قراءة في السلوك الإجرامي في المجتمعات الحديثة

تتعدد الجرائم وتتنوع في المجتمعات المعاصرة، وكلما تقدمت الحضارة الإنسانية شوطا إلى الأمام في مسار تقدمت، تطورت معها كثير من الظواهر الاجتماعية، يتفق علماء الاجتماع على تسمية كل ما يمثل اعتداء مهما كان نوعه وحجمه وأداته جريمة، وهي ظاهرة لا تتوقف على مجتمع دون آخر، كما أن اتساع نطاقها والتفنن بأساليبها أصبح يطرح كثيرا من الأسئلة الحارقة، منها ما هي دوافع الجريمة؟ وما مجالاتها، وتداعياتها، وهل من حلول لمواجهتها والحد من اتساعها؟، ولكن قبل ذلك ما مفهومها في نظر العرف والثقافة والقانون؟.
كثيرا ما يتم الربط بين مفهوم الجريمة و مفهوم المرض على أساس أن السلوك الإجرامي سلوك مريض وليس سلوكا صحيا أو سويا، وهذا الربط أدى إلى نتائج غير دقيقة في تفسير الجريمة ووضع سياسة للوقاية والجزاء بل أنه يؤدي ويشجع المجتمع على البحث عن ميكروب الجريمة هذه، مثلها مثل ما يبحث الطبيب عن ميكروب المرض وهو أبعد الأشياء عن الحقيقة إذ ليس هناك ميكروب مسؤول عن المجرم والجريمة فالمجرم في النهاية هو صناعة المجتمع الذي يعيش فيه، ويترتب على ذلك أنه ليس هناك مصل معين للوقاية من الجريمة فلا هو ميكروب ولا هو سبب وحيد آخر مسؤول عن الجريمة.

ويجتهد علماء الاجتماع والقانون في تفسير الجريمة فنجد أن كل الآراء التي اتجهت إلى محاولة تفسير الجريمة و إرجاعها إلى سبب واحد مثل الجهل أو الفقر أو الاضطرابات النفسية أو سوء الحالة الأسرية أو القدوة السيئة أو الإعلام السيء..الخ جميعها قد باءت بالفشل والاعتقاد العام بين الباحثين الآن أن ظاهرة الجريمة مرتبطة بجذور متعددة تتفاعل في بيئة معينة وظروف معينة لا يمكن حصرها، يتولد عنها السلوك الإجرامي في النهاية.

ومن ناحية أخرى فإن وصف الجريمة بانفلونزا البشر هو وصف صادق على انتشار الجريمة فنجد في الواقع أن وباء الجريمة قد انتشر انتشاراً ذريعاً في العصر الحديث وتلونت ملامحه أكثر من أي وقت مضى وتضاعف عدد المجني عليهم حتى أصبحوا يزيدون أضعافا عن ضحايا أي وباء، وهو ما يعرض المجتمع كله كيانه وسعادته ومصيره للخطر والتدهور.

وفي ضوء هذه المواقف فإن مفهوم الجريمة مفهوم عريض جدا ومتعدد وإن كان أول ما نسمع كلمة الجريمة نميل إلى التفكير بالجرائم التقليدية الضحايا التقليدية مثل ضحايا السرقات والقتل والاغتصاب وغيرها من الجرائم التي أطلق عليها بعض العلماء الجرائم الطبيعية أي التي توجد في كل مجتمع وفي كل زمان.

ورغم الدور الإيجابي الذي لعبه التطور العلمي والتقني في حياة المجتمعات المعاصرة سواء بزيادة مستوى الدخل أو بتغيير مستوى الوعي إلا أن هذا التطور كانت له آثار سلبية كذلك أدت بدورها إلى تنامي الظواهر السلبية واتساع نطاق الجرائم والاعتداءات، فخلال الخمسين سنة الماضية حدث تحسن في الصحة والدخل وظروف العمل إلا أن تراجعا حدث على أصعدة أخرى كالعلاقات الأسرية والروابط الإجتماعية والأمن الإجتماعي ودرجة الأنانية، ورغم أن التطور الحضاري قد حقق مكاسب كبيرة إلا أنه لم يفلح في المقابل في منع تولد مظاهر سلبية تعكر رفاه الانسان، كما أصبحت الكثير من المنتجات التقنية، لا سيما في نطاق الاعلام والاتصالات، كما أن ثقافة المجتمع الصناعي وما يتطلبه من خروج المرأة إلى سوق العمل بنسب تفوق أحيانا نسبة الذكور وماصاحبه من تفكك للأسر وإهمال للإطفال، إضافة إلى انتشار البطالة والفقر، وتزايد الخلل بين الطبقات الاجتماعية، كلها تتضافر لتكون من أهم أسباب انتشار الجريمة والمساعدة عليها.

وتشير الدراسات إلى أن التفكك الأسري يأتي في مقدمة الأسباب الدافعة إلى الجريمة، وخلال السنوات الأخيرة حدثت طفرة في معدلات الطلاق بنسب مفزعة، ما أدى إلى تزايد عدد الأبناء الذين يولدون خارج الأسرة، وهؤلاء الأطفال هم مشاريع مجرمين فالفتيان ستسوقهم الظروف التي خلقتهم إلى عالم القتل والسرقات والاغتصاب، في حين تساق أغلب الفتيات إلى عالم الدعارة، أويكن بضاعة بخسة الثمن لدى شبكات الاتجار بالبشر.

ويشهد الوطن العربي بمختلف دوله تزايدا ملحوظا في معدلات الجريمة، ولايكاد يمر أسبوع واحد دون أن نسمع عن جريمة من العيار الثقيل لا سيما بشأن العنف الأسري.

ومن الملاحظ أن هذه الجريمة التي تستهدف الأطفال أصبحت ظاهرة عربية في السنوات الأخيرة، وتشير إحصائية للمركز القومي للبحوث الاجتماعية ‏والجنائية بمصر إلى أن 87‏% من مرتكبي جرائم العنف الأسري ضد الأطفال والنساء هم من المتزوجين، في مقابل 13% من ‏غير المتزوجين، وأن الذكور يشكلون أغلبية مرتكبي جرائم العنف الأسري ‏‏بنسبة 78%، بينما الإناث 22%.

وفي بريطانيا وفقًا لتقرير وزارة داخليتها، يتم قتل 4 أطفال أسبوعيًّا بأيدي أولياء أمورهم، ويموت 200 طفل سنويًّا بسبب جرائم الآباء ضدهم، ويتم ذبح طفل كل أسبوعين بمعرفة أقربائه أو معارفه.

وفي الولايات المتحدة يتعرض ما بين مليونين إلى 4 ملايين طفل للاعتداء، ويُقتل آلاف الأطفال بأيدي آبائهم وأمهاتهم، ويُبعد عشرات الآلاف من الأطفال عن أسرهم إلى دور الرعاية سنويًّا.
وتحتل مصر باعتبارها أكبر الأقطار العربية سكانا، مشاكل اجتماعية أيضا صدارة معدلات الجريمة، ورغم الحديث عن تراجعها، إلا أنه في العام 2004 تم تسجيل 15 مليونا و896 و594 قضية تداولتها المحاكم المصرية.

ويرصد خبراء القانون وعلماء النفس والاجتماع أسبابا عديدة في محاولاتهم تفسير ذلك الارتفاع المطرد في معدلات الجريمة، منها الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتزايد وطأتها يوماً بعد يوم دافعة “أناساً عاديين”، لطريق الجريمة التي قد يرتكبها أحدهم – حتي – ضد نفسه.

ورصد تقرير الإحصاء القضائي الأحدث – والخاص بعام 2004، 15 مليوناً و900 ألف قضية تقريباً، وبمقارنته بتقرير 1996 سنجد أن نسبة الفصل في القضايا تراجعت إلى 80،87% في الأول،بينما كانت عام 96 تبلغ 83،4%، وبينما كانت القضايا المدنية عام 96 مليوناً و793 ألفاً، والجنائية 11 مليوناً و587 ألفاً و581 قضية، والأحوال الشخصية مليوناً و179 ألفاً و501 قضية، بلغ عدد القضايا المدنية عام 2004 مليوناً و842 ألفاً و876 قضية وارتفع عدد القضايا الجنائية إلى 12 مليوناً و543 ألفاً و113 قضية، والأحوال الشخصية مليوناً و510 آلاف و605 قضية.

وكانت دراسة حديثة أجرتها أستاذة القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فادية أبو شهبة حول الموضوع، خلُصت فيها إلى أن مصر تأتي في المرتبة الأولى بين الدول العربية من ناحية ارتفاع معدلات الجرائم الجنسية.
وتحدثت صاحبة الدراسة عن “تزايد ملحوظ في عمليات اغتصاب الإناث في مصر خلال الفترة الأخيرة”، مضيفة إن “هناك فئات مهنية لم تكن موجودة من قبل في قائمة الجناة، وعلى رأسهم أطباء ورجال دين ومدرسون ورجال شرطة وهو ما ينذر بكارثة ويهدد سلامة وأمن المجتمع”.

وحذرت أبو شهية في الوقت ذاته من خطورة انتشار ظاهرة اغتصاب المحارم والأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة والاغتصاب الجماعي والاغتصاب المقترن بقتل الضحية، مطالبة بتغليظ الرادع القانوني وسرعة إجراءات التقاضي في جرائم الآداب حتى تتم معالجة هذا الخلل.

وفي المملكة العربية السعودية تبلغ معدلات الجريمة سنويا نحو 90 ألف جريمة جنائية بمعدل جريمة واحدة لكل 252 شخصاًً، وتتصدر حالة السرقة الجرائم الجنائية في السعودية بواقع 43489 حالة وتحاول السلطات السعودية جاهدة تفاديها وتقليل هذه الجريمة باستيراد أكثر من 1.1 ألف طن من أجهزة التنبيه والإنذار ضد السرقة بقيمة تجاوزت 121 مليون ريال”سعودي”.

أما في الإمارات فيصل معدل الجريمة إلى 19 جريمة لكل 10 آلاف نسمة من السكان وبواقع جريمة واحدة تقريباً لكل 526 نسمة، وفي البحرين التي يقدر سكانها بنحو 700 ألف نسمة بلغ عدد الجرائم 23438 جريمة في عام 2006 وبواقع جريمة واحدة لكل 29.86 نسمة من السكان.

وفي المغرب تشيرة إحصائيات إلى تصاعد وتيرة الجريمة، وخلال الأشهر التسعة الأولى من 2007 تم تسجيل نحو 240.000 شكاية في المدن في الثلاثة أرباع الأولى من 2007 حيث تمت متابعة 90% منها. وتتعلق هذه الحالات بمخالفات ضد الآداب العامة والأسرية “62.023 حالة” وتخريب الممتلكات “58.771″ والضرب والجرح “42.335″ والمخالفات المالية والاقتصادية “33.672 حالة” والاتجار في المخدرات “15.672 حالة” والهجرة السرية “5.179 حالة”.

وتعتبرالجريمة ذات تكاليف كبيرة في أي مجتمع من المجتمعات ومنها مجتمعنا العربي وهذه التكاليف باهظة ليس فقط من الجوانب المادية المتصلة بها والمرتبطة بنفقات بناء المؤسسات العقابية واقامة النزلاء بها بل كذلك من حيث النفقات التي تتطلبها اجهزة العدالة الجنائية بأنواعها المختلفة.

ولم تستطع مشاريع القوانين التي تسنها الدول سواء بشكل فردي أو جماعي في الحد من تنامي نسبة الجرائم داخل المجتمعات، وبينما تركز الحكومات على الجوانب الردعية لمكافحة الجريمة في المجتمع من خلال تبني التشريعات الجزائية لتحقق الغرض، لكن علماء الاجتماع يؤكدون أن الإجراءات الردعية ومهما بلغت قسوتها لن تحقق أي هدف بخصوص التقليل من نسبة الجرائم، ويستشهدون في ذلك بدول مثل العربية السعودية والصين وايران التي تسجل سنويا أرقاما قياسية في أحكام الإعدام، دون أن تفلح في الحد من ارتفاع نسبة الجرائم.

ويوصي المهتمون باتباع منهج معين لتحقيق أكبر قدر من الأهداف، ويؤكدون أنه حتى نستطيع رسم خطة وقائية لمكافحة الإجرام في المجتمع فلابد من تحديد أسبابه ومعرفة حجمه وطبيعته وأماكن حصوله وهذا ما يقتضي وجود مراكز الأبحاث والدراسات الجنائية التي تعمل على تفصيل هذه الوقائع بصورة علمية ومستمرة لمراقبة مدى جدوى الأساليب المتبعة في هذا الحقل.

ووفق هذا التوجه تقوم هذه المراكز بوضع الدراسات التحليلية للجريمة في المجتمع وما يتعلق بها من رواسب الماضي ومداواة الواقع منها وبذل الجهود لمنع ظهورها في المستقبل أي بمعنى استنادها على المقارنة والظروف الواقعية والتخطيط وهذا ما يتطلب وجود جهاز بشري متخصص للقيام بهذه المهمة قد يتألف من خبراء بعلم الإجرام وعلماء نفس وباحثين اجتماعيين ومتخصصين بعلم القانون وقد يضم أطباء نفسيين وغيرهم من المؤهلين علمياً يقوم هذا الجهاز المتخصص بعمليات التحليل والموازنة والدراسة العلمية لظروف الجريمة وأسبابها ودوافعها وطرق ارتكابها مع مراعاة زمان ومكان حصولها وتقصي المعلومات والأدلة التي تفيد في استدراك قيام جرائم مستقبلاً ودراسة الحياة الاجتماعية للمجرم والظروف التي دفعته لارتكاب الجريمة ويقوم هذا الجهاز بإجراء الاتصالات اللازمة مع الأجهزة المعينة الأخرى لتوفير ما هو ضروري من إحصاءات تتعلق بظاهرة الجريمة من جميع جوانبها، ويجب أن تكون هذه المراكز على صلة ثابتة مع أجهزة العدالة الجزائية ومع المراكز التابعة للمنظمات والهيئات الدولية كجامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة لرسم سياسة وقائية شاملة لمنع وقوع الجرائم.

لكن الحديث شيء، والواقع شيء آخر، فعند البحث عن أسباب الجريمة بمعنى كل ما يمثل اعتداء على الأشخاص أو المؤسسات أو الرموز، فنجدها أكثر من أن تحصى، وإن كان التركيز يتم في الغالب على الجرائم المتعلقة بين الأفراد، إلا أن هناك جرائم مستجدة أكثر خطورة كالجرائم الالكترونية التي تلحق أفدح الأضرار بالأفراد والمؤسسات، ولم تفلح المساعي الجارية على مستوى الدول والمنظمات في الحد منها أو وضع سياسة ناجعة لمواجهتها.

إن مفهوم الجريمة ومجالها مطاط وغير محدود، حتى أنه يمكن الجزم بأن أي مجال تطوله يد الانسان تطوله الجريمة أيضا، لتبقى داء سرطانيا ينخر جسد المجتمع، وهي ليست وليدة المزاج، فهذه يمكن التعامل معها أو على الأقل الحد منها فهي على الغالب لا تتعدى قتل نفس أو سرقة أو اغتصاب، ولكن ماذا عن الجريمة المنظمة العابرة للحدود والإرهاب وغسل الأموال وتهريب المخدرات والآثار والاتجار بالبشر سواء بتنظيم شبكات الدعارة وشبكات تهريب الأطفال والأعضاء البشرية، ربما هذه هي الجرائم الأخطر على المجتمعات قاطبة، وفضلا عن فداحتها في إلحاق الضرر، فإن مكافحتها لا تبدو سهلة، إذا علمنا أن بعض أبطالها أجهزة أمنية وحتى دول بذاتها، مثلما تكشف عن ذلك كثير من التحقيقات الجنائية الدولية.

ثم هناك جرائم الحرب وجرائم الإبادة البشرية، والاعتداء على الأوطان والشعوب، وهذه هي أم الجرائم، فهل تمكن مكافحتها، وبأي طريقة؟.

وعبر التاريخ بقي الانسان مطاردا من الجريمة كظاهرة اجتماعية بدأت منذ العهد الأول لحياة الانسان على الأرض، وعندما نستحضر أمثولة مقتل هابيل على يد أخيه قابيل، أبناء سيدنا آدم، ربما نقول أن الجريمة باقية ما بقيت المجتمعات البشرية، فهي قرينة من قرائن وجود الانسان، ورغم أنها شيء في غاية السوء، إلا أنها ستبقى شرا لا بد منه، وقضاء مسلطا على الوجود