علم النفس القضائي

القاضي عامر حسن شنته
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يعرف علم النفس القضائي بأنه ذلك العلم الذي يدرس العوامل النفسية التي تؤثر في جميع المشتركين في الدعوى الجنائية كالقاضي والمتهم والمحامي والمجنى عليه والشهود والخبراء.

ولما كان (اليقين القضائي) الذي هو أساس الحكم في القضايا الجنائية ما هو إلا حالة نفسية وذهنية تثور في نفس القضاة، وتساعد في تكوين عقيدتهم واطمئنانهم، فأن دراسة هذا العلم تأخذ مكانة مهمة في إعداد القضاة وتأهيلهم نفسياً قبل تسنمهم منصب القضاء.

وإني لأعجب حقاً من غياب هذا العلم المهم عن مناهج التدريس في المعهد القضائي، ودورات تطوير القضاة في معهد التطوير القضائي.

وهو العلم الذي يبعد مظنة تأثر أحكام القضاء وانسياقها مع العوامل النفسية التي تتسم بها شخصية القضاة والتي هي بلا شك عوامل مختلفة أنتجتها بيئة القاضي التي نشأ فيها. ففي فرنسا مثلا يخضع المتقدمون للقبول في المدرسة الوطنية للقضاء إلى اختبار نفسي مؤلف من مائتي سؤال عن شخصياتهم، تتبعه مقابلة شخصية للتعرف على سماتهم وخصائصهم النفسية.

ولعل من أهم المؤهلات النفسية التي يجب أن يتحلى بها القاضي هي قدرته على التحكم بالعواطف، وعدم الغضب، والثقة بالنفس، وعدم التمادي في الخطأ، والأناة والحلم.

وهي سمات تسهم في تحقيق الاتزان العاطفي وضبط النفس وهدوئها. أما العلل النفسية التي يمكن أن تصيب القاضي، فأن أبرزها يتمثل بالشعور بالذنب، والحرمان الاجتماعي الذي نشأ فيه القاضي، وعقدة الكمال (تضخم الذات)، والقسوة والرأفة والانعكاس والاندماج والتجربة المؤلمة التي قد يكون القاضي مر بها، وغير ذلك كثير.وكل واحدة من هذه المصطلحات، لها مفاهيمها وأسبابها وعلاجها والتي لامجال لبيانها في هذا المقام.

غير أن مايميزها هو أنها تسهم لاشعورياً في نشوء حالة من القلق وعدم الاستقرار النفسي التي تؤثر في آلية ومنطقية اتخاذ القرار وبالشكل الذي يؤدي في النهاية إلى صدور قرارات معيبة تهدر حقوق وحريات الأفراد وتبتعد كثيراً عن الحقيقة القضائية. وان مسألة التأهيل النفسي للقضاة لم تغب عن تراثنا فقد أورد الإمام علي (ع) في عهده إلى مالك الأشتر أثني عشر صفة من الصفات التي يجب أن يتحلى بها القاضي.

والعلل النفسية التي ينبغي له الابتعاد عنها.بأن “لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولايتمادى في الزلة ولايحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولات شرف نفسه على طمع ولايكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج واقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولايستميله إغراء….”.

وتلك بلا شك صفات تسهم في تطوير (حاسة العدل) لدى القضاة وتعمق من نظرتهم للوقائع المعروضة عليهم وتطبع شخصياتهم بطابع القوة والثبات في الموقف والاستقلال والاستغناء عن كل ما يؤثر في حيادهم ونطقهم بالحق.

وفي التدليل على عدم تأثر القضاة بالإطراء ينقل الأستاذ القاضي فتحي الجواري قصة جميلة في كتابه (الطريف والظريف من سير بعض القضاة)، عن القاضي احمد حسن رئيس محكمة استئناف أسيوط بمصر والذي قام برد رسالة شكر بعثها له وزير العدل آنذاك لسرعة حسمه للدعاوى، قائلاً له “إني إن قبلت منك توجيه الثناء، فقد خولتك حق توجيه اللوم. وأنت لا تملك الاثنين، ولذلك رددت إليك رسالة الثناء”. إيماناً منه بأن سرعة حسمه للدعاوى إنما تمثل واجبه القضائي، وحفظاً لاستقلال القضاء واستغنائه عن المديح والثناء.