما تسهل تنفيذ الحكم حيث أوجب الفصل 125 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية على “المحاكم الابتدائية أن تأذن بتنفيذ أحكامها مؤقتا بضمان أو بدونه ودون التفات للاستئناف إذا كان هناك كتب رسميّ”.

وقد عرّف المشرّع الحجة الرسمية بالفصل 442 من مجلّة الالتزامات والعقود بأنها التي “يتلقاها المأمورون المنتصبون لذلك قانونا في محلّ تحريرها على الصورة التي يقضيها القانون” وقد حصر المشرع الأشخاص الذين بإمكانهم تحرير الصكوك والاتفاقات الخاضعة للترسيم بالسجل العقاري والتي نجد من بينها عقد الهبة وذلك بمقتضى الفصل 377 من مجلّة الحقوق العينيّة الذي أضيف بمقتضى القانون عدد 45 لسنة 1992 وهم حافظ الملكيّة العقارية، عدول الإشهاد، المحامين المباشرين، ويعتبر المشرع العقد المحرّر من غير هؤلاء باطلا بطلانا مطلقا.

كما أوجب الفصل 377 ثالثا والمضاف بنفس القانون أن يتضمن الكتب جملة من البيانات فالحجة الرسميّة يجب أن تتضمن جميع شروط الهبة من مال موهوب وواهب وموهوب له وجميع الشروط التي قد يحتويها هذا العقد من عوض والتزامات مفروضة على الموهوب له وبهذا التنقيح الجديد فإن المشرّع يكون قد أضاف إجراءات جديدة زادت في حدّة الشكليّة في هذا النوع من الهبات الذي يشمل العقار وغيره.

2- نطاق الحجّة الرسميّة

جاء بالفصل 204 من مجلّة الأحوال الشخصيّة أنّ الهبة لا تصحّ إلاّ بالحجة الرسمية واستثنى من ذلك هبة المنقولات المادية التي تصحّ بالمناولة وبذلك يكون شرط الحجة الرسميّة خاصاّ بهبة العقارات بأنواعها.

عرّف المشرّع العقار بأنه كلّ شيء ثابت في مكانه لا يمكن نقله منه دون تلف[130] معتبرا أن العقارات إما أن تكون طبيعيّة أو تبعيّة أو حكميّة.[131] ولئن كانت العقارات الطبيعيّة لا تثير أي إشكال وكذلك العقارات التبعيّة فإن العقارات الحكميّة يمكن أن تثار في شأنها بعض الصعوبات، حيث يتّضح من الفصلين التاسع والعاشر من مجلّة الحقوق العينيّة أنّ العقارات الحكميّة هي في الأصل منقولات وأخذت حكم العقار بصلتها به فقبل أن تتصل بالعقار فإنّ الحجة الرسميّة غير مشترطة بالنسبة لعقد الهبة المبرم في شأنها.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ المشرع قد كرّس صلب الفصل 204 المذكور تفرقة ضمنيّة بين العقار غير المسجل والعقار المسجّل، وهي تفرقة جوهرية مكرّسة منذ 1885، إلاّ أنّ كلاهما يخضع لنطاق الحجّة الرسمية، فالعقار المسجل وهو العقار الذي يحتوي على رسم عقاري –يحمل إسمه وعدده الرتبي ومساحته ومثاله منذ نشأته- بسجل الملكية العقارية لا تصحّ هبته إلاّ بإتباع شكل معيّن ألا وهو تحرير الحجّة الرسمية. وقد أوجب المشرع ضرورة ترسيم الهبة الواقعة على الحقوق العينية بالنسبة للعقارات المسجلة بالسجل العقاري وذلك كشرط لتكوينها، فمجال الترسيم يشمل كلّ الحقوق العينية من ذلك حق الارتفاق الذي استوجب الفصل 166 من مجلة الحقوق العينية ضرورة ترسيمه.

كما يخضع لمجال الحجّة الرسمية العقار غير المسجل وهو العقار الذي ليس له رسم عقاري بسجل الملكية العقارية والمنقولات المسجلّة نظرا لقيمتها المالية المعتبرة، ويستثنى منها الهبة غير المباشرة وهي التي تكسب الموهوب له حقا عينيا أو حقا شخصيا دون مقابل عن طريق الواهب لكن دون أن ينتقل إليه ذلك الحق مباشرة من هذا الأخير.[132] ومن أمثلة الهبة غير المباشرة إسقاط الدين والاشتراط لمصلحة الغير، كما استثنى الفقه من وجوب الحجة الرسمية الهبة المستترة،[133] وهي هبة مباشرة لكنها تظهر تحت ستار عقد آخر كعقد البيع.[134]

وينتج عن الحجة الرسمية في صورة توفرها أو غيابها عديد الآثار.

ب- آثار الحجة الرسمية

تتأتى أهمية الحجّة الرسمية من خلال أهمية الآثار التي تنتج عنها في صورة إنجازها (1) وكذلك في صورة غيابها (2).

1- آثار الحجّة الرسمية في صورة تحقيقها

لمّا كانت الحجّة الرسمية شرطا لصحة الهبة العقارية فإنّه بتوفرها تنعقد الهبة وتنتج آثارها، الأول هو انتقال ملكية الموهوب إلى ملك الموهوب له وهو أثر عيني والثاني هو التزام الواهب بالتسليم وهو أثر شخصي، وسيقتصر الحديث عن الأثر العيني لأنّ واجب التسليم سيتم تناوله في موقع لاحق.

ففي ما يخص انتقال الملكية فإنّه يجب التفريق بين هبة العقار المسجل والعقار غير المسجل، فبالنسبة للثاني تنتقل الملكية فيه مبدئيا بمجرد تحرير عقد الهبة بالحجّة الرسمية ولا يتوقف انتقال الملكية على تسجيل الكتب بالقباضة المالية لأنّ هذا التسجيل مستوجب للاحتجاج بالهبة على الغير وليس ضروريا لانتقال الملكية. أمّا بالنسبة للعقار المسجل فيجب كذلك التفريق بين فترتين زمنيتين، فقبل قانون 04 ماي 1992 كانت الملكية تنتقل بمجرد التراضي وتحرير العقد وما الترسيم إلاّ شرط للاحتجاج على الغير، إلاّ أنّه ومنذ تنقيح 04 ماي 1992

أصبحت الملكية لا تنتقل إلاّ بالترسيم بالسجل العقاري وهو ما اقتضاه الفصل 305 من مجلة الحقوق العينية، فالهبة غير المرسمة لا تحدث أيّ أثر عيني أي أنّ ملكية العقار الموهوب لا تنتقل حتّى في ما بين المتعاقدين ويبقى الموهوب على ملك الواهب يتصرف فيه كيف ما يشاء، فإذا ما باعه أو وهبه لشخص آخر وعمد هذا الأخير إلى ترسيم هبته فإنّ الملكية تنتقل إليه، إذ أنّ الترسيم يعود بالفائدة على الموهوب له حيث يصبح بعد إتمامه مالكا للموهوب.

يتبيّن إذن ممّا سبق أهمية الحجّة الرسمية من حيث إفرازها لأهمّ أثر عيني ألا وهو انتقال الملكية ممّا يدعو إلى التساؤل عن مآل الهبة التي لم تحرّر فيها الحجة الرسمية المستوجبة لصحتها.

2- آثار الحجة الرسميّة في صورة غيابها

اقتضى الفصل 204 مجلة الأحوال الشخصية أنّ الهبة لا تصحّ إلا بحجة رسميّة ويؤخذ من هذا النّص القانوني أنّ تحرير الهبة بحجة رسميّة هو شرط صحّة وركن من أركان العقد لا تصحّ الهبة بدونها وبالتالي فإنّ الإخلال بها تجعل العقد باطلا، وهو ما ذهب إليه فقه القضاء من خلال القرار التعقيبي المؤرخ في 9 مارس 2006[135] حينما اعتبر أنّ “الهبة التي لم تحرّر فيها حجة رسمية ولم تسلم للموهوب له إلى أن توفي تعد باطلة”.

ولئن لم ينص المشرع بذات الفصل على نوع البطلان فإنّ محكمة التعقيب تولّت ذلك حيث جاء بالقرار التعقيبي المؤرخ في 25 ديسمبر 1998[136] ما يلي: “حيث اقتضى الفصل 204 مجلّة الأحوال الشخصيّة أن الهبة لا تصحّ إلاّ بحجة رسميّة وحيث يؤخذ من النص القانوني المذكور أن تحرير عقد الهبة بحجة رسميّة هو شرط صحة بالنسبة له وركن من أركانه لا تصحّ بدونها الهبة وبالتالي فإنّ الإخلال به ومخالفته تجعل العقد باطلا بطلانا مطلقا لا يقبل الإجازة أو التصديق على معنى الفصلين 325 و 329 مجلة الالتزامات والعقود ” وبذلك تكون الحجة الرسميّة واجبة لصحّة عقد الهبة فهذا الشرط له علاقة بالنظام العام وهو ما أكّدته كذلك محكمة التعقيب في قرار لها مؤرخ في 29 ديسمبر 2001[137] إذ جاء به أنّ “المشرّع ميّز عقد الهبة عن بقيّة العقود بأن أفضى عليه قوّة إلزامية من حيث اشتراطه الحجّة الرسمية لصحته فجعل منها ركنا أساسيا لا يكون لذلك العقد وجود بدونه لما لذلك الشرط من مساس بالنظام العام”، ولمّا كان الجزاء هو البطلان المطلق فإنّه يجوز لكلّ ذي مصلحة التمسّك به والمقصود بذلك خاصّة ورثة الواهب[138] الذين يحقّ لهم القيام بدعوى البطلان بعد وفاة مورثهم.

وتبعا لهذا البطلان تصبح الهبة لا أثر لها ولا تصححها إجازة الواهب أو ورثته، وهو ما قرّرته محكمة التعقيب في قرار لها بتاريخ 07 مارس 2000[139] حينما اعتبرت أنّ “كتب الهبة موضوع التداعي هو كتب خطي معرّف بالإمضاء عليه ولم يتم صياغته في شكل حجة عادلة يحرّرها عدلان وبالتالي فهو كتب باطل من أصله ولا تصحّحه إرادة الطرفين …”

إلاّ أنّ الأمر ليس على نفس الشاكلة في كلّ التشريعات إذ يقرّ القانون المصري بإمكانية إجازة الهبة الباطلة لعيب في الشكل عن طريق التنفيذ الاختياري وهو ما نصّ عليه الفصل 489 من التقنين المدني المصري الذي جاء به ما يلي “إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل فلا يجوز أن يستردّوا ما سلّموه” ومفاد ذلك أن يختار الواهب رغم علمه بأنّ الهبة باطلة لعيب في الشكل بتنفيذها فيسلّم المال الموهوب إلى الموهوب له قاصدا بذلك إجازة الهبة فينقلب بذلك العقد الباطل إلى عقد صحيح بموجب هذه الإجازة الخاصة.[140]

وإن كان القانون المصري قد أعطى الإمكانية لإجازة الهبة الباطلة للواهب ولورثته من بعده فإنّ القانون الفرنسي جعل التنفيذ الاختياري للهبة الباطلة حكرا على الورثة فقط دون الواهب وهو ما جاء بالفصل 1340[141] من المجلة المدنية الفرنسية إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك في القانون التونسي فإذا ما بطلت الهبة فإنّها تصبح لا أثر لها ولا تصحّحها إجازة الواهب أو ورثته ويبقى الشيء الموهوب ملكا للواهب ولا تنتقل ملكيته للموهوب له[142] وبالتالي لا يمكن لهذا الأخير مطالبة الواهب بالتسليم، ويفهم من هذا القول أنّ الهبة متى حرّرت فيها حجة رسمية تنتقل على إثرها ملكية الشيء الموهوب إلى الموهوب له ويصبح الواهب ملزما بتسليم الموهوب إلى الموهوب له.

الفقرة الثانية: تحمّل الواهب لواجب التسليم

لمّا كانت الهبة تنعقد على وجه الصحة بمجرد الإيجاب والقبول وإتمام إجراءات الحجّة الرسمية مثلما اقتضته الفقرة الأولى من الفصل 204 من مجلة الأحوال الشخصية فإنّ ملكية العقار تنتقل مبدئيا بمجرد توفر هذه العناصر مع الأخذ طبعا بخصوصية انتقال الملكية في هبة العقارات المسجلة وهبة المنقولات المسجلة التي لها نظام خاص لانتقال ملكيتها، وإذا ما انتقلت الملكية يصبح الواهب مدينا بالتسليم ويصبح مجرد حائز أو ماسك للشيء في انتظار تسليمه للموهوب له الذي يعتبر مالكا له.

ويستدلّ على أنّ التسليم التزام من خلال إقرار المشرع بإمكانيّة المطالبة به، حيث جاء بالفصل 203 مجلة الأحوال الشخصيّة أنّه: ” إذا لم يتم التسليم كان للموهوب أن يطالب به”.

وفي ذلك إقرار من المشرع بأن التسليم في هبة العقارات هو أثر شخصي للعقد مستثنيا بذلك المنقولات المادية التي جعلها شرط صحّة. وقد اتجهت نية المشرع من خلال الفصل 203 مجلّة الأحوال الشخصيّة إلى جعل التسليم فيما عدى هبة المنقولات المادية التزاما وليس شرط صحّة وعلى ذلك الأساس يمكن للموهوب له المطالبة بالشيء الموهوب لأنّ ملك الموهوب له ثابت قبل التسليم وذلك بمقتضى العقد الذي تمّ تحريره بالحجّة الرسمية، فإنّ تقاعس الموهوب له في المطالبة بالتسليم حتى مات هو أو مات الواهب بطلت الهبة وذلك حسب الفقرة الثانية من الفصل 201 من نفس المجلّة.

والجدير بالملاحظة هو اقتصار المشرع على ذكر فرضيّة الموت لصيرورة الهبة باطلة وعدم تعرّضه إلى فرضيات أخرى كالحجر أو الإفلاس، وتفسير ذلك ربما أنّ المشرع أراد أن يسوي بين الواهب والموهوب له من حيث الأثر على صحّة الهبة، فموت أحدهما قبل التسليم يبطل الهبة أماّ الحجر فآثاره تختلف باختلاف الأطراف، فإذا ضرب الحجر على الواهب قبل التسليم فالهبة تصير باطلة لفقدان أحد أركانها الأساسيّة ولا يمكن للولي أو للوصيّ أو حتى للقاضي نفسه أن يتمّ عمليّة التسليم بعد تاريخ الحجر لأن في ذلك مخالفة صريحة لروح النصّ ولمقصد المشرّع أماّ إذا ضرب الحجر على الموهوب له قبل التسليم فيبقى الأمر موكولا إلى الواهب إن شاء أوفى بالتزامه وإن شاء نكث.[143]

وبناءا على ذلك فإنّه فيما عدى صورة موت الواهب أو الموهوب له قبل التسليم التي نصّ عليها الفصل 201 من مجلة الالتزامات والعقود فإنّه يمكن للموهوب له المطالبة بالتسليم في صورة عدم تحقيقه لأيّ سبب من الأسباب الأخرى، وهو ما لم تعتمده محكمة التعقيب التي اعتبرت في قرارها المؤرخ في 09 مارس 2006[144] أنّ “الهبة لا تتمّ إلاّ بالتسليم وهي باطلة إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل ذلك” دون أن تميّز بين هبة المنقول وهبة العقار ودون أن تتعرض لإمكانية المطالبة بالتسليم مثلما أقرّه الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية.

ويبدو أنّ فقه القضاء قد سلك منهجا حنفيا من خلال الإقرار بأنّ التسليم يعدّ ركنا أساسيا لعقد الهبة مع الإقرار في نفس الوقت بأهمية الحجّة الرسميّة كشرط لصحّة العقد وذلك بالقرار التعقيبي المؤرخ في 21 ماي 2004[145]. فالمحاكم لها الحرية في اتباع أحد المذاهب وهو ما ورد بالحكم المدني المؤرخ في 12 أفريل 1961[146] الذي جاء به “للمحكمة حقّ الاجتهاد في تطبيق أحكام أحد المذهبين المالكي أو الحنفي في المواضيع التي ترجع لتطبيق الفقه الإسلامي”.

يعدّ التسليم ضروريا سواءا في هبة العقار أو المنقول إلاّ أنّ الفرق هو أنّ هبة المنقول المادي تستلزم التسليم الفوري والحيني زمن إبرام عقد الهبة باعتبار التسليم شرط صحّة أو ركن من أركان عقد الهبة في المنقول المادي، لذلك لا بدّ أن يتقدمها.

أماّ هبة العقارات فإنها تستلزم الحجة الرسميّة كشرطا لصحّتها مع إمكانيّة تأجيل التسليم الذي يمكن المطالبة به مادام الطرفان على قيد الحياة، فإن مات الواهب أو الموهوب له قبل التسليم تبطل الهبة على معنى الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية وترجع إلى مخلّف الواهب وتوزع على الورثة كلّ حسب نصيبه الشرعي.

ويتم إثبات حصول التسليم من عدمه في هبة العقارات والحقوق العينية العقارية والمنقولات المسجلة من خلال الكتب المشترط لصحتها، فغالبا ما يتمّ التنصيص بالحجّة الرسمية إذا كان التسليم تمّ أو لم يتمّ وهو ما سارت إليه محكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 18 ديسمبر 1996[147] إذ أقرت أنّ “عقود الهبة المحرّرة بالحجّة العادلة قد تضمنت صراحة تحويز الموهوب لهما بالعقارات الموهوبة من طرف الواهب” واعتبرت أنّ في ذلك دليل على الحوز. كما اعتبرت في قرارها عدد 5147[148] أنّ “الهبة يكفي فيها الحوز ما ورد بحّجتها من حوز الموهوب له موضوع الهبة بمصادقة الواهب وشهادة عدلي الحجة بذلك مع قيام الخصم على الموهوب له بانتزاع الحوز من يده وذلك كله يفيد ملكية الموهوب له لموضوع الهبة”

وبما أنّ التسليم هو واقعة[149] كما ذهبت إلى ذلك محكمة التعقيب في عديد المناسبات فإنّه في غياب التنصيص على التسليم بالكتب المشترط لصحة الهبة فإنّه يقع الإثبات بجميع الطرق وذلك حسب البيّنات المذكورة بالفصل 427 من مجلة الالتزامات والعقود، فقد يثبت التسليم مثلا عن طريق إقرار الواهب بالتسليم وقد اعتبرت محكمة التعقيب في نفس القرار المذكور أولا أنّ “تصريح الواهب بالحوز أمام العدلين كان تنفيذا لإرادته وهو من العناصر والقرائن المتظافرة التي لا يجوز تجاهلها” وقد اعتبر الفقهاء في هذا الخصوص أنّ مجرّد الإقرار بالهبة لا يكون إقرارا بالقبض فإذا أقرّ شخص بأنّه وهب ماله لشخص آخر فإنّ ذلك لا يعدّ إقرارا منه بأنّ هذا الموهوب له قد قبض المال الموهوب أمّا إذا أقرّ الواهب بالهبة والقبض معا فيثبت حصول القبض.[150]

وبقطع النظر عن طبيعة التسليم وعن الجدل الذي دار حول هذه المسألة فإنّ قواعد تسليم الموهوب تنطبق عليها قواعد تسليم المبيع مع الأخذ طبعا بخصوصية عقد الهبة وهو ما سيتم معاينته من خلال دراسة النظام القانوني للتسليم.

خاتمة الجزء الأول

تتسم الطبيعة القانونية للتسليم في عقد الهبة بعدم الوضوح وهو ما تمّ لمسه من خلال الفصول المنظمة للتسليم بمجلة الأحوال الشخصية، فبالنظر في هذه الفصول يبدو التسليم من أوّل وهلة كركن في العقد وهو ما يحيلنا إليه الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية الذي لم يميّز بين هبة العقار وهبة المنقول مع أنّ التمييز هنا ضروري ومهم ورأينا أنّه في ذلك تأثر بالمذهب الحنفي إلاّ أنّه وبقراءة الفصل 203 من نفس المجلة يتراءى أنّ التسليم لم يعد ركنا في العقد بما أنّ المشرع أتاح للموهوب له إمكانية المطالبة بالتسليم في صورة عدم تمامه دون تمييز كذلك بين هبة المنقول والعقار متأثر في ذلك بالمذهب المالكي، ليقرّ بعد ذلك في الفصل 204 من نفس المجلة بأنّ الهبة لا تصحّ إلاّ بالحجّة الرسمية مستثنيا من ذلك هبة المنقول المادي التي تصحّ بالمناولة.

وقد تمّ إرجاع هذا الغموض الذي يحيط بالفصول المنظمة للتسليم إلى الاختلاف الفقهي والجدل الذي دار بين المذاهب الإسلامية حول هذه المسألة ففي حين اعتبره فقهاء المذهب الحنفي شرطا لصحة الهبة وكانت لهم حججهم في ذلك إلاّ أنّ فقهاء المذهب المالكي اعتبروا أنّ التسليم هو شرط لتمام العقد وتبعا لذلك يمكن للموهوب له أن يجبر الواهب على التسليم.

ولتجاوز هذا الغموض وفي محاولة للترجيح بين هذه المواقف، تم التوصل إلى أنّ نيّة المشرع اتجهت نحو اعتبار التسليم في هبة المنقول المادي شرط لصحة العقد وركن من أركانه لا يقوم بدونه، في حين جعل من التسليم في هبة العقار التزاما وليس شرطا لصحة العقد، بما أنّ شرط صحّة العقد هو الحجّة الرسمية وليس التسليم في إطاره سوى أثرا شخصيا للعقد وعلى ذلك يمكن المطالبة به في صورة عدم إتمامه حسب ما اقتضاه الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية.

ونتيجة لذلك يكون التسليم في هبة المنقول المادي فوريا وذلك منطقي باعتبار أنّ التسليم هو ركن في العقد ينعدم بانعدامه. أمّا في هبة العقار فإنّ التسليم يمكن أن يتأخر عن العقد ويمكن كذلك المطالبة به مادام الطرفان على قيد الحياة، فإن لم يتحقّق بسبب موت الواهب أو الموهوب له فإنّ الهبة تبطل بصريح الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية وإن اجتهد الموهوب له في طلبه

الجزء الثاني: النظام القانوني للتسليم

تنسحب قواعد التسليم في عقد البيع على تسليم الموهوب، ذلك ما نصّ عليه الفصل 202 من مجلّة الأحوال الشخصيّة الذي جاء به أن ” قواعد تسليم المبيع تنسحب على تسليم الموهوب فيما لا يتنافى مع طبيعة الهبة وقواعدها الخاصّة” وهو ما أقرّته كذلك مختلف التشريعات[151] وما أكده فقه القضاء، حيث جاء بالقرار التعقيبي المؤرخ في 3 جانفي 1995[152] أن “عقد الهبة كما اقتضاه الفصل 200 مجلّة الأحوال الشخصيّة يملّك بمقتضاه شخص شخصا آخر مالا بدون عوض فهو إذن عقد ناقل للملكيّة شأنه في ذلك شأن عقد البيع متى توفرت مقوماته الشكليّة والجوهريّة بما اقتضاه الفصل 202 من نفس المجلّة من انسحاب قواعد تسليم المبيع على تسليم الشيء الموهوب فيما لا يتنافى مع طبيعة الهبة وقواعدها الخاصّة .

وتقتضي دراسة النظام القانوني للتسليم في عقد الهبة التطرق إلى تحقيقه من جهة (الفصل الأول) والجزاء المرتبط به من جهة أخرى (الفصل الثاني).

الفصل الأول: تحقيق التسليم

يستوجب التسليم لصحته توفر شروط معينة حتى يمكن القول أن التسليم قد تحقق فالتسليم يجب أن ينصبّ على محلّ معيّن بكلّ أجزائه وتوابعه (المبحث الأول) ويجب أن يتم تنفيذه بكيفية معيّنة (المبحث الثاني).

المبحث الأول: محلّ التسليم

المقصود بمحلّ التسليم هو موضوع التسليم أي الشيء الموهوب الذي من المفروض أنّ الواهب يقوم بتسليمه بالحالة التي هو عليها حين العقد ولا يجوز له تغييره بأي وجه من ذلك الوقت وذلك حسب ما اقتضاه الفصل 606 من مجلّة الالتزامات والعقود الذي يؤخذ منه أن الشيء المسلّم يجب أن يكون مطابقا تماما لما وقع التنصيص عليه بالعقد دون أي تغيير.[153]

فتسليم الموهوب بالحالة التي كان عليها حين العقد يعني تسليمه بنفس حالته وأوصافه المتفق عليها عند إبرام العقد، رغم أن هناك من الفقهاء من يعتبر أنه يجوز للواهب أن يشترط في الهبة تسليم الموهوب في الحالة التي يكون عليها وقت التسليم أو في أي حالة أخرى وأن الالتزام بتسليم الموهوب في الحالة التي كان عليها وقت صدور الهبة ليس من النظام العام[154].

إنّ التزام الواهب بتسليم الموهوب بالحالة التي كان عليها وقت الهبة يفرض عليه كذلك المحافظة عليه ليبقى على حالته الأصليّة.[155] ولئن لم يشر المشرع إلى مسألة المحافظة على الموهوب حتى التسليم فإنّ ذلك يستنتج ضمنيا من الفصل 606 ومن هنا يمكن القول أنّ الواهب ملزم بالمحافظة على الموهوب تماما كما يحافظ على ملكه الخاص. على أنه ما يجدر الإشارة إليه أنّ هذا الواجب لا يمكن الحديث عنه في كلّ صورة، فإذا وقع التسليم على الفور وتمّ تمكين الموهوب له من الموهوب منذ إبرام العقد وهو الحال في صورة هبة المنقول المادي فإننا نكون قد خرجنا من ميدان واجب المحافظة وبالتالي لا يمكن الحديث عن هذا الواجب ويبدو هذا منطقياّ إذ أنه إذا لم يسلّم الواهب الموهوب لتتم الهبة إذا كانت يدويّة فإنه وفي صورة ما إذا كان محلّ الهبة عقارا يلزم الواهب بالمحافظة على الموهوب إلى أن يسلّمه إلى الموهوب له ويكون الالتزام بالمحافظة فرع عن التزامه بنقل الملكيّة.

هذا ويلتزم الواهب بتسليم الموهوب بالمقدار الذي عين في العقد فإذا نقص هذا المقدار وكان النقص بفعل الواهب أو بتفريطه كان للموهوب له المطالبة بالفسخ طالما لم يكن الواهب قادرا على التنفيذ العيني بتسليم الموهوب بحالته ومقداره الذي كان عليه وقت الهبة، غير أنّ هذا القول لا يكون منطقيا إلا إذا كانت الهبة بعوض أو مقترنة بشروط أو التزامات مثقلة لكاهل الموهوب له بحيث يتحمّل عبء الوفاء بها على أمل أن ينفذ الواهب التزامه بنقل الملكيّة وتسليم الشيء الموهوب بالحالة التي كان عليها وقت الاتفاق.

أمّا إذا كان النقص الذي اعترى الشيء الموهوب بفعل الموهوب له فهو من يتحمّل مسؤوليّة ذلك وليس له الرجوع على الواهب، أمّا إذا زاد الموهوب على هذا المقدار وكان قابلا للتبعيض فالزيادة للواهب لأنها لم تدخل في الهبة والموهوب لا يضرّه بالتبعيض، أمّا إذا كان الموهوب غير قابل للتبعيض فتكون الزيادة للموهوب له دون مقابل.[156]

وتقتضي الدراسة الموضوعية لمحلّ التسليم تحديد هذا المحلّ (الفقرة الأولى) وبيان خصائصه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تحديد المحلّ

لئن نصّت الفقرة الأولى من الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية على أنّ الهبة تتم بتسليم الشيء فإنها لم تحدد طبيعته، لكن بالعودة إلى قواعد التسليم في عقد البيع يتضح أنّ محلّ التسليم يشمل أصل الشيء الموهوب (أ) وملحقاته (ب)

أ- تسليم أصل الشيء الموهوب

تعدّ الهبة تصرّفا في المال، والمال يشمل الأشياء المعينة كالعقار و المنقول كما يشمل الحقوق المجردة فالشيء الموهوب يمكن أن يكون عقارا أو منقولا وبما أنه سبق التعرض لهما عند دراسة طبيعة التسليم فلا فائدة من إعادة التعرض لهما. على أن القول بأن محلّ التسليم يمكن أن يكون حقوقا مجردة كأن يكون الموهوب حقا عينيا (1) أو حقا شخصيا (2) أو منابا مشاعا (3) فإنّ ذلك يتطلب بعض التوضيح.

1- محل التسليم: حقوق عينيّة

تنص الفقرة الأولى من الفصل 204 من مجلة الأحوال الشخصية[157] على أنّه ” لا تصح الهبة إلاّ بحجّة رسميّة والحقوق العينية المترتبة بالنسبة للعقارات المسجلة لا تتكوّن إلاّ بترسيمها بالسجل العقاري” ويستخلص من ذلك أنّ الهبة ترد على العقار بنوعيه كما ترد على الحقوق العينية العقارية التي اعتبرها المشرع حقوقا مجرّدة وأعطى أمثلة لها وذلك بالفصول 594[158] و 572[159] من مجلة الالتزامات والعقود، وتعرّف الحقوق العينية بأنّها “السلطة القانونية التي يمارسها شخص على شيء”[160] وهذه الحقوق منصوص عليها بالفصل 12 من مجلة الحقوق العينية.

ولئن كان من الممكن قبول اشتمال الهبة لحق الإنتفاع وحق الارتفاق فإنّ إمكانية هبة حق الاستعمال وحق السكنى تبقى محل شكّ اعتبارا لأنّ المشرع نصّ بالفصل 163 من مجلة الحقوق العينية على عدم جواز “إحالة أو كراء حق الاستعمال و حق السكنى” “نظرا للطابع الشخصي الذي يميّز هذين الحقين لأنّ نطاقهما يتحدّد بمقدار ما يحتاج إليه صاحب الحقّ هو وأسرته لخاصة أنفسهم”[161].

وقد علّق أحد الفقهاء على ذلك بالقول بأنّ ذلك “لا ينسجم مع الطبيعة العينية للحقوق التي تمكن إحالتها والتصرف فيها بجميع أوجه التصرف”[162] وعلى عكس ذلك أجاز الفقه المقارن أن يكون الحق الموهوب حق انتفاع أو حق استعمال أو حق سكنى أو حق ارتفاق أو غير ذلك من الحقوق العينية الأصلية المتفرعة على الملكية.[163]

وقد كانت القوانين المقارنة واضحة في هذا الصدد حيث أجازت صراحة هبة الرقبة والانتفاع من ذلك الفصل 514 من قانون الموجبات والعقود اللبناني الذي ينصّ على أنه “يجوز للواهب أن يهب رقبة الملك لشخص وحق الاستثمار لشخص أو لعدّة أشخاص آخرين كما يمكنه أن يحفظ لنفسه هذا الاستثمار”، بحيث يجوز حسب هذا الفصل للواهب أن يقصر الهبة على جزء من حق الملكيّة فيهب حق الرقبة لشخص وحق الانتفاع لشخص آخر أو يحتفظ لنفسه بالحق الأخير، ويجوز للواهب أن يحتفظ لنفسه بحق الرقبة ويمنح الانتفاع للغير ولكن لا يجوز له أن يحتفظ بالشيئين معا لأنه لا يكون هناك تجرّد في الحال عن ملكيته ويبقى في هذه الحالة للواهب حق التصرف بالأموال للغير كما يشاء[164] حتى أنّ هناك من الفقهاء من تحدث عن الوعد بهبة حق انتفاع عقاري[165]

وبالرجوع إلى الفقه الإسلامي، نجد أن غالبية الفقهاء وخاصّة منهم أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل والثوري يعتبرون أن هبة المنفعة جائزة لأن المنفعة بالشيء لا تتمّ إلاّ بتسليم رقبة ذلك الشيء أي بتسليم الشيء الموهوب كله لينتفع به الموهوب له وخالفهم في ذلك مالك الذي اعتبر أنّ العمري ليست هبة وإنما هي تمليك للمنفعة مدّة حياة المعطي.[166]

كذلك أجاز الفقه بفرنسا أنّ تنصبّ الهبة على حق عيني غير حق الملكية مثل حق الانتفاع حيث اعتبر بعض الفقهاء أن الهبة اليدوية يمكن أن تنصبّ على حق الانتفاع بمنقول مادي.[167]

لا شيء إذن يمنع هبة الحقوق العينية طالما أن التسليم فيها قابل للإنجاز وما يؤيّد هذا التوجه هو ما ورد بالقانون الجديد[168] المتعلق بإعفاء الهبات بين الأسلاف والأعقاب والأزواج من معلوم التسجيل النسبي الذي تعرّض لهبة ملكية رقبة الأملاك العقارية أو حقّ الانتفاع بهذه الأملاك بما يوضحّ أنّ الهبة تتجاوز العقارات لتخصّ أيضا الحقوق المتعلقة بها وكذلك الحقوق الشخصية كالديون وهو ما يسمح بالقول بأنّ محلّ التسليم يتجاوز العقار والمنقول والحقوق العينية العقارية ليشمل كذلك حقا شخصيا.

2- محلّ التسليم: حقّ شخصي

ليس من الضروري أن يكون الحقّ الموهوب هو حق الملكية في العقار أو المنقول أو حقا عينيا متفرعا عن حق الملكية كحق الانتفاع أو الارتفاق وإنّما يجوز أن تتحقق الهبة لا عن طريق الالتزام بنقل حق عيني فقط وإنما بطريق الالتزام بحق شخصي كأن يلتزم الواهب للموهوب له بمبلغ من النقود وهو تصرف غير مباشر في المال، إذ هو إنقاص من مجموع ذمّة الواهب[169] أو كأن يتنازل الواهب عن دينه لفائدة مدينه أو لفائدة شخص آخر.

لم يعرّف المشرع الدين بل أوكل هذه المهمّة إلى الفقه “فالدين هو ما يثبت في الذمة كمقدار من النقود في ذمة المدين ومن الدين مقدار غير مفرز من مجموعة دراهم حاضرة أو مقدار من صبرة طعام حاضرة قبل الإفراز كذلك”.[170]

وقد أجاز المشرّع هبة الدّين وهو ما يستنتج صراحة من الفصل 166 من مجلّة الالتزامات والعقود الذي جاء به أن “هبة الدّين من أحد الدائنين المشتركين لا يحتجّ بها على الباقين إلاّ بقدر مناب الواهب”. وذلك على عكس المشرع الفرنسي الذي لا يجيز أن تكون الديون محلاّ للهبة لأن الديون هي منقولات معنويّة غير قابلة للقبض الفعلي،[171] أماّ في مصر فيجوز أن ترد الهبة على الديون وإن كانت منقولات معنويّة.[172]

وتنقسم هبة الدّين إلى نوعين، هبة الدّين لمن عليه الدين وهذه الصورة يطلق عليها الفقه اسم الإبراء، وهبة الدين للأجنبي ويطلق عليها الفقه اسم هبة الدين بالمعنى الخاص.

وقد ذهب الفقه إلى أنّ الإبراء من الدين وهو نزول عن حق شخصي ليس هبة مباشرة وإنّما هو هبة غير مباشرة لأنّه لا يتضمن إلتزاما بنقل حقّ عيني أو التزاما بنقل حق شخصي.[173]

وتجوز هبة الدين للمدين أو للأجنبي على تفصيل المذاهب إذ يعتبر الحنفيّة أن هبة الدين لمن عليه الدين جائزة ولا يشترط قبول المدين[174] فإذا لم يقبل المدين وردّ الهبة فإنها تردّ، كذلك تجوز هبة الدين للأجنبي إذا أذن له بالقبض وقبضه استحسانا والقياس أن لا تجوز وإن أذن له بالقبض.[175]

ويقرّ كذلك المالكيّة بصحّة هبة الدين لمن عليه الدّين ولغيره[176] فإنّ كانت لمن عليه الدين كانت إبراء والإبراء يحتاج إلى قبول على الراجح لأنه نقل للملك، أماّ إذا وهب الدّين لغير من عليه الدين فإن الهبة تصحّ كذلك ولكن بشروط[177].

أماّ بالنسبة للشافعيّة فقد اعتبروا أنّ هبة الدّين لمن عليه الدّين صحيحة فهي إبراء ولا تحتاج لقبول، أماّ هبته لغير من عليه الدّين فمختلف فيها فبعضهم يقول أنها هبة صحيحة وبعضهم يقول أنها باطلة والقول الثاني هو المعتمد عند بعض الفقهاء[178] لأنّ الدّين حسب رأيهم غير مقدور على تسليمه وهو متصّف بكونه دينا فإذا قبض لا يكون دينا بل يكون عينا. وأمّا بالنسبة للحنابلة فهبة الدّين لمن عليه الدّين تعتبر صحيحة عندهم أماّ هبة الدّين للأجنبي فلا تصحّ.

يتبيّن ممّا سبق إذن أنّ هبة الدين جائزة إذ لا شيء يمنع نظريّا أو عمليّا هبة الديون طالما أنّ التسليم فيها قابل للإنجاز شأنه في ذلك شأن المناب المشاع الذي اعتبره فقه القضاء حقا مجردا قابلا للتسليم.

3- محلّ التسليم: مناب المشاع

يعرّف الشيوع على أنّه ” اشتراك شخصين فأكثر في ملكيّة عين أو حق عيني غير مفرزة حصة كل منهم”[179] وقد أباح المشرع لكلّ من الشركاء بيع منابه وإحالته ورهنه والتفويت فيه بعوض أو بدونه إلاّ إذا كان حقه مختصا بذاته[180] ويفهم من عبارة “التفويت بعوض أو بدونه” التي وردت بالنصّ أنه يمكن للشريك التفويت في منابه وذلك عبر هبته إلى شخص آخر مما يستنتج معه أن هبة الملك المشاع جائزة في التشريع وهو ما أقرته محكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 05 أفريل 2005[181] حيث أجازت هبة المناب المشاع معتبرة أنّه “حق مجرد لا يمكن التحوّز به ماديا”.

وعلى الرغم من الخلاف الذي قام بين المذاهب الإسلامية حول صحّة هبة المشاع، فإنّ هبة المشاع فيما لا يقبل القسمة صحيحة وقد تمّ الإجماع على ذلك[182] أمّا هبة المشاع فيما يقبل القسمة فقد اختلفت حولها المذاهب، فلئن أجاز فقهاء المذهب المالكي والشافعي والحنبلي ذلك واعتبروا أن قبض الحصة وهي شائعة قبض صحيح يتم به الملك[183] فإنّ فقهاء المذهب الحنفي اعتبروا أن هبة المشاع فيما يقبل القسمة لا يتم الملك فيها للموهوب له إلاّ إذا قبضها مفرزة[184] معنى ذلك أنّ الموهوب له لا يملك الهبة المشاعة قبل تسليمها مفرزة، إذن يلزم أن يكون الموهوب القابل للقسمة غير شائع وقت قبضه لأنه يشترط القبض الكامل في الهبة و الشياع هنا يعتبر مانعا للقبض.

يستخلص ممّا سبق أنّ محلّ التسليم لم يعد مقتصرا على المنقول والعقار بل اتسع ليشمل حتّى الحقوق المجردة وزيادة على ذلك لم يعد التسليم مقتصرا على تسليم أصل الشيء الموهوب فقط وإنما يتضمن كذلك تسليم ملحقاته.

ب- تسليم ملحقات الشيء الموهوب

تفرض القواعد الخاصة بالتسليم في عقد البيع التي تنطبق على التسليم في عقد الهبة لا فقط تسليم المبيع وإنما أيضا تسليم ثماره وتوابعه، لذلك وقياسا على عقد البيع فإن الأشياء المفترض تسليمها مع الشيء الموهوب هي توابعه من جهة (1) وثماره من جهة أخرى (2).

1- تسليم التوابع

نصّت قاعدة الفصل 610 من مجلة الالتزامات والعقود على أنّ “لزوم تسليم المبيع يتضمن تسليم توابعه والتبعيّة إماّ بحسب العرف أو بمقتضى اشتراط المتعاقدين”. وتعدّ هذه القاعدة تكريسا للمبدأ القانوني العام الذي يقتضي أنّ الفرع يتبع الأصل، وقد أعطى المشرع معيارين لتحديد التبعيّة، الأول هو العرف والثاني هو إرادة المتعاقدين وأورد في نفس الوقت بعض القواعد المكملة بالفصول من 611 إلى 622 من نفس المجلة وذلك في صورة غياب المعيارين الأولين.

وقد عرّف الفقه التوابع بكونها “الأشياء المعدة لاستعمال المبيع والتي بدونها لا تتحقق المنفعة المرجوة منه حسب طبيعته أو مقتضيات العرف أو اتفاق المتعاقدين”[185] وبعبارة أوضح التوابع هي كلّ شيء أعدّ بصفة دائمة لاستعمال الموهوب بحيث لا يمكن بدونها الانتفاع به الانتفاع الكامل.

ولتحديد هذه التوابع يجب الرجوع أولا إلى نية المتعاقدين وإذا تبين أنهما اتفقا صراحة أو ضمنا على إلحاق شيء معيّن بالموهوب وجب على الواهب تسليم هذا الشيء أيّا كانت أهميته، أماّ إذا لم يوجد اتفاق فإنّ التوابع تتحدد طبقا لما يقتضيه عرف الجهة وطبيعة الأشياء، ولضبط توابع الشيء الموهوب سيتم اعتماد صفة التوابع وليس طبيعة الشيء الموهوب، إذ أنّ التوابع يمكن أن تكون ماديّة (I) أو غير ماديّة (II).

I– التوابع الماديّة

التوابع المادية هي الأشياء المادية المعدة لاستعمال الموهوب والتي لا يمكن استعمال هذا الأخير بدونها، وقد تعرض المشرع إلى بعض الأمثلة التطبيقية للتوابع المادية، وقياسا على عقد البيع فإنّ هبة الأرض تشمل ما اتصل بها من بناء وغرس وزرع وثمر مأبورين.[186] كما أن هبة البناء يشمل الأرض التي أقيم بها وتوابعه المتصلة والطواحين والدرج المتصلة بالبناء والخزائن المبنية وأنابيب المياه والخشب والموقد المبنيين بأحد جدرانه.

[187] و قد أقصى المشرع البستان أو الأرض الخارجة عن الدار سواء كانت مشجرة أو لا معتبرا أنها لا تعد من توابع الدار ولو كان لها منفذ من داخل الدار.[188] كما أقصى النقود والأشياء الثمينة الموجودة في منقول معتبرا أنها لا تعد من توابعه.[189] وتعتبر من توابع الموهوب المادية في هبة الحيوان ولده الرضيع وصوفه أو وبره أو شعره المتهيئ للجزّ.[190]

كما تشمل هبة المركب ما له من آلات وأدوات كالمخاطف والسواري على اختلاف أنواعها والحبال والأشرعة والبكرات والقوارب والزوارق وغير ذلك من الأشياء التابعة له حكما[191].

وإلى جانب هذه الصور التطبيقيّة للتوابع الماديّة التي أوردها المشرع يمكن الرجوع إلى العرف لتحديد هذه التوابع، فلجام الدابة مثلا يعد من ملحقاته وذلك على عكس سرج الفرس، وتشمل ملحقات الشيء الموهوب كذلك توابعه غير المادية.

II– التوابع غير المادية

تتمثل التوابع غير المادية سواء في هبة العقار أو المنقول في الوثائق (أولا) وفي التوابع القانونية (ثانيا).

أولا: تسليم الوثائق

تعدّ بعض الوثائق الخاصة بالشيء الموهوب هامة جدّا بحيث يصعب استعمال الشيء الموهوب بدونها.

ينص الفصل 613 من مجلة الالتزامات والعقود على ما يلي “بيع غير المنقول يشمل ما يوجد من رسوم صورته وتقدير مصاريف إقامته وحجج ملكيته…”

فهبة العقار تستوجب تسليم حجج الملكية[192] والرسوم التي تثبت ملكيته والوثائق المبينة لحدوده وموقعه وحتى الوثائق التي تبين رسم تخطيطه وذلك حتى يمكن للموهوب له الانتفاع بالموهوب. ومن الوثائق كذلك نذكر شهادة المقاسمة والمثال التقسيمي للعقار والوثائق التي تفيد رفع الرهن الاختياري أو وصل إيداع بضاعة بمستودع وكذلك رخصة البناء، كما تعدّ البطاقة الرمادية من توابع السيارة حسب ما أقره فقه القضاء.[193]

كما تفترض هبة الأصل التجاري تسليم الدفاتر التجارية والتقارير والحجج والأوراق التي لها تعلق به كما تدخل في هبة الأصل التجاري كتوابع مجردة ماله من الشهرة في جلب الراغبين Clientèle et achalandage والشهادات التي حازها واهبه فيما اخترعه من خصوص تجارته أو صناعته وأسرار الصنعة إلاّ إذا حصل تراض بين المتعاقدين على خلاف ذلك[194] وتعدّ السمعة التجارية من عناصر الأصل التجاري التي لا معنى له بدونها لذلك عدت توابع مجردة لا بدّ من تسليمها عند هبة الأصل التجاري، ومن توابع الشيء غير المادية كذلك توابعه القانونية.

ثانيا: التوابع القانونيّة

المقصود بالتوابع القانونية الحقوق والدعاوى المتعلقة بالشيء الموهوب، بعض هذه الحقوق تنتقل من الواهب إلى الموهوب له مثل حق الارتفاق، فهبة العقار تشمل كل الحقوق العينية العقارية التي جعلت لاستعماله كحق الارتفاق ولو لم يتم التنصيص على ذلك صراحة بالعقد، فكلّ هذه الحقوق العينية موظفة لصالح العقار وتعود إليه كتوابع قانونية لضرورتها لاستعمال الشيء الموهوب.

أما فيما يخص الدعاوى القضائية المرتبطة بالشيء فإنّ الطبيعة الشخصيّة لهذه الدعاوى تجعلها من حق الواهب مبدئياّ إلا أنه بالرجوع إلى الفصل 798 من مجلة الالتزامات والعقود نجد أنّ الدعاوى الناشئة عن عقد الكراء تنتقل إلى المالك الجديد، حيث اقتضت قاعدة هذا الفصل أنّ ” خروج الملك من يد مالكه طوعا أو كرها لا يفسح الكراء وإنما يحلّ المالك الجديد محل القديم فيما له وما عليه من الحقوق في الكراء المذكور إن كان عقده خاليا من التدليس وله تاريخ ثابت سابق على تاريخ التفويت” فقياسا على هذه الصورة، تعد الهبة صورة من صور خروج الملك من يد مالكه طوعا وعليه فإن الموهوب له باعتباره مالكا جديدا يحل محل المالك القديم فيما له وما عليه من الحقوق في الكراء المذكور.

ولئن بدت مسألة تسليم التوابع أمرا مفروغا منه تأسيسا على أنّه بدونها لا تتحقّق المنفعة المرجوّة من الشيء الموهوب فإنّ مسألة تسليم الثمار تطرح بعض الإشكاليات وتبقى محلّ نقاش.

2- تسليم الثمار

جاء بالفصل 609 من مجلة الالتزامات والعقود ما يلي “ما أثمره المبيع وما زاد عليه طبيعة أو عملا من وقت تمام العقد يسلّم للمشتري على أنه له ما لم يتفق على خلاف ذلك”.

لم يعط المشرع تعريفا للثمار رغم استعماله لهذا المصطلح في عديد المواقع[195] لكن الفقه تولى هذه المهمة وعرّف الثمار على أنها” ما يتولد من العين بصفة دورية دون انتقاص من أصلها”.[196]

وبذلك تختلف الثمار عن المنتجات وهي “ما ينتج من العين بشكل غير دوري ويترتب عنه انتقاص من أصلها مثال ذلك الفحم الناتج عن شجرة مقتلعة”.[197]

وقد صنّف الفقه الثمار أو الغلال كما يسميها المشرع إلى ثلاث أصناف، الصنف الأول الثمار الطبيعيّة وهي التي تتولد عن العين بصفة تلقائية أي دون تدخل الإنسان، أمّا الصنف الثاني فهي الثمار الصناعيّة وهي كلّ ما تحصل من العين بصفة دوريّة وبتدخل من الإنسان وأماّ الصنف الثالث فيتمثل في ما يسمّى بالثمار المدنيّة وهي التي لا تتولد عن جسم الأصل ولكن تتمثل في نتاج مالي يدفع دوريا وبصفة منتظمة بمناسبة استغلال هذا الشيء وذلك وفقا لعقد يكون موضوعه هذا الشيء في حدّ ذاته.

وتختلف الثمار عن نماء الشيء وزوائده، فبينما تكون الثمار متولّدة عن أصل العين بصفة دوريّة يكون النماء طارئ[198] فهو ما يزيد عن الشيء طبيعة مثل نمو النبات أو الحيوان وما يزيد عملا وهو ما ينضاف إلى الشيء من قيمة بفضل المجهود الذي يبذله الشخص لتوسيع نشاط مصنع مثلا[199].

ويشير الفصل 609 المذكور أعلاه أعلاهأ إلى أن ثمار المبيع ونماؤه وزوائده تكون مبدئيا للمشتري من وقت تمام العقد ويكون بذلك انتقال الثمار للمشتري نتيجة لانتقال الملكيّة التي تتيح للمشتري المطالبة بثمار المبيع، فثمار الشيء تستحق من تاريخ البيع اعتبارا لكون المشتري أصبح مالكا منذ ذلك التاريخ ولو لم يقم بأداء ثمن الشيء أو تسلّمه.

ولئن بدى هذا الأمر بديهياّ وطبيعيا في إطار عقد البيع للاعتبارات التي تمّ ذكرها فإن الأمر يبدو مستبعدا بعض الشيء في إطار عقد الهبة فهل من الإنصاف قيام الموهوب له بمطالبة الواهب بثمار الشيء الموهوب خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ عقد الهبة هو من عقود التبرع المبنية على التفضل والإحسان؟

لم يتعرض المشرع كما هو معلوم في القواعد الخاصة بالتسليم في عقد الهبة إلى بيان الشيء محل التسليم ولا إلى ما يجب تسليمه معه ولذلك يتوجب الرجوع إلى الفصل 609 المذكور وإذا ما أردنا القياس فإنه يمكن القول أنه منطقيا لا مجال للحديث عن تسليم الثمار في إطار هبة المنقول المادي، لانّ الهبة والتسليم يتمّان في وقت واحد وذلك منطقي لأن التسليم هو شرط صحّة أو ركن من أركان عقد الهبة في المنقول المادي في حين أن الثمار كما جاءت بالفصل 609 من مجلة الالتزامات والعقود هي ما أثمره المبيع وما زاد عليه من وقت تمام العقد، هذه الجملة تفترض أن هناك فترة زمنية بين ما أثمره الموهوب من وقت تمام العقد والتسليم، وبما أنّ هذا الحيّز الزمني غير متوفر في صورة هبة المنقول المادي بما أن التسليم يكون في إطاره فورياّ فلذلك لا مجال للحديث عن موضوع الثمار في هبة المنقول المادي.

على أنّه يمكن التطرق إلى مسألة تسليم الثمار في هبة العقارات لأنّ التسليم في إطارها يمكن تأجيله ممّا يخلق هذا الحيّز الزمني الذي نصّ عليه الفصل 609.

وفي كلّ الحالات يمكن للأطراف الاتفاق حول هذه الجزئية وهي الإمكانية التي أتاحها الفصل 609 المذكور، رغم أنّ الفقه المقارن أقرّ بأن التسليم يشمل الثمرات التي ينتجها الموهوب من حين العقد،[200] وبأنّ الموهوب له يستحق ثمر الموهوب ونماؤه من وقت تمام الهبة[201]

بعد أن تمّ تحديد محلّ التسليم التي تعتبر مسألة مهمة لا بدّ من بيان خصائصه التي لا تقلّ أهمية.

الفقرة الثانية: خصائص المحلّ

لئن لم يتعرّض المشرع في الأحكام الخاصّة بالهبة إلى محلّ التسليم إلاّ أنّه يمكن تطبيق القواعد العامة المتعلقة بعقد البيع، تبعا لذلك يجب يتصف الشيء الموهوب الذي سيتمّ تسليمه ببعض المواصفات أهمّها أن يكون موجودا وقابلا للتعامل فيه (أ) ومملوكا للواهب (ب) ومعلوما ومعينا ولو بالنوع (ج).

أ- وجود الموهوب وقابلية التعامل فيه

لم ينصّ المشرّع صراحة على هذا الشرط وذلك على عكس بعض التشريعات مثل المشرع العراقي الذي أكّد بالفصل 609 على ضرورة وجود الموهوب وقت الهبة، على أنّه يمكن الجزم بضرورة أن يكون الموهوب موجودا حتى يمكن للواهب تسليمه بناءا على أن الشيء المعدوم لا يمكن أن يكون محلا للتعاقد وهو ما جاء بالفصل 574 من مجلة الالتزامات والعقود الذي نصّ على ما يلي:” بيع المعدوم باطل كثمرة لم تبرز أو ما في حصوله شكّ كزرع لم يثبت وحمل في بطن أمه وإنما يجوز بيع الغلّة بأموالها وغيرها من النتائج البارزة ولو قبل النضج”.

ويبدو هذا الأمر منطقياّ فبما أنّ الموهوب هو محلّ التسليم فلا بدّ إذن أن يكون موجودا حين العقد إذ لا يجوز عقد الهبة على محلّ غير موجود وقت التعاقد[202] لأنّ الهبة هي عقد تمليك في الحياة لا يتمّ إلاّ بتسليم الموضوع.

وما يدعم هذا القول أي ضرورة أن يكون الموهوب موجودا هو ما جاء بالفصل 205 من مجلة الأحوال الشخصية من أن هبة الأموال المستقبليّة باطلة وذلك بالرغم من أن القواعد العامة لا تمنع التعاقد على شيء مستقبلي فقد أجاز المشرع ذلك صراحة بالفصل 66 من مجلة الالتزامات والعقود الذي جاء به أنّه “قد يكون المقصود من الالتزام شيئا مستقبلا وغير محقّق عدا ما استثني في القانون”.

وقد اتخذت جلّ التشريعات المقارنة هذا المنحى آخذة بمبدأ عدم جواز هبة الأموال المستقبليّة من ذلك المشرع الفرنسي[203] والمشرع اللبناني الذي نصّ بالفصل 513 على أنه ” لا يجوز في حال من الأحوال أن تشمل الهبة أموال الهبة المستقبليّة” فالمقصود بالأموال المستقبلية؟

يقصد بالأموال المستقبليّة، الأموال التي لا يكون للواهب حقّ التصرف فيها وحق الهبة[204] وهو نفس التعريف الذي أعطاه المشرع اللبناني بالفصل 513 الذي عرّف الأموال المستقبليّة بأنها “الأموال التي لا يكون له حق التصرف فيها وقت الهبة”. على أنه يمكن القول بكلّ بساطة أن الأموال المستقبليّة هي الأموال غير الموجودة وقت الهبة كالمنزل الذي لم يتمّ بناؤه بتاريخ الهبة أو الثمار التي لم تنبت وقت الهبة.

يفهم مما سبق إذن أن هبة الأموال المستقبليّة باطلة في قانوننا ونفس الشيء بالنسبة للقانون الفرنسي رغم أن الفقه بفرنسا[205] ضيق من مفهوم الهبة في المال المستقبل معتبرا أن المال الموهوب وإن لم يوجد إلا أن الواهب سوف يملكه بمجرّد وجوده فيكون تصرّفه واقعا على ملكه[206].

وما تجدر الإشارة إليه هو أنّه لا يكفي أن يكون الشيء الموهوب موجودا بل ينبغي أن يكون قابلا للتعامل فيه. لم يتعرض المشرع كعادته إلى الأموال التي يباح أن تكون محلاّ للهبة لذلك يتجه الرجوع إلى القواعد العامة، وقد جاء بالفصل 62 من مجلّة الالتزامات والعقود ما يلي “لا يسوغ التعاقد إلاّ فيما يصحّ فيه التعامل من الأشياء والأعمال والحقوق المجردة فما لم تصرّح القوانين بمنع التعاقد فيه يصح التعامل فيه” تبعا لذلك فإن كلّ ما يمكن أن يدخل في دائرة التعامل يجوز مبدئياّ أن يكون محلاّ للهبة وبالتالي محلاّ للتسليم.

كذلك لا يجب أن يكون محلّ التسليم مستحيلا من حيث طبيعته أو من حيث القانون حسب ما اقتضاه الفصل 64 من مجلّة الالتزامات والعقود وذلك بديهي لأن الشيء المستحيل من حيث طبيعته أو من حيث القانون لا يمكن تسليمه وقد أعطى المشرع مثالا على الشيء المستحيل من حيث طبيعته وذلك بالفصل 571 من مجلّة الالتزامات والعقود الذي ورد به ما يلي “ما لا يمكن تسليمه للمشتري بناء على طبعه أو حاله كالحوت في الماء والطير في الهواء والحيوان الشارد لا يجوز بيعه”.

وأما الشيء المستحيل من حيث القانون فنذكر مثلا ملك الدولة العام الذي لا يجوز هبته، كذلك حجّر المشرّع بالفصل 66 من نفس المجلة التسليم في ميراث قبل وفاة المورث ولا التعاقد عليه أو على شيء من جزئياته ولو برضا المورث معتبرا أنّ التعاقد فيما ذكر باطل بطلانا مطلقا. وفي هذا الإطار يطرح التساؤل حول إمكانيّة هبة أعضاء من جسم الإنسان وهل من الممكن أن تكون أعضاء الجسم البشري محلاّ للتسليم في إطار هبة؟

مبدئيا لا يجوز أن تقع الهبة على أعضاء من جسم الإنسان لما لهذا الأخير من حرمة يحميها له القانون وكذلك المواثيق الدوليّة فجسد الإنسان مبدئياّ غير قابل للتعامل أو للإتجار فيه، لذلك اقتضى الفصل 6 من قانون 26 مارس 1991 أنّه “يحجّر أخذ الأعضاء بمقابل مالي أو بأيّ صفة من صفات التعامل” ولمّا كانت الهبة صفة من صفات التعامل فإنّه بالتالي يحجّر هبة الأعضاء البشرية، إلاّ أنّه يمكن بصفة استثنائية أخذ عضو من شخص متبرع قصد زرعه لشخص آخر لغاية العلاج وهو ما نصّ عليه الفصل 2 من نفس القانون.

إنّ اشتراط ضرورة أن يكون محلّ التسليم ألا وهو الشيء الموهوب مباحا أي قابلا للتعامل فيه له جذور تاريخيّة وقد تناول فقهاء الشريعة الإسلامية هذه المسألة فكانت مواقفهم كالآتي: حيث اعتبر الحنفيّة أنه لا تصحّ هبة ما ليس بمال أصلا كالميتة والدم والخنزير وصيد الحرم وغير ذلك كما لا تصحّ عندهم هبة المال الذي لا قيمة له في نظر الشرع كالخمر[207] معتبرين أنّ الموهوب يجب أن يكون مالا متقوما فلا تصح عندهم هبة ما ليس بمال كالحرّ ولا هبة ما ليس بمتقوّم كالخمر[208] كما اشترط الحنابلة في الموهوب أن يكون مقدورا على تسليمه وبذلك يخرج ما ليس كذلك كالطير في الهواء فإنّ هبته لا تصحّ. كذلك اشترط المالكيّة أن يكون الموهوب من الأشياء القابلة للنقل من ملك إلى ملك في نظر الشارع فلا تصحّ هبة الاستمتاع بالزوجة لأن نقل هذا الاستمتاع ممنوع شرعا[209].

وبالإضافة إلى اشتراط أن يكون الموهوب موجودا وقابلا للتعامل فيه فإنّه يشترط كذلك أن يكون مملوكا للواهب.

ب- ملكية الواهب للموهوب

لم يتعرض المشرع ضمن الأحكام الخاصة بالهبة إلى صورة هبة ملك الغير لذلك يتجه الرجوع إلى القواعد العامة المتعلقة ببيع ملك الغير أين أجاز المشرع هذا التصرف أي بيع ملك الغير مع تقييده ببعض الشروط وهي إجازة صاحب الملك أو صيرورة المبيع ملكا للبائع[210] فهل يجوز القياس في هذه الصورة أي هل يمكن هبة ملك الغير قياسا على إمكانيّة بيع ملك الغير؟

بالرجوع إلى عقد الهبة يتبين أن من شروط انعقاد عقد الهبة ضرورة توفر الإيجاب والقبول وذلك على الرغم في أنّ المشرّع لم ينصّ صراحة على وجوب صدور قبول الموهوب له لتنعقد الهبة ولم يعلق صحة انعقاد الهبة على قبول الموهوب له ومع ذلك يمكن الجزم بان الهبة كعقد لا يصحّ انعقادها إلاّ بقبول الموهوب له وهو ما توصل إليه الفقه[211] وحتى على افتراض صدور القبول من غير الواهب أي من وكيل الموهوب له مثلا فإنّ ذلك يعدّ تصرفا فضوليا على معنى الفصل 1179.

وبناءا على ما تقدم فإن الإجابة عن السؤال تأتي بالنفي إذ أنّ القياس لا يجوز لأنه ولئن أجاز القانون بصفة استثنائيّة بيع ملك الغير فإنّ عقد البيع هو عقد معاوضة وفيه مقابل لرب العمل وفيه مبادلة مال بمال أما عقد الهبة فهو عقد تبرع مبني على اعتبارات شخصيّة يرمي من ورائه الواهب إلى التفضل والإحسان على الغير.

وقد اتخذ فقه القضاء نفس الموقف حيث أقرّ الحكم الاستئنافي المدني المؤرخ في 20 ماي 2003[212] ببطلان عقد الهبة بناءا على عدم ملكية الواهب للشيء الموهوب وقد جاء بحيثيات هذا القرار ما يلي ” حيث أن عقد الهبة من العقود الناقلة للملكية و هو يفترض أن يكون الواهب و كشرط من شروط صحته مالكا للشيء الموهوب”.

وقد ذهب الفقه الحديث في هذا الاتجاه معتبرا أن هبة ملك الغير باطلة لأنّه حسب تعبير أحد الفقهاء “لا يمكن إجبار الواهب فيها على التحصيل على ملكية الشيء ونقله إلى الموهوب له أو السعي في الحصول على إجازة المالك الحقيقي باعتبار لا أخلاقية هذا الإلزام، فيكون محلّ الهبة هنا مستحيلا قانونا واستحالته مطلقة”[213] وتعد هبة ملك الغير باطلة مطلقا وذلك للأسباب التالية:

 

“أولا لانعدام عنصر المنفعة التي تعتبر من بين شروط تدخل الفضولي، ثانيا لفقدان عنصر الضرورة والتأكد الذي نصّ عليها الفصل 1181 من مجلّة الالتزامات والعقود، ثالثا لأن الهبة تمليك في الحال وعقد الهبة يتوقف إتمامه على القبض، رابعا لاعتبار عقد الهبة من العقود التي تستند إلى أسباب نفسانيّة محضة ولا يمكن للفضولي أن يحلّ محلّ رب العمل في عقد التبرع، خامسا لوجوب توثيق الهبة بحجة رسمية فعند التوثيق يجب بيان المالك الحقيقي في هبة الشيء الموهوب الذي هو على ملك الغير”.[214]

إلى جانب إلزامية أن يكون الواهب مالكا لمحلّ التسليم فإنه يشترط كذلك في هذا المحلّ أن يكون معلوما ومعيّنا ولو بالنوع حتّى يكون بالإمكان تسليمه.

ج- وجوب أن يكون الموهوب معلوما و معينا و لو بالنوع

بما أن التسليم يقع على المال سواء كان عقارا أو منقولا كما يقع على الحقوق المجردة فإن محله يجب أن يكون معلوما فلا يعقل أن يهب الواهب شيئا مجهولا ويستنتج ذلك من إقرار المشرع ببطلان هبة الأموال المستقبليّة نظرا لأنها تكون غير موجودة عند التسليم وأيضا لأنها تكون غير معلومة القدر لذلك فهي باطلة.

يشترط كذلك أن يكون الموهوب معيّنا فلتسهيل عملية التسليم يجب أن يكون محلّ التسليم أيضا معيّنا أو على الأقلّ قابلا للتعيين وذلك لتلافي ما قد ينشأ من نزاع عند التسليم.

وقد اقتضت أحكام الفصل 63 من مجلة الالتزامات والعقود أنّ “المعقود عليه يجب أن يكون معينا ولو بالنوع أما مقداره وعدده فيجوز أن يكون غير معين وقت العقد بشرط إمكان تعيينه فيما بعد”. ويفهم من هذا الفصل أن الموهوب يجب أن يكون معينا أو على الأقل قابلا للتعيين déterminable. ويميّز الفقه[215] هنا بين القيميات أو الأشياء المعيّنة بالذات والمثليات أو الأشياء المعيّنة بالنوع.

فبالنسبة للأول يجب على الأطراف تحديده ووصفه بصفة تعرف به وتميزه عن غيره فإذا كان مثلا موضوع العقد عقارا فإنه يجب التنصيص بالعقد على موقعه وحدوده ومساحته، وأما بالنسبة للشيء المثلي فيعرّف بكونه الشيء الذي يتعامل فيه بتقديره عدّا أو وزنا أو قيسا أو كيلا و هو في الأصل والغالب شيء مثلي له أشباه من جنسه يقوم مقام بعضه عند الوفاء[216] ويتطلب الشيء المعيّن بالنوع تعيينه من حيث جنسه ونوعه ومن حيث مقداره أيضا ويصحّ أن يكون المقدار قابلا للتعيين وقد تعرض المشرع بالفصل 577 من مجلة الالتزامات والعقود إلى هذا النوع.

ولئن أجاز المشرع بصريح الفصل 63 من مجلة الالتزامات والعقود أن يكون المقدار والعدد غير معيّنين وقت العقد على أن يكون بالإمكان تعيينهما فيما بعد فإن الإمام مالك ذهب إلى صحة هبة المجهول إذا كانت بغير عوض لأنها تبرع محض فمن وهب لرجل نصيبه في ميراث مورثه وهو لا يدري كم هو أو وهبه نصيبه في دار وهو لا يدري كم هو فذلك جائز.[217]

وأماّ أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل فقد اشترطوا أن يكون الشيء الموهوب معلوم المقدار في المقدرات أو معينا بذاته في غيرها وقالوا أنّه “لا يجوز أن يهب المالك بعض ماله من غير تعيين كما إذا وهب إنسان أحد فرسين يملكهما أو شاة من غنمه أو جزءا من أرضه من غير أن يعيّن فلا تصحّ الهبة فإن عيّن صحّت”.[218]

وأيّا كان المحلّ الذي يقع عليه التسليم، فسواءا كان الموهوب عقارا أو منقولا أو حقوقا مجردة فإنّ التسليم يجب أن يتم بكيفية محدّدة.

المبحث الثاني: كيفيّة التسليم

تستوجب دراسة كيفيّة التسليم في عقد الهبة التطرق إلى عديد المسائل، فتناول كيفية التسليم تفرض التعرض إلى طرق التسليم من ناحية، إذ كما هو معلوم تختلف عملية التسليم باختلاف نوعية الموهوب وطبيعته وهو ما اقتضاه الفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود، ومن ناحية أخرى لا يمكن الإلمام بكيفيّة التسليم دون تناول أحكامه المتمثلة في زمان ومكان التسليم ونفقاته وأطرافه، لذلك ينبغي التعرض في مرحلة أولى إلى طرق التسليم (الفقرة الأولى) للنظر فيما بعد في أحكامه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: طرق التسليم

ينصّ الفصل 592 من مجلة الالتزامات والعقود على ما يلي: “يتمّ التسليم إذا تخلى البائع عن المبيع وصدر منه أو من نائبه إذن للمشتري في تسلّم المبيع ومكّن المشتري من حوزه بلا مانع” ويستخلص من هذا النصّ أنّ التسليم يتمّ بوضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له وتمكينه من حوزه بلا مانع وهو ما أجمع عليه الفقهاء[219].

ويتمّ التسليم في الموهوب بالكيفيّة التي يتمّ بها تسليم المبيع وهو ما اقتضاه الفصل 202 من مجلة الأحوال الشخصية، و يعتبر التسليم ضروريا لتحقيق سيطرة فعلية أو على الأقل سيطرة قانونية على الشيء الموهوب.

وقد أشار فقه القضاء إلى الطرق التي من الممكن أن يحصل بها التسليم حيث اعتبرت محكمة التعقيب في قرار لها بتاريخ 05 أفريل 2005[220] أنّ “المشرع لم يقصد فقط التسليم الفعلي أو المادي لموضوع البيع أو الهبة كما ذهبت إليه محكمة القرار المنتقد مثلا في المنقولات بالمناولة وفي العقارات الغير المسجلة بتسليم المفاتيح أو بإخلائها ووضعها تحت تصرف المشتري أو الموهوب له بل قصد كذلك التسليم الحكمي وهو الذي يحصل بمجرد اتفاق الطرفين كما نصت عليه بالفقرة الثالثة من الفصل 593 م إ ع لأنّ التسليم يجب أن يتفق ويتناسب مع طبيعة الشيء المبيع أو الموهوب”.

ولئن حدّد المشرع طرق تسليم الموهوب التي تختلف باختلاف طبيعته إن كان عقارا أو منقولا أو حقوقا مجردة فإنّه لن يتمّ اعتماد هذا المعيار وإنما سوف يتمّ التركيز على نوعية التسليم نظرا لأنّ الموهوب له يمكن أن يتسلّم الموهوب من الواهب تسلّما فعلياّ (أ) أو عن طريق التمكين فيكون التسليم رمزيا (ب) أو أن يتفق مع الواهب على التسليم فيكون تسليما باتفاق الطرفين (ج)

أ- التسليم الفعلي

تعرض المشرع إلى هذه الصورة بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود وحصر مجالها في المنقولات المادية، و تعدّ هذه الطريقة في التسليم الأكثر تطبيقا في المجال العملي نظرا لشكلها المبسّط المتمثل في التسليم المادي للشيء للموهوب عبر مناولته يدا بيد وبذلك تنتقل حيازة الموهوب من الواهب إلى الموهوب له فتتم بذلك الهبة.

ويقتصر التسليم الفعلي على المنقولات المادية مثل المجوهرات والأثاث وحتى النقود إذ لا يكون ممكنا في غيره باعتبار أن التسليم الفعلي يتطلب مناولة الشيء يد بيد، لذلك يصعب أن يكون العقار مثلا محلا للتسليم الفعلي نظرا لاستحالة إمكانية مناولته يد بيد.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الطريقة من طرق التسليم تعدّ الأقدم تاريخيا، فالمناولة في المنقول تعد أول شكل من أشكال التسليم في البيع في القانون الروماني.[221] وتفترض هذه الصورة أن يكون طرفا التسليم أو من ينوبهما حاضرين حتى يتمّ التسليم يدا بيد من الواهب أو من ينوبه إلى الموهوب له أو من ينوبه وقد يتطلب التسليم الفعلي للمنقول نقله و وضعه فعليا بين يدي الموهوب له في محلاته وهنا التسليم لا يتم إلاّ عند وصوله للموهوب له أو لمن ناب عنه.[222]

وقد يتحقق التسليم الفعلي أيضا حسب بعض الفقهاء “بوضع المنقول تحت تصرف الموهوب له بحيث يتمكن من حيازته والانتفاع به دون عائق ولكن الموهوب له لا يستولي على المنقول بالفعل استيلاء ماديا فمادام الموهوب له عالما بوضع المنقول تحت تصرفه متمكنا من الاستيلاء عليه فإن هذا يكفي لتمام القبض في الهبة كفايته لتمام التسليم في المبيع”[223].

على أنّ ما تجب الشارة إليه هو أن التسليم بالنسبة للمنقول غير المعين إلاّ بالنوع لا يتحقق إلاّ بإفرازه في حضور الموهوب له ودعوته لتسلمه ويقع الإفراز بالعد أو الكيل أو الوزن. كما أن التسليم الفعلي ليس الطريقة الوحيدة للتسليم في المنقول و إنما يمكن أن يكون التسليم في إطاره تسليما رمزيا.

ب- التسليم الرمزي

لئن أقر المشرع إمكانية التسليم الفعلي وحصرها في المنقول المادي وذلك نظرا لطبيعته التي تخول مناولته يدا بيد فإن الصعوبة تطرح حول طريقة تسليم غير المنقول المادي مثل العقار والمنقولات المسجلة التي يعسر تصور المناولة فيها، فما هي الطريقة المعتمدة لتحقيق التسليم؟

لم يغفل المشرع عن هذه الصورة بل أوجد لها حلا يتمثل في التسليم الرمزي وهي طريقة تقوم مقام التسليم الفعلي وبها يتحقق التسليم. هذه الطريقة الرمزية للتسليم كان معمولا بها في القانون الروماني، حيث كان يوجد ما يعبّر عنه “بالتسليم باليد الطويلة” Tradito longo manu فإذا تسلط البيع على عقار شاسع كان من الضروري في البداية أن يصطحب ناقل الملكية من يريد اكتسابها ويمرّ به في جميع أجزاء العقار ليتحقق التسليم لكن طبقا لنظام التسليم باليد الطويلة لم يعد ذلك لازما وإنها أصبح يكفي أن يقف البائع في مكان مرتفع ويشير لمن يريد اكتساب الملكية إلى حدود العقار فهذا الطواف يعتبر تسليما رمزيا ينوب عن التسليم الفعلي.[224]

و قد تعرض المشرّع للتسليم الرمزي كطريقة من طرق التسليم وذلك بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود والسؤال الذي يطرح هو فيما يتمثل هذا النوع من التسليم؟

يتجسّد التسليم الرمزي من خلال قيام الواهب بتسليم المفاتيح للموهوب له (1) وتسليم الحجج والرسوم (2)

1- تسليم المفاتيح

تنطبق هذه الصورة على هبة العقارات والمنقولات، ففيما يتعلق بالعقارات نصّت الفقرة الأولى من الفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود على أن “التسليم يحصل في العقار بتخلي البائع عنه وفي الرّبع بإخلاله وتسليم مفاتيحه للمشتري”.

ويتحقق وضع الواهب للعقار تحت تصرف الموهوب له عبر تخلي الأوّل عن العقار وإخلاله الربع[225] فإن كان الموهوب منزلا يجب على الواهب أن يخليه ويخرج ماله من أمتعة فيه وإن كان أرضا وجب عليه إخلائها، فيعدّ صورة من صور التسليم الرمزي لكن بشرط تسليم المفاتيح، فالتخلي والإخلاء هنا لا يحققان التسليم بل يجب إضافة لذلك تسليم مفاتيح العقار أو الرّبع وبذلك يتحقق التسليم الرمزي الذي يقوم مقام التسليم الفعلي، فتسليم مفاتيح العقار من طرف الواهب إلى الموهوب له يرمز لتسليم العقار في حدّ ذاته.

ولا يقتصر التسليم الرمزي فقط على العقار وإنما يمكن الحديث أيضا عن التسليم الرمزي في المنقول فقد نصت الفقرة الثانية من الفصل 593 مجلة الالتزامات والعقود على أن التسليم يحصل في “…المنقولات…بتسليم مفتاح المحل أو الصندوق الموضوعة فيه” فبعد أن تعرّض المشرع في نفس الفقرة إلى صورة التسليم الفعلي “المناولة يد بيد” هاهو يشير إلى طريقة أخرى من طرق التسليم في المنقول ألا وهي التسليم الرمزي المتمثلة في تسليم مفتاح المنزل أو المخزن أو الصندوق الموضوع فيه هذا المنقول. كما يعتبرّ تسليم مفتاح العقار أو المنقول الذي يحتوي الشيء الموهوب تسليما رمزيا ويؤخذ منه أن الواهب قد تسلمّ فعلا المنقول الموهوب.

وإضافة إلى تسليم المفاتيح يتحقق التسليم الرمزي أيضا من خلال تسليم الرسوم والحجج.

2- تسليم الرسوم والحجج

يتحقق التسليم الرمزي كذلك عبر تسليم بعض الرسوم، مثل الحجج أو مستندات التمليك وقد تمّ التطرق إلى هذه المسألة عند دراسة مسألة تسليم التوابع غير المادية لذلك لا فائدة من إعادة التطرق إليها وذلك لتفادي التكرار.

وقد تعرض المشرع لصورة من صور التسليم الرمزي الخاصة بالمنقول وذلك عبر تسليم الرسوم التي تثبت وجود الموهوب في محل معين وتسمح في نفس الوقت لحامل هذا الرسم بتسلّم البضاعة موضوعه ومن أمثلة هذه الرسوم نجد سند الشحن إن كان الموهوب مشحونا وسند الإيداع إن كان الموهوب مودعا. وقد نصّت الفقرة الرابعة بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود أنه : ” إذا كان المبيع موجودا في مستودع عام فإن إحالة توصيل المستودع أو صاحب المركب أو صاحب العربة أو تسليم نفس التوصيل بيد المشتري يعدّ كتسليم المبيع بالذات”.

يتحقق التسليم الرمزي كذلك في هبة الحقوق المجردّة عبر تسليم الحجج وهو ما نصّ عليه الفصل 594 من مجلة الالتزامات والعقود “تسليم الحقوق المجردة كحق المرور يكون بتسليم حججها…” فيكون تسليم الحقوق المجردة سواء كانت حقوقا عينية كحق الانتفاع أو حق الارتفاق أو كانت حقوقا ذهنيّة كحق التأليف عبر تسليم السندات المنشئة أو المثبتة لوجودها، كالسند المنشئ لحق الانتفاع أو براءة الاختراع، ففي حقّ المرور مثلا يتعيّن على الواهب أن يسلّم للموهوب له الترخيص في استعمال الحقّ مع تمكينه من ذلك بإزالة ما قد يحول بينه وبين ممارسته لحقّ المرور كما يتحقّق التسليم في هبة الدين عن طريق تسليم سند الحقّ فيصبح الموهوب له مالكا منذ الوقت الذي تسلّم فيه السندات التي تثبت ذلك الحقّ.

يتحقق إذن التسليم الرمزي في الحقوق المجرّدة عبر تسليم الحجج والسندات ويقوم هذا التسليم الرمزي مقام التسليم الفعلي ويبدو ذلك مستساغا في حالات معيّنة نظرا لاستحالة التسليم الفعلي في هذه الحقوق لكنّه لا يكون كذلك في بعض الصور الأخرى التي يتمّ فيها التسليم بمجرد اتفاق المتعاقدين.

ج- التسليم بمجرد اتفاق المتعاقدين

جاء بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود ثالثا أن التسليم يحصل “بمجرد اتفاق المتعاقدين إن كان تسلّم المبيع محتاجا لمؤونة أن كان المشتري واضعا يده عليه بوجه آخر” وبذلك يكون المشرع قد طرح الطريقة الثالثة من طرق التسليم ألا وهي التسليم بمجرد اتفاق المتعاقدين لكنه لم يحدّد مجال تطبيق هذا النوع من التسليم، فلئن تطرق في الفقرة الأولى من الفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود إلى طرق التسليم في العقار وفي الفقرة الثانية إلى طرق التسليم في المنقول فإنه في الفقرة الثالثة لم يحدد وهو ما يسمح بالقول بأن التسليم بمجرد التراضي يشمل مبدئيا العقار والمنقول، ويشتمل التسليم بمجرد التراضي على صورتين هما صورة ما إذا كان الموهوب يحتاج لمؤونة (1) ووضع الموهوب له يده عليه بوجه آخر (2)

1- تسلّم الموهوب يحتاج لمؤونة

أول ما يتبادر إلى الذهن عند دراسة هذه الصورة من صور التسليم بمجرد اتفاق الطرفين هو التساؤل حول مقصد المشرع من كلمة “المؤونة” التي وردت بالفقرة 3 من الفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود، وبالرجوع إلى السياق الذي وردت به نجد أن الفصل غير واضح لذلك كان لا بدّ من الرجوع إلى الصياغة الفرنسية لذات الفصل[226]

الذي يعرب كالتالي” إذ كان تسلم المبيع لا يمكنه أن يتحقق عند إبرام العقد” معنى ذلك عدم إمكانية حيازة الموهوب من طرف الموهوب له وذلك لأسباب يمكن أن ترجع لطبيعة الموهوب أو إلى وضعيّة الموهوب له كأن لا تكون لديه الإمكانيات اللازمة لتسليم الموهوب فعليا عند إبرام العقد أو كأن يكون تعذّر عليه تسلّم الموهوب نظرا لتواجده في مكان بعيد عن مكان التسليم ومن أمثلة ذلك صورة هبة المناب المشاع الذي اعتبرته محكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 05 أفريل 2005[227] “حق مجرّد لا يمكن التحوز به ماديا ويكفي إثبات حصول اتفاق بين الطرفين”.

وتتحدّد هذه الصورة من صور التسليم بمجرد الاتفاق بمدى قدرة الموهوب له على التسلّم، وهو ما يتناقض مع تعريف المشرع للتسليم الذي يقتضي وضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له ولو لم يتسلّمه فعليا لأي سبب من الأسباب.

وبالتالي كان من الممكن استنتاج هذه الصورة من صور التسليم بمجرد الاتفاق من القواعد العامة الخاصة بالتسليم والاستغناء عن التنصيص عليها بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض القوانين تقتصر على ذكر صور أخرى من التسليم بمجرد التراضي منها وضع الموهوب له يده على الموهوب بوجه آخر.

2- وضع الموهوب له يده على الموهوب بوجه آخر

وردت هذه الصورة بالفقرة الثالثة من الفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود وقد نصّت معظم القوانين على هذه الصورة[228] كما تعرض لها الفقه[229] مسميا هذه الطريقة للتسليم بالتسليم الحكمي أو التسليم الاعتباري، ويتميز هذا النوع من التسليم عن غيره بأنّه تصرف قانوني فهو مجرد اتفاق غير مسحوب بعمل مادي[230] إذ هو عبارة عن افتراض من قبل المشرع على حصول التسليم في حين انّه لم يقع فعلا.

وتتمثل هذه الصورة في الوضعيّة التي يكون فيها الموهوب في حيازة الموهوب له قبل الهبة وذلك على سبيل الإجارة أو الإعارة أو الوديعة أو الرهن أو الكراء أو غير ذلك ثم تقع الهبة، وفي هذه الحالة يكون الموهوب له حائزا فعلا للموهوب فلا يحتاج إلى وضع يده عليه ماديا مرة أخرى وإنما يحتاج إلى اتفاق مع الواهب على أن يكون الموهوب في حيازته، لكن ليس كمستعير أو مستودع أو متسوغ بل كمالك له عن طريق الهبة وبذلك يتحقق التسليم بمجرد التراضي دون حاجة إلى التسليم الفعلي أو الرمزي، وقد تعرض فقهاء المذهب الحنفي إلى هذه الوضعية وتوصلوا إلى أنّه إذا كانت العين الموهوبة في يد الموهوب له ملكها بمجرّد العقد بدون قبض جديد لكن بشرط القبول.[231]

وتوجد هذه الصورة من صور التسليم بالاتفاق في عقد الوديعة الذي يكون التسليم فيه ركنا من أركان العقد وليس التزاما، حيث جاء بالفصل 1001 من مجلة الالتزامات والعقود “يتمّ عقد الإيداع بتراضي الطرفين وبتسليم الوديعة فإن كانت قبل العقد في يد المستودع بسبب آخر قام الرضاء مقام التسليم”. ويبدو هذا المثال نموذجا للتسليم باتفاق الطرفين حيث لا حاجة للتسليم الفعلي ولا إلى التسليم الرمزي إن كانت الوديعة قبل العقد في يد المستودع لسبب آخر.

ويبدو أنّ المشرع قد اقتصر على صورة واحدة للتسليم بمجرد الاتفاق وهي أن يكون الموهوب في حيازة الموهوب له قبل الهبة، وذلك على عكس بعض القوانين الأخرى التي تعرضت لصورة أخرى من التسليم الحكمي، حيث جاء بالفصل 953 من مدونة التقنين المصري أنّه “يجوز أن يتم نقل الحيازة دون تسليم مادي إذا استمر الحائز واضعا يده لحساب من يخلفه في الحيازة أو استمر الخلف واضعا يده ولكن لحساب نفسه”.

ومفاد ذلك أن التسليم الحكمي له صورتان، الأولى أن يكون المنقول في حيازة الموهوب له قبل الهبة وهي الصورة التي نص عليها المشرع التونسي، وأما الثانية “فهي أن يبقى المنقول في حيازة الواهب بعد الهبة ولكن لا كمالك بل كمستأجر أو مودع عنده أو مستعير أو غير ذلك مما يترتب على عقد يستلزم نقل حيازة الشيء”[232] وهذه الصورة لم ينص عليها المشرع، وقد اعتبر جانب من الفقه[233] أن هذه الصورة الثانية من التسليم الحكمي غير كافية لتمام القبض لأن الواهب لم يتجرد عن الحيازة على وجه ينبهه إلى خطر ما أقدم عليه ويرى أنه لا يمكن أن يسلّم الواهب المنقول للموهوب له ثم يرده الموهوب للواهب على سبيل الإيداع أو العارية أو الإجارة.

كما اعتبر الفقه أن هذه الصورة الثانية من التسليم الحكمي تصحّ في التسليم باعتباره التزاما في الهبة لا ركنا فيه فتصحّ في العقار وتصحّ في المنقول إذا لم تكن الهبة يدويّة بل تمت بحجة رسمية أو كانت هبة مستترة أما إذا كانت الهبة يدوية في المنقول فلا تتم إلاّ بالقبض. [234]

ويشار في الأخير إلى أنه سواء كان التسليم فعليا أو رمزيا أو باتفاق الأطراف فإنّه يجب أن يتم طبق أحكام معيّنة.

الفقرة الثانية: أحكام التسليم

ليكون التسليم سليما ولكي يتم وفق ما أراده المشرع لا يكفي أن يتم بالطرق التي حدّدها بالفصل 593 من مجلة الالتزامات والعقود بل يجب إضافة إلى ذلك أن يتم هذا التسليم طبق قواعد محدّدة ضبطها المشرّع بدقة وذلك حتى يتم تنفيذ عملية التسليم وإلاّ عدّ التسليم معيبا. ولذلك ألّم المشرع بهذه المسألة ووضع لها أحكاما خاصة بمجلة الالتزامات والعقود وهو ما مكّن من معرفة متى وأين يتم التسليم ومن يتحمل نفقاته ومن هم أطرافه.

وكما هو معلوم فقد أحال المشرع عند تناوله للتسليم في عقد الهبة إلى قواعد تسليم المبيع طبعا مع مراعاة طبيعة الهبة وقواعدها الخاصة، وتتطلب دراسة أحكام التسليم تحديد أحكامه الموضوعية التي تشمل الإطار الزماني والمكاني ومصاريف التسليم (أ) للبحث في الأحكام الذاتية التي تهمّ أطراف التسليم (ب)

أ- الأحكام الموضوعية

تقتضي دراسة الأحكام الموضوعية للتسليم التعرض إلى إطاره الزماني (1) والمكاني (2) والنظر في مسألة المصاريف (3)

1- زمان التسليم

تعدّ دراسة مسألة زمن التسليم في عقد الهبة هامة وهامة جدا، وتتأتّى هذه الأهمية من الإجابة عن السؤال التّالي: هل يمكن سحب القواعد المتعلقة بزمن التسليم في عقد البيع على عقد الهبة؟

يبدو هذا التساؤل مهما خصوصا إذا ما تمّ الأخذ في الإعتبار أنّ الطبيعة القانونية للتسليم في عقد البيع تختلف عن الطبيعة القانونية للتسليم في الهبة اليدوية، فالتسليم في عقد البيع هو التزام لا شكّ في ذلك فهو أثر للعقد بعد انتقال الملكية لذلك نجده منطقيا أن ينصّ المشرع بالفصل 597 من مجلة الالتزامات والعقود على أنّ “التسليم يكون إثر العقد مع مراعاة المهلة التي يقتضيها نوع المبيع أو العرف” والملاحظ في هذا الفصل أنّه لم يشر إلى صورة الاتفاق التعاقدي في المرتبة الأولى على عكس الفصل 575 من مشروع صانتيلانا[235] ولعلّه سهو من المشرع أو يقينا بأنّ هذا الأمر بديهي إلى درجة أنّه لم يذكره.

وما تجدر الإشارة إليه هو أنّ القاعدة التي نصّ عليها الفصل 597 من مجلة الالتزامات والعقود ولئن تتماشى وتنطبق على التسليم في هبة العقار الذي يعدّ التسليم فيه التزام وتبعا لذلك يمكن أن يتمّ تأجيل التسليم في إطاره، إلاّ أنّه لا يمكن تطبيق هذه القاعدة في صورة هبة المنقول المادي لأنّ التسليم فيه يعدّ ركنا من أركان العقد وبالتالي يكون التسليم فوريا حين العقد.

وتعدّ هذه الصورة الأخيرة المبدأ إذ أنّ الأصل أن يتمّ التسليم فورا بمجرّد تمام الهبة هذا إن لم يتفق المتعاقدان على وقت معيّن يتّم فيه التسليم[236] أو كان هناك عرف يقضي بالتسليم في وقت معيّن أو اقتضت طبيعة الموهوب شيئا من الوقت لتسليمه[237] مثلما هو الحال بالنسبة لهبة العقار الذي يمكن أن يتأجل التسليم في إطاره إلى حين إتمام إجراءات الحجّة الرسمية، وعلى كلّ تبقى إرادة المتعاقدين الفيصل وبما أنّ القواعد المنظمة لزمان التسليم ليست من النظام العامّ فإنّه يمكن تبعا لذلك للأطراف الاتفاق على ما يخالفها وهي إمكانية متاحة كذلك في ما يخصّ مكان التسليم.

2- مكان التسليم

لم يتعرض المشرع إلى مسألة مكان التسليم في إطار عقد الهبة، ولا يفوتنا التذكير مرّة أخرى أنّ المشرع حثّ على تطبيق قواعد تسليم المبيع عند تسليم الموهوب. وبالرجوع إلى القواعد المتعلقة بالتسليم في عقد البيع ينص الفصل 595 من مجلة الالتزامات والعقود على أنّ: “تسليم المبيع يكون في محلّ وجوده وقت البيع ما لم يشترط ما يخالف ذلك وإذا نصّ عقد البيع على وجود المبيع بمحلّ غير الذي هو فيه حقيقة فعلى البائع نقله إلى المحلّ المنصوص عليه إذا طلب المشتري ذلك”.

ويفهم من هذا النص أنه يتم تطبيق هذا الفصل في صورة عدم اتفاق الأطراف على مكان محدّد للتسليم، وأمّا في صورة الاتفاق حول مكان التسليم فإنّه يتمّ الاستغناء عمّا ورد بالفصل 595 من مجلة الالتزامات والعقود نظرا لأنّ هذه القواعد ليست آمرة ولا تهمّ النظام العام وبالتالي يجوز الاتفاق على خلافها.

تأسيسا على ما سبق يمكن للطرفين أن يتفقا على أن يقع التسليم في مقر الواهب مثلا أو في مقر الموهوب له أو في أي مكان يختارانه فمن المهمّ أن يكون هناك اتفاق يحدّد مكان التسليم وهو ما أجمع عليه الفقهاء[238].

أمّا عند انعدام أي اتفاق تعاقدي حول مكان التسليم فإنّه يتم تطبيق أحكام الفصل 595 المذكور لإيجاد الحلّ الذي يختلف بحسب ما إذا تعلقت الهبة بجسم معيّن بذاته أو بشيء مثلي.

ففيما يخصّ الجسم المعيّن بذاته، فقد جاء بالفقرة الأولى من الفصل 595 من مجلة الالتزامات والعقود أنّ “تسليم المبيع يكون في محلّ وجوده وقت البيع”، حيث اعتبر المشرّع أنّ مكان التسليم هو مكان وجود الموهوب عند التعاقد[239] بالتالي يكون على الموهوب له التوجه إلى هذا المكان الذي يوجد به الموهوب عند إبرام الهبة وذلك حتى يتسلمه.

على أنّه ما تجب الإشارة إليه هو أنّ القاعدة المقرّرة بالفصل 595 من مجلة الالتزامات والعقود تعتبر استثناءا للقاعدة الواردة بالفصل 262 من نفس المجلة الذي ينصّ على أنّ: “الوفاء يكون في المحلّ الذي يقتضيه نوع الشيء المتعاقد عليه وفي المحلّ المبيّن في العقد فإن لم يبيّن فيه مكان الوفاء كان في محل التعاقد إن كان في نقل الشيء مصروف أو مشقّه..” فقد نصّ هذا الفصل إلى عدّة أمكنة يجوز فيها الوفاء ولكنّه لم يشر إلى مكان وجود الشيء عند التعاقد، وبما أنّ الفصل 563 من مجلة الالتزامات والعقود نصّ على أنّ النصوص الخاصة تقدّم على العامّة ممّا يجعل من الفصل 595 هو المنطبق.

وأمّا في ما يخصّ الشيء المثلي فإنّه يخرج عن نطاق تطبيق الفصل 595 نظرا لأنّ الشيء المثلي ليس له وجود عند التعاقد. وبما أنّ المشرع لم يضع نصا خاصا يبيّن مكان تسليم الشيء المثلي فإنّه يتمّ الرجوع إلى النصّ العام وهو الفصل 262 من مجلة الالتزامات والعقود فهذا الفصل يعطي العديد من الفرضيات لأمكنة التسليم:

أمّا الفرضية الأولى فهي أن يتمّ التسليم في المحلّ الذي يقتضيه نوع الشيء المتعاقد عليه، ويفرض هذا الحلّ تسليم الشيء في المحلّ الذي تستوجبه طبيعته. وأمّا الفرضية الثانية فهي أن يتم التسليم بناءا على اتفاق تعاقدي في “المحلّ المبيّن في العقد” ويترك هذا الحلّ لإرادة الأطراف المجال لتحديد مكان التسليم. وأمّا في صورة انعدام هذا الاتفاق التعاقدي فإنّ التسليم يتم في محلّ التعاقد وهي صورة الفرضية الثالثة، وذلك بشرط أن يكون في نقل الشيء مصروف أو مشقة.

وأما إذا أمكن النقل بدون مصاريف أو مشقة فإنه يمكن التسليم في أي مكان يمكن أن يوجد به الموهوب له إلاّ إذا رفض هذا الأخير وكان له عذر مقبول وهي الفرضية الرابعة التي طرحها الفصل 262 من مجلة الالتزامات والعقود “وفّى المدين حيثما وجد الغريم إلاّ إذا كان له عذر مقبول في عدم قبوله للوفاء هناك”، وهنا تظهر فلسفة المشرع وسعيه لتحقيق العدالة والتوازن التعاقدي وعدم إثقال كاهل أحد المتعاقدين لمصلحة الطرف الآخر.

وعلى الرغم من أنّ المشرع طرح عديد الفرضيات والحلول بالفصل 262 المذكور مساهمة منه في توضيح هذه المسألة وهذا هو المفروض إلاّ أنّ تعدّد الحلول المقترحة صعّب الأمور نسبيا، فقد كان بإمكانه أن يعتمد قاعدة مقر المدين أي مقر الواهب في صورة الحال، ويكون هذا الحلّ منطقيا ومنصفا للطرفين حيث يتوجه الموهوب له وهو هنا المستفيد من هذا العقد إلى مقر الواهب لكي يقوم بتسلّم الموهوب وإذا ما تمّ ذلك فإنّ المشكل يبقى مطروحا فيمن يتحمّل نفقات التسليم.

3- نفقات التسليم

ممّا لا شكّ فيه أنّ التسليم يستوجب جملة من المصاريف والتكاليف، فوضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له وتمكينه من حوزه بلا مانع يتطلب بعض المصاريف، فما المقصود بمصاريف التسليم ثمّ من يتحمّلها؟

لم يتعرض المشرع في الأحكام الخاصة بالهبة إلى نفقات التسليم ولكنّه أحال إلى قواعد التسليم في عقد البيع وما نشير إليه في البدء هو أنّ المشرع لم يعط تعريفا للمصاريف ولكنه في المقابل أعطى بعض الأمثلة لهذه المصاريف وذلك على سبيل الذكر لا الحصر بالفصول 603 و604 و605 من مجلة الالتزامات والعقود.

ويستنتج من هذه الفصول أنّ مصاريف التسليم تتمثل في مصاريف فرز المبيع إن كان من المثليات وذلك بوزنه أو كيله أو عدّه[240] إذ الفرز عملية ضرورية للتسليم في المثليات. وتدخل في مصاريف التسليم كذلك مصاريف تسليم الرسوم اللاّزمة لإثبات الحق المجرد أو إحالته[241] وكذلك مصاريف نقل الموهوب من محلّ تسليمه[242]، كما تشمل المصاريف تكاليف لفّ البضائع ووسقها ونقلها[243] ومعاليم الڤمرك والمكس والمراكز المتوسطة أثناء النقل وعند وصولها للمكان المقصود[244] وذلك بالنسبة للبضاعة المستوردة ويبدو هنا أنّ المشرع قد خلط بين مصاريف التسليم ومصاريف العقد إذ تعرض في الفصل 604 إلى أجرة السمسار، وكذلك إلى أجر العدول عن كتب رسم الشراء والتامبر والتسجيل وهي كلها مصاريف العقد أي ما تمّ به إبرام العقد ولا علاقة لها بالتسليم.

وبالنظر إلى الفصول 603 و604 و608 من مجلة الالتزامات والعقود يتضح أنّ المشرع حدّد الطرف الذي يتحمّل المصاريف ولكن هذه القاعدة ليست آمرة إذ يجوز الاتفاق على خلافها. ففي عقد البيع تكون مصاريف التسليم محمولة على البائع خلافا لمصاريف التسلّم المحمولة على المشتري وذلك تطبيقا للقاعدة القائلة بأنّ من عليه التزام معيّن عليه تحمّل المصاريف التي يستوجبها، وهي القاعدة العامة الواردة بالفصل 264 من مجلة الالتزامات والعقود التي تقتضي أنّ “مصاريف الأداء على المدين ومصاريف القبض على الدائن ما لم يكن هناك شرط أو عرف تنافيه أو صرح القانون بخلافه”.

وإعمالا لهذه القاعدة وقياسا على قواعد تسليم المبيع فإنّ مصاريف التسليم تكون على الواهب لأنه هو المدين بالتسليم وبالتالي يتحمل الواهب مصاريف التسليم وهي المصاريف اللاّزمة لوضع الموهوب تحت تصرف الموهوب له فالواهب هنا يحلّ محلّ البائع في تحمّل مصاريف التسليم التي ذكرها المشرع بالفصول 603 و604 و605 من مجلة الالتزامات والعقود،

في حين يتحمّل الموهوب له الذي يحلّ محلّ المشتري باعتباره دائنا مصاريف نقل الموهوب من محلّ تسليمه وأجر العدول عن كتب رسم الهبة والمحامي والتسجيل وقد ذهب الفقه في نفس هذا الاتجاه معتبرا أنّ: “نفقات التسليم تكون في الأصل على الواهب لأنّه هو المدين بالتسليم ولكن يجوز الاتفاق على أن تكون النفقات على الموهوب له وتسهل استخلاص هذا الاتفاق ضمنيا من ظروف الهبة وبخاصة إذا لوحظ أنّ الواهب يتجرّد عن الموهوب بلا مقابل فمن اليسير أنّه لم يرد أيضا تحمّل نفقات التسليم”[245].

على أنّه يمكن للواهب والموهوب له الاتفاق فيما يخصّ المصاريف ومن يتحملها، وممّا لا شكّ فيه أنهما لن يختلفا على هذه المسألة نظرا للطابع الإنساني الذي يحيط بعقد الهبة فالواهب يتجرد عن مال له لفائدة الموهوب له، وفي هذه الحالة يمكن الاتفاق على أن يتحمل الواهب هذه المصاريف ويكون ذلك من باب أنّ “من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل”. كما يمكن الاتفاق على أن يتحمّل الموهوب له جميع المصاريف خاصة وأنه هو المستفيد من هذا العقد وهي القاعدة التي أقرها الفقه[246] على أساس أنّ المصاريف تكون على من ينتفع بها بغضّ النظر عن من قام بتسلّم أو استلام الموهوب.

ب- الأحكام الذاتية

تتعلق الأحكام الذاتية بأطراف التسليم، والمقصود بأطراف التسليم الأشخاص الذين يمكنهم تسليم أو تسلّم[247] واستلام الهبة.

ينطوي التسليم على خطورة نظرا لما ينجرّ عنه، فبالتسليم تنتقل ملكيّة المال الموهوب من الواهب إلى الموهوب له وبالتالي يتجرّد الواهب عن ماله ليثري به ذمة الموهوب له. وبناءا على ذلك كان لا بدّ من حصر الأطراف الذين يمكنهم القيام بالتسليم نظرا لأنّ التسليم ليس مقصورا على الواهب أو الموهوب له كطرفي العقد فقط بل يجوز أن يقوم بالتسليم والتسلّم أطراف أخرى تكون لهم علاقة إماّ بالواهب أو بالموهوب له.

لم يتعرض المشرع إلى هذه المسألة ولم يحدد أطراف التسليم في عقد الهبة بل اكتفى بالتنصيص على أنّ الهبة تتمّ بتسليم الشيء الموهوب إلى الموهوب له وهو ما يصعب الأمر في الحقيقة، لذلك يتجه الرجوع إلى القواعد العامة في النظريّة العامة للالتزامات، وبالرجوع إلى هذه القواعد نجد أنّ المشرع يقرّ في باب الوفاء بالالتزامات أن المدين يمكنه أن يوفي بما التزم به إما بنفسه أو بواسطة غيره[248] وهذا الغير يمكن أن يكون وكيلا عن المدين أو وسيطا كلفه المدين بالتسليم وفي المقابل يمكن أن يكون الوفاء لنفس الدائن أو وكيله أو لشخص يعيّنه للقبض.[249]

وبتطبيق هذه الأحكام على القواعد الخاصة بالتسليم في الهبة يمكن القول أن الواهب وهو المدين بالتسليم (1) يمكنه أن يقوم بهذا العمل بنفسه أو عن طريق وكيله المأذون له في ذلك أو عن طريق وسيط يكلفه بذلك أما عن استلام الموهوب فإنّ الموهوب له وهو الدائن بالتسليم (2) يمكنه تسلّم الموهوب بنفسه أو عن طريق وكيله أو عن طريق وسيط كذلك.

1– المدين بالتسليم

بما أنّ الواهب طرف في عقد الهبة وبما انه الطرف المفتقر على اعتبار أنه يتجرد عن ماله ليملكه لشخص آخر فمن باب أولى وأحرى أن يقوم هو بتسليم الشيء الموهوب إلى الموهوب له.

والمفترض في هذا الواهب أن يكون أهلا للإلزام والالتزام على معنى الفصل 3 من مجلة الالتزامات والعقود حتى يمكنه القيام بتسليم الموهوب فالمنطق يفرض أن الشخص الذي يمكنه إبرام عقد الهبة يمكنه تسليم الشيء وذلك من باب أن من “أمكنه الأكثر أمكنه الأقل”[250] وبالتالي فإن من حجّر عليه القانون إبرام عقد الهبة لا يمكنه مبدئياّ تسليم الموهوب، من ذلك مثلا الصغير غير المميز وهو الذي لم يتم الثالثة عشرة من عمره على معنى الفصل 156 من مجلة الأحوال الشخصية والرشيد الذي اختل شعوره بما أخرجه عن الإدراك.

كذلك منع المشرع الصغير المميّز وهو الصبي الذي يكون عمره بين الثلاث عشرة سنة والعشرون سنة والأشخاص المحجور عليهم لضعف عقولهم أو لسفه تصرفهم إبرام عقد من العقود، فهؤولاء الأشخاص ليس لهم إبرام عقود تبرع كالهبة وبالتالي ليس لهم تسليم الموهوب ولو بواسطة من له النظر عليهم لأنّ عقود التبرع في حقّ القاصر تعدّ عقودا باطلة حتّى وإن أذن بها القاضي طبقا لما جاء بالفصل 16 من مجلة الالتزامات والعقود.

وقد كان موقف المشرع واضحا فيما يخصّ وضعيّة المفلس حيث نص صراحة بالفصل 552 من مجلة الالتزامات والعقود على أنه ليس للمفلس أن يتبرع وبالتالي لا مجال للحديث عن التسليم أصلا. كما حجّر القانون بالفصل 30 من المجلة الجنائيّة على المحكوم عليه لمدّة تتجاوز العشرة أعوام التصرف في مكاسبه إلاّ بالإيصاء وعليه فإنّ القانون الجنائي لا يجيز للمحكوم عليه القيام بأي تصرف بما في ذلك الهبة ولا يستثني سوى الوصيّة أو الحقوق الملازمة للشخصيّة.

يشترط إذن في الواهب أن يكون أهلا للالتزام حتى يمكنه أن يبرم عقد الهبة وبالتالي حتى يمكنه تسليم الشيء الموهوب نظرا لما ينطوي عليه هذا العمل من خطورة كما بيّنا وهو ما أقرته جلّ التشريعات[251] وما أكّد عليه الفقه.[252] وهو كذلك ما فرضته المذاهب الإسلامية حيث أكّد المذهب الحنفي على ضرورة أن يكون الواهب من أهل التبرّع، حرا عاقلا، بالغا وهو نفس ما ذهب إليه المذهب المالكي الذي اعتبر “أنّ الواهب يجب أن يكون من أهل التبرع بما وهب فلا تصحّ هبة الصغير والسفيه والمجنون والمرتدّ وتصحّ هبة المريض والزوجة في الثلث أمّا هبتهما ما زاد عليهم فصحيحة موقوفة على إجازة الورثة والزوج كما تصحّ لديهم هبة من أحاط الدين بماله وتتوقف على إجازة الغرماء”.[253]

على أن الواهب يمكن أن يكلّف غيره بتسليم الموهوب، هذا الغير يمكن أن يكون وكيلا عن الواهب كما يمكن أن يكون شخصا آخر يكون وسيطا في هذه العمليّة. وتسمح الوكالة التي يعطيها الواهب لوكيله أن يقوم هذا الأخير بالتصرف في أمواله بالهبة، ونظرا لخطورة عقد الهبة وجب التنصيص عليها بنص صريح أو بتفويض خاص لما لهذا العمل من خطر كبير على أموال الموكل.[254]

يمكن للوكيل إذن أن يكون طرفا في عقد الهبة فالتوكيل في الهبة يتضمن التوكيل بالتسليم[255] وليس للواهب هنا أن يقول بأنّه وكله بالهبة فقط ولم يوكله بتسليم الموهوب.

وإلى جانب الوكيل الذي يمكنه تسليم الموهوب استنادا على التوكيل المعطى له من قبل الواهب فإن هذا الأخير يمكنه تكليف وسيط للقيام بهذا العمل خاصة إذا ما كان الموهوب منقولا ماديا فيقوم الواهب بتسليم المنقول الموهوب إلى شخص معين بقصد تسليمه للموهوب له وفقا لتعليمات الواهب طبعا.[256]

وبغض النظر عمن يتولى مهمة التسليم سواءا كان الواهب في حدّ ذاته من قام بذلك أو وكيله أو شخصا آخر يعتبر وسيطا فإن المهمّ هو أن يتم التسليم إلى الشخص المعني وهو الدائن بالتسليم.

2- الدائن بالتسليم

بما أن الهبة فيها إثراء لذمة الموهوب له فإنه من باب أولى وأحرى أن يقوم هو بقبض أو بتسلّم الموهوب على أنّه يمكن أن يكلّف وكيلا عنه بمقتضى عقد وكالة أو شخصا آخر لكي يقوم بتسلّم الموهوب عوضا عنه.

ولئن شدّد المشرع وأكّد على أهلية الواهب لإعطاء هبة وذلك منطقي لما لهذا التصرف من خطورة على أمواله فإنه على العكس من ذلك يمكن للموهوب له ممن ليس له أهلية التعاقد أن يقبل الهبة وبالتالي أن يتسلم الموهوب من ذلك الصغير المميز والصغير غير المميّز والسفيه وضعيف العقل فتصرفاتهم النافعة لهم نفعا محضا أي الأعمال التي فيها إثراء لهم بدون مقابل تعتبر نافذة كقبول هبة أو وصيّة طبق الفصل 9 من مجلة الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه “لمن ليس له أهلية التعاقد والصغير الذي تجاوز ثلاثة عشر عاما القدرة على تحسين حالهما ولو بلا مشاركة الأب أو الولي وذلك بقبوله هبة أو غيرها من التبرعات التي من شأنها الزيادة في كسبهما أو إبراء ذمتهما بدون أن يترتب عليهما شيء من جراء ذلك” وهنا يتولى الولي تسلم الموهوب في حقّهم.[257]

وقد ميّز الفقهاء بين الهبة للصغير غير المميز والمجنون معتبرين أنه لا يمكنهم قبول الهبة وبالتالي لا يمكنهم قبض الموهوب بأنفسهم[258] وبين الصغير المميّز والمحجور عليهم لسفه أو لضعف عقولهم أو لإفلاسهم معتبرين أن هؤلاء يمكنهم قبول الهبة بل ولهم أن يقبضوها دون إذن الولي أو المقدم أو أمين الفلسة.[259]

وقد تعرّض الفقه الإسلامي إلى صورة هبة من له ولاية على الطفل للطفل فاعتبر الحنفية والحنابلة أنّ “قبض الواهب يكون بمثابة قبض الموهوب له نفسه فلو وهب الأب مالا لابنه وظلّ ذلك المال تحت يده إلى أن توفيّ فإنّ الابن يستحقّ الموهوب ولو لم يتمّ إفرازه من التركة لأنّ قبض الأب يعدّ كاف” وذلك على عكس المالكية الذين يعتبرون أنّ “قبض الأب ليس كافيا في هذه الصورة وإنّما يجب الإشهاد فيما عدا النقود أمّا إذا كان المال الموهوب نقودا فيجب أن يودع لدى أمين بعنوان وديعة للموهوب له أمّا إذا بقي بيد الأب فيجب عليه أن يفرزه من جملة أمواله، فإذا لم يوضع المال بيد أمين أو لم يفرز ومات الأب اعتبر الموهوب غير مقبوض وبطلت الهبة بالتالي”.[260]

على أن الموهوب له الرشيد يمكنه كذلك أن يكلّف وكيله بتسلّم الهبة إذ كما بيّننا سابقا يمكن للوكيل إبرام عقد الهبة عن طريق وكالة يعطيها له الموهوب له بشرط أن تكون هذه الوكالة مستوفية لكافة الشروط القانونية الخاصة بها وإلاّ عدّت باطلة وبالتالي يمكن للوكيل بمقتضى عقد وكالة خاص أن يتسلم أشياء في حق موكله.[261] مع العلم أنّ الوكيل يمكن أن يكون شخصا أجنبيا أو أن يكون أب الموهوب له أو أمه أو وصيّه وذلك في صورة ما إذا كان الموهوب له من فاقدي الأهلية.

وإضافة إلى الوكيل الذي يمكنه تسلّم الهبة في حقّ موكّله فإنّه يمكن للموهوب له أن يكلّف شخصا آخر يسمى وسيطا[262] وذلك حتى ينوبه في عملية تسلّم الموهوب المنقول وذلك في صورة عدم قدرة الموهوب له على التواجد في مكان التسليم مثلا، وقد أجاز الفقه هذه الفرضية معتبرا أن الوسيط قد يكون نائبا عن الموهوب له فيتم القبض بتسليم الواهب المنقول للوسيط ولا حاجة في تمام القبض لأن يسلّم الوسيط المنقول للموهوب له فقد تسلّمه نيابة عنه ويده هي يد الموهوب له.[263]

تعدّ مسألة محلّ التسليم مهمة جدا، فالتسليم يجب أن ينصب على موضوع محدّد حتى يتم تحقيقه وتنفيذه طبقا لما حدّده القانون وإلاّ كان عرضة للجزاء.

الفصل الثاني: جزاء التسليم

سواءا كان التسليم ركنا في العقد أو التزاما فإنّ غيابه ينجرّ عنه العديد من الجزاءات، والمقصود بعدم التسليم في هذا الإطار ليس عدم التسليم في معناه الضيّق فحسب، وإنّما هو كلّ مخالفة لقواعد التسليم، لذلك يتجه النظر في جزاء التسليم في صورة عدم تحقيقه (المبحث الأول) وفي صورة تحقيقه معيبا (المبحث الثاني).

المبحث الأول: جزاء عدم التسليم

يختلف جزاء عدم التسليم باختلاف وظيفته ودوره في عقد الهبة، فإن كان ركنا فإنّ غيابه يرتّب جزاءا خطيرا يؤدي إلى إلغاء العقد (الفقرة الأولى) أمّا إذا كان التزاما فإنّ غيابه لا يؤثر على وجود العقد (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الجزاء المؤثر في وجود العقد

يعدّ التسليم في العقود العينية العنصر المكوّن لهذه العقود فالعقد العيني هو الذي تكون صحته رهينة تسليم الشيء مثل عقد الهبة الذي يكون موضوعه المنقول المادي، الذي يعتبر التسليم في إطاره شرطا لصحته بوجوده يصحّ العقد وينتج آثاره وبغيابه يبطل العقد وذلك بصريح النص (أ) الذي لم يحدّد طبيعة البطلان (ب).

أ- أسس البطلان

يستمدّ بطلان عقد الهبة لعدم التسليم أسسه من نصين، أحدهما خاص والثاني عام ينتمي إلى القواعد العامّة. أمّا النص الخاص فهو الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية الذي اقتضى أنّ الهبة تعدّ باطلة إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل التسليم. وتستوجب قراءة هذا الفصل إبداء ملاحظتين، الأولى هي أنّ المشرع عندما نصّ على البطلان لعدم التسليم لم يميّز بين هبة المنقول المادي وهبة العقار على الرغم من أنّ هذا التمييز ضروري ومهم في هذا الإطار نظرا لاختلاف وظيفة التسليم في كلّ منهما.

فلئن كان التسليم في هبة المنقول المادي شرط صحة وركن من أركان العقد ولذلك يبدو من البديهي أنه في صورة عدم تحقيقه أن يكون الجزاء هو البطلان، فإن الأمر ليس على نفس الشاكلة فيما يخص العقار الذي يعد التسليم في إطاره التزاما وتبعا لذلك إذا لم يتم تحقيق هذا التسليم فإنّ ذلك لا يؤثر على تكوين العقد باعتبار أنّ التسليم في هبة العقار ليس عنصرا مكونا له بما أنّ العقد قد أبرم بالحجّة الرسمية وبالتالي يمكن المطالبة بتسليمه.

وبناءا على ذلك يمكن القول أنّ الجزاء الوارد بالفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية يهمّ فرضية عدم التسليم في هبة المنقول المادي فقط. أمّا الملاحظة الثانية فتتعلق باقتصار المشرع في الفصل 201 المذكور على ذكر فرضية موت الواهب أو الموهوب له كسبب لعدم التسليم الذي ينجرّ عنه بطلان الهبة، لكن وبما أنّه تمّ اعتبار أنّ الجزاء الوارد بهذا الفصل يهمّ المنقول المادي فقط، فإنّه يمكن القول أنّه في إطار هبة هذا الأخير إذا لم يتم التسليم لأيّ سبب من الأسباب سواء كان المانع من التسليم هو موت أحد المتعاقدين أو تقاعس الواهب عن التسليم أو هلاك الموهوب الذي يحول دونه وسواء كانت الهبة بعوض أو بدونه فإنّ النتيجة تكون واحدة وهي بطلان عقد الهبة وذلك سواء كانت الهبة بعوض أو بدونه نظرا لأنّ التسليم في هبة المنقول المادي هو ركن من أركان العقد لا ينعقد بدونه وبالتالي يبطل في غيابه لأيّ سبب من الأسباب.

ويبدو تأثر المشرع بالمذهب الحنفي واضحا عندما نصّ على أنّ موت الواهب أو الموهوب له قبل التسليم يبطل الهبة حيث اعتبر الحنفية أنّ موت أحد المتعاقدين قبل التسليم يبطل الهبة وهو ما نصت عليه المادة 849 من مجلة الأحكام العدلية التي تعدّ تقنينا للمذهب الحنفي، وذلك على عكس ما ذهب إليه المالكية الذين اعتبروا أنّه “إذا أشهد الواهب أنّ الهبة لفلان واستصحبها معه أو أرسلها له فمات الواهب أو الموهوب له قبل وصوله أو وصول رسوله تصحّ الهبة ويقوم الإشهاد مقام الحوز سواء قصد الواهب الموهوب له المعيّن أو ورثته، أمّا إذا لم يشهد ومات الواهب قبل الحوز فإنّها تبطل إلاّ أن يجيزها الورثة، وإذا لم يشهد ومات الموهوب له فإنّها تبطل إن قصد عين الموهوب له ولا تبطل إن قصده هو وذريته”.[264]

وإضافة إلى الفصل 201 المذكور الذي أسّس لبطلان الهبة في صورة عدم التسليم فإنّه يمكن تأسيس بطلان العقد لعدم التسليم كذلك بالرجوع إلى القواعد العامة للبطلان وتحديدا إلى الفصل 325 من مجلة الالتزامات والعقود الذي اقتضى أنّ “الالتزام يبطل من أصله إذا خلا عن ركن من أركانه أو إذا حكم القانون ببطلانه في صورة معينة”.

وقد عرّف الفقه البطلان بكونه “الجزاء لعدم استكمال العقد لأركانه أو لشرط صحته عند تكوينه”،[265] وتبعا لذلك ولمّا كان التسليم شرط لصحة الهبة اليدوية وركن أساسي في تكوين العقد، فإنّ انعدامه ينجرّ عنه بطلان العقد. وبناءا على ذلك يمكن القول أنّه حتّى في غياب النص الخاص الذي أقر بالبطلان عند عدم التسليم وهو الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية فإنّه يمكن تأسيس البطلان على النص العام، لكن ولئن نصّ المشرع بالفصل 201 المذكور على جزاء البطلان في صورة عدم التسليم فإنّه لم يحدّد طبيعة هذا البطلان.

ب- طبيعة البطلان

يقتضي البحث في طبيعة البطلان معرفة هل أنّه بطلان مطلق أو بطلان نسبي وذلك لأنّ نظام البطلان في تشريعنا يقوم أساسا على التفرقة بين هذين النوعين التي ترجع جذورها إلى القانون الفرنسي الذي كان يفرّق بين العقود الباطلة والعقود القابلة للإبطال.

وقد حصر المشرع حالات البطلان المطلق في غياب أحد أركان العقد الأساسية التي لا يكون له بدونها وجود، -وهي الرضى والأهلية والمحلّ والسبب والشكل إن اشترط- أو إذا حكم به القانون في صور خاصة، أما البطلان النسبي[266] فقد حصره في صورة وجود عيب في الرضا أو نقص في الأهلية.

ولمّا كان عقد هبة المنقول المادي عقدا عينيا لحتمية التسليم فيه الذي عدّ ركن أساسي لتكوينه فإنّه في غياب هذا الركن يكون عقد الهبة باطلا بطلانا مطلقا وبذلك يحرم هذا التصرف القانوني من إنتاج أثره، فنتيجة البطلان هي إعدام أثر التصرف، فيبقى المال الموهوب ملكا للواهب ولا ينتقل الملك إلى الموهوب له ولا يمكن لهذا الأخير أن يطالب بتسليمه الموهوب.

على أنّه في صورة ما إذا كانت الهبة بعوض[267] وقام الموهوب له بأداء العوض دون أن يتسلّم الشيء الموهوب فبإمكانه المطالبة باسترجاع ما دفعه عملا بمقتضيات الفصل 75 من مجلة الالتزامات والعقود الذي ينصّ على أنّه “يجوز استرداد ما وقع دفعه لسبب مستقبل لم يقع أو لسبب موجود زال”، وعلى الواهب في هذه الحالة الامتثال وإرجاع ما أخذه على سبيل العوض وذلك عملا بمقتضيات الفصل 71 من مجلة الالتزامات والعقود الذي جاء به أنّ “من اتصل بشيء أو غير ذلك من الأموال ممّا هو لغيره أو سار ذلك في قبضته بلا سبب موجب لاكتسابه فعليه ردّه لصاحبه”.

على أنّ هناك رأي فقهي يعتبر أنه يجوز للواهب تصحيح هذه الهبة الباطلة وذلك باتباع طريقتين، الطريقة الأولى هي أن يغفل الشكل ويقوم بالتسليم فيكون التسليم في هذه الحالة ليس تنفيذا لعقد الهبة الباطل بل هو إتمام للهبة اليدوية، أمّا الطريقة الثانية فهي أن يقوم الواهب بتنفيذ الهبة الباطلة تنفيذا اختياريا وذلك عن طريق التسليم أيضا ويكون التسليم هنا ليس إتماما للهبة اليدوية وإنّما تنفيذ لهبة باطلة.[268]

ويشار في الأخير إلى أنّه يحق لكلّ طرفي العقد المطالبة بإبطاله بناءا على أنّ لكليهما مصلحة في ذلك، كما يمكن للورثة القيام بدعوى البطلان بعد وفاة مورثهم استنادا إلى الفصل 241 من مجلة الالتزامات والعقود الذي جاء به أنّ “الالتزامات لا تجري أحكامها على المتعاقدين فقط بل تجري أيضا على ورثتهم وعلى من ترتب له حق منهم…”.

يتبيّن ممّا سبق أن عقد الهبة الذي يكون موضوعه منقولا ماديا يكون باطلا في صورة عدم التسليم نظرا لأنّ التسليم ركن في العقد بانعدامه ينعدم هذا الأخير ويختلّ، فهل يختلّ العقد عندما يكون التسليم مجرّد التزام؟

الفقرة الثانية: الجزاء غير المؤثر في وجود العقد

لمّا كان التسليم في هبة العقارات التزاما محمولا على الواهب فإنّه يجب على هذا الأخير تنفيذه طبقا لما نصّ عليه القانون أو لما وقع الاتفاق عليه، إلاّ أنه قد يعمد الواهب إلى عدم تسليم العقار إلى الموهوب له بعد أن تمّ تحرير العقد بالحجّة الرسمية التي تعدّ شرط لصحة هذا العقد مثلما اقتضاه الفصل 204 من مجلة الأحوال الشخصية، ففي هذه الحالة أي عند عدم تنفيذ الواهب لالتزامه بتسليم الموهوب فإنّ المشرع مكّن الموهوب له من المطالبة بالتنفيذ العيني كحلّ لتجاوز هذه الوضعية (أ) فإن لم يتسن له ذلك يمكنه المطالبة بتعويض الخسارة (ب).

أ- المطالبة بالتنفيذ العيني

مكّن المشرع الموهوب له من المطالبة بتسليم الموهوب إذا لم يتم وذلك من خلال الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية الذي اقتضى أنّه “إذا لم يتم التسليم كان للموهوب له أن يطالب به”.

ويستفاد من هذا النص أنّه يحقّ للموهوب له أن يطالب بالتنفيذ العيني وذلك على أساس العقد الذي تمّ تحريره بالحجة الرسمية بينه وبين الواهب، ويعدّ التنفيذ العيني المبدأ في الوفاء بالالتزامات إذ أنّ الأصل في الوفاء بالالتزام أن يتمّ عينا[269] ويعتبر التنفيذ العيني جزاءا لعدم تنفيذ المدين لالتزام ناشئ عن عقد صحيح.

على أنّ عبارات هذا الفصل تحتمل التأويل، فما المقصود بعبارة “كان للموهوب له أن يطالب به”؟ هل قصد المشرع بذلك مجرد الطلب والاجتهاد في ذلك أم قصد جبر الواهب على التسليم على غرار ما نصّ عليه الفصل 273 من مجلة الالتزامات والعقود من إمكانية جبر المدين على الأداء؟

تبدو الفرضية الأولى هي الأقرب إلى المنطق وذلك لسببين: الأول هو أنّ المشرع استعمل عبارة “المطالبة بالتسليم” في الفصل 203 المذكور وبذلك تكون نيته قد اتجهت نحو تمكين الموهوب له من المطالبة بالتسليم، ولم يقصد جبر الواهب على الأداء، أمّا السبب الثاني الذي يدعّم القول بأنّ المشرع قصد مجرد المطالبة بالتسليم والاجتهاد في ذلك هو أنّ الهبة عقد تبرع والواهب قد قصد بتبرعه التفضل والإحسان على الموهوب له لذلك لا يمكن تصور أن يكافئ في المقابل بجبره على التنفيذ إلاّ في صورة ما إذا كانت الهبة بعوض، فإذا كانت كذلك وإذا ما كانت قيمة العوض أكبر من قيمة الموهوب فإنّه يجوز في هذه الحالة الرجوع إلى القواعد العامة المتعلقة بجزاء الإخلال بالوفاء بالالتزامات وتحديدا إلى الفصل 273 من مجلة الالتزامات والعقود لجبر الواهب على التنفيذ، وقد جاء بهذا الفصل ما مفاده أنّه إذا تقاعس المدين عن الوفاء بالتزامه –وهنا المدين هو الواهب باعتباره هو المطالب بالتسليم- فإنّه يمكن للدائن أن يغصبه على الوفاء إن كان ممكنا وإلاّ فسخ العقد ويكون أساس الفسخ هنا هو عدم تنفيذ أحد المتعاقدين لالتزاماته باعتبار أنّ الهبة بعوض هي عقد ملزم للجانبين يفرض التزامات على كلا الطرفين.

على أنّ الفائدة من دعوى جبر المدين على الوفاء تتوقف على طبيعة الالتزام، فإن كان الالتزام بإعطاء فإنّ التنفيذ الجبري غالبا ما يكون ممكنا ولكنّ الصعوبة تظهر إذا كان الالتزام يتمثل في القيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، ففي هذه الصورة يكون التنفيذ الجبري متعذرا وبالتالي يتم تطبيق الفصلين 275 و276 من مجلة الالتزامات والعقود الذين يقران بأنّ الامتناع عن الوفاء في كلتا الحالتين يؤدي إلى إجبار المدين على تعويض الدائن عن الخسارة التي لحقته.

ب- التنفيذ بطريق التعويض

لمّا كان التسليم التزاما بالقيام بعمل فإنّه يتمّ تطبيق مقتضيات الفصل 275 من مجلة الالتزامات والعقود الذي جاء به ما يلي “إذا التزم أحد بعمل شيء طولب بالخسارة عند عدم العمل”، وبالتالي يكون للدائن وهو الموهوب له مطالبة المدين بالتسليم وهو الواهب بتعويض الخسارة التي لحقته جرّاء عدم التسليم، وتطرح هذه الفرضية خاصة في الهبة العقارية التي يكون التسليم في إطارها التزام ناتج عن العقد الذي انعقد بعد بالحجّة الرسمية وبالتالي يكون الواهب ملزما بالقيام بعمل ألا وهو تسليم الموهوب، فإن لم يقم بذلك فإنّه يكون من حقّ الموهوب له المطالبة بتعويض الخسارة التي لحقته طبعا بعد أن يكون قد قام بالمطالبة بالتنفيذ العيني على معنى الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية،

فإن استحال التنفيذ العيني استحالة مادية مثلا كأن يهلك العقار أو استحالة قانونية كأن يعهد الواهب إلى بيع العقار ففي هذه الصورة يمكن للموهوب له المطالبة بجبر الخسارة التي لحقته استنادا إلى الفصل 275 المذكور أعلاه، والاستحالة المفروضة هنا هي الاستحالة الراجعة إلى فعل الواهب لأنّه إذا كانت الاستحالة راجعة إلى سبب أجنبي انقضى الالتزام على معنى الفصل 339 من مجلة الالتزامات والعقود ومنع الرجوع على المدين بالتعويض.

كما تطرح هذه الفرضية في صورة الهبة بعوض التي تفرض التزامات على كلا الطرفين حيث يلتزم من خلالها الواهب بتسليم الموهوب في مقابل التزام الموهوب له بأداء العوض، وقد يحصل أن يقوم هذا الأخير بأداء العوض لكنّ الواهب يمتنع عن التسليم وفي هذه الحالة يكون للموهوب له الحقّ في المطالبة بجبر الواهب على التسليم إن كان ممكنا وإلاّ فسخ العقد مع تعويض الخسارة في كلتا الحالتين وهو ما اقتضاه الفصل 273 من مجلة الالتزامات والعقود.

على أنّ مسألة تعويض الخسارة لا تطرح في صورة عدم التسليم الناتج عن هلاك الموهوب بسبب قوة قاهرة أو سبب أجنبي وهو ما اقتضاه الفصل 282 من مجلة الالتزامات والعقود الذي نصّ على ما يلي: “لا يلزم المدين بتعويض الخسارة إذا أثبت سببا غير منسوب إليه منعه من الوفاء أو أخّره عنه كالقوة القاهرة والأمر الطارئ ومماطلة الدائن”.

وعلى هذا الأساس فإنّ ذمّة الواهب تبرأ من أيّ التزام بتعويض الموهوب، أمّا إذا كان الهلاك ناتجا عن تقصير من الواهب ممّا حال دون التسليم فإنّه يكون مسؤولا عن تعويض الموهوب له تعويضا عادلا[270] بشرط توفر شروط المسؤولية ألا وهي الضرر الذي لحق بالموهوب له نتيجة عدم التسليم خاصة في هبة العوض، والخطأ الصادر عن الواهب المتمثل في عدم التسليم، والعلاقة السببية بينهما، فلا يكفي مجرد حصول الضرر لدفع التعويض، وإنّما يجب أن يكون الضرر ناتجا عن خطأ الواهب وذلك وفقا للقواعد العامة للمسؤولية التعاقدية. ويتم تقدير هذا التعويض المتمثل في المقابل المالي باللجوء إلى القضاء حسب ما اقتضاه الفصل 278 من مجلة الالتزامات والعقود وهي مسألة موضوعية تخضع لتقدير قضاة الأصل.

مع أنّ اللجوء على القضاء في مثل هذه الصورة أي للمطالبة بتعويض الضرر تبدو مستبعدة بعض الشيء نظرا لصعوبة تصوّر وإثبات حصول الضرر الناجم عن عدم التسليم وذلك راجع إلى أنّ الغرض من عقد الهبة في حدّ ذاته هو التفضل والإحسان على الموهوب له، فالهبة فيها افتقار من جانب الواهب لإثراء ذمّة الموهوب له فهذا الأخير هو المستفيد من الهبة، فإن تمّت وانتقلت إليه ملكية المال الموهوب فإنّ في ذلك تعمير لذمته وإن لم تتمّ لم يخسر شيئا إلاّ إذا كانت الهبة بعوض. هذا في ما يخص جزاء عدم التسليم فهل يختلف الجزاء في صورة تحقيقه معيبا؟

المبحث الثاني: جزاء التسليم المعيب

قد يتحقق التسليم في أفضل الظروف وحسب القواعد التي سطّرها القانون فيكون هذا التسليم هو التسليم المعتبر قانونا، كما قد يتم التسليم ولكنه يكون معيبا، ففيما يتمثل التسليم المعيب أو ما هي مظاهره وماذا يمكن أن ينجرّ عنه؟ هذا ما سيتم معاينته من خلال رصد مظاهر التسليم المعيب (الفقرة الأولى) للبحث فيما بعد في مآله (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مظاهر التسليم المعيب

يتمظهر التسليم المعيب من خلال التسليم بغير إذن الواهب مثلا باعتبار أنّ إذن الواهب هو شرط لصحة التسليم أو من خلال اقترانه بإكراه أو تغرير أو غيرها من عيوب الرضا.

ويعتبر التسليم بغير إذن الواهب تسليما معيبا نظرا لأنّ إذن الواهب هو شرط لصحة التسليم وهو ما نصّ عليه الفصل 592 من مجلة الالتزامات والعقود عند تعريفه للتسليم في إطار عقد البيع والذي ينطبق على عقد الهبة، فقد جاء بهذا الفصل أنّ “التسليم يتمّ إذا تخلّى البائع عن المبيع وصدر منه أو من نائبه إذن للمشتري في تسلّم المبيع ومكّن المشتري من حوزه بلا مانع”.

فلئن كان الإذن بالتسلّم شرط لصحته في عقد البيع فمن باب أولى وأحرى أن يكون كذلك في إطار عقد الهبة لأنّ عقد البيع يصحّ بدون التسليم في حين أنّ الهبة لا تصح بدونه، وقد أقرت محكمة التعقيب بضرورة توفر إذن الواهب حينما اعتبرت بقرارها عدد 7334[271] في سياق تعرضها لموضوع هبة مناب مشاع أنّه يكفي “إثبات حصول اتفاق بين الطرفين وإثبات إذن الواهب للموهوب له بتحويز هذا الأخير بموضوع الهبة لإثبات التسليم” كما نصّت بعض التشريعات على ضرورة توفر الإذن لصحة التسليم، من ذلك المادة 842 من مجلة الأحكام العدلية التي نصت على أنّه “يلزم إذن الواهب صراحة أو دلالة في القبض”.

وقد ذهب الفقه في هذا الاتجاه معتبرا أنّ الإذن إمّا أن يكون صراحة أو دلالة[272]، فالإذن صراحة هو أن يقول الواهب أو من ينوبه للموهوب له “تسلّم” أو “أذنت لك بالتسلّم” أو غيرها من التعابير الصريحة، وأمّا الإذن دلالة فهو أن يقبض الموهوب له الشيء الموهوب في المجلس ولا ينهاه الواهب عن ذلك.

وقد ذهب فقهاء المذهب الحنفي إلى أنّه يلزم إذن الواهب صراحة أو دلالة في القبض[273] واعتبروا أنّه إذا أذن الواهب صراحة بالقبض يصحّ قبض الموهوب له المال الموهوب في مجلس الهبة وبعد الافتراق أمّا إذا أذن بالقبض دلالة يعتبر القبض بمجلس الهبة ولا يعتبر بعد الافتراق، أما فقهاء المذهب المالكي فيرون عكس ذلك إذ لا يشترط عندهم إذن الواهب في القبض.[274]

لا يعتبر القبض الواقع إذن بدون إذن الواهب صحيحا لأنّ القبض لمّا كان تصرفا في ملك الواهب فلا يكون صحيحا ما لم يوجد إذن به من الواهب صراحة أو دلالة لأنّ الموهوب ما لم يقبض يبقى في ملك الواهب بعد الإيجاب والقبول[275] “فالهبة لا تملّك إلاّ بالتسليم بإذن الواهب فإذا قبض بغير إذنه بأن وضع يده على الموهوب كان عليه ضمانه ولو أذن له ورجع عن الإذن قبل أن يقبض بطل الإذن ومثل ذلك إذا مات أحدهما قبل القبض”[276].

ومن أوجه التسليم المعيب كذلك التسليم الواقع نتيجة غبن أو إكراه أو غلط أو تغرير، إذ قد يشوب إرادة المتعاقدين –إرادة الواهب بوجه خاص- عيب من هذه العيوب ممّا يدفعه إلى التسليم ونشير في البداية إلى أنّه يصعب تصور التسليم الواقع نتيجة غبن وذلك لأنّ عقد الهبة يقوم أساسا على فكرة التبرع، فلا ينتظر من ورائه أيّ مقابل لذلك لا مجال في عقد الهبة للحديث عن التعادل بين ما أخذه الموهوب له وما أعطاه الواهب حتّى وإن كانت الهبة بعوض، في حين يبقى المجال مفتوحا للحديث عن بقية العيوب.

ومثل التسليم المعيب، التسليم الواقع عن إكراه وقد عرّفه المشرّع بالفصل 50 من مجلة الالتزامات والعقود الذي نصّ على أنّ “الإكراه هو إجبار أحد بغير حقّ على أن يعمل عملا لم يرتضيه” ويتحقق الإكراه في الفرضية التي يكون فيها للموهوب له نفوذ أدبي على الواهب فيؤثّر في إرادته ويحمله على تسليمه الشيء بعنوان هبة وبذلك يجرّده من ماله، مثال ذلك أن يكره الزوج زوجته على هبة ملكها وتسليمه،

كما قد يكون الإكراه ماديا يتمثل في التعدّي على شخص الواهب بالضرب والتعذيب لإجباره على التسليم، على أنّه غالبا ما يكون الإكراه إكراها معنويا أكثر منه ماديا خاصة في هبة العقار الذي يستوجب لصحته إجراء الحجّة الرسمية التي يحررها مأمور عمومي لذلك يصعب تصور حدوث إكراه مادي بمحضر هذا المأمور. وقد يكون الإكراه في شكل استغلال إمّا لضعف الواهب وسذاجته وإمّا لحالة الضرورة.

وفي هذا الخصوص ذهب الحنفية إلى أنّه “من شرائط صحة الهبة أن يكون الواهب طائعا غير مكره فما تصحّ عندهم الهبة التي وقعت بالجبر والإكراه فلو وهبت المرأة شيئا لزوجها وادعت فيما بعد أنه استكرهها في الهبة تسمع دعواها”[277].

وأمّا مثل التسليم المشوب بغلط فهو أن يتمّ الغلط في ذات الشيء الموهوب فيتم تسليم شيء غير الشيء المتفق عليه ويخضع هذا النوع من الغلط لأحكام الفصل 45 من مجلة الالتزامات والعقود وإن كان يصعب في الحقيقة تصور هذه الفرضية.

كما قد يحصل الغلط في ذات الموهوب له وهي صورة الفصل 46 الذي نصّ على أنّ “الغلط في ذات أحد المتعاقدين أو في صفته لا يكون موجبا للفسخ إلاّ إذا كانت ذات المتعاقد معه أو صفته من الأسباب الموجبة للرضى بالعقد”، وتحصل هذه الفرضية غالبا في حالة التسليم بواسطة، فعوض أن يسلّم الوسيط الشيء الموهوب إلى الشخص المتفق عليه يسلّمه إلى شخص آخر وبذلك يكون التسليم معيبا ومثال الغلط في ذات الموهوب له كذلك أن يهب شخص ماله لآخر ويسلّمه له معتقدا أنّ هناك قرابة تجمعه به ثمّ يكتشف أنّ الأمر على خلاف ذلك.

أمّا مثل التسليم الناتج عن تغرير، فصورته أن يستعمل شخص حيلا لإيهام شخص آخر بغير الحقيقة فتكون هذه الحيل دافعا تدفع الشخص الآخر إلى تسليم ماله بعنوان هبة. ومن صور التسليم المعيب كذلك أن يقوم الواهب بتسليم ماله وهو في حالة سكر وقد نصّ المشرع على هذه الفرضية بالفصل 58 من مجلة الالتزامات والعقود وواقعيا يمكن تصور حصول هذه الفرضية خاصة إذا ما كان الشيء الذي تمّ تسليمه بعنوان هبة منقولا ماديا كمتاع مثلا أو هاتف جوال.

ومن تجليات التسليم المعيب كذلك أن يكون الموهوب مشغولا بما ليس بموهوب فذلك يمنع صحة التسليم لأنّ معنى التسليم وهو التمكن من التصرف في المقبوض كما جاء بالفصل 592 من مجلة الالتزامات والعقود لا يتحقّق إذا كان الموهوب مشغولا بما ليس بموهوب كأن يهب الواهب دارا وهي مشغولة بأمتعة على ملكه ويقوم بتسليم الدار، فإنّ ذلك لا يجوز لأنّ الفراغ هو شرط لصحة التسليم[278]

على أنّه يمكن حسب أحد الفقهاء لضمان صحة التسليم أن يودع الواهب المتاع عند الموهوب له ثمّ يسلم الدار إليه فارغة فتجوز الهبة لأنها مشغولة بمتاع هو في يد الموهوب له وينظر هنا إلى حال القبض لا إلى حال العقد لأنّ المانع من النفاذ قد زال.[279]

ومن جهة أخرى يعدّ التسليم معيبا في صورة حصوله ممّن يحجّر عليهم التسليم، إذ كما سبق لا يجوز للصبيّ غير المميّز والصبيّ المميّز والمحجور عليهم لضعف عقولهم أو لسفه تصرفهم والمحجور عليهم لتفليسهم والمجنون أن يسلّموا أو يستلموا هبة إلاّ بواسطة من له النظر عليهم وذلك لخطورة هذا التصرف على ذمّتهم المالية.

ويعدّ التسليم معيبا كذلك في صورة حصوله من طرف أشخاص ليست لهم الأهلية للقيام بذلك كأن يعهد وكيل الواهب مثلا إلى هبة أموال موكّله وتسليمها بدون تفويض خاص لذلك من موكله، فالتسليم لا يمكن اعتباره سليما أي قانونيا إلاّ إذا وقع الوفاء به لذات الموهوب له أو لوكيله المأذون له بذلك أو لشخص آخر عيّنه الموهوب له لتسلّم الموهوب وذلك تطبيقا للقاعدة العامة الواردة بالفصل 250من مجلة الالتزامات والعقود الذّي نصّ على ما يلي: “يجب أن يكون الوفاء لنفس الدائن أو لوكيله المأذون منه إذنا تام الموجب أو للشخص المعيّن منه لقبض الدين” وتبعا لذلك يكون التسليم معيبا إذا قام الواهب بتسليم الشيء الموهوب إلى غير من ذكرهم الفصل المذكور، فما مآل هذا التسليم؟

الفقرة الثانية: مآل التسليم المعيب

إذا ما شاب التسليم عيبا من العيوب، فهل يمكن الاستناد إليها والمطالبة بإبطال عقد الهبة أو فسخه أو الرجوع عن الهبة وهل يمكن للمتضرر من هذا التسليم المعيب أن يطالب بالتعويض؟

لا تبدو الإجابة سهلة خاصة مع وجود الفصل 521 من مجلة الالتزامات والعقود الذي ينصّ على أنّ “ما كان غرضه التبرّع يُتَسَامَحُ في تفسيره بخلاف ما كان فيه عوض”.

لمّا كان التسليم الواقع بغير إذن الواهب معيبا باعتبار أنّ إذنه بالتسليم هو شرط لصحته فذلك يتوجب المطالبة بإبطال عقد الهبة لغياب هذا الإذن لأنّ الهبة لا تملّك إلاّ بالتسليم وقد نصت المادة 843 من مجلة الأحكام العدلية في هذا الخصوص على أنّ “القبض يجب أن يتم بإذن الواهب بحيث إذا تمّ دون إذنه كان باطلا”.

وبخصوص عيوب الرضا فمبدئيا يمكن القول أنّه إذا شاب إرادة الواهب عيبا من عيوب الرضا ممّا حمله على تسليم ماله فإنّ الهبة تكون قابلة للإبطال خاصة إذا ما كانت هذه العيوب هي الدافع التي جعلت الواهب يقوم بتسليم الشيء الموهوب.

فإذا شاب التسليم غلط كأن سلّم مثلا الواهب أو من ينوبه شيئا غير الشيء المتفق عليه أو حصل عند التسليم غلط في شخص الموهوب له –إذا تمّ التسليم بواسطة مثلا- فإنّه يمكن للواهب المطالبة بإبطال عقد الهبة بناءا على الفصول 45 و46 و49 من مجلة الالتزامات والعقود وقد نصّ هذا الأخير على أنّه “إذا وقع الغلط من الواسطة التي اتخذها أحد الطرفين فله القيام بفسخ العقد في الصور المقررة بالفصل 45 والفصل 46 أعلاه وهذا لا ينافي إجراء حكم القواعد العمومية المتعلقة بالتقسيم وحكم الفصل 457 فيما يتعلق بالتلغراف خاصة”،

وذلك نظرا لأنّ الهبة هي من العقود المبنية على الاعتبار الشخصي لذلك يكون الغلط في ذات الموهوب له مفسدا للرضا وموجبا للإبطال، ونشير هنا إلى أنّه حتّى يجعل الغلط الهبة قابلة للإبطال فيجب أن يكون غلطا جوهريا، وقد اعتبر بعض الفقهاء أنّ معيار الغلط الجوهري في الهبة أخفّ من معياره في البيع لأنّ الهبة عقد تبرع لذلك لا ترقى جسامة الغلط فيها إلى جسامته في عقد البيع[280].

وقد ميّز الفقه هنا بين صورة الغلط الجوهري في الشيء الموهوب وصورة الغلط الجوهري في شخص الموهوب له، ففي الصورة الأولى إذا كان الغلط مشتركا بين الواهب والموهوب له أو كان الموهوب له يعلم أو يستطيع أن يعلم بغلط الواهب، كانت الهبة قابلة للإبطال بناءا على طلب الواهب حتّى لو لم يكن يستطيع الرجوع فيها بقيام مانع من موانع الرجوع لأنّ إبطال الهبة غير الرجوع فيها.

وأمّا في صورة الغلط في شخص الموهوب له فإن كان الغلط مشتركا كذلك أو كان للموهوب له أن يعلم أو يستطيع أن يعلم بهذا الغلط، جاز للواهب حتى لو قام مانع من موانع الرجوع أن يطلب إبطال العقد.[281]

كما يكون التسليم الناتج عن إكراه قابلا للإبطال بناءا على أنّ الواهب ما كان ليهب ويسلّم ماله لولا ذلك الإكراه الذي سلّط عليه سواءا كان ماديا أو معنويا.[282]

ونفس الشيء إذا كان التسليم ناتجا عن تغرير وعن استعمال طرق احتيالية دفعت الواهب إلى تسليم ماله يكون قابلا للإبطال بناءا على غياب حسن النيّة في جانب الموهوب له، إضافة إلى ذلك يحقّ للواهب أن يطالب بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية لأنّ استعمال الطرق الاحتيالية يعدّ عملا غير مشروع ويكون موجبا للتعويض.

ويكون التسليم في حالة سكر كذلك قابلا للإبطال استنادا للفصل 58 من مجلة الالتزامات والعقود الذي جاء به ما يلي “إذا وقع العقد في حالة سكر المغيّر للشعور وجب فسخه” أمّا في خصوص التسليم الواقع ممّن يحجّر عليهم التسليم فإنّ الهبة تكون قابلة للإبطال من طرف كلّ من له مصلحة في ذلك وذلك على أساس أنّ التسليم هو عمل خطير في ذاته لأنّه ينقل ملكية الشيء الموهوب ممّا ينتج عنه تجرّد الواهب عن ماله، ويبقى على هذا الأخير عبء إثبات هذا التسليم المعيب بكلّ تجلياته وذلك بجميع وسائل الإثبات المتاحة قانونا مثلما اقتضاه الفصل 427 من مجلة الالتزامات والعقود.

الخاتمة العامة

تتميّز الطبيعة القانونية للتسليم في عقد الهبة بعدم الوضوح وهو ما تمّ لمسه من خلال الفصول المنظمة للتسليم بمجلة الأحوال الشخصية، فبالنظر في هذه الفصول يبدو التسليم من أوّل وهلة كركن في العقد وهو ما يحيلنا إليه الفصل 201 من مجلة الأحوال الشخصية الذي لم يميّز بين هبة العقار وهبة المنقول مع أنّ التمييز هنا ضروري ومهم ورأينا أنّه في ذلك تأثر بالمذهب الحنفي إلاّ أنّه وبقراءة الفصل 203 من نفس المجلة يتراءى أنّ التسليم لم يعد ركنا في العقد بما أنّ المشرع أتاح للموهوب له إمكانية المطالبة بالتسليم في صورة عدم تمامه دون تمييز كذلك بين هبة المنقول والعقار ولا شكّ أنه تأثر في ذلك بالمذهب المالكي، ليقرّ بعد ذلك في الفصل 204 من نفس المجلة بأنّ الهبة لا تصحّ إلاّ بالحجّة الرسمية مستثنيا من ذلك هبة المنقول المادي التي تصحّ بالمناولة.

وقد تمّ إرجاع هذا التذبذب الذي شاب الفصول إلى الاختلاف الفقهي والجدل الذي دار بين المذاهب الإسلامية حول مسألة التسليم في عقد الهبة ففي حين اعتبره فقهاء المذهب الحنفي شرطا لصحة الهبة وكانت لهم حججهم في ذلك فإنّ فقهاء المذهب المالكي اعتبروا أنّ التسليم هو شرط لتمام العقد وتبعا لذلك يمكن للموهوب له أن يجبر الواهب على التسليم.

ولتجاوز هذا الغموض وفي محاولة للترجيح بين هذه المواقف، تمّ التوصل إلى أنّ نيّة المشرع اتجهت نحو اعتبار التسليم في هبة المنقول المادي شرط لصحة العقد وركن من أركانه لا يقوم بدونه، في حين جعل من التسليم في هبة العقار التزاما بما أنّ شرط صحّة العقد هو الحجّة الرسمية وليس التسليم في إطاره سوى أثرا شخصيا للعقد وعلى ذلك يمكن المطالبة به في صورة عدم تحقيقه حسب ما اقتضاه الفصل 203 من مجلة الأحوال الشخصية.

ويتحقّق التسليم في عقد الهبة وفقا لقواعد التسليم في عقد البيع التي تعدّ القانون العام بالنسبة للتسليم في أغلب العقود مع الأخذ طبعا بخصوصية وطبيعة التسليم في كلّ عقد. ولمّا كان التسليم في عقد الهبة شرطا ضروريا لنقل ملكية الشيء الموهوب فإنّه يستوجب لصحته توفّر العديد من الشروط حتى يكون التسليم المعتبر قانونا.

فالتسليم يجب أن ينصب على موضوع معيّن سواءا كان عقارا أو منقولا أو حقوقا مجردة، ويجب أن يتم وفق طرق معينة، فالموهوب له يمكن أن يتسلم الموهوب تسلما فعليا أو عن طريق التمكين فيكون التسليم رمزيا أو أن يتفق مع الواهب على التسليم فيكون التسليم باتفاق الطرفين مع إمكانية الاتفاق على مكان وزمان ونفقات التسليم فإن لم يوجد هذا الاتفاق فإنه يتم تطبيق القواعد الخاصة بعقد البيع مع الأخذ طبعا بخصوصية التسليم في عقد الهبة وبطبيعة الشيء الموهوب.

ونظرا لخطورة التسليم وما يمكن أن ينجر عنه من آثار فإنه يجب أن ينجز من طرف أشخاص مؤهلين للقيام بذلك، فمن حجّر عليهم القانون إبرام عقود الهبة لا يمكنهم تبعا لذلك تسليم شيء بعنوان هبة ولو بواسطة من له النظر عليهم لأنّ عقود التبرع في حق القاصر تعدّ عقودا باطلة حتى وإن أذن بها قاضي التقاديم طبقا لما اقتضاه الفصل 16 من مجلة الالتزامات والعقود، على أنّه يمكن لهؤولاء الأشخاص أن يقبلوا الهبة بل وأن يتسلموا الشيء الموهوب ولو بلا مشاركة الأب أو الولي لأنّ ذلك من شأنه الزيادة في كسبهم من دون أن يترتب شيء من جراء ذلك.

وبغضّ النظر عن طبيعة التسليم سواء كان شرطا لصحة الهبة أو ركن من أركانها أو التزاما فإنّ انعدامه ينجرّ عنه الجزاء وليس المقصود بعدم التسليم في هذا الإطار عدم التسليم في معناه الضيق فقط وإنما كلّ مخالفة لقواعد التسليم.