شروط دعوى وقف الأعمال الجديدة في النظام

الشروط المتعلقة بذات الدعوى

تمهيد :
بما أن المدعي الذي يطلب وقف هذه الأعمال يجب أن يكون متضرراً من تمام هذه الأعمال في حيازته ، فإنه يشترط في هذه الحيازة الشروط التي سبق أن ذكرناها في شروط مشروعية الحيازة في دعوى استرداد الحيازة ، ودعوى منع التعرض للحيازة وسنبيّن في هذا المطلب الشروط المتعلقة بدعوى وقف الأعمال الجديدة مع الإشارة إلى ما سبق بيانه في شروط مشروعية دعوى الحيازة.

الشرط الأول : أن تكون الحيازة مستمرة :
ومعنى استمرار الحيازة : أن تتوالى أعمال السيطرة المادية التي يباشرها الحائز على الشيء المحوز في فترات متقاربة ومنتظمة ، فلا تقوم على أعمال مشوبة بعيب عدم

لاستمرار أو التقطع ، فيجب أن يستعمل الحائز الشيء موضوع الحيازة كلما دعت الحاجة إلى استعماله ، وليس من الضروري أن يستعمل الحائز هذا الشيء في كل وقت بغير انقطاع حتى تكون الحيازة مستمرة ، بل يكفي أن يكون الاستعمال في فترات متـقاربة ومنتظمـة –كما يستعمل المالك ملكه في العادة –.

والقانون المدني المصري اشترط في دعوى وقف الأعمال الجديدة أن تكون حيازة الحائز الشرعي استمرت مدة سنة على الأقل ، فيجب أن تكون حيازة المدعي قد استمرت مدة سنة كاملة بدون انقطاع قبل شروع المدعى عليه في الأعمال الجديدة التي لو تمت لأصبحت تعرضاً للحيازة المطلوب وقفها.

فدعوى وقف الأعمال الجديدة في القانون المصري تحمي الحيازة المستقرة التي تكون قد دامت وقتاً كافياً قُدر بسنة كاملة ، وقد نقل التقنين المصري هذا الشرط عن القانون الفرنسي ، ونقله هذا القانون بدوره عن تقاليد القانون الفرنسي القديم ، وكانت هذه التقاليد تقضي بأن تكون الحيازة قد دامت سنة ويوماً ، فأصبحت سنة واحدة في القانون الفرنسي.

أما نظام المرافعات الشرعية السعودي فلم يحدد مدة معينة لاستمرار الحيازة ، بل أطلق المدة ، وفي تقدير الباحث أن في هذا الإطلاق إحالة إلى العرف واجتهاد القاضي في تحديد مدة استمرار الحيازة.

الشرط الثاني : أن تقترن الحيازة بالتصرف :
فلابد أن تقترن حيازة الحائز الشرعي بالتصرف في المحوز ، فقد بيّنت اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات رقم (31 / 1) ماهية الحيازة بقولها : [ما تحت اليد من غير العقار الذي يتصرف فيه بالاستعمال بحكم الإجارة، أو العارية، أو يُتصرف فيه بالنقل من ملكه إلى ملك غيره؛ سواء أكان بالبيع، أم الهبة، أم الوقف ] (3).

فنرى أن اللائحة بيّنت أن من ماهية الحيازة أن يتصرف الحائز في المحوز بالاستعمال بأن يؤجره ، أو يعيره ، أو بالنقل من ملكه إلى ملك غيره سواء بالبيع أو بالهبة ، أو بالوقف ، وما ذُكر في هذه اللائحة من أنواع التصرفات هي على سبيل المثال لا الحصر ، ويقيس القاضي عليها ، وهذا الشرط لم يجد الباحث من شرّاح القانون من تعرض له.

الشرط الثالث : أن تكون الحيازة ظاهرة :
معنى ظهور الحيازة : أن يباشرها الحائز على مشهد ومرأى من الناس أو على الأقل على مشهد ومرأى من المالك ، أو من صاحب الحق الذي يستعمله ، فلا تقوم على أعمال تكون مشوبة بعيب الخفاء أو عدم العلانية ؛ لأن من يحوز حقاً يجب أن يستعمله كما لو كان هو صاحب هذا الحق ، وصاحب الحق لا يستعمله خفية بل يستعمله علناً (1) ، فظهور حيازة الحـائز للشيء المحوز بحيث يتمكن الخصم الآخر من العلم بها هو أمر معتبر ومشترط ، وبدونه لا تقوم الحجة على الخصم الآخر ، فإذا كانت الحيازة خفية بحيث لا يعلم بها المحوز عليه فإنها لا تكون حجة عليه.

الشرط الرابع : أن تكون الحيازة بلا إكراه :
لتكون الحيازة مشروعة يجب ألا يحصل الحائز على الحيازة بالإكراه ، سواء الإكراه المادي عن طريق استعمال القوة المسلحة ، أو غير المسلحة ، أو الإكراه المعنوي عن طريق استعمال التهديد الذي يختلف أثره باختلاف الأشخاص ونوع التهديد ، ويستوي أن يكون الحائز قد استعمل القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة أعوان له يعملون باسمه.

وهذا الشرط يُفهم من تعريف نظام المرافعات السعودي لدعوى استرداد الحيازة ، حيث قال في تعريفها : [طلب من كانت العين بيده -وأخذت منه بغير حق، كغصب وحيلة- إعادة حيازتها إليه، حتى صدور حكم في الموضوع بشأن المستحق لها ] ، فيُفهم من هذا النص أن الحيازة إذا أُخذت بالغصب أو الحيلة فهي حيازة غير مشروعة ، ويجب في هذه الحالة أن يصدر القاضي أمراً برد الحيازة من الـمُكرِه أو الغاصب إلى الحائز الشرعي الذي سلبت منه الحيازة بالإكراه ، أو الغصب ، أو الغش.

الشروط المتعلقة بالمدعي

يُشترط في المدعي في دعوى وقف الأعمال الجديدة أن تتوفر فيه الشروط الآتية :
الشرط الأول : أن يكون المدعي حائزاً للمحوز :
فيجب أن يكون المدعي حائزاً للعين التي لو تمت الأعمال الجديدة لتضمنت تعرضاً لحيازتها ، وبمعنى آخر على وشك أن تصبح تعرضاً ، ويجب أن تكون حيازة المدعي حيازة نظامية ، ومعنى كون الحيازة نظامية أن يتوافر فيها العنصرين المادي – وهو السيطرة المادية على الشيء موضوع الحيازة – والعنصر المعنوي – وهو الظهور بمظهر صاحب الحق محل الحيازة –.

ويشترط أن تكون دعوى وقف الأعمال الجديدة مستندة إلى الحيازة باعتبارها إحدى دعاوى وضع اليد ، وليس إلى عقد ، فإذا كان المدعي مرتبطاً مع المدعى عليه بعقد ، وكان إيقاف الأعمال الجديدة يدخل في نطاق هذا العقد ، ففي هذه الحالة يتعين على المدعي أن يلجأ إلى دعوى العقد ، وليس إلى دعوى الحيازة لإلزام المدعى عليه باحترام ومراعاة شروط العقد ، فإذا قام المؤجر بإعمال جديدة من شأنها أن تحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة كأن يُحدث بالعين المؤجرة أو بملحقاتها تغييراً يخل بهذا الانتفاع فيستطيع المستأجر أن يلجأ إلى القضاء لإلزام المؤجر بوقف الأعمال الجديدة ، وليس ذلك بالاستناد إلى دعوى الحيازة ، وإنما استناداً إلى دعوى عقد الإيجار الذي يربطه بالمؤجر ، والذي يلزمه بالامتناع عن التعرض المادي للمستأجر.

الشرط الثاني : أن تكون حيازة المدعي للمحوز خالية من العيوب :
فيجب أن تكون حيازة المدعي حيازة نظامية خالية من العيوب ، أي حيازة مستمرة ، علنية ، بلا إكراه ، غير غامضة على الوجه الذي بيّناه سابقاً .

ويجب أن تكون يد الحائز متصلة بالمحوز اتصالاً فعلياً يجعل المحوز تحت تصرفه المباشر ؛ لأن العبرة هنا بالحيازة الفعلية ، وليس مجرد تصرف نظامي قد يطابق أو لا يطابق الحقيـقة ، فلا تكـفي الحيازة الرمزية مثل حيازة المفتاح ؛ لأنها ليست بذاتها دليلاً قاطعاً على الحيازة المادية.

الشروط المتعلقة بالأعمال الجديدة

يُشترط في الأعمال التي يطالب المدعي بوقفها الشروط التالية :
الشرط الأول : أن تكون هذه الأعمال قد بدأت ولكنها لم تتم :
فيجب أن تكون هذه الأعمال التي يُطالب بوقفها بدأت ولكنها لم تتم ، فقد نصت الفقرة ( أ ) من اللائحة التنفيذية رقم (238 / 2) على أنه يشترط لصحة طلب وقف الأعمال الجديدة : [أن تكون هذه الأعمال قد بدأت ولكنها لم تتم] ؛ وذلك أنها لو تمت لوقع التعرض فعلاً وصار الضرر واقعاً وحينئذٍ تخرج عن نطاق دعوى وقف الأعمال الجديدة ، بل وتخرج عن نطاق القضاء المستعجل وتكون حينئذٍ من باب دعاوى إزالة الضرر ، وهي غير مستعجلة ، وقد نصت على ذلك اللائحة التنفيذية رقم (238 / 3) ، حيث جاء فيها : [إذا تمت الأعمال الجديدة قبل وقفها وفيها ضرر على المدعي فلا تكون من القضاء المستعجل بل تكون من باب دعاوى إزالة الضرر وهي غير مستعجلة ].

ومثال الأعمال التي لم تتم أن يشرع المدعى عليه في بناء سور في أرضه يمنع المدعي صاحب حق الارتفاق من المرور في الأرض ، فيقوم بحفر الأساس وشراء مواد البناء اللازمة لإقامته من اسمنت ، ورمل ، وطوب ، وأخشاب ، وسقالات ، والاتفاق مع البنائين والعمال ، ويملك القاضي قبل الفصل في دعوى وقف الأعمال الجديدة ندب خبير

تكون مهمته الانتقال إلى العين محل النزاع لمعاينتها على الطبيعة وبيان ماهية الأعمال الجديدة المطلوب وقفها ، وما إذا كان المدعى عليه ما يزال في مرحلة الشروع فيها أم أنها تمت بالفعل ، وفي الحالة الأخيرة يتعين على الحائز رفع دعوى منع التعرض وليس دعوى وقف الأعمال الجديدة ؛ إذ تكون قد فقدت أحد الشروط الخاصة بها.

الشرط الثاني : أن تكون هذه الأعمال لو تمت لشكلت تعرضاً لحيازة المدعي :
فيجب أن تكون هناك أسباب معقولة تدعو لاعتقاد أنه لو تمت هذه الأعمال لنجم عنها تعرض فعلي لحيازة المدعي ، فقد نصت الفقرة ( ب ) من اللائحة التنفيذية رقم (238 / 2) أنه يشترط لصحة طلب وقف الأعمال الجديدة : [أن تكون هذه الأعمال التي بدأها المدعى عليه مضرة بالمدعي] ، كما أن هذا الشرط يفهم كذلك من نص اللائحة التنفيذية رقم (238 / 1) والتي ورد فيها تعريف الأعمال الجديدة بأنها : [ما شرع المدعى عليه في القيام بها في ملكه ومن شأنها الإضرار بالمدعي ] ، فتبيـن من نص هذه اللائحة أن هذه الأعمال لابد أن تكون مضرة بالمدعي – أي لو تمت – ، وهذه المسألة يقدرها قاضي الموضوع ، ويستعين في ذلك بالمعاينة ، وقد يستعين برأي الخبير.

الشرط الثالث : أن تكون هذه الأعمال قد أُقيمت بغير حق :
فيجب أن تكون هذه الأعمال التي يُطالب المدعي بوقفها قد أقامها المدعى عليه بغير حـق ، وهذا ما يُفهم من نص المادة الثامنة والثلاثين بعد الـمائتين والتي جاء فيها : [يجوز لمن يضار من أعمال تقام بغير حق أن يتقدم إلى المحكمة المختصة بالموضوع بدعوى مستعجلة لوقف الأعمال الجديدة] ، فنرى أن كون هذه الأعمال تقام بغير حق هو جزء من ماهية هذه الأعمال التي يمكن طلب وقفها بدعوى وقف الأعمال الجديدة ، وعليه فإذا كانت هذه الأعمال قد أُقيمت بحق فلا يمكن للمدعي أن يطلب وقفها بدعوى وقف الأعمال الجديدة.

الشرط الرابع : أن تكون الأعمال التي بدأها المدعى عليه قد وقعت في ملكه لا في ملك المدعي ولا في ملك الغير :
وهذا الشرط يستخلص من طبائع الأشياء ؛ لأن الأعمال لو بدأت في ملك المدعي لكان التعرض حالاً لا مستقبلاً ، ولو بدأت في ملك الغير لكان التعرض لحيازة هذا الغير قد وقع هو أيضاً حالاً لا مستقبلاً ، ولوجب في الحالتين رفع دعوى منع التعرض

للحيازة ، لا دعوى وقف الأعمال الجديدة ، أما إن كان هذا الغير راضياً بهذه الأعمال أو متواطئاً مع الـمدعى عليه في شأنها ، ففي هذه الحالة يكون الغير شريكاً للمدعى عليه ، ويستوي حينئذٍ أن تبدأ الأعمال في ملك المدعى عليه ، أو في ملك الغير.

أما إذا كانت الأعمال التي طالب المدعي بوقفها تقع في متنازع فيه بين المدعي والمدعى عليه فإنها تكون داخلة كذلك في دعوى وقف الأعمال الجديدة ، وذلك بنص اللائحة التنفيذية رقم (79 / 6) ، والتي جاء فيها : [ إذا طالب المدعي بمنع التعرض للحيازة وقبل الحكم فيها شرع المدعى عليه في بناء أو زرع ونحوهما فللمدعي تعديل دعواه إلى طلب وقف الأعمال الجديدة أو إلى طلب رد الحيازة ] ، فيُفهم من هذه اللائحة أن المدعى عليه إذا قام بهذه الأعمال في متنازع فيه بينه وبين المدعي فإن المدعي يطلب وقف هذه الأعمال عن طريق دعوى وقف الأعمال الجديدة.

موقف الفقه الإسلامي من هذه الشروط
تمهيد :
سبق معنا في الشروط النظامية أنها ثلاثة أقسام هي :
1- الشروط المتعلقة بذات الدعوى
2- الشروط المتعلقة بالمدعي.
3- الشروط المتعلقة بالأعمال الجديدة.
وسوف نستعرض موقف الفقه الإسلامي من كل قسم من هذه الشروط في فرع مستقل.

الفرع الأول : موقف الفقه الإسلامي من الشروط المتعلقة بذات الدعوى :
تمهيد :
سبق بيان موقف الفقه الإسلامي من هذه الشروط ، وما سيذكر في هذا الفرع هو ما يتعلق بدعوى وقف الأعمال الجديدة مع الإشارة إلى ما سبق بيانه.

الشرط الأول : أن تكون الحيازة مستمرة :
سبق معنا أن استمرار الحيازة في الفقه الإسلامي شرط لمشروعية الحيازة ، وأنه قلّ من الفقهاء من تعرض لهذه المسألة ، وأن الفقهاء الذين تعرضوا لهذه المسألة اختلفوا في مدة استمرار الحيازة على أربعة أقوال :
القول الأول : أن الحيازة لا تحدد بسنين مقدرة ، بل يُرجع فيها إلى اجتـهاد القاضي ، وإلى عرف الناس ، وهو قول الإمام مالك وبعض المالكية ، وبعض الحنابلة.
القول الثاني : تحديد مدة الحيازة بعشر سنين ، وهذا قول بعض المالكية.
القول الثالث : تحديد مدة الحيازة بسبع سنين ، وهذا قول بعض المالكية.
القول الرابع : تحديد مدة الحيازة بحسب الحائز والمحوز ، وهذا قول بعض المالكية.
وسبق أن بيّنا أن الراجح من هذه الأقوال هو القول الأول القائل بأن الحيازة لا تـحدد بسنين مقدرة ، بل يُرجع فيها إلى اجتهاد القاضي ، وإلى عرف الناس جاء في المدونة : ” قلت : هل كان مالك يوقت في الحيازة عشر سنين ؟ ، قال : ما سمعت مالكاً يحد فيه عشر سنين ولا غير ذلك ، ولكن على قدر ما يرى أن هذا قد حازها دون الآخر فيما يكرى ويهدم ويبنى ويسكن “.
وقال ابن القيم : ” إذا رأينا رجلاً حائزاً لدار متصرفاً فيها مدة سنين طويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه فدعواه غير مسموعة أصلاً “.
وسبق مناقشة هذه المسألة ، ومناقشة الأقوال المرجوحة ، وبيان الأدلة المرجحة للقول الراجح.

الشرط الثاني : أن تقترن الحيازة بالتصرف :
هذا الشرط تعرض له كثير من الفقهاء، قال في بدائع الصنائع : ” لأن اليد على العقار لا تثبت بالكون فيه ، وإنما تثبت بالتصرف فيه “.
وقال الحطاب : ” وأفاد المصنف بقوله لمتصرف طويلاً أنه إنما يشهد بالملك إذا طالت الحيازة أو كان يتصرف تصرف الملاك من الهدم ونحوه ولا ينازعه أحد “.
ولكن من الفقهاء من ذكر أنه يتصرف فيها تصرف الملاك ، ومنهم من أطلق ولم يقيده بكونه تصرف الملاك ، قال الحطاب : ” وأن يشهد بالملك إذا طالت الحيازة أو كان يتصرف تصرف الملاك من الهدم ونحوه “.
وقال ابن قدامة: ” فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى ، والإعارة ‏,‏ والإجارة ، والعمارة ، والهدم‏ ,‏ والبناء من غير منازع ، فقال أبو عبد الله بن حامد ‏:‏ يجوز أن يشهد له بملكها وهو قول أبي حنيفة “.
ومن الفقهاء من لا يشترط أن يكون التصرف تصرف الملاك ، بل يشترط مطلق التصرف ، قال في المدونة : ” قال مالك بن أنس : إذا كان حاضراً يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له “.
وقد تباينت نصوص الفقهاء في بيان أنواع التصرفات التـي يجب أن تقترن بالحيازة ، قال الحطاب : ” والحيازة تكون بثلاثة أشياء : أضعفها السكنى والازدراع ، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ، ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة والنحلة والعتق والكتابة والتـدبير والوطء ، وما أشبه ذلك مـما لا يفعله الرجل إلا فـي ماله ، والاستخدام فـي الرقيق ، والركوب فـي الدابة ، كالسكنى فيما يسكن ، والازدراع
فيما يزرع ، والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور والغرس في الأرضين ” ، وقال ابن قدامة : ” فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى، والإعارة ‏,‏ والإجارة ، والعمارة ، والـهدم ‏,‏ والبناء من غير منازع “.
ونصوص الفقهاء في هذا الشأن كثيرة ، وما ذكره الفقهاء من أنواع التصرفات إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر ، فإن التصرفات التي تدل على الحيازة تتغير حسب عرف كل زمان وعادته ، وحسب ما يستجد من الأعيان التي تُقصد حيازتها ، فمن غير الممكن حصرها بهذه التصرفات.

الشرط الثالث : أن تكون الحيازة ظاهرة :
وقد سبق معنا بيان معنى ظهور الحيازة ، وأن الفقهاء قد تعرضوا لهذا الشرط بوضوح ، قال في حاشية الشرح الصغير : ” قوله [ حاضر ] : أي بالبلد بمعنى أنه لم يخـف عليه أمر ذلك المحوز لقربه منه ، وأما لو كان حاضراً وهو غير عالم فله القيام إذا أصبت عدم علمه “.

وقال ابن القيم: ” إذا رأينا رجلا حائزاً لدار متصرفاً فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء ، والإجارة والعمارة ، وهو ينسبها إلى نفسه ، ويضيفها إلى ملكه ، وإنسان حاضر يراه ، ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ، فدعواه غير مسموعة أصلاً “.

فنرى كلام الفقهاء واضحاً في اشتراط أن تكون حيازة الحائز للمحوز ظاهرة ، بحيث يعلم المحوز عليه بحيازة الحائز للمحوز بشكل ظاهر ، بل فصّلوا في أحكام الغائب وكيف يعلم بالحيازة أو لا يعلم بها ، قال ابن فرحون : ” الغائب وإن كانت غيبته قريبة فهو محمول على عدم العلم حتى يثبت عليه العلم ، والحاضر مـحمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم “.

الشرط الرابع : أن تكون الحيازة بلا إكراه :
لنكون الحيازة مشروعة في النظام فإنه يشترط ألا يحصل الحائز على الحيازة بالإكراه ، وكلام الفقهاء عن هذا الشرط ظاهر كذلك.
قال الشيخ خليل: ” وإن حاز أجنبي غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينته “.

ثم قال الحطاب تعليقاً على قوله [ بلا مانع ] : ” يعني أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام ، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل ، وفُسر المانع بالخوف ، والقرابة ، والصهر ، وقد احترز المصنف من القرابة والصهر بقوله أولاً [ أجنبي ] فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف ، أي خوف المدعي من الذي في يده العقار لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان فإن كان سكوته لذلك لم يبطل حقه “.

وقال ابن القيم : “ إذا رأينا رجلا حائزاً لدار متصرفاً فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء ، والإجارة والعمارة ، وإنسان حاضر يراه ، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ، ولا مانع يمنعه من مطالبته : من خوف سلطان ، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه فدعواه غير مسموعة أصلاً “.

فنرى كلام الفقهاء واضحاً في أن الحيازة لا تكون مشروعة إذا كان الحائز قد حصل على الحيازة بالإكراه ، أو أنه له قوة تمنع المحوز عليه من الإنكار عليه.

الفرع الثاني : موقف الفقه الإسلامي من الشروط المتعلقة بالمدعي :
الشرط الأول : أن يكون المدعي حائزاً للمحوز :
فيجب أن يُثبت المدعي أنه وقت أن تُعرض لحيازته كان حائزاً للشيء موضوع الحيازة ، وهذا الشرط بديهي ، فإن المدعي إذا لم يُثبت أنه كان حائزاً للمحوز حيازة مشروعة قبل اعتداء المدعى عليه على حيازته فلا تكون هناك دعوى منع التعرض للحيازة.

الشرط الثاني : أن تكون حيازة المدعي للمحوز خالية من العيوب :
وهذا الشرط لازم لمشروعية حيازة المدعي ، إذ لو اختل شرط من شروط مشروعية الحيازة المشروعية لكانت حيازته غير مشروعة ، وبالتالي لا تكون محمية بدعاوى الحيازة ؛ إذ أن دعاوى الحيازة لا تحمي إلا الحيازة المشروعة.

الفرع الثالث : موقف الفقه الإسلامي من الشروط المتعلقة بالأعمال الجديدة :
الشرط الأول : أن تكون هذه الأعمال قد بدأت ولكنها لم تتم :
لتمام دعوى وقف الأعمال الجديدة يجب أن تكون هذه الأعمال قد بدأت ولم تتم ؛ لأنها لو لم يُبدأ بها فكيف يُطالب المدعي بوقفها وهي لم تبدأ أصلاً ، ولم تكن على أرض الواقع ، أما لو تمت هذه الأعمال فإن المدعي لن يُطالب بوقفها ؛ لأنها تمت ، ولكنه سيُطالب بإزالتها ، وهذا المعنى يُفهم من الدعوى التي وردت في المدونة والتـي جاء فيها : ” وسمعت مالكاً واختصم إليه في أرض احتفر فيها رجل عيناً ، فادعى فيها رجل دعوى فاختصموا فيها إلى صاحب تلك المياه ، فأوقفهم حتى يرتفعوا إلى المدينة ، فأتى صاحب العين الذي كان عليها فشكا ذلك إلى مالك ، فقال مالك : قد أحسن حين أوقفها ورآه قد أصاب ” ، فالأعمال التي وردت في هذا النص الفقهي قد بدأت وشرع فيها المدعى عليه يدل لذلك قوله : ” واختصم إليه في أرض احتفـر فيها رجل عيناً ” ، فالأعمال قد شرع بها المدعى عليه ، ولكنها لم تتم ، بدل لذلك قـول الإمام مالك : ” قد أحسن حين أوقفها ” ، فهذه الدعوى التي وردت في المدونة قد اشتملت على هذا الشرط النظامي.

الشرط الثاني : أن تكون هذه الأعمال لو تمت لشكلت تعرضاً لحيازة المدعي :
فيجب أن تكون هناك أسباب معقولة تدعو لاعتقاد أنه لو تمت هذه الأعمال لنجم عنها تعرض فعلي لحيازة المدعي ، فلا بد أن يثبت لدى القاضي أن هذه الأعمال لو تمت فإن المدعي سيتضرر منها فيما يحوز ، وهذا ما يُفهم من النص الفقهي السابق الذي ورد في المدونة ، : ” وسمعت مالكاً واختصم إليه في أرض احتفر فيها رجل عيناً ، فادعى فيها رجل دعوى فاختصموا فيها إلى صاحب تلك المياه ، فأوقفهم حتى يرتفعوا إلى المدينة ، فأتى صاحب العين الذي كان عليها فشكا ذلك إلى مالك ، فقال مالك : قد أحسن حين أوقفها ورآه قد أصاب ، قال : فقال له صاحب الأرض : اترك عمالي يعملون فإن استحق الأرض فليهدم عملي ، قال مالك : لا أرى ذلك ، وأرى أن يوقف ، فإن استحق حقه أخذه وإلا ثبتت ، قلت : وهل يكون هذا بغير بينة وغير شيء توقف هذه الأرض ؟ ، قال ابن القاسم : لا أرى أن توقـف ، إلا أن يكون يرى لقول المدعي وجه فتوقف عليه الأرض ” ، فهذه الدعوى المذكورة في هذا النص لم يحكم فيها المحكم – صاحب تلك المياه – بوقف الأعمال التي يقوم بها المدعى عليه إلا بعد أن قامت عنده أسباب معقولة تدعو إلى تكوين اعتقاد بأن هذه الأعمال لو تمت فإنها ستشكل ضرراً على المدعي ، وذلك في قوله : ” قال ابن القاسم : لا أرى أن توقـف ، إلا أن يكون يرى لقول الـمدعي وجه ” ، فقوله وجه : أي وجه يجعل القاضي يقتنع بمبررات المدعي ، وأن يقدم في دعواه ما يبين من خلاله أن هذه الأعمال لو تمت فسوف تشكل ضرراً عليه.

الشرط الثالث : أن تكون هذه الأعمال قد أُقيمت بغير حق :
فيجب أن تكون هذه الأعمال التي يُطالب المدعي بوقفها قد أقامها المدعى عليه بغير حق ، وهذا ما يُفهم من النص الفقهي السابق ، وذلك في قوله : “، قلت : وهل يكون هذا بغير بينة وغير شيء توقف هذه الأرض ؟ ، قال ابن القاسم : لا أرى أن توقف ، إلا أن يكون يرى لقول المدعي وجه فتوقف عليه الأرض ” ، فلو كانت هذه الأعمال بحق لما كان لقول المدعي حق في طلبه بوقف هذه الأعمال ؛ إذ ليس له حق في المطالبة بوقف أعمال يقيمها المدعى عليه ، ويكون له حق في إقامتها.

الشرط الرابع : أن تكون الأعمال التي بدأها المدعى عليه قد وقعت في ملكه لا في ملك المدعي ولا في ملك الغير :
هذا الشرط من الأمور التنظيمية التي يقوم بها الإمام لتنظيم أمور القضاء ، وهذا الشرط من أعمال السياسة الشرعية التـي يقوم بها الإمام ، والتي تجب فيها السمع والطاعة ، وهذا التنظيم يحقق المصلحة لأعمال القضاء – وكما سبق فإن تصرف الإمام منوط بالمصلحة – ، فمقتضى هذا الشرط أن هذه الأعمال إن قام بها المدعى عليه في ملكه ، أو في متنازع فيه بين المدعي والمدعى عليه فإنه يتم طلب وقفها عن طريق دعوى وقف الأعمال الجديدة ، وذلك لا يعني أن الأعمال التي لا يتوفر فيها هذا الشرط أنه لا يمكن معالجتها عن طريق القضاء ، بل يمكن ذلك ، ولكن بدعوى غير وقف الأعمال الجديدة ، فحدود دعوى وقف الأعمال الجديدة تقف عند فقد هذا الشرط.

فهد بن علي الحسون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت