التعبير عن الإرادة:

وتعرض المادة (34) لطريقة التعبير عن الإرادة. وهي مستوحاة من نص المادة (90) من القانون المصري والنصوص الأخرى التي أخذت عنه، وعلى الأخص نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي ونص المادة (93) من القانون الأردني، دون أن تأتي بحكم مغاير.

وحكمها يتمشى مع الاتجاه الغالب، سواء في القانون المعاصر أم في الفقه الإسلامي، من إطلاق الصورة التي يجيء عليها، التعبير عن الإرادة، بالتمكين له أن يأتي بأي طريق كان، طالما كان من شأن هذا الطريق أن يدل على حقيقة الإرادة بغير لبس أو غموض. فهي تقضي بأن التعبير عن الإرادة يمكن أن يحصل باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة الشائعة الاستعمال – أي تلك التي يعم بين الناس استعمالها في نفس المدلول – أو بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي – وهو ما يُطلق عليه، في الفقه الإسلامي ” تعاقد المعاطاة ” – أو باتخاذ أي موقف آخر غير ما ذُكر، إذا كانت ظروف الحال لا تدع شكًا في دلالته على حقيقة المقصود منه.

ولم يشأ المشروع أن يساير نص المادة (106) من قانون التجارة الكويتي الحالي ونص المادة (93) من القانون الأردني في حرصهما على ذكر أن الإشارة تصلح تعبيرًا عن الإرادة، ولو وقعت من غير الأخرس، مكتفيًا بإيراد لفظ الإشارة في عمومه، اعتبارًا بأنه يعنيها ما دامت شائعة بين الناس، أيًا ما كان الشخص الذي صدرت منه، أخرس كان أم غير أخرس.

ولم يشأ المشروع كذلك أن يعرض للجدل الذي ثار في الفقه الإسلامي حول الصيغة التي يأتي عليها اللفظ الدال على الرضاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم المضارع أم الأمر، وهو جدل ترك أثره في بعض تقنيناتنا العربية، كقانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 105)، والقانون المدني العراقي (المادة 77) والقانون الأردني (المادة 93). فالأمر مرده إلى الدلالة على حقيقة القصد، على نحو ما يتبينه قاضي الموضوع. وسيان بعد ذلك أن يأتي اللفظ على صيغة أو على أخرى. وهو من بعد الأمر الذي يسود في الفقه الإسلامي، وعلى الأخص وفقًا لما يقول به المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.

وقد حرص المشروع على أن يشير، في عجز المادة الرابعة والثلاثين إلى ما قد يورده المشرع – في حالات خاصة – من قيود على مبدأ إطلاق طريقة التعبير عن الإرادة، ليتحفظ على الأخص، في شأن الشكل، حينما يستلزمه القانون لذات انعقاد العقد.

وتعرض الخامسة والثلاثون للتعبير الضمني عن الإرادة، وهو ذاك الذي تستخلص فيه الإرادة دلالة من ظروف الحال، بعد إعمال الفكر في الاستنتاج المنطقي، وهي تقرر جواز هذا النوع من التعبير عن الإرادة كأصل عام، مستثنية الحالات التي يقضي فيها القانون أو الاتفاق بأن يجيء التعبير عن الإرادة صريحًا، وتلك التي يكون من شأن طبيعة المعاملة ذاتها أن تستوجبه في خصوصها.

وحكم هذه المادة متفق مع ما يقضي به القانون المعاصر والفقه الإسلامي على حد سواء، وهو مستمد من المادة 90/ 2 مصري، بعد أن رئي إضافة طبيعة المعاملة كاستثناء للحالات التي يمكن فيها أن تستظهر الإرادة دلالة من ظروف الحال، إلى جانب القانون والاتفاق، إذ قد يكون من شأن جسامة الأثر المترتب على المعاملة أن يتطلب التعبير المباشر الصريح.

وتعرض الفقرة الأولى من المادة السادسة والثلاثين للتعبير عن الإرادة، من حيث قيامه وإنتاج أثره، وتحرص على التفرقة بين هذين الأمرين، فقد يوجد التعبير عن الإرادة، بأن يكتمل له مظهره المادي، من غير أن يترتب عليه الأثر القانوني المبتغى منه، على نحو ما تقرره أغلب التشريعات المعاصرة من تراخي هذا الأثر إلى وقت اتصال التعبير عن الإرادة بعلم من يوجه إليه.

وهذا التصور قائم أيضًا في الفقه الإسلامي، بالنسبة إلى الإيجاب، عند التعاقد بوساطة رسول، ففكرة وحدة مجلس العقد تؤدي إلى عدم الاعتداد بالتعبير الصادر من الموجب، قبل أن تبلغ الرسالة إلى الموجب له، حيث يبدأ بهذا التبليغ انعقاد مجلس العقد.
وتقرر المادة أن التعبير عن الإرادة يتكامل له وجوده، بمجرد صدوره من صاحبه، وهذا أمر ظاهر لا خلاف فيه.

إنما الخلاف الذي يمكن أن يثور يتعلق بالأثر القانوني الذي من شأن التعبير أن يحدثه، فقد يمكن لهذا الأثر أن يترتب فور صدور التعبير، وهنا يختلط الوجود القانوني للتعبير مع وجوده المادي، وقد يمكن لأثر التعبير أن يتراخى إلى وقت يلي صدوره. فيتفرق عندئذٍ الوجودان.

وقد آثر المشروع أن يأخذ بوجهة النظر الثانية فجعل أثر التعبير عن الإرادة متراخيًا إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه، مسايرًا في ذلك كثرة غالبة في التقنينات الحديثة، وهذا هو ما يقضي به على وجه الخصوص القانون الألماني (المادة 130) وإن كان قد جعل إنتاج التعبير أثره رهينًا بوصوله إلى من وجه إليه، ومدونة الالتزامات السويسرية (المادة 9)، ومشروع القانون الفرنسي الإيطالي (المادة 2/ 4)، والقانون البرازيلي (المادة 1081).

وهو ما يقضي به أيضًا القانون المصري (المادة 91)، وتبعه فيه القانون الليبي (المادة 91)، ووافقه فقه القانون العراقي وإن لم يصرح به. ولم يأخذ بحكم مغاير من التقنينات العربية التي أخذت أحكامها عن القانون المصري إلا القانون السوري، حيث ترك على غير عادته، نص المادة (91) مصري، وتضمن نصًا (المادة 98) يوحي بأنه يغايره في الحكم.

أما قانون التجارة الكويتي، فقد جاء على غرار القانون العراقي، آخذًا، في صدد القبول عند التعاقد بين الغائبين، بحكم تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من وجه إليه، دون أن يصرح به كمبدأ عام (المادة 112).

وغني عن البيان أن تراخي أثر التعبير إلى فترة تأتي بعد صدوره لا يكون إلا في العقود، أما في التصرف القانوني الصادر من جانب واحد، فلا يوجد فيه طرف آخر يوجه التعبير إليه، ومن ثم ينتج التعبير عن الإرادة أثره بمجرد صدوره من صاحبه، طالما يظهر أنه يتضمن منه عزمه النهائي على إبرام التصرف.

ولا تظهر أهمية تراخي أثر التعبير عن الإرادة إلى وقت اتصاله بعلم من يوجه إليه إلا في التعاقد بالمراسلة بين الغائبين. إذ توجد فيه بالضرورة فترة من الزمن، تطول أو تقصر، بين صدور التعبير من صاحبه، ووصوله إلى من يرسل إليه. أما في التعاقد بين الحاضرين، سواء أكان في مجلس العقد أو عن طريق الهاتف أو ما يشابهه، فلا تظهر الأهمية السابقة. إذ أن صدور التعبير ووصوله يتمان في نفس الوقت.

وتعرض الفقرة الثانية من المادة السادسة والثلاثين لإثبات وصول التعبير عن الإرادة إلى علم من يوجه إليه، لاتسامه بأهمية لا تخفى، ما دام أثر التعبير مناطًا بهذا الوصول، وهي تجعل من وصول التعبير إلى من يوجه إليه قرينة على علم هذا به. وهو حكم تقتضيه طبيعة الأمور ذاتها. إذ أنه يتمشى مع الغالب حصوله في واقع حياة الناس، ثم إنه يتعذر عملاً على من صدر التعبير منه إثبات العلم به ممن وجه إليه، ومن ثم لزم أن يتحول عبء الإثبات. على أن القرينة هنا بسيطة، فيجوز دحضها بإثبات العكس ممن يدعيه.

وتقضي المادة (37) بإمكان العدول عن التعبير عن الإرادة، برغم صدوره من صاحبه، ومنعه بالتالي من أن يرتب أثره، طالما أن هذا العدول قد وصل إلى من وجه إليه التعبير، قبل وصول هذا التعبير ذاته إليه، أو في نفس الوقت. ففي هذه الحالة يُعتبر التعبير كأن لم يكن.

ولا عبرة هنا بعلم من وُجه إليه التعبير بحصول العدول عنه أو عدم علمه به، طالما أنه قد وصل إليه في وقته. إذ لا يقبل منه هنا أن يدعي علمه بالتعبير وعدم علمه بالعدول عنه، أو علمه بالأول قبل الثاني.

والحكم الذي تقضي به المادة (37) هو نتيجة منطقية للحكم الذي تقضي به المادة (36)، وتظهر أهمية هذا الحكم، بشكل واضح بالنسبة إلى القبول، حيث يجوز لمن أرسل إلى الموجب، يبلغه بقبوله أن يعدل عنه، وبهذا يستطيع أن يقيل نفسه من الصفقة، إذا ندم على ارتضائها، بيد أن هذا الحكم لا يعدم كل فائدة بالنسبة إلى الإيجاب. فتظهر له فائدته في الحالات التي يكون فيها الإيجاب ملزمًا له، لا يستطيع الرجوع فيه. إذ بالعدول، لا يتمثل التعبير إيجابًا أصلاً.

وهذا الحكم يتمشى أيضًا مع الروح السمحة للشريعة الإسلامية الغراء، التي من شأنها أن تسمح بالعدول عن ارتضاء الصفقة، طالما أنه لم يتعلق بهذا الرضاء حق للغير معتبر شرعًا. وهو يتجاوب مع الحديث النبوي الشريف: “ من أقال نادمًا بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة “.

وتواجه المادة (38) موضوعًا ثار حوله الخلاف واحتدم، في القانون المعاصر، وفي الفقه الإسلامي على حد سواء. وهو موضوع عدم مطابقة التعبير عن الإرادة لحقيقة قصد صاحبه. فقد يختلف التعبير عن الإرادة، أو ما يُطلق عليه في لغة الفقه الإسلامي ” الصيغة “، مع حقيقة ما انتواه صاحبه وعقد العزم عليه، وقد يحصل ذلك عن قصد أو عن غير قصد.

وأيًا ما كان من أمر الصورة التي يجيء عليها الاختلاف بين حقيقة الإرادة وبين التعبير عنها، فإنه يجب حسمه على نحو أو على آخر، وتتنازع هذا الأمر، في القانون المعاصر، نزعتان: نزعة تغلب الإرادة الحقيقية أو ما يُطلق عليها الإرادة الباطنة، ولا تعتد بالتعبير عنها، إلا إذا جاء مطابقًا لها، وفي حدود تلك المطابقة. وهذه هي النزعة اللاتينية التي تستند أساسًا إلى القانون الفرنسي. أما النزعة الأخرى فهي تغلب التعبير عن الإرادة أو ما يُطلق عليه الإرادة الظاهرة أو الإعلان عن الإرادة. وهذه هي النزعة الجرمانية.

وهذا التغاير في أساس الحكم الذي نجده في ظل القانون المعاصر بين النزعتين اللاتينية والجرمانية، نجده أيضًا في ظل الفقه الإسلامي، بين مذاهبه المختلفة، فالمذاهب الإسلامية لم يتفق فيها بدورها الرأي حول الحكم الواجب اتباعه، عند الاختلاف بين الإرادة الباطنة – وتُسمى عند الفقهاء بالقصد أو النية – وبين الإرادة الظاهرة، وتُسمى بالصيغة. فمن هذه المذاهب ما يغلب الإرادة الباطنة، ومنها ما يغلب الإرادة الظاهرة. وقد بلغ الأمر عند بعض المذاهب، في اعتدادها بالإرادة الظاهرة، إلى حد القول بأن عبارة الهازل تصلح لإنشاء العقود وترتب الآثار عليها، دون فرق في ذلك بين عقد وعقد (وهذا هو الراجح في مذهب الشافعية).

وإن كان الغالب في الفقه الإسلامي هو عدم الاعتداد بعبارة الهازل، إلا فيما يكون فيه حق لله تعالى، اعتبارًا بأن حق الله – جلت قدرته – لا يكون موضعًا للهزل (مذهب الحنابلة وأكثر المالكية). وأساس هذا الرأي قوله صلوات الله عليه ” ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعِتاق “. وفي بعض الروايات أُضيفت الرجعة، وفي بعضها الآخر، أُضيفت اليمين. أما الحنفية، فيعتدون بإرادة الهازل، حتى في غير ما كان فيه حق لله تعالى، ولكن فقط من حيث كونها تصلح لانعقاد العقد، دون أن تكفي لصحته. فالعقد القائم على إرادة الهازل، عند الحنفية، ينعقد (لتحقيق الاختيار بمعنى القصد إلى التكلم بالعبارة)، ولكنه ينعقد فاسدًا (لفوات الرضاء، أي لانعدام الإرادة).

وقد ارتأى المشروع أن يحسم الخلاف بحكم توفيقي يتمشى مع منطق العقد ودور الإرادة فيه باعتبارها الأساس المكين لقيامه، وذلك من غير أن يضحي بما ينبغي أن يسود المعاملات من الثقة والائتمان والاستقرار. فهو ينزع، في الفقرة الأولى من المادة، إلى تغليب الإرادة الباطنة ويقرره كمبدأ عام، ثم يجيء في الفقرة الثانية، فيرخص لمن وجه إليه التعبير غير المطابق لحقيقة القصد، أن يعتد به، شريطة أن يثبت أنه عول عليه، حالة كونه يعتقد عندئذٍ مطابقته لحقيقة الإرادة، ومن غير أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة.

وبهذا يلزم للاعتداد بالتعبير المخالف لحقيقة القصد أمران الأول: التعويل على التعبير، بمعنى أن يرتب من وجه إليه أموره على أساسه. الثاني: حسن النية، بأن يكون من وجه التعبير إليه معتقدًا مطابقته لحقيقة قصد غريمه، دون أن يكون من شأن ظروف الحال أن تثير الشك حول تلك المطابقة. وقد دفع المشروع إلى هذا رغبته في عدم التضحية بالإرادة الحقيقية، التي هي قوام العقد وأساسه، إلا في الحدود التي يتطلبها توفير الثقة والائتمان واستقرار المعاملات. وهو الاعتبار الذي يسوغ أمامه التضحية بحقيقة الإرادة.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .