قواعد الإسناد في الدعاوى الشرعية

في الحقيقة أن هناك مساحة كبيرة للتقارب بين القوانين الوضيعة و القوانين الشرعية من حيث المصدر باعتبار أن الشريعة مصدر تشريعيا رئيسيا يضاف لذلك قواعد قعَدها العلماء ألزمت الناس بالالتزام بالقوانين الوضعية -على تفاصيل طويلة لا يناسب التعرض لها هنا – و لكن الإشكال في جزئية مصدر القوة الإلزامية العام المبدئي المجرد للقانون الوضعي مختلف عن مصدر القوة الإلزامية للقانون الشرعي فالأول مصدره القانون و السلطة الحاكمة و القانون الشرعي مصدرها الإيمان بالشرع و التقيُد بأحكام الله ولكن من حيث النتيجة فهناك مساحات كبيرة للتقارب بينهما و من ذلك قواعد الإسناد في القانون الخاص بالأحوال الشخصية .. و مع أننا لا نوافق على تقنين الأحوال الشخصية و لكن في هذا المقام نتكلم عن قواعد الإسناد التي ينبغي على القاضي الرجوع إليها لتحديد أي قانون يطبق على النزاع فقد يكون القانون الواجب التطبيق مقننا مثل قانون الأحوال الشخصية السني و قد يكون غير مقنن كقانون الأحوال الشخصية للشيعة المعتمد على فتاوى كبار المراجع و مشهور الروايات و القواعد الشرعية و المنطقية و الأصولية.. و الحقيقة أن المعمول به حاليا في المحاكم الشرعية من إخضاع العقد لقانون المحكمة التي ابرم في ظلها بغض النظر عن عقيدة المتعاقدين مع ما يثيره ذلك من إشكالات فهو برأينا غير صحيح و يحتاج إلى إعادة نظر لان عقد الزواج هو من حيث القانون(طبقا للفقه الراجح) يعتبر نظام قانوني يفصح الزوجين عن رغبتهما في الانضمام إليه و التقُيد به و الدخول تحت مظلته و من ثم لا يكون للإرادة سلطان في تغييره أو تغيير أجزائه و لا يكاد الشرع يختلف عن القانون في هذا الجانب حيث ينص الشرع على أن عقد الزواج هو ( عقد من طبيعة خاصة) و لذلك فلا يمكن أن يبرم عقد زواج يكون بمقتضاه المهر على الزوجة مثلا ..

نعم يجوز التنازل عن بعض الحقوق الناشئة عن عقد الزوجية كالنفقة بعد استحقاقها أو المبيت متى كان في صيغة العقد بعد لفظ زوجت أو أنكحت – أي في ختام الصيغة (طبقا لأحد الآراء) و ليس قبله لأنه لم يثبت للزوجة حق لكي يثبت لها حق التنازل عنه ،كما يحق التنازل عن بعض تلك الحقوق في عقد لازم لاحق على عقد الزواج و بالجملة فان المهر و الصيغة و بعض الأمور التي تعتبر جوهرية لا يجوز الاتفاق على مخالفتها و لا يصح التهرب منها عن طريق التحايل تجاه القانون بان يجرى العقد عن طريق مأذون تابع لمحكمة مغايرة محلية أو تتبع دولة أخرى( و عليه فمتى ابرم عقد الزواج لدى مأذون يتبع محكمة مغايرة هروبا مما تلزمه به عقيدته يعتبر ذلك غشا تجاه القانون و يجب ان يتم إرجاعه إليه و لا يكافئ على خطئه و معصيته و من الأمثلة للتغاير و الاختلاف الذي وقع فعلا و حصلت بسببه مشاكل الزواج المؤقت و الزواج ببنت أخت الزوجة أو بنت أخيها أو بعمتها أو بخالتها ( مع تفاصيله) فينبغي إحالته لمحكمة الزوجين الأصلية و إن عقدا لدى مأذون يتبع محكمة أخرى لان المأذون مجرد وكيل و لان الزواج يتبع عقيدة الزوجين الحقيقية و لذلك ينبغي إحالته للقانون الأوثق صلة به أي انه طبقا لقواعد الإسناد يجب أن تنظر فيه المحكمة التي يتبعها المأذون و لكن تطبق عليه قانون عقيدة الزوجين .. و لكن تيسيرا على المحاكم و تصحيحا لفعل الزوجين فانا نقترح إحالته للمحكمة الأصلية للزوجين لتنظر فيه لان ذلك اقرب إلى تحقيق العدالة لأنها المحكمة المختصة و لها الخبرة و الدراية الكافية و الآن نأتي للدليل الشرعي على جواز أو وجوب الركون لقواعد الإسناد لتحديد القانون الواجب التطبيق و يعلق بذاكراتي أربعة أدلة تنفع للاستدلال على المطلوب :-

الأول: الحديث الذي اعتبره الفقهاء قاعدة عامة الذي يقول ( ألزموهم ما الزموا به أنفسهم ) و هذا يعني أن تلزم كل شخص بما التزم به على نفسه طبقا لعقيدته (يلاحظ أن لدينا نحن الشيعة أن معنى الحديث يشمل أربعة عشرا معصوما ) .

و الدليل الثاني: هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ( لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم ) و طبعا يتبادر للفهم انه يفصل بينهم طبقا لمعتقداتهم و على ما تقدم فانه الاصح بل الصحيح انه متى ما عرضت قضية شرعية أمام القاضي الشرعي فعليه أن يحكم بين الزوجين الخصمين طبقا لمعتقداتهما فان اختلفا حكم بينهما بحسب الزوج لكون الماسكك بعقدة النكاح و لا مخرج شرعي لتطبيق قانون المحكمة التي ابرم في ظلها عقد النكاح لان عقد النكاح ليس عقداً رضائياً بل هو عقد من طبيعة خاصة له شروط شكلية و هو بحسب التعبير القانوني نظام يوافق الزوجين على الدخول فيه ( يُعرف الزواج قانوناً بأنه نظام قانوني يوافق الزوجان على الالتزام و التقيٌد به و الدخول تحت مظلته )

الدليل الثالث:هو ما اشتهر من الحديث (إن لكل قوم نكاحاً)وهذا الحديث على قصره و وضوحه و بساطته فإننا نستنتج منه الدلالات القطعية التالية:
1-إن المقصود بالقوم هم أهل كل معتقد بغض النظر عن جنسياتهم و عن التقسيمات المذهبية في كل ديانة فيكفي أن يكون هناك معتقد مستقر لدى جماعة لينطبق عليهم الحديث
2-إن الحديث ينطبق حتى على الديانات غير السماوية.
3-إن الحديث يقرر صحة النكاح لكل قوم حسب معتقدهم و يقرر صحة الآثار المترتبة عليه كالتوارث و الحضانة و اتحاد الذمة المالية و عدمها و غير ذلك .
4-إن الحديث يقرر عدم صحة من يعقد نكاحه على خلاف معتقده و ذلك بمفهوم المخالفة.
الدليل الرابع :عمل و فتوى الفقهاء )من المستقر لدى جمهور الفقهاء و المشهور بينهم ان من يحاول الغش و التحايل يعامل بخلاف مقصوده . و نحن نعتقد ان مراجعة قانون الاجراءات امام المحاكم الشرعية بات امرا ضروريا سيما و ان هناك حالات تستعصي على الحل في ظل القانون الحالي كمن يتزوج بزوجتين احدهما في المحاكم الجعفرية و الاخرى في المحاكم السنية فيحدث الخلاف و الشقاق و النزاع حول الفريضة الشرعية عندما يكون مذهبه مبهم كما لو كان يعيش في دولة ليس بها دائرتين سنية و جعفرية و له اخوة بعضهم جعفري و البعض الاخر سني .

الشيخ عبد الهادي خمدن
إعادة نشر بواسطة محاماة نت