مختارات من ادب القانون في الآلام والتضحيات التي تطبع حياة القاضي/

جمع وتحقيق القاضي ادريس حسن خلف

عامل افلاطون في كتابه ( الجمهورية) القضاة والاطباء على السواء باستخفاف وبغير مبالاة بحسبان ان مجرد الحاجة الى وجودهما دلالة على اعتلال المجتمع وافراده جسمانياً او نفسياً.

وهذه الصفة السيكولوجية الوثيقة بين المهنتين لا تقل وضوحاً اليوم عما كانت عليه من قديم العصور فهما – بصفة خاصة- يشتركان في وحدة الشعور بالرحمة والاسى بحكم اتصالهما اليومي المستمر بأمراض الناس وعللهما سواء كانت بدنية ام نفسية فالطبيب والقاضي يعيشان معاً في جو يحيطهما بالمشوهين والمعتلين والشواذ والقضاة يستنشقون طوال حياتهم هواءاً فاسداً مشبعاً برائحة المناطق الموبوءة في المجتمع يستنشقونها اثناء عملهم المتواصل في تلك المستشفيات الكئيبة اللون التي يعالج فيها المجتمع الفساد البشري تلك المستشفيات نسميها قاعات المحاكم .

عرف كيمياوياً بمقتضى عمله ان يقطر العقارات السامة في معمله , وكثيراً ما يستيقظ في هدأة الليل فزعاً من هول ما يفعل واشفاقاً من المساهمة في انتاج عنصر سام يكفي ملليجرام واحد منه لقتل رجل فكيف يستطيع القاضي اذاً ان ينام الليل في سكينة وسلام وهو العالم بأنه الحارس على ذلك السم الفعال الذي يدعوه المجتمع العدالة . وان قطرة واحدة من هذا السم اذا اسيء استعمالها او اذا ضلت طريقها كافية لا لإزهاق حياة إنسانية بل تسميم الحياة البشرية واعطائها مذاقاً مراً هداماً لا يستطيع المجتمع من حلق المظلوم مهما بذل من آيات العطف والرحمة كيف يستطيع القاضي ان يهجع مطمئناً وهو يعلم ان خطيئة العدالة لا تنصب على المتهم فحسب بل تزلزل حياة الكثيرين من الابرياء الذين يعولهم وتودي بايمانهم بعدالة المجتمع الذي يعيشون فيه .

ان القاضي الصالح يبذل قصارى جهده في دراسة قضاياه بصرف النظر عن اهميتها او خطورتها اذ هو يؤمن بعدم وجود قضية مهمة واخرى غير مهمة فمثل هذا التفريق لا يتفق وجلالة القضاء ذلك لان فقدان العدالة لايشبه في هذا المعنى السم الفتاك الذي قد يصلح قليله المعدة ويفتك كثيره بالحياة . لا ففقدان العدالة خطير خطر السم الناقع ولو كان ذلك في اضيق حد وبأصغر قدر وكما ان هواية الطبقات الوسطى عادة هي قراءة القصص البوليسية المثيرة لما في ذلك من اثارة لمشاعرهم وخيالهم ولما في ذلك ايضاً من الخروج به من اجواء حياتهم الرتيبة وما فيها من ملل لنفس السبب يلتمس القضاة ذلك في الكتب التي يقرأون فالقاضي يشبع هوايته بمشاهدة قصص العشق والغرام ويرتاح اذا دارت القصة حول اخوين يقتسمان ميراثهما بالاتفاق الودي او حول تجار لا يشهرون افلاسهم او ملاك زراعيين متحابين يتقابلون في ود وصفاء ليعبروا عن سعادتهم بما اتاحتها لهم الفرص من حسن الجوار .

والقاضي محروم من ابسط انواع المتعة التي يسعد بها غيره ونستطيع ان نقول ان قانون المرافعات العراقي قد وردت فيه نصوص بهذا الجانب فالقاضي لا يستطيع ان يؤاكل احد ولا يستطيع ان يتناول الوجبات الغذائية في الخارج بصحبة صديق يتبادل الحديث معه وما الى ذلك من ترويح عن النفس ذلك لان تقاليد القضاء تحرم على القاضي ان يؤاكل بانتظام احداً من الناس لاحتمال ظهوره امامه في المحكمة يوماً كخصم في دعوى فهذه التقاليد تفرض في القاضي المثالي ان يجالس نفسه وان يتناول طعامه وحيداً في عزلة عن الناس وقد اشارت لذلك مباديء بانجالور للسلوك القضائي لعام 2002 والتي تبنتها المجموعة القضائية لتدعيم الامانة القضائية فقد اوجبت تلك المباديء ان يتجنب القاضي قلة الاحتشام ومظاهر عدم الاحتشام وبالنظر لكونه يتعرض دائماً للفحص والتدقيق من عامة الناس فيجب ان يقبل القيود الشخصية التي قد تبدو كعبء على المواطن العادي ويجب على القاضي ان يعمل ذلك بحرية وارادة وعلى وجه الخصوص يجب على القاضي ان يسلك طريقة تتماشى مع كرامة المهنة القضائية ونحن نرى بجانب تلك القيود التي نراها ضرورية لمكانة القضاء العراقي ان توفر له ولعائلته الخدمات الضرورية من سفرات ونواد تضم المجتمع القضائي للترويح وتجديد النشاط .

ويكون الامر اشد من ذلك قسوة بالنسبة للشبان من القضاة فعلى من يمني نفسه بالانتظام في سلك القضاء ان يفكر جيداً قبل ان يتخذ هذا القرار بأنه سيكون في مستهل خدمته شاباً عزباً وسيكون عمله بمحكمة في جهة قصية من جهات الارياف وانه قد لا يكون في مقر عمله الجديد إلا مطعم واحد يمكنه ان يتردد عليه وانه على الدوام سيشغل مائدة منفردة منعزلة في ركن قصي بعيد عن رواد المطعم وهم جميعاً مراجعوه في المحكمة ان لم يكن اليوم فغداً وليذكر ان رفيقه الوحيد على مائدة الطعام سيكون شيئاً لا يتغير ولا يتبدل واسم هذا الشيء هو استقلال القضاء .

وكما يروى في بعض مدن هولندا يعيش المشتغلون بصناعة الالماس في دكاكين صغيرة محجوبة عن الانظار يقضون يومهم في قطع هذه الاحجار الكريمة النادرة وصقلها ووزنها وهم يعملون ذلك في صبر ورضاء دون ان يفكروا بان قطعة صغيرة من نتاج ايديهم تكفل لهم السعادة والرغد مدى الحياة وعندما ياتي المساء يجمعون الذخائر التي صاغتها ايديهم ويقدمونها الى اصحاب العمل الذين يتلقونها في شوق ولهفة والصناع اذ يفعلون ذلك لا يبدو على وجوههم اثر الانفعال او الاكتراث وفي الوقت نفسه وعلى نفس الموائد التي جلسوا يقطعوا الالماس عليها بغير حسد ولا ضغينة يجلسون لتناول طعام الغداء فيمدون نفس الايدي التي نحتوا بها الالماس الثمين ليقطعوا بها الخبز الرخيص الجاف الذي يقيم اود فقرهم المدقع الشريف وعلى هذا النحو يعيش القضاة . ولا اعرف وظيفة تتطلب من شاغلها تشبعاً بالشعور بالعزة والكرامة كوظيفة القاضي فهذا الشعور يقضي عليه ان يلتمس في ضميره لا في اوامر الاخرين ولا رغباتهم يلتمس المسوغات لتصرفاته واحكامه وان يتحمل الى اقصى حد مسؤولية ذلك جهاراً نهاراً , ان استقلال القضاء مبدا يفرض على القاضي عند اصدار حكمه ان يتخلى تماماً من أي علامة او نتيجة تربطه بأحد من الناس كائناً من كان , وهذا الاستقلال امتياز ولكنه امتياز شاق يتطلب من صاحبه الشجاعة الخارقة التي تمكنه من الوقوف بغير خفاء ودون ان يتطبع التواري خلف كائن من كان بزعم امتلاكه للسلطة العليا او مسؤوليته في التوجه او التقدير ولعل فكرة الالتجاء الى نظام تعدد القضاة بدلاً من نظام القاضي الواحد المقصود بها اساساً توفير ضمانات اكثر للمتقاضين بل ادخال الاطمئنان على نفوس القضاة بايجاد رفقاء لهم يتشاورون معهم تخفف عن القاضي عبء شعوره بالمسؤولية حيث يستقل بالفصل في مصائر الناس وكثيراً ما تحتدم المناقشة بين انصار نظام تعدد القضاة ونظام القاضي الواحد فيدلي كل فريق بما عنده من حجج ولقد سمعت في واحدة من هذه المناقشات احد دعاة النظام الاول يدلي بهذا الراي الحكيم : (( اني اسلم بان القضاة يفضلون عادة نظام القاضي الواحد لما فيه من استجابة لزهوهم وكبريائهم ولما يوفر من وقتهم الذي يضيع سدى في غرفة المداولة عندما يتشاور القضاة في الحكم اني اسلم للقضاة بأن يفضلوا هذا النظام ولكني لا استطيع ان اقر للمحامين بتفضيله وهم العليمون بالمخاطر التي يتعرضون لها في نظام القاضي الواحد عندما يحدث ان يسارع القاضي بتكوين عقيدته من البداية فلا يكون هناك سبيل الى تزعزع هذه الفكرة مهما كان خطؤها وذلك لانعدام الرقابة التي يتضمنها نظام تعدد القضاة بما يهيأه من المناقشات الرقابية قبل صدور الحكم ومع وجاهة هذه الحجة فاني ارى عكس هذا الرأي هو الصحيح ذلك لانني اعتقد ان المحامين يفضلون القاضي الواحد على اساس ان الحق اذا كان الى جانب موكلهم فأن اقناع شخص واحد اسهل من اقناع ثلاثة اشخاص , ومن ناحية اخرى فأنني لا اظن ان القضاة يفضلون نظام القاضي الواحد ان لم يكن لشيء اخر فعلى الاقل لما يتيحه لهم تعدد القضاة من اشراك زملائهم في عبء الحكم وتبعة النطق بكلمة العدالة .

ما احرى القضاة ان يبتهجوا بانظمتهم القضائية اذا كان طابعها التريث والاناة في الفصل النهائي في الدعوى بإفساح مجال الطعن في الاحكام فالنظام القضائي الايطالي مثلاً يتهم ببطئه وتعقيده فهل كان المقصود بذلك ان يمكن القضاء من دقة تمحيص الرأي ؟ او كان المقصود ادخال الطمأنينة والسكينة على ضمائر القضاة ؟ ان خشية الخطأ قد تورد القاضي موارد التهلكة وهو اذا نطق بالحكم ثم خيل اليه بعد ذلك ان حكمه ينكب طريق العدالة فأن شعوره بالاثم عندئذ خليق بأن يحول بينه وبين النوم من فرط تأنيب الضمير ولكنه اذا ادرك ان حكمه قابل للاستئناف والطعن فيه فأن ذلك الشعور يدخل الطمأنينة الى نفسه لما في هذا الادراك من العزاء بأن خطاه على العلاج وهذا الاحساس هو الذي يخفف من تكبت الضمير ويمكنه في الليل من الاستسلام للنوم الهاديء المريح , عندما التقي بقاض اعتزل المنصب للانخراط في سلم المحاماة واشاهده حاملاً حقيبته متنقلاً بين قاعات الجلسات فانني اشعر بحرج غامض وعميق صحيح ان القاضي والمحامي يقفان على قدم من المساواة من ناحية مركزهما الاجتماعي والادبي وصحيح ان المتهمين الى أي الطائفتين لا يهبطون ولا يصعدون التشريف والتوقير بالانتقال من سلك الى اخر ومع ذلك فثمة فارق نفساني لا يسهل وصفه فهذا رجل اعتدنا ان نراه حتى الامس القريب جالساً على منصة القضاء تحيطه هالة من الترفع والتوقير يجلس هادئاً ساكناً على اهبة الاستعداد لتحذيرنا اذا خيل اليه اننا حدنا عن الصراط السوي او لجانا الى المهاترة والثرثرة فاذا فعل ذلك لم تثر نفوسنا لإقرارنا له بالعقلية والتفوق كيف لا وقد قضى سني عمره يمارس الفصل في امور الناس في حيدة وموضوعية وتجرد هذا القاضي الذي كان شعورنا نحوه بالامس ما بيننا أفلا يؤلمنا ان نراه اليوم بيننا واحد منا يندفع كما نندفع ويعنف كما نعنف ويناضل كما نناضل ؟ وما عسى ان يكون شعورنا اذ نستمع الى صوته العجوز القحور يرتفع الى طبقات عالية منضرة من الصراخ والهياج مصطنعاً في حديثه اساليب المحامين ولغتهم لتقديم دفاع موكله في قالب بليغ اثير . ان المأساة الحقيقية في حياة القاضي ليست بما يصوره بها الروائي وكتاب القصص من اظطرام الصراع بين واجباته العامة واهوائه ونوازعه الخاصة فخيال الاديب وحده هو الذي يصور مأساة القضاة في قصة يطلب الى مدعي الاتهام فيها تحقيق قضية يتضح ان ابنه هو المجرم فيها .

او في قصة اخرى ينظر القاضي في جريمة فيتبين انه نفسه من ارتكب القتل فيها وهو نائم .ان مأساة القاضي الحقيقية قد تكون اقل استثارة من ذلك ولكنها تطوي نفسه على اسى دائم – مقعد مقيم- هذه المأساة هي الوحدة المستمرة التي تحبس روحه وتخمد حيويته فهو كقاض مفروض عليه ان يتحرر تماماً من كل القيود والاغلال الانسانية وفي هذا المستوى قلما يجد الصداقة المخلصة التي ترويه بل انه اذا مال احد له بهذه الصداقة العذبة وهي تدنو منه اجفل وتوجس خيفة من ان تكون وليدة الرغبة في التماس خدمه .

مأساة القاضي هي ما يفرضه عمله عليه الدائم في اوجاع البشرية ومظاهر الضعف الانساني التي تسود العالم فليس له نصيب من صحبة الوجوه السعيدة التي تضيء بهجة وسكينة وجوه اولئك الذين يعيشون في سلام مع العالم ان القاضي الذي يعتاد اصدار الاحكام يشبه القس الذي يعتاد الوعظ اذ يصبح الحكم والوعظ طبيعة ثابتة تتلاشى معها رهبة الرسالة وعظمتها سعيد حقاً وصدقاً قس القرية الذي يستطيع ان يسير الى محراب الكنيسة مستشعراً في ذات نفسه ذلك الخشوع المقدس الذي كان يملأ نفسه رهبة عندما بدأ عمله لاول مرة , وسعيد ايضاً ذلك القاضي الذي يظل حتي يحين اعتزاله المنصب ممتليء النفس بذلك الجلال الالهي المقدس الذي ارتجفت من هوله اوصاله عندما نطق بحكمه الاول منذ خمسين سنة خلت .

قدر قاض عجوز على سريره وهو يعالج سكرات الموت هاديء صابر وراح يصلي ويدعو ربه بهذه العبارات ( يا رب سألتك ان يموت قبلي كل عبيدك الذين قدرت علي ان احاكمهم وان احكم عليهم فلا يضم سجن من سجون الارض – بعدي- رجلاً كنت انا المسؤول عنه عما اصابه من الم وعناء وبذلك استطيع حينما امثل بين يديك وفي ظل عرشك استطيع يا رب ان القى ارواح هؤلاء الضحايا فتطمئنني وتؤكد لي انك تعرف انني ما حكمت على اصحابها بغير العدل كما نعرفه نحن معاشر البشر واذا كان بين هؤلاء المساكين من حدث اني حكمت عليه بغير الحق فأني اسألك يا ربي ان تتيح لي ان القاه في خشوع لاساله الصفح ولاقرر بين يديه انني ما اصدرت حكماً قط قاسياً انني لست الا مخلوق بشري ضعيف خلقته يا رب عبد معرض للخطأ . وانني ما ادنت رجلاً قط دون ان يهتز ضميري رهبه وهلعاً وتعروني رجفة من اجترائي على اقحام النفس بوظيفة لا تدخل في عمل البشر إذ إن الحكم إلا لله لك وحدك يا رب )) .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت