مقال قانوني مميز حول أهل الخبرة في الفقه و النظام

أ / عبد اللطيف بيك

أولاً : أن المقصود بالخبرة عند الفقهاء في باب القضاء هو الاعتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي , والمقصود من الاستعانة بأهل الخبرة توضيح حالة أو واقعة يراها القاضي غامضة ويتطلب تقديرها وإثباتها معرفة ودراية فنية أو علمية لاتتوفر لديه نظراً إلى طبيعة ثقافته العلمية أو لا يتسع لها وقته .

ثانياً : أن أصناف أهل الخبرة متعددة منها ماهو متقدم ولايزال العمل به جارياً , ومنها ما استجدَّ في وقتنا الحاضر يتجه التطور العلمي والتقني , فيمن نماذج أهل الخبرة الذين يستعان بهم في السابق ولايزال : الخارص , والقائف , والقاسم , والطبيب والبيطري , والمترجم , والمقوم , ومن النماذج المستجدة خبير البصمات , وأخصائي التحليل المخبري , وكذلك المهندس , والمساح , وخبير التزويد وغيرهم .
ويصعب حصر أهل الخبرة ؛ لأن لكل نوع وجنس أهل خبرة فيه , والعلوم والأجهزة التقنية تتطور بسرعة .

ثالثاً : أن الاستعانة بأهل الخبرة في فصل الخصومات وحل النزاعات أمر قديم , وقد أقرته الشريعة الإسلامية فجعلت للقاضي حق الاستعانة بمن يراه مناسباً من أهل الخبرة في محل النزاع للفصل فيه , وتواترت الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال وأفعال الصحابة – رضي الله عنهم –

والمعقول على مشرعية ذلك , وتناول فقهاء الحنابلة – رحمهم الله – الكلام على ذلك والتفصيل فيه في مواضع متعددة ومتفرقة من كتبهم حسب الأبواب المناسبة للكلام عليهم , وقد توافق ذلك ما جاء في الشطر الأول من المادة ( 124 ) من نظام المرافعات الشرعية .

رابعاً : قال فقهاء الحنابلة إن على الإمام أو من ينيبه نصب خبراء في كل بلد يستعين بهم القضاة في المحاكم عند الحاجة إما متفرغين أو غير متفرغين , فإن لم يوجد تمت الاستعانة بمن تراه المحاكم , وقد توافق ذلك مع ما جاء في المادة ( 126 ) والمادة ( 136 ) ولائحتها التنفيذية .

خامساً : اختلف فقهاء الحنابلة – رحمهم الله – في صفة الخبير هل هو شاهد أو حاكم أو مخبر فالأكثرون على أنه كحاكم , وصحح المرداوي أنه كشاهد , وهذه المسالة مهمة نظراً لما يترتب عليها من مسائل كثيرة في هذا الباب , وما ظهر لي رجحانه أنه كحاكم فيما يتعلق بالجانب الفني الذي تمت الاستعانة بخبرته فيه بعد وتوفر الشروط وعدم وجود ما يقتضي الرد , ولايعني ذلك حكمة في القضية بعامة ذلك بل ذلك شأن القاضي لحديث عائشة في قصة مجزز المدلجي مع أسامة بن زيد وأبيه والآثار الواردة عن الصحابة – رضي الله عنهم – في هذا الشأن , وظاهر المادة ( 124 ) من نظام المرافعات الشرعية ولائحتها التنفيذية التوافق مع هذا الترجيح وإن كان غير صريح حيث جاء في بعض مواد النظام ما يفيد الاقتصار على خبير واحد وهو ما يتماشا مع هذا القول .

سادساً : تطرق فقهاء الحنابلة – رحمهم الله – لشروط أهل الخبرة في مواضع متعددة حيث يذكرون شروط كل خبير عند الكلام عليه في موضعه ولكنهم لا يذكرونها جميعاً في كل موضع على بعض الشروط والظاهر أن عملهم هذا إما اكتفاء بما ذكروه في المواضع الأخرى أو لكون الشروط الأخرى معروفة , ومنها ماهو مشترط في جميع ما ذكروه من أهل الخبرة كالتكليف , والعدالة , والعلم والتجربة , ومنها ما اشترطوه في البعض كالذكورة , ومنها ما اختلفوا في اشتراطه كالحرية , وقد توافق مع ذلك ما جاء في الفقرة السادسة من اللائحة التنفيذية للمادة ( 136 ) من نظام المرافقات الشرعية في بعض الشروط لكنها لم تشر إلى شروط الإسلام , والذكورة , والحرية .

سابعاً : يرد رأي الخبير بالأسباب التي يرد بها الحاكم أو الشاهد حسب الخلاف الذي سبقت الإشارة إليه في صفة الخبير , وعلى كلا القولين فإنه يرد بكل ما يكون سبيلاً للتهمة من قرابة أو عداوة أو جلب مصلحة أو دفع مضرة أو نحو ذلك , وقد فصلت في ذلك المادة ( 129 ) ولا تحتها التنفيذية مع المادتين ( 92 ) و ( 8 ) ونصت على ما ذكره الفقهاء وبه حصل التوافق .

ثامناً : أن الصحيح من مذهب الحنابلة إباحة أخذ أهل الأجرة ( المصروفات والأتعاب ) على أعمالهم , فإن كان لهم رزق من بيت المال كالموظفين المتفرغين من أهل الخبرة في وقتنا الحاضــر
كهيئة النظر فإنهم يكتفون بذلك , وإن لم يكن كذلك ولم يكن خصومة وإنما فرز حقوق مشتركة أو نحو ذلك فعلى المُلاَّك على قدر الأملاك , وإن كانت هناك خصومة فعلى من يتبين أنه الظالم والمعتدي , وقد بين الشطر الثاني من المادة ( 124 ) وكذا المادة ( 125 ) والمادة ( 135 ) ما يتعلق بالتكاليف وكيفية صرفها وتقديرها والإجراءات المتبعة في ذلك , وهو متوافق من حيث الجملة مع ماذكره الفقهاء .

تاسعاً : مقتضى قول أكثر الحنابلة في اعتبار الخبير كالحاكم أنه كالحاكم في العزل والإعفاء من عمله ( شطبه من قائمة الخبراء ) والحكم – أي القاضي – ينعزل باختلال شرط أو أكثر من شروط التولية , فيناء عليه ينعزل الخبير ويشطب من القائمة إذا اختل شرط من شروطه التي سبق ذكرها , وما ورد في الفقرة السابعة من المادة ( 136 ) من نظام المرافعات الشرعية يتماشا مع ذلك من حيث المضمون ؛ لكونه يؤدي إلى الإخلال بالواجبات ويؤدي بالتالي إلى النيل من شرف المهنة .
وأما النتائج العامة فمنها أن مجال الاستعانة بأهل الخبرة في مجال القضاء مجال مهم ويحتاج إلى المزيد من الدراسات والبحوث من وجوه متعددة لاسيما مع التطور العلمي والتقني الذي يشهده العالم إلى جانب أن فقهاء الحنابلة لم يطردوا الأحكام والشروط في جميع أهل الخبرة الذين تكلموا عنهم فنجدهم أحياناً يشترطون خبيرين وأحياناً يكتفون بواحد , وأحياناً يشترطون الإسلام وأحياناً يسكتون عن هذا الشرط … وهكذا , والظاهر أن ذلك يعود أحياناً إلى نوع الخبرة , والله أعلم .. يضاف إلى ذلك توافق نظام المرافعات الشرعية مع ماذكره فقهاء الحنابلة في أهل الخبرة في أكثر المسائل , وكثير مما ورد في النظام مذكور في فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة والشؤون الإسلامية فيها في وقته – رحمه الله –