ساحات للتواصل بين المجتمع والقضاة

أحمد العمري

وقت القاضي أثمن وقت لأنه يتصدّى للعدالة ويقف للحق وينبري للفصل في منازعات تتجاذبها شدة الخصومة وخفاء الحقيقة مما يفرض عليه أن يفرغ جهده في الاستماع والتحقق والقراءة والبحث حتى يصل إلى حيثيات تساعده على الحكم في الخصومة والبت فيها على الوجه الشرعي والنظامي، ولذا فإن القاضي لا يقضي وهو غضبان أو منشغل بما يستغرق بعض تفكيره أو ينازعه الراحة النفسية التي هي عنصر أساسي في قدرته على أداء دوره العادل والمحايد في قضايا متنوعة من جزائية إلى مدنية وتجارية وأحوال شخصية وغيرها مما تحتاج أحيانا إلى أكثر من قاض يشترك في نظرها والبت فيها.

هذا حال العمل القضائي، ولذا فإنه يشترط في القاضي ما لا يشترط في غيره من عموم الموظفين، ولذلك فإنه محمي بالحصانة القضائية ومضمون عمله بالاستقلالية وانعدام التأثير فيه حفظا لسير إجراءات التقاضي على الوجه الصحيح، ومن هنا فالقاضي له خصوصية في عمله وله متطلبات تساعده على تحقيق العدالة، وفي الجانب الآخر فإن القاضي عليه حقوق كثيرة للمجتمع وللخصوم ويطلب منه ما لا يطلب من غيره وقد يُعاب عليه ما لا يُعاب على غيره.

إن هناك مطلباً ضرورياً اليوم وكل يوم وهو أن يوجد التواصل الدائم بين المجتمع والقضاة يركز على دور القاضي في أداء مهمته الأساسية وهي الفصل فيما يعرض عليه من نزاعات وبمراعاة الأهمية القصوى للوقت والذي قد يطول حتى تفقد العدالة مذاقها بالنسبة لصاحب الحق، كما أن أهمية الجودة في العمل وسرعة الإنجاز مع الدقة الفنية المطلوبة هي أيضاً من ضمانات تأييد الأحكام في مرحلة الاستئناف، ولذا فإن عمل القاضي يجب أن يكون مثالاً للعمل المتميز؛ فضلاً عن أهمية بالغة لتعامله مع الخصوم والمحامين وغيرهم ممّن يرتادون المحاكم.

وقد يبدو غريبا أن تمنع وزارة العدل، القضاة من المشاركة في منتديات التواصل الاجتماعي وهو قرار اتخذه وزير العدل الرئيس المكلف للمجلس الأعلى للقضاء، وأدّى إلى اعتراضات متعددة وتذمرٍ كبيرٍ من بعض القضاة؛ بل ذهب بعضهم إلى اعتبار ذلك مساساً بحقهم في التعبير والمشاركة في قضايا المجتمع، في حين أن السؤال الأهم هو متى كان القاضي بعيداً عن المشاركة في قضايا المجتمع وهو الوحيد المفوض بالفصل قضائياً في الخصومات والنزاعات والأقضية، بل هو المكلف بذلك شرعاً ونظاماً وأي تعبير ومشاركة أكثر من ذلك.

لقد أسرف بعض القضاة على أنفسهم وسخروا أوقاتهم في الجلوس ساعات طويلة للقيل والقال والأخذ والرد والدخول في جدال لا ينفع وتبادل للعبارات الهجومية والدفاعية في ساحات الإنترنت، ولذا فليس نقداً لأحد أن نقول إن القاضي يغرد خارج سربه حينما يقضي نصف ليله أو ثلثه منغمسا في فضاء النت الفسيح مهملاً مهامه الصباحية التي يبادرها في العادة التاسعة أو العاشرة صباحاً، أما في عصر النت فإن جهده بالكامل قد استُنفد إلا قليلاً.

إن العمل الحكومي يبدأ الساعة الثامنة صباحاً وينتهي الثانية والنصف ظهراً وهو وقت مخصّص بالكامل لإنهاء أعمال الجمهور من المواطنين والمقيمين وعلى القضاة أن يكونوا أول مَن يلتزم، فالحصانة لا تعني الانفلات الوظيفي، كما أن استقلال القضاء يجب أن نفهمه على الصورة الصحيحة، فالقاضي لا يتدخل أحد في عمله متى كان يؤديه، أما إذا أخل به فإنه معرض للمحاسبة كسائر عموم الموظفين، ومن هنا فإن المجتمع يطلب من القضاة التواصل الاجتماعي الفعلي من خلال إنجاز الدعاوى المتراكمة والشعور بأهميتها، فالقاضي يخدم المجتمع من خلال هذه النوافذ ويكون في أقرب نقطة للتواصل مع الناس.