قرائن الإرادة الضمنية التي يحتكم إليها المحكم الدولي 2

يمكنك الإطلاع على الجزء الأول من هذا الموضوع المتميز من الرابط التالي

قرائن الإرادة الضمنية التي يحتكم إليها المحكم الدولي 1

ثالثا: قرينة لغة العقد

الأصل أن اختيار لغة ما لتحرير العقد ليس له أية دلالة جوهرية في تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع، فقد يختار الأطراف لغة واسعة الانتشار لتسهيل مفاوضاتهم دون أن يرد في أذهانهم خلق رابطة مع قانون إحدى الدول الناطقة بهذه اللغة، وعليه فإن لغة العقد لا يمكن أن تحمل دلالة في الإسناد إلا بجانب عوامل أخرى مثل جنسية أو موطن أحد الأطراف أو محل التعاقد أو محل التنفيذ، بيد أن اللغة قد تؤخذ كقرينة ذات دلالة للقانون الواجب التطبيق عندما يقع اختيار الأطراف على لغة أقل انتشارا.

رابعا: قرينة اختيار مكان التحكيم

في حالة عدم اختيار الأطراف صراحة للقانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع بل قاموا بتعيين مكان لإجراء التحكيم فيه هنا يفترض أن نية الأطراف قد اتجهت إلى تطبيق قانون دولة مكان التحكيم إلا أن هذه القرينة تظل نسبية فضلا عن التساؤل الذي يمكن أن يثار حول معنى مكان التحكيم أهو المكان الذي تنعقد فيه هيئة التحكيم لأول مرة؟ أم المكان الذي يصدر فيه القرار؟ وقد يختلف المكان في الحالتين بالإضافة لذلك فإن تحديد مقر التحكيم من قبل الأطراف غالبا ما يستند إلى الحيدة ليس أكثر، وقد لا يكون لدولة هذا المقر أدنى صلة بموضوع النزاع[1]، وقد يكون اختيار المكان من المصادفة أو لاعتبارات أخرى قد تكون شخصية تتعلق بالمحكمين، ولكن يمكن أن يكون ذلك قرينة على اتجاه إرادة الأطراف لاختيار قانون هذه الدولة لحكم موضوع منازعتهم. أما اختيار مكان التحكيم لدى إحدى هيئات أو مراكز التحكيم الدائمة، وعلى سبيل المثال غرفة التجارة الدولية في باريس فإنه لا يعني بذاته مؤشرا على اختيار الأطراف لقانون دولة هيئة أو مراكز التحكيم الدائمة بقدر ما يعني رغبة الأطراف في الاستفادة من التسهيلات التي تقدمها هذه المراكز الدائمة ومن قوة القرارات الصادرة فيها من حيث الاعتراف بها على المستوى الدولي، وتجدر الإشارة إلى أن اختيار الأطراف لمراكز أو هيئات التحكيم الدائمة يعني ذلك اتجاه نيتهم إلى إخضاع علاقتهم لعادات وأعراف التجارة الدولية أكثر من رغبتهم في إخضاعها لقانون الدولة التي يوجد بها مركز هيئة التحكيم الدائمة، وعليه فإن مكان التحكيم لا يمكن أن يشكل عنصرا قويا في الإسناد لتحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع المنازعة بل هي قرينة يجب دعمها بقرائن أخرى[2].

خامسا: قرينة اختيار العملة

من المقرر أن اختيار عملة دولة معينة لا يعدو أن يكون مجرد قرينة ثانوية غير كافية بذاتها في تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع، وليس لها إلا دورا احتياطيا مساعدا لما عداها من القرائن، ومن الصعوبة اتخاذها بمفردها ضابطا للإسناد، أو حتى مسيطرا على ما عداه من الضوابط، وقد يكون اختيار العملة الواجب الدفع بها مرجعه الثقة في ثبات سعرها وقابليتها للتحويل والصرف.

سادسا: قرينة الجنسية والموطن

ولا شك أن في القول بالاعتداد بنظام التنازع في الدولة التي يحمل المحكم جنسيتها كونه أكثر إلماما بهذا النظام عن غيره من أنظمة التنازع الأخرى، أو كونه المختار ضمنا من جانب الأطراف من منطلق اختيار الأطراف لهذا المحكم، وكون ذلك دليلا على رغبتهم في تطبيق نظام التنازع في دولته، يعد غير سديد، فقد يكون قد تم اختيار المحكم بواسطة مركز التحكيم الذي جرى التحكيم في ظله أو تم اختياره من الغير وبالتالي فلم يكن مختارا من قبل الأطراف. بل إن التسليم الجدلي بهذا الرأي تعترضه صعوبة عملية أخرى، تتعلق بالجنسية التي يمكن الاعتداد بها في حال تعدد المحكمين وانتمائهم لجنسيات مختلفة أو إقامتهم في دول متعددة. وفضلا عن ذلك فإن الأخذ بهذا الحل قد يؤدي إلى تطبيق قانون قد لا يمت بصلة إلى النزاع المطروح للتحكيم، إذا ما اتفق على جنسية معينة للمحكمين يمكن الاعتداد بها بصدد هذه المسألة. ومن الصعب كذلك الأخذ بنظام التنازع في الدولة التي ينتمي إليها الأطراف بجنسيتهم باعتبار أن الأطراف في التحكيم وفي مجال المعاملات الدولية الخاصة، غالبا من ينتمون إلى جنسيات متعددة[3].

واستنادا إلى ما سبق فالأخذ ببعض القرائن مجتمعة من قرينة محل التنفيذ أو محل الإبرام أو الموطن المشترك، كضابط للإسناد فيه جانب من الصحة فهي تنبه وتشير إلى عنصر جدير بالاهتمام عند تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، غير أنه من الخطأ الاعتماد على ضابط محدد بالذات واتخاذه قاعدة جامدة ومطلقة، والاستناد إليه في كافة المنازعات، وقد ارتأينا من قبل المآخذ والانتقادات التي تعترض كل ضابط فيما لو طبق بمفرده كقاعدة جامدة، وبالتالي فإن أي صيغة جامدة لا يمكن أن تقدم حلا مرضيا وصحيحا للقانون الواجب التطبيق. خاصة في ظل تنوع العقود وتشابك وتعقد العلاقات التجارية الدولية، ومن ثم يتعين النظر إلى كافة الضوابط سالفة الذكر نظرة شمولية ككل ليس لأحدها أهمية تفوق الأخرى إلا بقدر ما يكون هذا الضابط أو ذاك أكثر اتصالا وارتباطا بالعقد محل النزاع، ولن يتم تحديد ذلك إلا إذا نظرنا إلى كل عقد على انفراد وقمنا بتحليله وبحثنا له عن ضابط الإسناد الملائم من بين كل هذه الضوابط حيث يترك لهيئة التحكيم اختيار الضابط الملائم بحسب ظروف كل نزاع على انفراد.

[1] – المرجع السابق، ص 94.
[2] – د. ناريمان عبد القادر، اتفاق التحكيم، مرجع سابق، ص 83، ود. أبو زيد رضوان، الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي، مرجع سابق، ص 148.
[3] – د. حمال محمود الكردي، المرجع السابق، ص 92-93.