أهمية مكاتب الإصلاح بين المتنازعين
د. محمد عرفة
لقد سبق أن أعلن معالي وزير العدل الدكتور عبد الله بن محمد آل الشيخ بعد زيارته المحكمة الجزئية في الرياض ( “الاقتصادية”, العدد 3098, في 4/4/2002م) عن أن الوزارة تعتزم إنشاء مكاتب للإصلاح بين المتنازعين وفض المنازعات في المحاكم قبل أن تأخذ القضية إجراءاتها إلى التقاضي.

والحقيقة أن اتخاذ هذا الإجراء يتفق مع ما تقرره الشريعة الإسلامية الغراء من الدعوة إلى الصلح, كما أنه يُحقق مصالح المتنازعين التي تتمثل في توفير وقتهم وجهدهم وأموالهم, ويتفق مع تجارب العديد من الدول في هذا الصدد. كما أن الاتجاه نحو إنشاء مكاتب للصلح بين المتنازعين يتفق مع ما يقرره العديد من القوانين والأنظمة الخاصة بالتحكيم في مختلف الدول, ومنها نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 12/7/1403هـ, الذي ينص في مادته الثانية وفي المادة الأولى من لائحته التنفيذية على أن التحكيم لا يُقبل في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح.

ومن المعلوم أن هناك تجربة سابقة أثبتت نجاحها تتعلق بمكاتب الصلح في محكمة ضمان الأنكحة, حيث استطاع القضاة أن يُصلحوا بين أكثر من ألفي حالة دون أن تصل إلى حد الخصومة أو النزاع. وهذا يرجع إلى أن عقد الصلح يُحقق, من الناحية العملية, عددا من الميزات أهمها: تخفيف العبء عن القضاء: إذ يحظى عقد الصلح بمكانة خاصة في الحياة العملية لا تتوافر لغيره من العقود، فهو من حيث كونه حاسماً للنزاع يضع حداً لخصومات قائمة بين يدي القضاء هذا إذا تم الصلح أثناء نظر الدعوى, وهو ما يسمى بالصلح القضائي، ومن جهة أخرى قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء، وفي هذا وذلك تخفيف للعبء الواقع على القضاء.

كما أن الصلح يخفف العبء عن الخصوم: إذ إن في إنهاء النزاع بين الخصوم صلحاً بدلا من الالتجاء إلى التقاضي أو السير في الدعوى إلى النهاية، تخفيفا كبيرا عنهم, ذلك أن إجراءات التقاضي فيها كثير من التعقيد والجهد والمشقة، كما أنها تستغرق وقتاً طويلاً, ويتحمل الخصوم في سبيلها تكاليف باهظة، وفي هذا عنت للخصوم, واستنزاف لجهودهم وأموالهم, والنتيجة مع ذلك غير مضمونة لأن القاضي بشر لا يقضي بعلمه وإنما من واقع الأوراق والمستندات المقدمة، وقد يكون بعض الخصوم من الدهاء وسعة الحيلة, بحيث يلبس الحق بالباطل فيحكم لصالحه وهو لا حق له وفي هذا ضياع الحقوق.

ومن ميزات الصلح كذلك أنه وسيلة من وسائل تحقيق العدالة: ذلك أن حسم النزاع بين طرفي الخصومة بعقد الصلح أدعى إلى الإنصاف, وأدنى إلى تحقيق العدالة, فطرفا الخصومة هما – ولا ريب – أعلم من غيرهما بعدم استحقاق كل منهما فيما يدعيه أو فيما يدعى عليه, لأن كلا منهما يعلم في قرارة نفسه حقيقة مركزه من النزاع, ومن ثم فإن في حسم هذا النزاع بالصلح عن تراض منهما وتشاور تحقيق للعدالة التي قد لا يُحققها حكم قضائي يصدر لصالح أحدهما الذي قد يكون ألحن بحجته من خصمه. ومصداق ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي, فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له بنحو ما أسمع منه, فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً, فإنما اقتطع له قطعة من النار”. وقد شاع في الأمثال أن الصلح السيئ خير من الخصومة الجيدة.

كما أن من الميزات التي يُحققها الصلح نشر السلم الاجتماعي: ذلك أن عقد الصلح بإنهائه النزاع القائم أو المحتمل بين طرفي الخصومة إنما يُسهم ـ بحق ـ في تحقيق السلم الاجتماعي، وإشاعة الأمن والسلام بين أفراد المجتمع، ذلك أنه يقضي على الخصومة من جذورها, ويؤلف بين القلوب المتنافرة, ويضع حداً لما تركته الخصومات من أحقاد في النفوس وضغائن في الصدور وشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة, وإشعال نار العداوة والبغضاء, وكل هذه الأمور لا تقضي عليها الأحكام القضائية؛ بل قد تُشغل أوارها, وتُلهب جذوتها، وتُثير ما كمن منها؛ ذلك أن المحكوم عليه في الدعوى – وإن ارتضى حكم القضاء في الظاهر – إلا أنه في قرارة نفسه وأعماق ضميره يحقد على المحكوم له, ويتربص به الدوائر, وقد تدفعه نفسه الأمارة بالسوء إلى ارتكاب جريمة من الجرائم؛ بل ربما يكون الصلح القبلي أقوى أثراً نظراً لكونه يستخدم عدة أساليب في الوصول إلى نهاية مرضية بإتمام الصلح القبلي, إضافة إلى أن هذا النوع من الصلح ينطلق من الوحدات الاجتماعية نفسها المتمثلة في الأسرة أو على مستوى القرية أو القبيلة, ولهذا يكون أثره أقوى، كما يعمل الصلح القبلي على تحقيق الصلح, حتى ولو لم يكن هناك نزاع, ولكن لاحتمال وقوعه في المستقبل, ويبرز هذا في عملية توزيع الإرث المشكلات العائلية بين الزوجين.

ونظراً لهذه الميزات التي يحققها الصلح بين المتنازعين فإن تطبيقه عملاً من خلال مكاتب متخصصة لدى المحاكم يُعد خطوة موفقة, ولكننا نرى أن هناك العديد من الضوابط التي يجب مراعاتها لعمل هذه المكاتب, منها: أن الصلح يتم تحت الإشراف المباشر للمحكمة؛ كما يجب إعطاء فاعلية للقرار الصادر بالصلح بين المتنازعين, حيث يُصبح أمراً ملزماً للطرفين, ومن ثم يتم توثيقه للاحتجاج به عند اللزوم, فيُعد قراراً فاصلاً في النزاع لا يجوز للأطراف رفض تنفيذه, بل يُعطى الصيغة التنفيذية مثله في ذلك مثل الأحكام القضائية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت