عدَّ بعضهم ((المستندات الوافدة من وسيط الكتروني ، كشبكة الانترنت يمكن ان تمنح في نظر الاثبات قيمة القرينة القانونية المقبولة ، وذلك قياسا مع ما هو معمول به في القانون الفرنسي الذي اقر صراحة بصحة المستندات المعلوماتية المكونة للدفاتر التجارية للتجار والشركات))(1). ونحن نتفق مع من عارض هذا الرأي ، على الرغم من وجود نص المادة (19) من القانون التجاري العراقي التي اجازت للتاجر الاستعاضة من الصورة التقليدية اي الورقية للدفاتر اليومية المساعدة ورسائله وبرقياته المتعلقة بتجارته ، بالأجهزة التقنية والأساليب الحديثة في تنظيم حساباته وبيان مركزه المالي(2) ، فمن عارض (( اعتبره قياس في غير محله لان النصوص القانونية اوجبت بأن تحدد هذه الدفاتر التجارية وترقم وتؤرخ وذلك بوسائل من شأنها ان تمنح ضمانة ثبوتية كافية ))(3).

ونحن بدورنا نعتقده قياسا” في غير محله ايضا، لأننا نتحدث عن محاولة قبول المعلومات المعالجة الكترونيا التي تفيد اثبات حق وجودا اوانقضاءا وانتقالا، سواء كان هذا الحق مدنيا او تجاريا في حين ان النص يشير الى الدفاتر التي يمسكها من يكتسب وصف التاجر، اي ان الاحتجاج بها – ان صح – فإنما ينحصر في نطاق الاثبات في المواد التجارية ، كما نعتقد ان المشرع لم يكن يقصد منح الدفاتر التجارية الالكترونية ، حجية القرينة القانونية (4)، حيث يتضح جليا عدم الثقة بالوسائل التقنية الحديثة كبدائل عن الوسائل التقليدية في تثبيت المعلومات حينما حصر المشرع نطاق الاستعانة بالأولى – وسائل التقدم العلمي – بالنسبة لدفاتر التجار المساعدة لا الاصلية التي يجب ان تظل محتفظة بصورتها التقليدية الورقية لأنها الاكثر ثقة بنظر المشرع – كما بدا لنا – وعلى اثر ذلك ، ظهر من يوصف الاستعانة بالمحرر الالكتروني هنا بكونها قرينة قضائية. وكما هو معروف ان القرينة القضائية ، هي ما يستنبطه القاضي من امر غير ثابت استنادا الى امر ثابت لديه في الدعوى المنظورة(5)،حيث تستنتج القرائن عن وقائع ثابتة ومعلومة تفيد اثبات وقائع معها وبصورة غير مباشرة عن طريق الاستنباط ،مما يعني تحلل القرينة القضائية الى عنصرين اساسيين احدهما عنصر مادي يتمثل بوجود واقعة ثابتة من وقائع الدعوى المتصلة بالواقعة المتنازع فيها،والثاني عنصر معنوي يقوم على ما يتمتع به القاضي من خواص ذهنية كالفطنة والذكاء التي توفر لديه المكنة على استنباط الدلالة من الواقعة المعلومة لإثبات واقعة غير معلومة (6) لذا فأن اخطر ما يمكن ان يترتب على هذا العنصر من نتائج هو جعل خطأ القاضي امرا واردا في هذا المقام مما حدا بالمشرع الى جعل القرينة القضائية تقبل دائما الاثبات المعاكس بطرق الاثبات كافة ولو بمثلها او اقوى منها(7). على ان اكثر ما يشغلنا ويهمنا هنا ، يتمثل بمدى استيفاء المحرر الالكتروني لمفترضات العنصر المادي ، اذ لابد ان يتسم المحرر الالكتروني بقدر من الجدية والثبات لكي يساهم مساهمة فاعلة في تكوين وتعزيز قناعة القاضي،ولعل قولنا هذا يجعلنا نعود ادراجنا حيث ان الثبات والجدية المنشودين قوامه موثوقية ومصداقية نظام تقنية المعلومات ، اي ان المشكلة مازالت واقعة ضمن اطار الاشكال التقني لا الاشكال القانوني و حلها مرهون بتواجد نظام معلوماتي مثالي -ان صح التعبير – وان هذه الحقيقة دعت الفقه الى طرح التساؤل عن النظام المعلوماتي الذي يحوز على ثقة القضاء ، وتصدت الفقيهة الفرنسية Sedaillan للإجابة عن هذا التساؤل بقولها (( ان النظام المعلوماتي لابد ان يسمح بتوفير الامور التالية :-

الضمانات اللازمة حول حسن ادائه ، بحيث يحمل القضاة على منح ثقة اكبر للتسجيلات المعلوماتية والمستندات المسحوبة من الحاسب الالي ، وبالقياس على دراسات اجريت على قرارات قضائية صدرت في مجال تقدير مدى ثقة القضاة بأجهزة القياس ، فأن القضاة يرتكزون دوما على درجة الموثوقية التي تمنحها اجهزة القياس المستعملة من اجل تقدير قابلية تصديق الديون المطالب بها .

الضمانات اللازمة في حفظ وحماية منهجية لجميع العمليات المعلوماتية الحاصلة .

الضمانات اللازمة لرصد عدد المرات التي تجري فيها معاينة البيانات المسجلة على وسائط الكترونية.

السماح لإجراء يتحدد على وجه الدقة تاريخ ارسال واستلام المستندات المعلوماتية والتأكد من كونها قد استلمت من قبل من ارسل اليه بدون تعديل او مس بسلامتها ))(8)

وإذا ما انتقلنا الى القضاء ، لوجدنا ان القضاء الفرنسي قبل الاثبات بالمحرر الالكتروني ، إلا انه قبول مشوب بتحفظ يظهر من خلال استلزام التحقق والتأكد من مصداقية المحرر الالكتروني ونزاهته من خلال عدم وجود منازعة صادرة من احد الخصوم حول موثوقية المحرر او مصداقيته. ويستشف موقف القبول هذا من خلال ما ذهبت اليه محكمة التمييز الفرنسية في قرار لها بتاريخ 28 / اذار / 1995(9)، في الاخذ بإثبات قدمه احد المشتركين في شبكة الهواتف حول وجود امكانية تقنية تخترق من خلالها الشبكة بموجبها يستعمل خط هاتفه من قبل الغير بشكل غير مشروع وتجرى اتصالات هاتفية ومن ثم تسجل باسم المشترك ، واعتبرت المحكمة ان هذه التقنية تؤلف قرينة على عدم صحة الفواتير الصادرة باسم هذا المشترك ، كذلك الموقف بالنسبة لإثبات السحوبات النقدية او الدفع الالكتروني لقيمة مشتريات او خدمات عن طريق استخدام البطاقة الممغنطة مع الرقم السري للعميل ، فقد اخذت محكمة مونبلييه بالتسجيلات الالكترونية حول حسابات احد الزبائن ، طالما انها ناتجة عن استعمال البطاقة وكلمة السر خاصته معا ، ولم يتم في الوقت نفسه الادلاء بوجود مخالفات في النظام اوالادعاء بضياع الرقم السري المذكور(10)، مبررة موقفها هذا ، بكون الحاسب الالي اجرى التسجيل للمعاملة دون تدخل بشري من جانب المؤسسة المالية ، وهذا التسجيل لم يكن ليتم لولا القيام باجرائين متعاصرين من قبل العميل،اذ ان تمرير البطاقة في جهاز الصراف الالي وإدخال الرقم السري ، يكّون لدى القاضي قرينة على ان حامل البطاقة هو الذي تولى بشخصه القيام بهذه العملية لكنها قرينة بسيطة يجوز اثبات عكسها، من خلال اقامة الدليل على وجود خلل في نظام تسجيل البيانات داخل المؤسسة المصرفية او اقامة الدليل على ضياع البطاقة او سرقتها او اختلاس الرقم السري(11). اما تحفظ القضاء الفرنسي ازاء موثوقية النظام المعلوماتي ،فقد تجلى من خلال ما ذهبت اليه محكمة استئناف باريس حينما رفضت الزام زبون بسحوبات نقدية تمت من خلال جهاز الصراف الالي بمواجهة احد المصارف ، على اثر تبين وجود خلل كان قد طرأ خلال تلك المرحلة على نظام الامن في ذلك الصراف الالي وكان يسمح بسحب اموال نقدية بواسطة البطاقة دون ادخال الرقم السري لحاملها(12).

ونؤيد اعتبار المحرر الالكتروني قرينة قضائية لإثبات تصرف قيمته دون خمسة الالاف دينار عراقي او يساوي هذه القيمة خاصة مع وجود نص المادة (104 ) بين ثنايا تشريع الاثبات العراقي،التي اجازت للقاضي الاستفادة من وسائل التقدم العلمي في استنباط القرائن القضائية(13).وعبر المشرع بهذا النص عن رغبته في منح القاضي دورا” اكثر ايجابية من خلال منحه الفرصة في كسر جمود المفاهيم التقليدية للإثبات والخروج عنها الى مفاهيم حديثة تساعد على استثمار وسائل وأدوات علمية جديدة لم تكن موجودة قد تطغي فيما بعد على الكتابة كدليل اول في الاثبات.

هذا علاوة على نص المادة ( 2) (14) من قانون الاثبات رقم ( 107 ) لسنة 1979 التي تتضمن ما يمكّن القاضي العراقي من الاخذ بالمحرر الالكتروني ،حينما يلزم المشرع القاضي بوجوب تحري الوقائع المباشرة منها و غير المباشر بغية استكمال قناعته،مما يعني فسح المجال امامه للأخذ بالمحرر الالكتروني المطروح امامه ، كدليل اثبات ، وتقدير مدى مراعاة الدليل للشروط التي يتطلبها القانون به ،والتأكد من ان اطرافه قد اتبعوا في انشائه وتوقيعه كل ما هو امن وموثوق،وقد يقوده هذا الى تكوين قناعة تامة به ، ومن ثم الاعتراف له بقيمة ثبوتية قد تكون كاملة وله في سبيل ذلك الاستعانة بالخبراء ان لزم الامر(15).

إلا انه ينبغي ملاحظة مسألة غاية في الاهمية ،حيث اننا نعتقد انه حتى في الاحوال التي يقتنع بها القاضي بموثوقية ومصداقية المعلومات المعالجة الكترونيا ، يمتنع عليه الركون اليها وان قلت قيمة التصرف المراد اثباته عن خمسة الالاف دينار في حالة وجود اتفاق بين طرفي التصرف يجعل الدليل الكتابي الطريق الوحيد لإثبات التصرف ، لأنه يصطدم حينها بقاعدة عدم جواز اثبات ما يجاوز او يخالف دليل كتابي إلا بدليل كتابي اخر وليس مجرد قرينة قضائية (16).

_____________________

[1] – يراجع في القانون الفرنسي :-

Decret du 29 novembre 1983 ( n.83 / 1020 / ،J.O.;ler decebre 1983) pris en application de la loi du 30 arril 1983 relative a la mise en harmonie des abligations comptables des commercants et de certaines societes ( Loi n.83 / 353 ،J.O.، 3mai 1983 ) ;capriole (E-A ) ،prevue et signature dans le commerce electronique، Droit &Patrimoine ،n.55 –Decenbre 1997

نقلا عن د. طوني ميشيال عيسى : التنظيم القانوني لشبكة الانترنت – الطبعة الاولى – صادر للمنشورات الحقوقية / 2001- ص334.

2 -يراجع نصوص المواد ( 19 – 14 – 16 ) من قانون التجارة العراقي رقم ( 30 ) لسنة 1984 .

3 – يجدر الاشارة الى الموقف القانوني لدولة الامارات العربية المتحدة الوارد في المادة (18 ) من قانون المعاملات التجارية بموجبها يستثنى التاجر الذي يستخدم في تنظيم عملياته التجارية الحاسب الالكتروني او غيره من الاجهزة التقنية الحديثة من احكام المواد ( 26 – 27 – 28 – 29 ) من هذا القانون اي ان التاجر اضحى معفيا من واجب مسك الدفاتر التجارية وتعتبر المعلومات المستقاة من هذه الاجهزة او غيرها من الاساليب الحديثة تعتبر بمثابة دفاتر تجارية ، وتوضع ضوابط عامة تنظم عمليات استخدامها بقرار من وزير الاقتصاد والتجارة ومن ثم صدر القرار الوزاري رقم ( 74 ) المتعلق باستخدام الحاسب الالي وغيره من الاجهزة التقنية بدلا من الدفاتر التجارية في شهر تشرين الثاني عام 1994 وفيه حددت ضوابط تخزين وحفظ واسترجاع البيانات المستقاة من الحاسب الالكتروني . وسيم الحجار : الاثبات الالكتروني – منشورات صادر الحقوقية – بيروت – ص56 -هامش رقم (2) .

4- عرفت المادة ( 98 ) من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979 القرينة القانونية على ان (( اولا”:- القرينة القانونية هي استنباط المشرع امرا غير ثابت من امر ثابت ))

5 – عرفت المادة ( 102 ) من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979 القرينة القضائية بانها ((هي استنباط القاضي امرا غير ثابت من امر ثابت لديه في الدعوى )).

6- قيس عبد الستار عثمان- القرائن القضائية ودورها في الاثبات- رسالة ما جستير- جامعة بغداد- 1975 -ص18 وما بعدها .

7- د. احمد نشأت : رسالة الاثبات – الجزء الاول – دار الفكر العربي –القاهرة-1972-ص351 ، د. ادم وهيب النداوي : دور الحاكم المدني في الاثبات – دار الثقافة للنشر والتوزيع – الاردن – 2001 -ص340 وما بعدها .

8-Sedaillan (v.) ، Droit de l’internetCollection AUI، 1997،p.207

نقلا” عن د.طوني ميشال عيسى-مصدر سابق -ص358 .

9-Cass.Civ.lere ،28 /3 /1995 .JCP،ed .G 1995، 2، 22539

نقلا عن وسيم الحجار- مصدر سابق- ص28 – هامش رقم ( 2 )

10-Cour de moutpellier – Arret 9/ 4 / 1987 .GCP.Ed.G 1988 .2 ،N20982

نقلا عن وسيم الحجار-المصدر سابق – ص20 – هامش رقم ( 2 )

11- د. ثروت عبد الحميد : التوقيع الالكتروني – الطبعة الثانية – مكتبة الجلاء الجديدة – المنصورة – 2002 -ص115 .

12- Civ . lere . Site france Telecom c / Berthe . GCP .ed G 1995 . II ،22539.

نقلا عن د. محمد حسين عبد العال : ضوابط الاحتجاج بالمستندات العقدية في القانون الفرنسي – دار النهضة العربية – القاهرة – 1999 ص25 .

13- قضت المادة ( 104 ) من من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979 بأن (( للقاضي ان يستفيد من وسائل التقدم العلمي في استنباط القرائن القضائية ))

14- قضت المادة ( 2 ) من من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979 على (( الزام القاضي بتحري الوقائع لاستكمال قناعته )) .

15- قضت المادة ( 132 ) من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979 بـ (( تتناول الخبرة الامور العلمية والفنية وغيرها من الامور اللازمة للفصل في الدعوى دون المسائل القانونية )) ، كما قضت المادة ( 133 ) من ذات القانون بأنه (( اذا اقتضى موضوع الدعوى الاستعانة برأي الخبراء كلفت المحكمة الطرفين ………..)) وقضت المادة ( 138 ) من القانون اعلاه على ان (( للمحكمة ان تعين خبيرا او اكثر لابداء الراي امامها دون حاجة الى تقديم تقرير ، وفي هذه الحالة يدون راي الخبير في محضر الجلسة ويوقع عليه )) .

16- يراجع نص المادة ( 79 ) من قانون الاثبات العراقي رقم (107 ) لسنة 1979.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .