صلاحيات الهيئة التحكيمية في المداولة

كريم الرود
متخصص في التقنيات البديلة لحل المنازعات

تعتبر صلاحيات الهيئة التحكيمية في تجهيز الدعوى التحكيمية للفصل فيها بمثابة مكنات قانونية منحها المشرع لها، تمكنها من تعميق البحث في القضية المعروضة عليها و التحقيق فيها و جمع الأدلة عنها حينما يتبين لها عدم كفاية الحجج المقدمة من الطرفين أثناء مرحلة تبادل المذكرات، كخطوة أخيرة من أجل تكوين قناعتها لمباشرة صلاحيتها في حجز القضية للمداولة و إعداد الحكم التحكيمي.

بعد انتهاء مرحلة تبادل المذكرات و المستندات و إجراءات تحقيق الدعوى التحكيمية و اعتبار القضية جاهزة، تحدد هيئة التحكيم تاريخ حجزها للمداولة و كذا التاريخ المقرر لصدور الحكم التحكيمي [1] و مع حجز الدعوى للمداولة يغلق باب المرافعات فتنقطع الصلة بينها و بين الخصوم و لا يكون الاتصال بها إلا بموافقتها أو بطلب منها، حيث تبسط يدها على مصير القضية أثناء المداولة.

بعد حجز القضية للمداولة و انقضاء الأجل لتقديم المذكرات و المستندات و اعتبار باب المرافعة مغلقا تتمتع الهيئة التحكمية بوضع يدها على القضية بانفراد ولا يحق للخصوم إضافة أي طلب جديد أو إثارة أي دفع جديد أو أية ملاحظة أو أية وثيقة إلا بطلب من الهيئة التحكيمية طبقا للفقرة الثانية من الفصل 21-327 من قانون 05-08،و ما يستشف من هذا الفصل[2] أن لهيئة التحكيم السلطة التقديرية الكاملة في هذا الطلب حيث لها إمكانية قبوله أو رفضه[3].

و تظهر لنا أهمية المداولة في التحكيم، في كونها تشكل مدخل أساسي لتكوين حكم التحكيم، حيث تسمح للهيئة بالتشاور في شأن الدعوى التحكيمية من خلال استحضار مجرياتها و مسارها، و يقصد بها أن يتبادل المحكمون الرأي فيما بينهم بالنسبة للوقائع، و القواعد واجبة التطبيق، و القرار الذي ينتهي إليه كل منهم بالنسبة لتطبيق القانون على تلك الوقائع، و النتيجة التي يخلصون إليها حسما للنزاع [4].

و بالرغم من أن المداولة من الإجراءات التي تسبق إصدار الحكم التحكيمي، فلا يعتبر خرقها من الحالات التي قرر لها المشرع المغربي إمكانية سلوك الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي لأن الفصل 36-327 لم يجعلها من بين الحالات المستوجبة لذلك كما فعل ببعض إجراءات إصدار الحكم مثل الفصلين 23-327 في فقرته الثانية و 24-327 فيما يخص أسماء المحكمين و تاريخ الحكم التحكيمي و الفصل 25-327 [5] و مع ذلك يمكن القول أنه إذا اشترط الأطراف في اتفاق التحكيم ضرورة إجراء المداولة فإن الهيئة التحكيمية تكون أمام ضرورة القيام بها .

و في المقابل يحق للهيئة التحكمية إجراء المداولة في أي مكان تراه ملائما ولو كان غير مقر التحكيم و في أي ساعة أو في أي يوم ولو كان يوم عطلة فالأمر يدخل في سلطتها التقديرية حيث لم يحدد المشرع شكلا معينا لكيفية إجراء المداولة و ترك ذلك لاتفاق الأطراف أو لما تراه هيئة التحكيم ملائما، و بالتالي يمكن أن تتم فضلا لما سبق ذكره إما في مجلس واحد أو تداول عبر وسائل الاتصال الحديثة [6].

لكن التساؤل الذي يطرح في هذا الصدد هو هل تكون الهيئة التحكيمية ملزمة بعقد المداولة إذا كان المحكم فردا واحدا ؟

يبدو أن نص الفصل 22-327 ركز على المداولة في حالة تعدد المحكمين فقط حينما جاء فيه :

“يصدر حكم المحكمين بأغلبية الأصوات بعد مداولة الهيئة التحكيمية .. “

و بالتالي تفقد المداولة في المحكم الفرد أحد أركانها هو ركن التصويت و بالتالي لا يستدعي الأمر من المحكم الفرد القيام بالمداولة بمعناها القانوني و إن كان بحاجة للقيام بها من أجل التأمل و التدقيق في إصدار حكمه، و هو ما جعل الفقيه «Mathieur» يقول “و حتى المحكم الوحيد يتداول عن طريق dialogue حوار بداخله مع نفسه”[7].

و ينبغي أن يشترك في المداولة سوى المحكمون الذين قبلوا المهمة و أشرفوا على إجراءات التحكيم و لا ينبغي أن يحضرها الأغيار بل أن المشرع ألزمهم في الفصل 16-327 في فقرته الأخيرة أن تكون سرية و عدم إفشاء ما راج فيها من مناقشات فإذا خالف أحدهم هذه القاعدة فإنه لا يترتب عليه بطلان الحكم التحكيمي بل يمكن أن يكون أمام المسؤولية المدنية و الجنائية [8].

و يمكن لهيئة التحكيم الإشارة إلى صدور الحكم بعد التداول بأية صيغة من الصيغ المختلفة و المتاحة كأن يشار إلى ذلك في الحكم التحكيمي أو بأية وسيلة أخرى، و يجعل هذا المقتضى صحيحا لما تتمتع به أحكام التحكيم من قوة إثباتية لا يمكن هدمها إلا بالطعن فيها بالزور حسب الموقف الراجع فقها و قضاء، و إن كان إثبات حصول المداولة غير الإشارة إلى ذلك في الحكم التحكيمي مستحيلة عمليا نظرا لكون المداولة تكون بطبيعتها سرية[9].

و هذا ما نلمسه في التعريف الذي أعطته محكمة الاستئناف بتونس للمداولة بكونها “المرحلة التي يختلي فيها أعضاء الهيئة التحكيمية لتبادل الآراء في شأن النزاع المعروض عليهم سرا ودون ترك أي أثر كتابي”[10].

و تتجلى أهمية هذا الإثبات في حالة اشتراط الأطراف إجراء المداولة علما أن القانون لا يعتبر تخلفها سببا لبطلان الحكم التحكيمي لكن اتفاق الأطراف عليها و موافقة المحكمين أثناء قبولهم يجعل هذا الاتفاق يقوم مقام القانون طبقا لفلسفة قضاء التحكيم.

و بالتالي يعتبر توقيع جميع أعضاء هيئة التحكيم على الحكم دليلا قاطعا على حصول المداولة و اشتراكهم جميعا فيها [11] كما يعتبر إثبات امتناع المحكم عن التوقيع لمخالفته رأي الأغلبية أو إثبات سبب امتناع أو تقديم المحكم الممتنع عن التوقيع مذكرة برأيه المخالف لإلحاقها بالحكم دليلا على حصول المداولة[12].

و عموما ينبغي أن تجرى المداولة بجميع أعضاء الهيئة التحكيمية و ينبغي أن يخضع مشروع الحكم التحكيمي للتصويت من طرف جميعهم و في حالة التساوي مثلا في الأصوات يرجح صوت الرئيس [13].

[1]طبقا للفصل 21- 327 من قانون 05-08 للتحكيم و الوساطة الاتفاقية.

[2]تنص الفقرة الثانية من الفصل 21- 327 من قانون 05- 08 أنه”لا يجوز، بعد هذا التاريخ، تقديم أي طلب جديد أو إثارة أي دفع جديد . و لا يجوز إبداء أية ملاحظة جديدة و لا الإدلاء بأية وثيقة جديدة ما لم يكن ذلك بطلب من الهيئة التحكيمية”.

[3] و قد قضي بصحة موقف الهيئة التحكيمية التي لم تعتد بالشكاية الجنحية التي قدمت في مواجهة أحد أطراف الدعوى التحكيمية لأنها جاءت بعد انتهاء المناقشات و حجز القضية للمداولة فيها حيث جاء في قرار لمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء ما يلي :

“و حيث بخصوص وجود عوارض جنائية تلزم لجنة التحكيم أن توقف أشغالها عملا بالفصل 313 من قانون المذكور فإن الثابت من وثائق الملف و كما علل المحكم عند جوابه عن هذا الدفع فإن لجنة التحكيم لم تتوصل بكتاب الطاعنة الرامي إلى تطبيق الفصل 313 إلا بتاريخ 26 ماي 2010 أي بعد انتهاء المناقشة و جعل الملف في المداولة، و أن الرسالة التي تمسكت بها في استئنافها و التي توصلت بها لجنة التحكيم بتاريخ 03/05/2010 فهي و إن ذكرت فيها ارتكاب المستأنف عليها لمجموعة من الجرائم في حقها فهي لم تطلب صراحة إيقاف الأشغال لوجود عوارض جنائية، هذا الطلب الذي لم تتقدم به إلا في رسالتها الثانية التي توصلت بها لجنة التحكيم بتاريخ 26/05/2010 و بعد حجز الملف للمداولة، مما يجعل الهيئة المذكورة غير ملزمة بالطلب المذكور فكان ما أثير في هذا الجانب في غير محله و يتعين رده ” قرار محكمة الاستئناف التجارية بالراد البيضاء رقم : 4231/2012 صدر بتاريخ 25/09/2012 رقمه بمحكمة الاستئناف التجارية 3865/2011/4 مشار إليه : عمر أزوكار : ” التحكيم التجاري الداخلي و الدولي بالمغرب – قراءة في التشريع و القضاء -” ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2015، ص 104- 105.

[4]فتحي والي،”قانون التحكيم في النظرية و التطبيق”، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2007، ص 428.

[5] ينص الفصل 22- 327 من قانون 05- 08 أنه “يصدر الحكم التحكيمي بأغلبية الأصوات بعد مداولة الهيئة التحكيمية …” و لعل عدم التنصيص عليها في الفصل 36-327 المحدد لحالات بطلان الحكم التحكمي هو استحالة القيام بها حينما يكون المحكم فردا.

[6]ينص الفصل 10- 327 من قانون 05- 08 أنه ” …و لا يحول ذلك دون أن تجتمع الهيئة التحكيمية في أي مكان تراه مناسبا للقيام بإجراءات التحكيم ..أو إجراء مداولة بين أعضائها أو غير ذلك .. “.

[7]سليم بشير،”الحكم التحكيمي و الرقابة القضائية”، أطروحة مقدمة لنيل دكتوراه العلوم في العلوم القانونية تخصص : القانون الخاص”، جامعة الحاج لخضر، كلية الحقوق قسم العلوم القانونية، باتنة، الجزائر، السنة الجامعية 2011- 2010، ص 125.

[8] المسؤولية المدنية تكون إزاء إخلاله بالتزام عقدي ناتج عن قبوله للمهمة على النحو الذي أشرنا إليه سابقا، أما المسؤولية الجنائية فنص عليها الفصل 326 من قانون 05- 08 الذي جاء فيه “يلزم المحكمون بكتمان السر المهني طبقا لما هو منصوص عليه في القانون الجنائي”.

[9]عمر أزوكار، م . س، ص 88.

[10] قرار عدد 31- 32 صادر بتاريخ 12 جانفي 1999 مشار إليه : نور الدين قارة :”قانون التحكيم (مقدمة عامة – التحكيم الداخلي)”،المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، د. ط.، تونس،2007،ص .181

[11] يشترط لصحة المداولة اشتراك جميع المحكمين فيها طبقا للفصل 22- 327 من قانون 05- 08.

[12] “إذا كان الثابت من الأوراق أن محكم المدعى قد رفض التوقيع على ورقة الجلسة المنطوية على الحكم المطعون فيه، و بالتالي لم يوقع مسودة هذا الحكم فضلا عن أن أسباب الحكم المطعون فيه لم تبين سبب امتناع المحكم المذكور عن التوقيع على الحكم فإن المحكمة تستخلص من ذلك أنه لم يناقش رأيه و لم تجر مداولة على نحو قانوني سليم من كامل أعضاء الهيئة التي أصدرت الحكم و من تم يكون نعي المدعى ببطلان الحكم لهذا السبب في محله”محكمة استئناف القاهرة – دائرة 91 تجاري – 29/6/2003 في الدعوى 47 لسنة 119 ق تحكيم مشار إليه : فتحي والي، قانون التحكيم في النظرية و التطبيق، م. س، ص 430.

[13]تنص الفقرة الثانية من الفصل 16- 327 من قانون 05- 08 أنه : “يؤهل المحكم الرئيس بقوة القانون للبت في القضايا المسطرية المعروضة فور تقديم الطلب ما لم يعارض الأطراف أو المحكمون الآخرون على ذلك”.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت