لوجود الدولة لا بد من القانون

تتابع الكتاب و الفلاسفة في القرنين السابع عشر و الثامن عشر في دراساتهم حول السيادة والدولة والقانون، وظهرت مدرسة القانون الطبيعي وعلى رأسها جروتس ( Grotius ) الملقب بأبي القانون الطبيعي، وهو الذي قال بوجود قانون يجد مصدره في ذاته، وينبع من طبائع الأشياء ، ومن ثمَّ فهو قانون ثابت لا يتغير، ولا تستطيع أي سلطة مهما علت أن تعدل فيه، لأن قواعده مستمدة من طبيعة الإنسان.

في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر لم تكن التيارات الفكرية الغالبة في فرنسا وانجلترا تتبع مدرسة القانون الطبيعي، فقد قاد الحركة الفكرية في انجلترا هويس ولوك، وقد كان الأول من دعاة الحكم المطلق لدرجة إنكارفكرة القانون كلية. ويتلخص مذهبه في أن القانون أساسه القوة، أي أن القانون قانون الأقوى، وأن العدالة تتوقف على القانون الوضعي، وأنه يجب التزام قانون الدولة حتى ولو كان مخالفا للدين.

وتستند نظريته إلى وجود عقد اجتماعي ينزل فيه الأفراد عن حرياتهم كاملة للحاكم الذي يتعهد بحمايتهم من بعضهم بعضا. فالحاكم إذن له سلطات مطلقة لا حدود لها على الأفراد وعلى أموالهم ومعتقداتهم وأفكارهم، وهو الذي يعرف الصواب والخطا والمشروع والباطل. والعقد الذي يربط الافراد الى الدولة هكذا لا ينفصم طالما ان الدولة ـ أي الحاكم ـ قوية وقادرة على تنفيذه، فاذا لم تقو الدولة على تنفيذه عدنا الى حياة الفوضى البدائية.
وعلى العكس من ذلك تماما كان لوك خير ممثل للمذهب الحر في انجلترا. وعلى الرغم من أنه يتفق مع هويس في تأسيس المجتمع على وجود عقد اجتماعي ينتقل به الافراد من الحياة البدائية الى حياة الجماعة، فانه لا يرى فيه ما يعطي الدولة سلطة مطلقة، وانما يعين لها رسالة محددة باغراض الجماعة في الحماية والامن وتحقيق الخير العام. ويرى لوك ان الحرية هي اساس الجماعة وهدفها، وان الجماعة ما قامت الا لحماية الحريات الفردية وان السلطة اذا اعطيت الى حاكم يمارسها فان السيادة تبقى للشعب.

من ذلك يظهر التقارب بين افكار لوك عن وظيفة الدولة وتعاليم مدرسة القانون الطبيعي، الا انه يختلف عن ممثلي هذه المدرسة في ان هؤلاء يرون ان القانون من معطيات العقل بينما يعده لوك مصلحة تحميها الجماعة, أي ان لوك يعد منفعيأUtilitaire على خلاف ممثلي القانون الطبيعي المثاليين. ويظهر اثر ذلك الخلاف ليس في ارتفاع مستوى الفكرة القانونية عندهم بالنسبة لفكرة لوك، بل ايضا في ان لوك يخفف من نزعته الحرة في كل مرة تتعارض الحرية مع مصلحة هامة للجماعة، فيضحي بحرية الفرد من اجل تحقيق مصلحة الجماعة.

وقد كان لمدرسة القانون الطبيعي مع ذلك ممثلون في انكلترا، ولكن اسماءهم لم تلمع كما لمع اسما لوك وهويس. على ان هذه المدرسة وجدت مؤيدين كثيرين في كل من هولندا وسويسرا والمانيا في نهاية القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر.
اما فرنسا فقد عرفت في القرن السابع عشر ازهى عصور الحكم المطلق اذ ابتلعت الملكية كل السلطات بتحطيمها لقوة البرلمانات وانتصارها على الاقطاع في عهد لويس الرابع عشر، وانتهت الى انكار كل فكرة عن الحقوق الفردية وعادت بالقانون الى عصوره البدائية التي لم يكن فيها للافراد اي حقوق في مواجهة الحكام، والتي كان الحكام فيها مطلقي الحرية للتصرف في الافراد اشخاصا واموالا وعقائدا. ولم يكن كبار رجال الفكر الفرنسيين في القرن الثامن عشر (مونتسكييه وروسو) من انصار القانون الطبيعي. ومع ذلك كانت لآراء روسو في الادارة العامة للجماعة وآراء مونتسكييه في الفصل بين السلطات اكبر الاثر في التمهيد للثورة الفرنسية التي اقرت بصفة نهائية و قطعية فكرة الحقوق الفردية وجعلت منها هدفا للجماعة الانسانية، واساسا للقانون الطبيعي وذلك في وثيقة اعلان حقوق الانسان سنة 1789 هذه الوثيقة التاريخية التي جعلت من الفرد مصدرا للحقوق حين نادت بوجود امتيازات للفرد تسبق وجود الجماعة وتسمو عليها وعلى قوانينها، ووضعت السيادة في الفرد، ومن ثمَّ في الأمة.. وجعلت حماية حقوق الافراد وامتيازاتهم الهدف والغاية التي يصبو اليها كل نظام سياسي.

ولذلك يمكن القول: إن فكرة خضوع الدولة للقانون ووجود قواعد قانونية تلتزم الدولة باحترامها من دون ان يكون لها سلطة الغائها او تعديلها قد وصلت اوجها في عهد الثورة الفرنسية، حتى ان احد كبار رجال الثورة (ميرابو) قد قال إن القانون سيد العالم.

على ان الولايات المتحدة الامريكية قد سبقت فرنسا في فكرة اعلان حقوق الانسان والاعتراف بالحقوق الفردية. فعلى اثر حرب السبع سنوات(1756ـ1763) ، التي قامت بين روسيا والنمسا وفرنسا من جهة وبين انجلترا وبروسيا من جهة اخرى، قامت انجلترا ـ التي خرجت من الحرب مرهقة بالديون ـ بفرض ضرائب ورسوم جمركية جديدة وباهظة على المستعمرات الانجليزية الثلاث عشرة في امريكا. ولكن المستوطنين الانجليز في هذه المستعمرات نازعوا في صحة فرض تلك الضرائب والرسوم من دون رضاهم. وبعد محادثات فاشلة اقترنت احيانا بحوادث دموية، اجتمع مؤتمر يمثل المستعمرات الانجليزية الثلاث عشرة في فيلاديلفيا وقرر في يوليو سنة 1776 استقلال تلك المستعمرات. وقد قدم لذلك القرار باعلان للحقوق، كان اهم ما احتواه تقرير المساواة بين الافراد، وتاكيد وجود حرية ثابتة وسابقة على نشاة الجماعة، وان ” الحكومات لم تقر الا Declaration des droits de Virginie لحماية تلك الحقوق. ثم تلا ذلك الاعلان اعلان حقوق فرجينيا في سنة 1787, وهكذا فإن هذين الإعلانين قد اكدا نظرية الحقوق الفردية بصورة قطعية.

و لا يفوتنا ان نشير هنا الى صراع الشعب البريطاني الطويل ضد الحكم المطلق, الذي ظهرت نتائجه المثمرة على مراحل مختلفة, بدأ اهمها بصدور الوثيقة الكبرى المسماة (Magna carta) التي فرضت على الملك جان صان تر (Jean sans terre) في سنة 1215, ثم صدور وثيقة الحقوق bill of rights في عهد غليوم الثالث سنة 1689 : حيث اعترف الملك للبرلمان بحق الاجتماع وبضرورة موافقته على فرض الضرائب ورقابته على تنفيذ القوانين، واعترف للافراد بحق المقاضاة امام محلفين وليس امام محكمة إستثنائية.

على ان هذا الصراع الطويل وما اثمره من نتائج عظيمة في إرساء قواعد النظام البرلماني ـ حتى قيل إن انجلترا ام البرلمانات ـ هذا الصراع لم يكن يهدف الى تقييد سلطات الدولة بقدر ما كان صراعاَ ضد الملك لحساب البرلمان يرمي الى الحد من سلطان الاول والتوسع في اختصاصات الثاني . فهو صراع ذو طابع سياسي اكثر منه قانونيا، ولم يقيد من سلطات الدولة في مجموعها، وانما انتزع من عضو فيها أمرا أعطاه لعضو اخر، فوزع السيادة بين الملك والبرلمان بعد ان كان ينفرد بها الملك لوحده.

ولعل خير دليل يمكن ان نسوقه لتأكيد ما تقدم هو المثل الآنكليزي القديم القائل ان البرلمان قادر على عمل كل شئ، الا ان يغير الرجل الى امرأة. هذا المثل يفصح عن الفكرة الانكليزية بشآن إختصاصات البرلمان غير المقيدة.

على ان ضرورة تحديد سلطان الدولة، وإخضاع تصرفاتها لحكم القانون، قد أصبحت حقيقة معترف بها الى حد يمكن معه القول ان الاجماع يكاد ينعقد اليوم على فكرة تقييد الدولة بالقانون وخضوعأ لأحكامه، يتفق في ذلك انصار مبدأ سيادة الدولة او مبدأ سيادة الأمة ومنكرو فكرة السيادة كلية.

والنظريات الحديثة قد تشربت بفكرة إخضاع الدولة للقانون ومن ثمَّ تنظيم سلطاتها. فالدولة إنْ هي الا نتيجة توازن مجموعة قوى استقر وثبت ونتج عنها نظام له طابع الدوام، أي وجود قوى منظمة، ومن ثم فان الدولة تفترض وجود النظام، أي وجود قوى منظمة، تخضع لقواعد تحكمها وتحدد أنشطتها، ولا يمكن تصور وجودها بغير ذلك النظام ومن دون قانون يعين سلطانها، لان وجودها مرتبط بوجود نظام قانوني يحكمها.

والقول بخضوع الدولة للقانون، لا يعني تحديد سلطات هيئات معينة في الدولة، بل يقصد به خضوع الدولة بكامل هيئاتها له. فليست السلطة التنفيذية او السلطة التشريعية هي المقيدة بالقانون، بل الدولة نفسها في جميع مظاهر أنشطتها سواء كانت تمارس نشاطأ تشريعيا أم نشاطا اداريا أم نشاطا قضائيا. ولذا لم نرَ في الصراع البريطاني ضد استبداد الملك وسلطاته المطلقة مثالآ للصراع من أجل تقييد الدولة بالقانون كما سبق البيان؛ وإنما كان صراعآ من اجل نقل السلطة من يد الملك الى يد البرلمان، وانتصار البرلمان الانجليزي في النهاية لم يحقق تغيرا في النظام بقدر ما حقق انتقال السلطان المطلق من قبضة التاج الى قبضة البرلمان. غير انه يجب التنبيه مع ذلك الى ان وثيقة الحقوق”ٌbill of rights “ٌ قد اقرت بعض الضمانات للافراد، منها عدم امكان القبض عليهم او حبسهم إلا بمقتضى حكم قضائى يصدر من هيئة محلفين، كما قررت حرية الفكر وحرية التملك. ولا شك في ان هذه الحريات وهذه الضمانات تعد قيودا على سلطان المشرع الانجليزي.

المبحث الاول
الأساس الذي يقوم عليه مبدأ خضوع الدولة للقانون

واذا كان الاجماع ينعقد اليوم على ضرورة تقييد الدولة بالقانون ورضوخها لاحكامه، فإن الخلاف يستعر بشأن اساس ذلك التقييد وتحديد المبررات التي يستند اليها. ويمكن تقسيم الاراء الرئيسة التي في هذا الشأن على ثلاث نظريات نرتبها حسب تأريخ نشأتها.

أولا: نظرية الحقوق الفردية:

كانت اولى النظريات القانونية التي ظهرت لتحديد الاساس الذي يقوم عليه مبدآ خضوع الدولة للقانون، هي نظرية الحقوق الفردية التي تقول بوجود حقوق فردية اصلية وسابقة على الدولة، تسمو عليها ولاتخضع لسلطانها، وبأن الفرد ما انضوى تحت لواء الجماعة الإ لحماية هذه الحقوق والتمتع بها في آمن وطمأنينة.. فدخول الفرد في الجماعة لا يفقده هذه الحقوق. وما دامت هذه الحقوق سابقة على كل تنظيم سياسي، فهي تخرج عن سلطان الدولة، وفوق ذلك فهي تقيِّد أنشطتها. وهذه هي النظرية التي قام عليها إعلان حقوق الانسان والمواطن في فرنسا سنة 1789.

نقد النظرية:

حظيت هذه النظرية بالتأييد المطلق ما يقارب من قرنين من الزمان، ثم تعرضت للنقد حتى لم يبقَ لها إلا القليل من المعتنقين. واهم ما يؤخذ عليها هو إغراقها في التصور والخيال، إذ تقوم على اساس، وضع الإنسان الفطري، قبل دخوله في الجماعة، ولمجرد صفته إنسانآ، فإن يمتلك حقوقا طبيعية ودائمة، وله أنْ يحتفظ بتلك الحقوق بعد انخراطه في سلك الجماعة، وأن العقد الاجتماعي لم يكن من شأنه أنْ يحرمه من تلك الحقوق، وإنما على العكس جاء العقد الاجتماعي لحماية تلك الحقوق والمحافظة عليها .

على أن هذا الادعاء منهار الاساس، لأن الحق لا يتصور وجوده في غير وجود الجماعة إذ أنه يفترض وجود شخصين يفرض احدهما إرادته على الاخر، والإنسان الفطري لا تربطه علاقة اجتماعية بغيره من البشر لأنه يحيا في عزلة فردية، ومن ثم لا تتصور له حقوق. قد تكون له سلطة مادية على الأشياء، ولكن في جوهر توصيف الوضع لم تكن له حقوق.

كما ان هذه النظرية تحول دون التطور الاجتماعي: فالدولة في مفهوم هذه النظرية لا تستطيع ان تضع قيودا على الأفراد الإ بالقدر الضروري لحماية نشاط الجميع. فهي لا تستطيع إذن الإ وضع قيود سلبية من دون ان يكون لها سلطة فرض التزامات ايجابية على الأفراد، أي انها تستطيع ان تمنع الفرد من الاعتداء على حرية الاخرين وليس لها ان تلزمه بعمل شئ من أجل الاخرين وهذا هو جزء من فروض الدولة الحديثة وأهدافها وعلى الاخص في الفقه الاشتراكي.

وأخيرا فان الحق الفردي لا قيمة له ما لم يحدد مضمونه وتـُبيَّن وسائل استعماله، الأمرالذي لا يتصور بغير القانون، ومن ثم فلا يمكن للحقوق الفردية ان تكون قيودا فعالة على نشاط الدولة لانه لا اثر لها قبل تدخل الدولة من اجل تنظيمها. فالمذهب الفردي اذ يقابل بين الفرد والدولة إنما يؤدي الى احد أمرين : الفوضى او الاستبداد، لانه اما ان يكون للفرد ان يحدد حقوقه بنفسه، وحينئذ تنهار الدولة من أساسها وتكون الفوضى، واما ان تحدد الدولة وحدها مدى الحقوق الفردية، ووقتئذ لن يقف في سبيلها شئ مما يؤدي الى الاستبداد او التحكم.

ومع ذلك كله وعلى الرغم من جميع هذه الانتقادات، فلا شك ان تقرير الحقوق الفردية وخصوصا اذا ما ضمنت في وثيقة لها جلالها كوثيقة إعلان الحقوق، لاشك ان ذلك التقرير من الناحية السياسية ان لم يكن من الناحية القانونية، يحول بين المشرع وبين الاعتداء على الحريات الاساسية للفرد كما أحس قوة الرأي العام. فالنظرية في الحقيقة لها قيمة سياسية اكثر منها قانونية.

ثانياـ نظرية التحديد الذاتي:

ذهب الفقهاء الالمان مع اعترافهم بضرورة تقييد الدولة بالقانون، الى ان القواعد القانونية التي تحكم السلطات العامة لا يمكن ان تكون من صنع الدولة. ذلك ان الدولة هي صاحبة السيادة، والسيادة في نظرهم هي التي مكَّنت صاحبها في ان يحدد لنفسه بحرية مجال نشاطه، وان يعين مختارا ما يريد القيام به من الأعمال ومن ثم فالدولة لا يمكن ان تلتزم او يقيد سلطانها إلا بمحض إرادتها.

وذلك لا يعني ان الدولة سلطانها مطلق، لان السيادة ليس من مستلزماتها ان تكون سلطة مطلقة دون حدود. بيد ان من طبيعة الدولة ذات السيادة ان تضع بنفسها القواعد التي تقيد سلطانها . ولن تكون الدولة صاحبة سيادة اذا كانت تلك القواعد تفرض عليها من سلطة أو بإدارة أعلى .

ويكاد يجمع الفقه الالماني على ضرورة خضوع الدولة للقانون. وفي ذلك يقول جلينك Jellinek أنه ما لم تخضع الدولة للقانون الذي صنعته، فأن ما يعد قانونا ملزما بنفسه للافراد لن يكون قانونا بالنسبة للدولة وهذا غير ممكن، لان القاعدة لا تكون قانونية وغير قانونية في نفس الوقت وداخل نظام قانوني واحد، اللهم إلا إذا أقمنا الدولة على اساس ديني. ولكن الدولة ليست الله على الارض، فهي خاضعة للقانون، ونشاطها محدد بالقانون، وتمكن محاسبتها امام القضاء الذي يطبق عليها القانون شأنها شأن أفرادها.

وبذلك يكون الفقه الالماني قد وفق بين فكرة السيادة، التي كانت في ذلك الوقت (القرن التاسع عشر) بمثابة العقيدة التي لا تقبل الجدل، وفكرة خضوع الدولة للقانون، فسيادة الدولة تتنافى مع فكرة تقييدها بوساطة سلطة خارجية عليها، لان السيادة تفرض الاستقلال، ولكن الدولة حين تقبل بمحض إرادتها ان تقيد سلطانها في امر من الامور لا تكون بذلك قد فقدت سيادتها مادامت هي بنفسها قد وضعت القيد.

نقد النظرية:

وقد انتقد ديجي هذه النظرية بعنف، فقال ان خضوع الدولة للقانون لا يكون حقيقيا إذا كانت هي وحدها تضع القانون وتعدله على وفق هواها وحسب مشيئتها، لأننا في الواقع نكون امام سلطة مطلقة لا حدود لها . ثم يتساءل عن الاسباب التي يمكن ان تدفع الدولة، وهي تحتكر إستخدام القوة، الى الخضوع للقانون الذي وضعته؟ِِ.

ويجيب عن ذلك إهرنج بقوله: إن من المنطق ان تخضع الدولة للقانون الذي وضعته لما لها من مصلحة أكيدة في ذلك، إذ ان الدولة حين تلتزم القانون تكتسب سلطة أقوى على الافراد وتضمن احترامهم لقوانينها.

والدولة لا تخضع للقانون بدافع المصلحة فقط بل ايضا، كما قال جلينيك Jellinek

لما يوجد من تلازم بين فكرة الدولة ووجود نظام قانوني، لأنه من تعريف الدولة يظهر انها تفترض وجود ذلك النظام. فالدولة إذ توجد، يوجد معها قانون لا يمكنها الخلاص منه إلا بالقضاء على نفسها، وهي لا تمارس نشاطها إلا على مضمون ذلك القانون، فهو كالظل بالنسبة لها، يوجد بوجودها ويمحى بفنائها. كما ان القواعد التي يتضمنها ذلك القانون، لا قيمة لها إذا لم تكن ملزمة، والدولة لا يمكنها مخالفتها بغير القضاء عليها ومن ثمَّ التنكر لوحدها ذاتها. و قد صادفت هذه النظرية معارضة قوية في الفقه الفرنسي، ولم يعتنقها غير فالين وكاريه دي ملبر . غير ان بعض الفقهاء الفرنسيين مثل هوريو وبيردو لم يقولوا إلا بآراء مقاربة تماما لآراء الألمان ، وإن أنكروا كل صلة لهم بنظريات هؤلاء.

ثالثا: نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي:

لجم ديجي النظريات الالمانية من أساسها حتى قال عن نظرية التحديد الذاتي إنها سفسطة وهزل، وخرج لنا بنظرية جديدة تقوم على أساس إنكار كل من فكرة السيادة وفكرة الحق وفكرة الشخصية المعنوية.
ففي نظر ديجي أن إهرنج وجلنيك قد بدءا من نقطة بداية خاطئة، لانهما كانا يهدفان الى ايجاد اساس لمبدا خضوع الدولة للقانون لا يتنافى مع مبدأ سيادة الدولة. بيد ان العلامة الفرنسي ينكر فكرة السيادة، ويرى ان المشكلة تنحصر في تعريف القانون وتعيين مصدر له يكون في منأى عن سلطان الحكم. فهو يعتقد انه لا يمكن تبرير خضوع الدولة للقانون طالما حسبنا القانون من صنع الدولة، او انه بعبارة أخرى مجرد تعبير عن إدارة الحكام، لان الشرط الاساس لتقييد الدولة وخضوعها للقانون هو ان يكون للقانون مصدر مستقل وخارجي عن الدولة، وسابق على وجودها، بمعزل عن ارادة كل عضو من أعضائها. فصاحب القاعدة القانونية لا يمكن ان يقيدها لان القيد لا بد ان يكون مصدره خارجيا، أي نتيجة لقاعدة خارجية.

لذلك فقد قامت نظرية ديجي على اساس المصدر غير الاداري للقانون، أي عدم تدخل ارادة الحكام في عمل القانون. فالقاعدة تكتسب الصفة القانونية والالزامية لا بسبب إصدارها بواسطة سلطة عامة ، ولكن بسبب اتفاقها مع مستلزمات التضامن الاجتماعي والعدالة . ومن ثم تكون لها الصفة القانونية لذاتها وبذاتها، إذ ان توافقها مع مقتضيات التضامن الاجتماعي صفة ذاتية لا دخل لإرادة الحكام في وجودها. وبذلك يظهر الانفصال بين القانون في مصدره وبين الدولة، الأمر الذي من شأنه ان يقيد الدولة بالقانون، لأن القاعدة القانونية تنشأ بمجرد ما يستقر في ضمير الجماعة ضرورة وجودها دون تدخل من الدولة.

نقد النظرية:

وعلى الرغم مما نكنه لآراء ديجي من إجلال وتقدير ، فاننا نرى انه قد جانب التوفيق في هذا الباب، وانه اشتط في هجومه على الفقيه الالماني حتى ضل السبيل. فقد انكر الفقيه الكبير على الدولة حتى مجرد سلطة الصفة الوضعية للقاعدة القانونية، وادعى بان القاعدة تكتسب هذه الصفة بمجرد اعتناق الآفراد لها ورسوخها في ضمائرهم. ولكن، أليس القانون الوضعي هو القانون المطبق فعلا؟ ومادام الأمر كذلك، فكيف يمكن القول ان القاعدة قد اكتسبت الصفة الوضعية باعتناق الافراد لها من دون ان يتحدد مضمونها تحديدا دقيقا؟ فلا شك ان مجموع الافراد عاجز على ان يقوم مثل هذا التحديد، وكل ما يستطيع عمله هو ان يتطلع الى تعديل تشريعي في موضوع معين من دون ان يمكنه تحديد مضمونه تحديدا كافيا. ولذلك فلا يتصور اكتساب الصفة الوضعية لقاعدة ما قبل ان تدخل سلطة مختصة.
ثم كيف يمكن خلع الصفة القانونية الالزامية على القاعدة من دون ان يكون لها جزاء منظم لحمايتها؟ وكما يقول هوريو: ” لاحكم للقانون في أي مكان بغير سلطة تحميه”.

الحقيقة أن آراء ديجو في القاعدة القانونية وعدم ضرورة الجزاء لاعتبارها كذلك، لايمكن التسليم بها. والاساس الذي قال به في خضوع الدولة للقانون ليس اساسا قانونيا ولا يعدو ان يكون قيدا أخلاقيا. ولا نريد الدخول في تفصيل هذه النظرية او غيرها من النظريات، فانما قصدنا فقط ان نلم الماما سريعا باهم الاراء التي قيلت في اساس خضوع الدولة للقانون وهناك نظريات اخرى قيل بها في هذا الشأن نكتفي بالاحالة اليها( مثل نظرية القانون الطبيعي لميشو ولفير).

وخلاصة القول ان الراي السائد اليوم يدعو الى اخضاع الدولة للقانون وان الخلاف ينحصر في تحديد الاساس الذي بقوم عليه ذلك المبدأ، فمن قائل بان القيود التي ترد على نشاط الدولة انما تنبع من ذات وجودها وانه لا يوجد انفصال بين السلطة والقانون اذ هما يمثلان وجهين لقطعة معدنية واحدة ومن ثم فليس للقانون سبق على الدولة (يمكن ان نضع في هذا الاتجاه مع نظرية التحديد الذاتي، الاراء التي قال بها كل من هيرو وبيردو). بينما يرى اخرون ان القانون سابق على الدولة ويسمو عليها ( نظرية الحقوق الفردية، نظرية ديجي في التضامن الاجتماعي ونظرية القانون الطبيعي) .

ونحن وان كنا لا نريد ان نتخذ الان موقفا من هذه الاراء المختلفة حول القانون والدولة، لما يقتضي ذلك من دخول في تفاصيل قد تباعد بيننا وبين موضوع البحث، فاننا مع ذلك نستطيع ان نعلن ميلنا الى الاخذ بالنظرية الالمانية، لما فيها من تلمس لحقيقة الواقع، وبعد عن التصور والخيال. اما النظريات التي تقيم فاصلا قاطعا بين القانون والدولة فهي نظريات تنكر القانون الوضعي وتقوم على اساس تصوري خاطئ، اذ انه لا يصح الفصل بين القانون والدولة لوجودهما في حالة اعتماد وتساند متبادلين، ولان السلطة في الدولة تقوم على اساس من القانون، كما ان القواعد الوضعية تجد مصدرها في السلطة التي تنظم الجزاء اللازم لحمايتها.

المبحث الثاني
تعريف الدولة القانونية وعناصرها

ومهما يكن الاساس الذي يقوم عليه مبدأ خضوع الدولة للقانون فلا شك في كونه مبدأ من المبادئ الاساسي للدول الحرة. غير ان عناصرها لا يمكن حصرها في قائمة موحدة وثابتة، لان الدولة القانونية في الواقع ليست الا نظاما مثاليا لم يتحقق بصورة مكتملة العناصر في القانون الوضعي، كما ان مضمون المبدأ وعناصره تخضع لسنة التطور مع تطور الفكر الانساني كما تختلف من فقيه الى اخر.

و نظرية الدولة القانونية قد اخذت صورتها العلمية على يد الكتاب الالمان وعلى الاخص مول وستال وجينيست. ويعرفها ستال بانها تلك التي تعين عن طريق القانون وسائلَ مباشرةِ نشاطِها وحدود ذلك النشاط؛ كما تحدد مجالات النشاط الفردي الحر. بينما يعرفها جيركه بانها الدولة التي تخضع نفسها للقانون وليست تلك التي تضع نفسها فوق القانون.
على انه يجب ان لايغرب عن البال ان التعبير قد استعمل في معان مختلفة في كتب الفقه. فمن الفقهاء من قصد به مجرد خضوع الادارة للقانون بالمعنى الضيق أي خضوع الادارة للعمل الصادر من السلطة التشريعية، وهو ما نسميه نحن “مبدأ سيادة القانون” والذي لا يعدو في نظرنا ان يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية.

وقد عدَّ هوريو خضوع الدولة للقضاء صورة من صور الدولة القانونية، ومرحلة من مراحل تطورها، ونحن نرى ان خضوع الدولة للقضاء او امكان مقاضاتها امام القضاء ورضوخها لاحكامه شأنها شأن الافراد، يكون عنصرا اخر من عناصر الدولة القانونية بغيره يغدو مبدأ خضوع الدولة للقانون وهميا او نظريا . لذلك نرى من اللازم ان نعرف من الان ماهية الدولة القانونية او مبدأ خضوع الدولة للقانون، وان نميزه عن غيره من المبادئ التي تختلط به في الاذهان.

اولا: تعريف الدولة القانونية:

القول بنظام الدولة القانونية معناه خضوع الدولة للقانون في جميع مظاهر نشاطها، سواء من حيث الادارة او القضاء او التشريع، وذلك بعكس الدولة البوليسية حيث تكون السلطة الادارية مطلقة الحرية في ان تتخذ قبل الافراد ما تراه من الاجراءات محققا للغاية التي تسعى اليها على وفق الظروف والملابسات (وهذا النظام الذي عرفته الملكيات المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبعض كبرى الامبراطوريات في القرن التاسع عشر.
على ان الانتقال من نظام الدولة البوليسية الى نظام الدولة القانونية لا يتم الا على مراحل، لاننا نجد كثيرا من البلدان حتى اليوم تمثل خليطا من عناصر الدولة القانونية وعناصر الدولة البوليسية، لان كثيرا من تلك الدول لم تخضع للقانون الا في بعض مظاهر نشاطها دون بعضها الاخر. ومع ذلك يمكن ان نعد الثورة الفرنسية وما تابعها من اعلان الحقوق، الحدث الذي حقق الانتقال من نظام الدولة البوليسية الى نظام الدولة القانونية، لان الثورة قد هدفت الى هدم كل ما يتعلق بالماضي وما خلفه من انظمة استبدادية، واقامت نظاما جديدا على اسس جديدة.
وعلى الرغم مما خلفته الثورة الفرنسية من اثار في مختلف الدول الاوربية، فان غالبية هذه الدول قد عاشت في ظل النظام البوليسي طوال القرن التاسع عشر، ولم تأخذ بنظام الدول القانونية الا تدريجا وحديثا.

ويجب التمييز بين الدولة البوليسية والدولة الاستبدادية ففي الاخيرة نجد تعسف الادارة بالافراد حسب هوى الحاكم او الامير ويُستبَدّ بأمورهم. اما في الدولة البوليسية فليس للافراد حقوق قبل الدولة وللادارة سلطة تقديرية مطلقة في اتخاذ الاجراءات التي تحقق الصالح العام للجماعة، وذلك على اساس ان الغاية تبرر الوسيلة أي انه بينما يستهدف السلطة في الدولة البوليسية مصلحة المجموع، نجد الحاكم المستبد لا يبغي الا مصلحته الشخصية. ومن ثم يكون الحاكم في الدولة الاستبدادية مطلق التصرف وغير مقيد بأي قيد، لا من حيث الوسيلة ولا من حيث الغاية، أي انه يعمل كل ما يحلو له ولو كان فيه إساءة الى الجماعة التي يتولى أمرها.

اما في الدولة البوليسية فالحاكم وان كان غير مقيد من حيث الوسيلة، فهو مقيد من حيث الغاية، لان حريته في اتخاذ ما يراه من الاجراءات مشروطة بان تكون غايته في هذه الاجراءات مصلحة الجماعة وليس مصلحته الشخصية.
ولعل اهم مايميز الدولة القانونية هو ان السلطات الادارية لا يمكنها ان تلزم الافراد بشئ خارج القوانين المعمول بها، وذلك يعني تقييد الادارة: فمن ناحية لا تستطيع الادارة حينما تدخل في معاملات مع الافراد ان تخالف القانون او تخرج عليه ومن ناحية اخرى لا تستطيع الادارة ان تفرض عليهم شيئا الا اعمالا لنص القانون او بموجب قانون. فعلى رجل الدولة اذن قبل ان يتخذ أي إجراء ضد احد الافراد، ان يبين له القانون الذي استمد منه سلطة اتخاذ ذلك الاجراء، وبعبارة أخرى ليس على الادارة فقط أن تمتنع عن مخالفة القانون ، بل يجب عليها فوق ذلك ان لا تتصرف الا بموجب نص القانون.

على ان ذلك لا يكون الا عنصرا من عناصر الدولة القانونية، اذ انه للوصول الى نظام الدولة القانونية الكامل لا يكفي إخضاع الادارة للقانون، بل يلزم اخضاع جميع السلطات العامة الاخرى كذلك وعلى الاخص السلطة التشريعية، أي سلطة عمل القوانين.

ثانيا: التمييز بين مبدأ خضوع الدولة للقانون او نظام الدولة القانونية وبين مبدأ سيادة القانون:

1ـ مبدأ خضوع الدولة للقانون كما سبق القول يعني خضوع جميع السلطات في الدولة للقانون، وهو مبدأ قانوني قصد به صالح الافراد وحماية حقوقهم ضد تحكم السلطة. أما مبدأ سيادة القانون فينبع من فكرة سياسية تتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة وتهدف الى وضع الجهاز التنفيذي في مركز ادنى بالنسبة للجهاز التشريعي ومنع الاول من التصرف الا تنفيذا لقانون او بتخويل من الشعب صاحب السيادة.

وحيث ان كل تنظيم في الدولة وكل نشاط لها يجب ان يصدر عن ارادة الشعب، فانه ينبغي خضوع السلطة التنفيذية للبرلمان وكل عمل للسلطة التنفيذية لا يمكن الا ان يكون تنفيذا للقانون المعبر عن الارادة العليا. وهذا الخضوع أي خضوع الجهاز التنفيذي للجهاز التشريعي، لا يقتصر على ما يتعلق باعمال الادارة التي تنتج اثارا خاصة تجاه الافراد ، بل يمتد الى جميع الاجراءات الادارية بما فيها تلك التي تخص التنظيم الداخلي للمرافق الادارية والتي لا تتعدى اثارها نطاق الجهاز الحكومي.

2ـ مبدأ خضوع الدولة للقانون وان كان اضيق نطاقا من مبدأ سيادة القانون من حيث ان الاول يقتصر تطبيقه على الاجراءات التي تمس مصالح الافراد بينما الثاني شامل لجميع اعمال الادارة كما سبق البيان، فان مبدأ خضوع الدولة للقانون اوسع نطاقا من نواحي اخرى.

فمبدأ سيادة القانون يهدف الى جعل الجهاز التشريعي ـ بوصفه جهازا منتخبا من الامةـ الجهاز الاعلى في الدولة، وان يجعل ارادته الارادة الاعلى فيها. ومن ثم فهو لا ينطبق الا على السلطة التنفيذية، في حين ان نظام الدولة القانونية يقتضي إخضاع جميع السلطات العامة للقانون أي ان هذا المبدأ الاخير لا يقيد السلطات الادارية فقط، بل يقيد السلطة التشريعية ايضا. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان مبدأ سيادة القانون يعني خضوع الادارة للقوانين الاشكالية فقط. بيد ان نظام الدولة القانونية يعني تقييد الادارة ليس فقط بالقوانين، بل أيضا باللوائح الادارية، وذلك لانه على وفق مبدأ خضوع الدولة للقانون لا يجوز للادارة ان تلزم الافراد إلا في حدود القوانين و اللوائح المعمول بها، ومن ثم فهي تخضع للوائح الادارية كما تخضع للقوانين طالما ان تلك اللوائح تبقى معمولا بها..

3ـ مبدأ سيادة القانون خاص بالنظم الديمقراطية حيث يتكون الجهاز التشريعي الذي يعمل القوانين من نواب عن الامة يمثلون إرادتها العليا. اما مبدأ خضوع الدولة للقانون فهو يصلح النظم المختلفة للحكم، ديمقراطية او ديكتاتورية، ولذلك فنحن نرى مع الأستاذ بونار ان الفقه الاشتراكي القومي الالماني (النازي) لا يتعارض مع مبدأ خضوع الدولة للقانون وان لم يأخذ بمبدأ القانون بمعنى سيادة البرلمان. وعلى الرغم من كل هذه الفروق، فان الخلط قائم في كثير من الاذهان بين خضوع الدولة للقانون ومبدأ سيادة القانون،

ونجد كثيرا من كتب الفقه، المصري والفرنسي على السواء، تستعمل التعبيرين على انهما مترادفان ولعل مصدر الخلط راجع الى حسبان النظام الفرنسي، وهو الذي يأخذ بمبدأ سيادة القانون الناتجة عن سيادة البرلمان، النظام المثالي للدولة القانونية. وهو نظر غير سليم في رأينا، لان المشرع الفرنسي في الواقع لا يعرف قيودا حقيقية على حريته، اذ تنعدم الرقابة على دستورية القوانين، ولا يكون نظام الدولة القانونية متحققا بصورة كاملة ما لم تتقرر الضمانات التي تكفل احترام الدستور وتضمن عدم مخالفة المشرّع لنصوصه.

ثالثا: عناصر الدولة القانونية ووسائل تحقيقها:

للقول بخضوع الدولة كلية للقانون، او لتحقيق نظام الدولة القانونية الكامل ينبغي توافر عناصر مختلفة وتقرير ضمانات معينة نجملها فيما يلي:

1ـ وجود دستور:

وجود دستور يعني اقامة نظام في الدولة ووضع قواعد لممارسة السلطة فيها ووسائل وشروط استعمالها ومن ثم يمتنع كل استخدام للسلطة العامة لا تراعى فيه الشروط او تلك القواعد. وبعبارة اخرى، اذا كان دستور الدولة يبين اختصاصات كل عضو من اعضائها، فهو في الوقت نفسه يحرم عليه جميع السلطات التي تخرج عن ذلك البيان.

من ذلك يتضح ان وجود الدستور يعد الضمانة الاولى لخضوع الدولة للقانون، لان الدستور يقيم السلطة في الدولة. ويؤسس وجودها القانوني كما يحيط نشاطها بإطار قانوني لا تستطيع الحياد عنه. وليس ذلك راجعا الى ان الدستور يقيم حكما ديمقراطيا اذ انه لا ارتباط بين وجود الدستور وقيام الحكم الديمقراطي. كما انه ليس ثمة تلازم بين خضوع الدولة للقانون واعمالها للمبدأ الديمقراطي. ولكن وجود الدستور يؤدي الى تقييد سلطات الدولة، اذ سينظم السلطة فيها ووسائل ممارستها كما يعين حقوق الحاكم ويحددها. والدستور بطبيعته أسمى من الحاكم لانه يحدد طريقة اختياره و يعطيه الصفة الشرعية، كما يبين سلطاته وحدود اختصاصه ومن ثم فان السلطة التي مصدرها الدستور لابد ان تكون مقيدة، لا لانها يجب ان تمارس على وفق الأوضاع الديقراطية، ولكن لوجوب احترامها لوضعها الدستوري و الا فقدت صفتها القانونية. فاذا ما نص الدستور على ان امورا معينة لا يمكن تنظيمها الا بقوانين تصدر من السلطة التشريعية في الدولة فان ذلك يستتبع حتما تقييد سلطان الدولة في هذا الشأن لانها لن تستطيع تنظيم هذه الامور عن طريق السلطة التنفيذية. كما ان الدستور اذا ما فصل بين سلطة سن القوانين وسلطة عمل الدستور، أي انه اذا ما أخذ بفكرة الدستور الجامد وفرق بين القوانين العادية والقوانين الدستورية، كان ذلك اكثر تقييدا لسلطات الدولة بقدر جمود الدستور وبقدر ما توضع من قيود على تعديله.
ووجود الدستور يعني تقييد السلطات المنشأة في الدولة، أي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، لان الدستور هو الذي انشأها ونظمها وبيَّنَ اختصاصاتها، ولانها تابعة للسلطة التأسيسية.

2ـ الفصل بين السلطات:

واذا كان الدستور يعين السلطات ويحدد اختصاص كل منها، فانه ينبغي ضمان احترام هذه القواعد وعدم خروج السلطة عن حدود اختصاصها. ولعل الضمانة الاولية لذلك تنحصر في الفصل بين السلطات فصلا عضويا او شكليا، بمعنى تخصيص عضو مستقل لكل وظيفة من وظائف الدولة، فيكون هنالك الجهاز الخاص بالتشريع والجهاز الخاص بالتنفيذ والجهاز الثالث للقضاء ومتى تحقق ذلك فان كل عضو سيكون له اختصاص محدد لا يمكنه الخروج عليه من دون الاعتداء على اختصاص الاعضاء الاخرين. ولاشك ان الفصل بين السلطات يمنع ذلك الاعتداء لان كلا منها سيوقف اعتداء الاخر.
اما اذا تجمعت السلطات في يد واحدة، فانه حتى لو قيدناها بقواعد معينة في الدستور فلن تكون هناك أي ضمانة لاحترام هذه القواعد، ولن يقف في سبيل الحاكم شئ اذا استبد بالسلطة. فمثلا اذا اجتمعت وظيفة التشريع ووظيفة التنفيذ في يد واحدة، فان التشريع قد يفقد ضمانته الاساسية، الا وهي وضعه قواعد عامة مجردة لتطبق على الحالات المستقبلية. وقد يحدث ان تصدر القوانين لتسري على حالات خاصة، او ان يعدل القانون وقت التنفيذ على الحالات الفردية لاغراض شخصية. ويصدق نفي الشئ على حالات اجتماع وظيفتي التشريع والقضاء في يد واحدة، اذ يستطيع المشرع ان يسن قوانين مغرضة تتفق مع الحل الذي يريد تطبيقه على الحالات الفردية التي تعرض امامه للقضاء فيها، فيحابي من يشاء ويسعف بمن يريد.

3ـ خضوع الادارة للقانون:

خضوع الادارة للقانون او مبدأ سيادة القانون يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية كما سبق البيان، فلا يجوز للادارة ان تتخذ اجراءَ َ، قرارا اداريا او عملا ماديا، الا بمقتضى القانون وتنفيذا للقانون. ومرد ذلك يعود الى امرين: الاول هو انه حتى يتحقق مبدأ خضوع الدولة للقانون يلزم ان تكون الاجراءات الفردية التي تتخذها السلطات العامة فيها منفذة لقواعد عامة مجردة وموضوعة سلفا، وبذلك تسود العدالة والمساواة. والامر الثاني هو ان القانون في الدولة الديمقراطية يصدر عن هيأة منتخبة تمثل الشعب وتمارس السيادة باسمه، وخضوع الادارة للقانون يحقق لتلك الهيأة المنتخبة الهيمنة على تصرفات الادارة. على انه يجب ان لا يفهم من ذلك ضرورة خضوع الجهاز الاداري بوصفه هيأة للجهاز التشريعي، وانما يكفي ان تكون الوظيفة الادارية او التنفيذية تابعة للوظيفة التشريعية. فالخضوع في الواقع هو خضوع وظيفي وليس حتما خضوعا عضويا، ولذلك فنحن نرى ان الجهة الادارية ليست ملزمة بما قد تتلقاه من اوامر من المشرع بشأن تنفيذ القوانين