الأم المسلمة وقانون الجنسية
د. زينب المعادي

من ضمن التبريرات الذي تقدم لتفسير التمييز بين الأبوين في نقل الجنسية للأبناء, اعتبار أن حصول الابن على جنسية أمه في حال ثبوت الزوجية وعندما يمتلك الأب جنسية أمرا مخالفا للشريعة الإسلامية.

لذا يصبح من الضروري التنقيب في الإنتاج الفقهي.. لمعرفة مدى قوة أو ضعف هذا التبرير والبحث فيما إذا كان هناك فعلا دليل شرعي تم الاعتماد عليه في استنباط الحكم بمخالفة التسوية بين الأبوين في نقل الجنسية للأبناء للشريعة الإسلامية.

1- مفهوم الجنسية والشريعة الإسلامية:

الإنتاج الفقهي /القانوني الحديث1 حول علاقة مفهوم الجنسية بالدين الإسلامي, يجعلنا بداية أمام موقفين متباينين:

– موقف من ينكر وجود فكرة الجنسية في التنظيم الإسلامي لعلاقة المسلم بأرض الإسلام 2 ويرفض الحديث عن الجنسية من منطلق الشريعة.

ويعتبر انه لا جنسية في الإسلام بل إن المسلم لا جنسية له إلا الإسلام. فالإسلام دين وجنسية.

– ومن يعتبر أن مضمون مفهوم الجنسية وجد في الإسلام, وأن فقهاء المسلمين تناولوا موضوع طرق اكتساب الجنسية وكذلك أسباب فقدها, لكن استخدمت للدلالة عليها أسماء أخرى “كالتابعية” و”الرعوية”.

1- لا جنسية في الإسلام:

يتعلق الأمر باتجاه ينكر وجود أحكام في الشريعة الإسلامية تتعلق بالجنسية.

ويعتبر أن معنى الجنسية الاصطلاحي السائد في التشريعات الوضعية الحديثة, والذي يستخدمه السياسيون والقانونين, لم يسبق استخدامه من طرف فقهاء الإسلام. وأن الشريعة الإسلامية لا دخل لها في تكوين الجنسية ولا في التشريع لها أو التقنين لها3.

وأن انتماء المسلم يجب أن يكون للإسلام أينما كان. وأن الذين يتحدثون عن تضمن التشريع الإسلامي لأحكام حول الجنسية يخلطون بين مفهومي الجنسية والإسلام رغم الاختلاف الكبير بينهما. وبالتالي فلا جنسية في الإسلام.

كما يعتبر أصحاب هذا الموقف أن الاعتقاد بتناول الفقه الإسلامي لموضوع الجنسية, سيكون من نتائجه القول بوجود طائفة لا تتمتع بالجنسية الإسلامية وبالتالي لا تخاطب بأحكامه4 الأمر الذي يحد من امتداد الإسلام إليها. وهذا ما لا ينسجم مع طابع العالمية للدين الإسلامي الذي تؤكده نصوص قرآنية وحديثية:

فى الوقت الذي لا تتجاوز فكرة الجنسية كونها فكرة إقليمية ضيقة تقوم على الاعتراف بالحواجز السياسية والقانونية وتعدد الدول والسيادات. والإسلام في سعيه نحو العالمية لا يمكن أن يعتمد على فكرة ذات نطاق إقليمي محدود., فصلة الإسلام تسمو على كل صلة ضيقة مثل صلة الجنسية والنسب والعشيرة:

كذلك من أصحاب هذا الموقف من المعنيين بالبحث الفقهي القانوني من يعتبرون أن مفهوم الجنسية مفهوم علماني لا علاقة له بالدين, بل إنه ينبني على فصل الدين عن الدولة:

“الجنسية معيار لتمييز في وقتنا الحاضر بين الجنبى والوطني. وهى مفهوم وضعى علماني حديث الظهور يتم التمييز بموجبه بين البشر على أساس الانتماء الوطني لا الديني”5 (البرجاوى)

“الجنسية بمعناها السياسي والقانوني هي أساسا رابطة علمانية تتحدد بغير رجوع إلى عوامل أو عناصر فوق قانونية أو لادينية أي دون أن يكون للعقيدة دور في بنائها” 6 (الجداوى)

بل هناك من يذهب إلى أن الجنسية عرف يعارض مصالح الناس ونظرية ضارة كما يرى أحد علماء الأزهر الشريف وهو د. أحمد حمد الذي يقول: “قد يسود عرف بين الناس يعارض مصالحهم في الحاضر ويهدد حياتهم في المستقبل ومع ذلك يهتمون به ويحتكمون إليه ويحرصون عليه “

“وينضم إلى قائمة هذه النظريات (يقصد النظريات الضارة بالناس) وأمثالها نظرية الجنسية… وهذه النظرية يعارضها بل يناقضها الآن مبدأ له أهميته وخطورته وهو مبدأ العالمية”7

الإمام محمد عبده يؤكد8 على أن اختلاف الدول وما يقتضيه ذلك من تعدد الجنسيات لا تأسيس له في الشريعة الإسلامية التي هي أصلا شريعة توحيد لا تفريق,

ويذهب إلى مقارنة ال ستعمل عند الأمم الأوروبية) تشبه ما كان يسمى عند العرب عصبية وهو ارتباط أهل قبيلة واحدة جنسية بالعصبية التي ألغاها الإسلام:

“وإنما الجنسية (كما ت أو عدة قبائل بنسب أو حلف يكون من حق ذلك الارتباط أن ينصر كل منتسب إليه…جاء الإسلام فألغى العصبية ومحا آثارها وسوى بين الناس في الحقوق, فلم يبق للنسب أو ما يتصل به (ويقصد العصبية التي يشبه بها الجنسية) أي اثر في الحقوق ولا في الأحكام, فالجنسية لا اثر لها عند المسلمين قاطبة ويؤيد ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية” وقوله “ليس منا من دعي إلى عصبية” 9

رشيد رضا في تفسير المنار يسير في نفس الاتجاه إذ يعتبر أن “الإسلام دين لا جنسية وليس في الإسلام معنى الجنسية المعروفة الآن”10

“إن للإسلام دولة وإن كان هو في نفسه دينا لا جنسية. ووظيفة دولته أو حكومته هي نشر دعوته وحفظ عقائده وآدابه وإقامة سننه”11

واضح أن رفض فكرة الجنسية نابع من الخوف من أن تحل محل رابطة الإسلام وأن تنتج تفرق المسلمين وتقاعسهم عن نشدان الوحدة:

“…. وقد حلوا رابطة الدين ودعوا إلى رابطة أخرى يسمونها الوطنية يفرقون بها بين المؤمنين, وما أجرئهم على ذلك كله إلا جهل العامة وقلة الذين يميزون بين العلماء العاملين والأدعياء الجاهلين” 12

“….لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية فهو مغتر بالوهم مفتر على الله بغير علم”13

“الإسلام عند هؤلاء المسلمين الذين يصنفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية إلى كونه جنسية سياسية”14

جمال الدين الأفغاني كذلك يركز على أنه لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم ويعتبر أن تعدد الدول وتعدد الرؤساء لا ينبغي أن يحجب الطبيعة العالمية للإسلام:

“لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم ولذلك يعد تعدد الحكام عليهم كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة أو تعدد السلاطين في جيش واحد مع اختلاف الغايات والأغراض”15

بناء على هذا الموقف الذي يتأسس على أنه لا جنسية في ارض الإسلام وبالتالي على عدم وجود أثر لتنظيم الجنسية في الأحكام الشرعية, ويسكنه هاجس وحدة المسلمين والخوف من تشردمهم فيما لو تحولوا لجنسيات متعددة, يمكن أن نقول أن الحديث عن مخالفة الشريعة الإسلامية للتسوية بين الأبوين في نقل الجنسية لأبنائهما لا يعتمد على أدلة أصلية لا من الكتاب ولا من السنة, ولا على اجتهاد الفقهاء .

بل لا يمكن الأخذ بالتمييز بين الأبوين من وجهة نظر إسلامية. لأن المرأة المسلمة لا يمكن أن تتزوج إلا بمسلم ولأن المسلمين حسب هذا التصور من المفروض أن يتمتعوا بنفس الحقوق في كل بلد عربي إسلامي.

وكما يقول الإمام محمد عبده:

“وطن المسلم من البلاد الإسلامية هو المحل الذي ينوى الإقامة فيه. ويتخد فيه طريقة كسبه لعيشه ويقر فيه مع أهله ولا ينظر إلى مولده ولا إلى البلد الذي نشأ فيه ’ ولا يلتفت إلى عادات أهل بلده الأول, ولا ولا إلى ما يتعارفون عليه في الأحكام والمعاملات وإنما بلده ووطنه الذي يجرى عليه عرفه وينفد فيه حكمه هو البلد الذي انتقل إليه واستقر فيه, فهو رعية الحاكم الذي يقيم تحت ولايته “وله من حقوق رعية ذلك الحاكم وعليه ما عليهم.”

” إذا نزل ببلد إسلامي, جرت عليه أحكام الشريعة في ذلك البلد, وصار له من الحقوق من الحق ما لأهله وعليه من الحق ما عليهم لا يميزه عنهم مميز “16

2 – الرعوية أو الجنسية الإسلامية:

أصحاب الموقف الثاني (اغلب الشراح والفقهاء من المعاصرين)17, اعتمدوا المفاهيم التي استخدمها الفقهاء في إنتاجاهم المتعلقة بالسياسة الشرعية كما اعتمدوا على التقسيم الذي وضعه فقهاء المسلمين للعالم مع بداية القرن الثالث الهجري, حيث ميزوا بين قسمين: دار الإسلام – دار الحرب.

وانطلاقا من ذلك انتقدوا وجهة النظر التي تنكر وجود أحكام للجنسية في الشريعة الإسلامية..اعتبروا أن الشريعة الإسلامية عرفت فكرة الجنسية منذ نشأة الدولة الإسلامية وان إنكار وجود فكرة الجنسية في الشريعة الإسلامية هو إنكار لوجود الدولة الإسلامية.

كما إعتبروا أن مفهوم الجنسية موجود في الإنتاج الفقهي الإسلامي, لكن الفقهاء استعملوا للدلالة عليه أسماء أخرى مثل: “التابعية” – “الرعوية” – “أهل دار الإسلام”.

بل منهم من يعيب على القانونيين المعاصرين استخدام مفهوم جنسية وهجران مفهوم رعية.

“إن رجالات الفكر القانوني عندنا قد عجلوا في رأيي بحرصهم على المصطلح الغربي “الجنسية” وبنزولهم على رأى مفكري الغرب بهجران مصطلح رعية..وإن كان بعض أساتذتنا القانونيين من المعاصرين ينزع نحو المصطلح الإسلامي ويراه أدق في التعبير وأبعد عن الاضطراب” 18

كما اعتبروا أن الرسول استخدم مفهوم رعية ” للدلالة على رابطة سياسية وقانونية لا تقوم على أساس ***** أو العرق أو اللون بل والأرض, وإنما تقوم على أساس التعارف والامتزاج والإيمان والشعور بوحدة المصير وتبادل المسؤوليات19.

(وقد جمع المنذرى20. في هذا المعنى عدة أحاديث تؤكد استعمال مفهوم الرعية في معنى الرابطة القانونية والسياسية منها:

فيما روى ابن ماجة والطبراني عن ابن عمر عن النبي ( ص)قال:

“السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده, فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر “)

وعن معقل بن يسار قال سمعت رسول الله (ص) يقول: “ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية, يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله عليه تعالى الجنة” كما أستخدم تعبير الرعية من طرف على ابن أبى طالب في رسائله إلى عماله وهو خليفة 21.

(من المهتمين بالحقل القانوني الإسلامي من يرى أن دار الإسلام بالمفهوم الدستوري لا وجود لها الآن, كما أن دار الحرب لا تكاد توجد22. فحتى الدول التي تسمى نفسها إ سلامية الآن ما زالت لها جنسيتها الخاصة أي لم تصل لدرجة الإعلان أن لكل مسلم, فقط لأنه مسلم, الحق في الحصول على جنسيتها.

لا يختلف الوضع بالنسبة لغير المسلمين, سيما وأن المتفق عليه بين الفقهاء أن عقد الذمة يمتد إلى ذريتهم ومن ثم يستفيد من ينتسب إليهم بحق الدم من وضعيتهم القانونية. )

وفق هذا التصور يتمتع كل المسلمين وطبعا كل المسلمات بالجنسية الإسلامية أو جنسية دار الإسلام. وبالحقوق والإمتيازات والحقوق التي تضمنها.

وما دام لا يسمح للمرأة المسلمة بالتزوج بكتابي 23 فإنها لن ستتزوج إلا بمسلم. وبالتالي ستكون لهما معا نفس الجنسية الإسلامية, بغض النظر عن البلد الذي يستقر فيه. وبالتالي ووفقا لتصور الفقهاء الذين يعتبرون إن مفهوم الجنسية وجد في التراث الفقهي لكن بأسماء أخرى كالرعوية والولاء ,لن يكون هناك إشكال شرعي في نقل الأم جنسيتها لأبنائها. وبالتالي فالتمييز بين الأبوين في هذه الحالة لا يمكن أن يتأسس على الشريعة .

** الفقه الإسلامي والتساوي بين الأبوين في نقل الجنسية:

موضوع التساوي بين الأبوين في نقل الجنسية – التبعية – الرعوية للأبناء من الموضوعات التي أثارت جدلا بين أوساط متعددة في العالم العربي. من قانونيين وفقهاء ومنخرطين في حركات الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق النساء.

الأدبيات الموجودة هي بشكل خاص أدبيات فقهية وقانونية خصوصا وان من ضمن مبررات رفض التسوية بين الأم والأب في نقل الجنسية, الاعتقاد بمخالفتها للشريعة الإسلامية, وبالتالي كانت هناك ضرورة العودة لمواقف الفقهاء من مسألة اكتساب أو ثبوت الرعوية أو الجنسية الإسلامية. خصوصا وأن الموضوع من المستجدات التي حاول الفقهاء الاجتهاد لاستخراج حكم يصددها.

** الأدبيات الفقهية تكشف عن تصورين متعارضين فيما يتعلق بنقل الجنسية :

1– الموقف الذي يرفض المساواة بين الأب والأم في نقل الجنسية للأبناء .ويقيس نقل الجنسية على نقل النسب بشكل خاص. في غياب آيات تتعلق بموضوع الجنسية ويستند على موقف فقهاء المذهب المالكى من تبعية الأبناء لأبائهم, حيث يعتبر فقهاء المالكية أن الولد لا يتبع أمه في الإ سلام بل تختص التبعية بالأب. لأن النسب له والولاية له وهو عصبة (معنى عصبة)24. اعتمادا على تأويل الآية 21 من سورة الطور: “والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم” حيث يعتبرون أن كلمة ألحق المقصود بها النسب, والذرية تلحق بالأب.

2- الموقف الذي يعتبر أن من حق المرأة المتزوجة نقل جنسيتها لأبنائها. ويجد سنده في مواقف المذاهب الفقهية الثلاث: الحنبلى – الحنفي – الشافعي

يرتكز هذا الموقف على الأسس التالية:

1- إجتهاد في تفسير الآية: “والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيئ كل امرئ بما كسب رهين”25

الإلحاق في الآية لا يقصد به الإلحاق في النسب بل يدل في على إلحاق الأبناء في الآخرة بآبائهم في إيمانهم ومنزلتهم. المفسرون لم يميزوا في شرح الآية بين الأم والأب بل اعتبروا أن كلمة الآباء هي على صيغة العموم.

ابن كثير في تفسيره يذكر ما ورد عن ابن عباس في تفسير الآية:

– “هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم شيئا”

– “والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة وأولادهم الصغار تلحق بهم.”26

تفسير الآية يعتمد على قول الرسول ” إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ” وكلمة المؤمنين في سياق الحديث كان الرسول يعنى بها نفسه وزوجته خديجة 27.

– “الولد للفراش”.28

-” كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه “29

حيث اعتبروا إن المراد من كلمة الأبوين من وجد من أبويه. ومن الأولى أن يتبع الصبي المسلم منهما سواء كان الأب أو الأم.

“فإذا تبع أحد الأبوين في كفره فلئن يتبعه في الإسلام بطريق أولى “

حسب هذا الموقف يعتبر الصبي مسلما أي متمتعا بالجنسية الإسلامية: إذا كان أبواه مسلمين.

متى كان أحد أبويه مسلما, يتساوى في ذلك الأم والأب.

وعليه فمن ولد لأب مسلم وأم مسلمة يصير مسلما. وبالتالي وانطلاقا من قياس الجنسية على الإسلام, وحسب لغة العصر.

فهو سيتمتع بالجنسية الإسلامية الأصلية.

وكذلك الصبي الذي اسلم أبواه أو أحدهما يتبع المسلم منهما ويتمتع بالجنسية الإسلامية. وعليه لو كانت الأم هي المسلمة يتبعها أو تنقل له الجنسية.

السرخسى في كتاب السير الكبير يوضح هذه الفكرة: “لو دخل حربى مع إمرأته دارنا بأمان30 ومعهما أولاد صغار وكبار فأسلم أحدهما. فالصغار من الأولاد صاروا مسلمين تبعا للذى اسلم منهما, أما الكبار منهم فلا يكونوا مسلمين “31

الكمال ابن الهمام يضيف أنه حتى في حالة إسلام الأب في دار الإسلام وأبناؤه في دار الحرب فإنهم يتبعونه.

يقول في فتح القدير: “يتبع الأولاد الصغار والحمل خير الأبوين دينا, سواء كان الأب أو الأم في دار الإسلام أو في دار الحرب, سواء كان الأولاد معه أم ليسوا معه. وذلك لعموم قول الرسول صلعم فإذا قالوها عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها….فلا تخصيص فيه لمكان دون آخر أو لحالة دون أخرى”32

وكذلك ابن القيم الجوزية يعتبر أن من ضمن أسباب حصول الصبي على الإسلام – وبالتالي تجنسه بالجنسية الإسلامية- إسلام الأبوين أو أحدهما. ويرد على المالكية في موقفهم الذي يرفض ارتباط الابن بأمه في التبعية, ويقيسها على النسب والتعصيب والولاية:

“قولكم بأن الولاية والتعصيب للأب دون الأم فتكون التبعية له دونها مردود عليه بأن ولاية التربية والحضانة والكفالة للأم دون الأب, وإنما قوة ولايته على الطفل في حفظ ماله, أما ولاية الأم في التربية والكفالة فإنها أقوى فتبعية الطفل لأمه في الإسلام إن لم تكن أقوى من الأب فهى مساوية له”

ويضيف: “الولد جزء منها حقيقة ولهذا إتبعها في الحرية والرق إتفاقا دونا عن الأب. فإذا أسلمت تبعها سائر أجزائها والولد جزء من أجزائها يوضحه أنها لو أسلمت وهى حامل به حكم بإسلام الطفل تبعا لإسلامها لأنه جزء من أجزاءها فيمتنع بقائه على كفره مع الحكم بإسلام أمه” 33

كذلك تكون العبرة ويكون المعيار هو الإسلام لا الأبوية بحيث في حالة اختلاف دين الأبوين ينسب للمسلم منهما.

2 – التبعيـة النـافعة:

تكشف الأدبيات الفقهية عن مبدأ جد مهم في كسب التبعية, وهو التبعية النافعة. انطلاقا من هذا المبدأ. الذي تحدثت عنه إنتاجات فقهاء متعددين , يمكن المساواة بين الأبوين في منح الجنسية بل وفى عدة حالات إعطاء الأسبقية للام.

معنى التبعية النافعة 34 أن اكتساب التبعية – أو الجنسية – لا يعتمد فيه على معيار القرابة فقط أو الاستقرار في البلد , بل يراعى فيه كذلك ما يحقق منفعة للطفل. ومن أوجه مراعاة معيار التبعية النافعة تبعية الولد لأمه في مجموعة من الحالات . وهذا موقف جمهور الفقهاء ما عدا الإمام مالك. والفقهاء باستخدامهم لهذا المبدأ يطبقون القاعدة الفقهية التي تقول: “الولد يتبع خير الأبوين دينا”

ذلك ما يظهر من خلال قول الإمام السرخسى:

“…. والتبعية فيما فيه منفعة لا فيما يشوبه ضرر وإنما جعل تبعا لتوفير المنفعة له “

بل إنه يرى أن منفعة الصغير هي الأولى بالاعتبار حتى ولو كانت الأم من أهل الذمة: “وإن كانت أمه نصرانية ذمية, لأنها من أهل دارنا. وكما يتبعها الولد إذا كانت من أهل ديننا يتبعها إن كانت من أهل دارنا, توفيرا للمنفعة على الولد, ولأنه لا يتم إحراز الولد بدار الحرب, لأن اعتبار جانب الأب يوجب أن يكون الولد حربيا واعتبار جانب الأم يوجب إن يكون الولد من أهل دار الإسلام. فكأنه من أهل دارنا حقيقة”35

3 – النهى عن التفريق بين الأم وأبنائها:

من قلب التراث الفقهى كذلك نجد ما يزكى حق الأم في نقل جنسيتها لأبنائها, في النهى عن التفريق بين الولد وأمه, وإن كان الفقهاء قد تناولوا هذا الموضوع في إطار تنظيمهم لأحكام الحضانة وكذلك أحكام السبى, فإن ما أكدته الوقائع هو أن حرمان الابن من جنسية أمه بقدر ما هو تفريق قانوني فهو كذلك قد ينتج تفريقا واقعيا.

إذ قد يؤدى بالمتزوجات من مسلمين أجانب في حال الطلاق إلى ترك الأبناء مع أبيهم أو إرسالهم إليه, لأن عيشهم معها في بلدها قد يكون محاطا بصعوبات شتى سواء الصعوبات القانونية أو الإدارية أو المادية.ويؤدى بالأبناء إلى الضياع.

وبذلك يكون قانون الجنسية من ضمن العوامل المسببة في تفريق الأبناء عن أمهم, وفى حرمانهم من حضانتها.

يقول إبن قدامة في المغنى36: “أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز هذا قول مالك في أهل المدينة والأوزاعى من أهل الشام والليث في أهل مصر والشافعى وأبى ثور وأصحاب الرأي فيه”

كما أخرج الترمذى قول الرسول ص:

“من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة”37

4 – أن الأصل العام في الإسلام هو المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات. إلا في مسائل محددة ورد فيها نص كالميراث والنفقة والنسب والشهادة.

فذكرها جاء على سبيل الإستثناء. والإستثناء معيار العموم كما يؤكد علماء أصول الفقه. فالمساواة هي الأصل, والرجل والمرأة في نصوص الشرع متساويان شقيقان لا يجوز معاملة أحدهما بالتفضيل أو المحاباة أو التمييز. والذي يحتاج إلى دليل هو اللامساواة .

وهناك نصوص حديثية وقرآنية كثيرة تؤكد المساواة كأصل عام للشريعة المساواة كأصل عام الآيات القرآنية والنصوص الحديثية التالية:

– “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”38

– “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أحسنكن عند الله اتقاكم”39

“كل نفس بما كسبت رهينة”

“وللرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن”40

أليس الولد من كسب الإنسان؟ وإذا ما كان بإمكان الأب أن ينقل جنسيته لأبنائه بناء على حق الدم, لم تحرم الأم من نفس الحق؟

“النساء شقائق الرجال”

هذه النصوص وغيرها مما يضيق المجال عن ذكره تكشف على ان إعمال مبدأ المساواة بين الأبوين في نقل الجنسية لا يتعارض وروح الشريعة, فمن حق الأم كذلك أن تنقل جنسيتها لابنها.

اعتمادا على ما سبق يستنتج أصحاب هذا الاتجاه أن: “للأم أن تنقل بصلة الدم جنسيتها إلى الابن. شأنها في ذلك شأن الأب لإتحاد السبب الذي يوجب وحدة الحكم. وقصر ذلك على الأب مع حرمان الأم من ذلك يؤدى إلى إلحاق ضرر بها بما يخالف الآية القرآنية “لا تضار والدة بمولودها ولا مولود له بولده” كما أنه يؤدى لتقديم أحد الشريكين في صفة الوالدية على الآخر بلا مسوغ لأن حق الولد في جنسية أمه كحقه في جنسية أبيه”41

** المراجع:

1 – مفهوم الجنسية ظل مجهولا بل منعدما في بلاد الإسلام ولدى فقهاء المسلمين حتى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.

2 – أحمد قسمت الجداوى “الوجيز في القانون الدولي الخاص”. ج 1 “الجنسية ومركز الأجانب”. دار النهضة العربية 1977. ص 64-65.

3 – د. أحمد حمد “فقه الجنسيات” دراسة مقارنة في الشريعة والقانون ط 1986 ص 73 دون دار نشر.

4 – أحمد عبد الكريم سلامة “مبادئ القانون الدولي الخاص” دار النهضة العربية 1989 ص 72 .

5-20 خالد البرجاوى مرجع سابق ض 28.

6 – أحمد قسمت الجداوى دراسات في القانون الدولي الخاص سنة 1986 ص 252

7 – أحمد محمد طه ” فقه الجنسيات دراسة مقارنة في الشريعة والقانون” ص 3.

– 8 وجه إليه سؤال عن الجنسية في الإسلام: “.. في المسلم إذا دخل بمملكة إسلامية, هل يعد من رعيتها, له ما لهم وعليه ما عليهم على الوجه المطلق؟ وهل يكون تحت شرعها فيما له وعليه عموما وخصوصا؟ وما هي الجنسية عندنا؟

فكان جوابه:

“لا ذكر لاختلاف الأوطان في الشريعة الإسلامية إلا فيما يتعلق بأحكام العبادات من قصر الصلاة للمسافر و وجواز الفطر في رمضان.. فالشريعة واحدة والحقوق واحدة يستوي فيها الجميع في أي مكان كانوا من البلاد الإسلامية فوطن المسلم من البلاد الإسلامية هو المكان الذي ينوى الإقامة فيه” 8

يعرض النص موقف مفكر مسلم ينتمي للقرن الماضي لكنه مع ذلك يعيش حلم الأمة الإسلامية. فتواه يشوبها ما شاب فتاوى الفقهاء المسلمين في العصر الماضي من حنين لعصر الخلافة:

“أما الجنسية فليست معروفة عند المسلمين ولا لها أحكام تجرى عليهم لا في خاصتهم ولا عامتهم”..8

“وهذا ما تقضى به الشريعة الإسلامية على اختلاف مذاهبها لا جنسية في الإسلام ولا امتياز في الحقوق بين مسلم ومسلم”8

9 – نفس المرجع. نفس الصفحة.

10 – محمد رشيد رضا تفسير المنار الجزء التانى, الطبعة الأولى, مطبعة دار المنار ص436 – 309. وكذلك الجزء الثالث ص268-345 نفس الطبعة.

11 – نفس المرجع.

12 – نفس المرجع.

13 – نفس المرجع.

14 – نفس المرجع.

15 – جمال الدين الأفغاني ” الوحدة الإسلامية والوحدة والسيادة ” ص 18. ذكره مصطفى محمد مصطفى الباز مرجع سابق ص 60.

16 – الإمام محمد عبده مرجع سابق ص 18 .

17 – أحمد محمد بخيث ” دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والمواثيق والقوانين المعاصرة ” دار النهضة العربية القاهرة 2001 ص 22 .

18 – محمد بخيث نفس المرجع ص 20 .

19 – نفس المرجع ص 18 .

20 – الإمام بن عبد العظيم المنذرى الترغيب والترهيب . تحقيق وتخريج وفهرسة أيمن صالح شعبان ط دار الحديث الأولى ج 3 ص : 181-188-189-194-195. ذكره بحيث ص 12 .

21 – نهج البلاغة للشريف الرضى ط دار الشعب ص 263.

22 – أنظر أحمد محمد بخيث مرجع سابق ص 147 .

23 – مسألة فيها نقاش من حيث الدليل الشرعي إذ لا تعدو كونها إجتهاد ا فقهيا.لعدم وجود أية قرآنية تمنع زواج المسلمة بالكتابي على غرار الآية آلتي تمنع زواج المسلمة بالمشرك .

24 – ابن رشدا بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط 2. س1981 . ص 310.مصطفى الحلبي.

– شرح الزرقانى ج 8 ص 66.

– مواهب الجليل .ج6 ص 284 .

25 – سورة الطور الآية 21 .

26 – ابن كثير القرشي الدمشقي ” تفسيرا ابن كثير ” المجلد الرابع .دار المعرفة الدار البيضاء ص 242 .

27 – يقول الشعبي …..عن على قال سألت خديجة النبي عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله : ” هما في النار “. فلما رأى الكراهة في وجهها قال :” لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ” قالت يا رسول الله فولدى منك قال : فى الجنة قال ثم قال رسول الله ” إن المسلمين وأولادهم فى الجنة , وإن المشركين وأولادهم فى النار ” ثم قرأ رسول الله والذين آمنوا وأتبعوا ذريتهم بإيمان …” .

إبن كثير المرجع السابق نفس الصفحة .

28 – حديث صحيح متفق عليه انظر بلوغ المرام بشرح سبل السلام ج3ص1147 .

29 – أخرجه البخاري ومسلم.

30 – أي بعقد أمان .

31 – شرح السير الكبير ج5 .ص 1869 -1871 .

– 32 الكمال إبن الهمام ا”فتح القدير ج4ص 318 .

33 – أحكام أهل الذمة تحقيق طه عبد الرؤوف سعد دار الكتب العلمية بيروت ط 1995 الجزء الثاني ص 13-14.

34 – – أحمد محمد بخيث ص 128 .

35 – السرخسي المبسوط ج 10 ص 115 .

– 36 إبن قدامة المغنى الجزء 12 ص 628 أحكام الصغار ص 200 .

37 – الحديث رواه الترمذى في البيوع باب ما جاء فى كراهية الفرق بين الأخوين . أو بين الوالدة وولدها في البيع كما رواه الدارمى في كتاب السير . أورده أحمد محمد بخيث مرجع سابق ص 150.

38 – سورة البقرة آية 228 .

39 – الآية 13 من سورة الحجرات .

40 – سورة النساء آية رقم 32.

41 – مصطفى الباز مصطفى مرجع سابق ص 662.

المصدر: نساء سورية