دراسة وبحث قانوني ممتاز عن شروط تحقيق الحريات العامة وطرق تنظيمها

بحث في مقياس القانون الدولي الخاص بعنوان : الدفع بالنظام العام و الدفع بالغش نحو القانون

– خطـــة البحــــث –
مقدمــة
المبحث الأول : الدفع بالنظام العام
المطلب الأول : ماهية الدفع بالنظام العام
المطلب الثاني : مضمون الدفع بالنظام العام
المطلب الثالث : تطور فكرة الدفع بالنظام العام
المطلب الرابع : شروط الدفع بالنظام العام
المطلب الخامس : آثار الدفع بالنظام العام
المبحث الثاني : الدفع بالغش نحو القانون
المطلب الأول : نشأة الدفع بالغش نحو القانون
المطلب الثاني : شروط الدفع بالغش نحو القانون
المطلب الثالث : نطاق الدفع بالغش نحو القانون
المطلب الرابع : الجزاء المترتب عن الدفع بالغش نحو القانون
الخاتمـــــة

****************

مقدمــــــة

إذا ما أشارت قاعدة الإسناد في قانون القاضي أو في القانون الذي يتعين بمقتضاها في القانون الواجب التطبيق يتوجب عندئذ العمل بمقتضى القانون الذي رسى الإسناد إليه لتطبيق قواعده الموضوعية ، و مع ذلك فإن تطبيق القواعد الموضوعية للقانون المعين قد يصطدم واقعا بمانع يحول دون تطبيق هذا القانون لوجود مانع يدعو إلى استبعاده. فموانع تطبيق القانون الأجنبي هي النظام العام و الغش نحو القانون والمصلحة الوطنية. فما هو المقصود بالنظام العام ؟ و هل يمكن تطبيقه في القانون الدولي الخاص ؟

***************************

المبحث الأول : الدفع بالنظام العام

من المسائل المهمة و المعقدة في القانون فكرة النظام العام التي يرتكز النقاش حولها في الأبحاث المتعددة لعلماء القانون الداخلي و الدولي. فما المقصود بالنظام العام ؟

المطلب الأول : ماهية الدفع بالنظام العام

يعد الدفع بالنظام العام صمام الأمان الذي يحمي المجتمع الوطني من القوانين الأجنبية التي تتعارض أحكامها مع المبادئ الأساسية أو القيم العليا التي يقوم عليها المجتمع الوطني ، و من هذا المنطلق تلعب فكرة النظام العام دور كبير في نطاق تنازع القوانين باعتبارها الأداة التي يمكن عن طريقها منع تطبيق القانون الأجنبي الواجب التطبيق على العلاقة ذات الطابع الدولي ، و ذلك على الرغم من كونه هو المختص بحكمها بموجب قاعدة الإسناد الوطنية ، ذلك إذا ما تبين أن قواعد ذلك القانون معارضة مع النظام العام في دولة القاضي.
لذلك استقر العمل على الأخذ بالدفع بالنظام العام في العديد من النظم القانونية منها التشريع الجزائري الذي نص في المادة 24 ق.م.ج ” لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر ، أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون. يطبق القانون الجزائري محل القانون الأجنبي المخالف للنظام العام أو الآداب العامة ”

المطلب الثاني : مضمون الدفع بالنظام العام

لا يمكن حصر مقدما مختلف الحالات التي يمكن استعمال فيها فكرة النظام العام لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد الوطنية.
و يؤكد ذلك الفشل الذريع الذي مني به الحل الذي بينته المادة 2 من اتفاقية لاهاي لسنة 1902 لتنظيم تنازع القوانين في مادة الزواج فقد حدد مقدما الحالات التي يمكن اللجوء فيها إلى فكرة النظام العام فكان سببا في نقضها.
و يؤكد هذه الاستحالة أيضا كثرة المعايير التي جاء بها الفقه لفكرة النظام العام فعند بعض الفقه يعتبر القانون الأجنبي المختص مخالفا للنظام العام إذا اشتمل على نظم قانونية غير معروفة في قانون القاضي و عند البعض الآخر يعتبر القانون الأجنبي مخالفا للنظام العام إذا كان متعارضا مع السياسة التشريعية للدولة ، و يرى البعض الآخر وجوب استبعاد تطبيق القانون الأجنبي باسم النظام العام إذا كان يصطدم بالمبادئ العامة المتعارف عليها في جماعة الأمم المتحضرة أو كان يصطدم بمبادئ القانون الطبيعية.
و قد يتغير مفهوم النظام العام في الزمان داخل نفس الدولة فقد يكون الحق عند نشوئه مخالفا للنظام العام ، و عند رفع الدعوى يكون غير مخالف له فأمامنا إذن نظام عام قديم و نظام عام جديد فبأيهما يأخذ القاضي عند فصله في دعوى موضوعها هذا الحق ؟
نسبية فكرة النظام العام : تختلف الدول عن بعضها البعض من حيث الديانة و الأفكار المهيمنة و فلسفة الحياة و النظام الاقتصادي و الاجتماعي و الأخلاقي ، و هذا الاختلاف من الطبيعي أن يجعل النظام العام مفهوما متغيرا من دولة إلى أخرى ، فما يعتبر مخالفا للنظام العام في دولة معينة قد لا يعتبر مخالفًا للنظام العام في دولة أخرى.
مثال : – اعتبار في فرنسا القانون الأجنبي الذي يجيز تعدد الزوجات مخالفا للنظام العام الفرنسي.

المطلب الثالث : تطور فكرة الدفع بالنظام العام

يرجع أصل فكرة النظام العام إلى فقه نظرية الأحوال في القرن الثالث عشر الميلادي حيث أشار فقهاء تلك النظرية إلى فكرة قريبة للنظام العام … فقد فرق الفقيه ” بارتول ” أحد مؤسسي نظرية الأحوال بين نوعين من الأحوال ”القوانين” و هما : الأحوال المفيدة و الأحوال الملائمة و التي يمكنها الامتداد خارج الإقليم و الأحوال البغيضة أو المستهجنة و التي لا يمكنها الامتداد خارج الإقليم التي صدرت فيه و لا يسوغ للقاضي الوطني و بالتالي تطبيقها لمخالفتها لقيم و مبادئ مجتمعة ، إذ يعتبر الفقه هذه التفرقة نواة فكرة النظام العام بالمعنى الحديث أي بوصفها وسيلة لمنع تطبيق القوانين الأجنبية المتعارضة مع الأسس التي يقوم عليها المجتمع.
و على الرغم من قدم فكرة النظام العام فإن أول من استعمل أو اصطلح ” النظام العام الدولي ” الفقيه الهولندي ”هوبز” في القرن 17.
غير أن الفضل يرجع في إبراز هذه الفكرة بمفهومها الحديث إلى الفقيه ”سافيني” الذي أوضح أن القاضي الوطني لا يطبق القانون الأجنبي إلا إذا توافر بينه و بين القانون الوطني اشتراك قانوني يبرر هذا التطبيق و هذا الاشتراك يتحقق من وجهة نظر هذا الفقيه فيما بين الدول المسيحية التي استمدت قوانينها من القانون الروماني ، أما إذا لم يتحقق هذا الاشتراك كان هناك تعارض بين القانون الأجنبي و قانون القاضي مما يقتضي استبعاد الأول ثم استقر الفقه الحديث على استعمالها كوسيلة لحماية النظام الوطني من القوانين الأجنبية غير المتفقة مع الأسس التي يقوم عليها.

المطلب الرابع : شروط الدفع بالنظام العام

الشرط الأول : أن تشير قاعدة الإسناد إلى اختصاص قانون أجنبي معين لحكم النزاع : فلا يتصور إعمال الدفع بالنظام العام إذا كان القانون الواجب التطبيق على النزاع هو القانون الوطني ، و ذلك حتى في حالة تنازع قوانين داخلية باعتبار أن القوانين المتنازعة في هذا الفرض صادرة كلها من مشرع وطني واحد.
غير أن الفقه يستثني من ذلك حالة الدول الفيدرالية التي تشكل كل ولاية فيها وحدة تشريعية مستقلة تمام الاستقلال ، إذ من المتصور في هذه الحالة وجود اختلاف في الأسس التي يقوم عليها النظام القانوني في كل وحدة مما يبرر بالتالي إعمال فكرة النظام العام الدولي.
الشرط الثاني : مخالفة القانون الأجنبي المختص للنظام في دولة القاضي : إن سماح المشرع بتطبيق القانون الأجنبي المختص مطلق بل يشترط عدم مطابقة القانون الأجنبي المختص لكل المبادئ و الأسس الاقتصادية و السياسية و الدينية المعروفة في دولة القاضي فيما الإشكال يقع في تحديد الضوابط التي يحدد من خلالها مدى مخالفة النظام العام.
و قد ظهرت العديد من الآراء لعل أفضلها هو ابقاء المسألة لتقدير قاضي الموضوع تحت رقابة المحكمة العليا.

المطلب الخامس : آثار الدفع بالنظام العام

أولا : الأثر السلبي للنظام العام :
يتمثل الأثر السلبي للنظام العام في استبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد الوطني لكن قد يحدث و أن يكون القانون الأجنبي برمته غير مخالف للنظام العام ، الأمر الذي يطرح التساؤل التالي : هل القاضي يستبعد من القانون الأجنبي الجزء فقط المخالف للنظام العام أم أنه يستبعد القانون الأجنبي بكامله ؟
يرى بعض الفقه أن استبعاد القانون الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد الوطنية لمخالفته للنظام العام ينبغي أن يكون كليا ، لأن استبعاد جزء منه دون الأجزاء يتنافى مع حكمة قاعدة الإسناد إذ تهدف إلى تطبيق القانون الأجنبي كاملا لا بعض أحكامه دون البعض الآخر ، كما أن استبعاد الجزئي يؤدي إلى منع القانون الأجنبي و تطبيقه بشكل يخالف إرادة المشرع الذي وضعه.
سار الفقه إلى اتجاهين :
1- يرى استبعاد الكامل :
2- يرى استبعاد الجزء المخالف فقط للنظام العام

ثانيا : الأثر الإيجابي للنظام العام :
يتمثل الأثر الايجابي للنظام العام في إحلال قانون آخر محل القانون الأجنبي المستبعد باسم النظام العام.
و قد استقر القضاء الفرنسي مؤيدا الفقه على إحلال قانون القاضي محل القانون الأجنبي المستبعد لمخالفته للنظام العام ، و هو ذلك الحل الذي استقر كذلك في القضاء المصري و أيده غالبية الفقه هناك.
و تطبيقا لهذا الحل إذا كان القانون الأجنبي يمنع الزواج بين مختلفي اللون فإن القاضي الجزائري يستبعده لمخالفته للنظام العام ، و يطبق بدله القانون الجزائري الذي يجيز هذا الزواج.
و يقترن الأثر الايجابي بالأثر السلبي في الفروض التي يظهر فيها عند النظرة السطحية أنها لا تحتاج إلى تطبيق قانون القاضي عليها ، أي الاكتفاء بشأنها بالأثر السلبي وحده ، من ذلك مثلا الحالة التي يسمح فيها القانون الأجنبي بنشوء علاقة زوجية لا يسمح بنشوئها قانون القاضي كالزواج بين مسلمة و غير مسلم فالقانون الفرنسي يجيز هذا الزواج و في الجزائر يعتبر مخالفا للنظام العام.

ثالثا : الأثر الانعكاسي للدفع بالنظام العام :
قد ينشأ حق في دولة أجنبية وفقا لنظامها العام و خلافا لما يقضي به القانون الأجنبي المختص فهل يمكن الاحتجاج بهذا الحق في بلد القاضي الوطني ؟
يذهب جانب من الفقه إلى القول بأن فكرة النظام العام فكرة وطنية و أن قانون الدولة الأجنبية الذي يطبق إعمالا لفكرة النظام العام لا يتعدى أثره إلى دولة أخرى حتى و لو كان مفهوم النظام العام في كلتيهما غير مختلف.

المبحث الثاني : الدفع بالغش نحو القانون

المانع الآخر من موانع تطبيق القانون الأجنبي هو الغش نحو القانون أو التحايل على القانون ، و يتم التحايل بتغير ظرف الإسناد بهدف نقل الاختصاص من قانون لآخر يتفق مع رغبة الشخص و يجنبه تطبيق القواعد الآمرة للقانون المختص أصلا.
فإذا كان قانون الجنسية لا يجيز تعدد الزوجات فيلجأ الراغب بالزواج من ثانية إلى تغيير جنسيته و الحصول على جنسية دولة أخرى يسمح قانونها بتعدد الزوجات و يتزوج مستفيدا من قانون جنسيته الجديد ، إذ لا يخفى بأن المشرع و هو يضع القواعد القانونية موضوعية إذا كانت أو قواعد إسناد فإنه يجعل منها قواعد تفسيرية و أخرى آمرة حسب ما تتطلبه مقتضيات العدالة و المصلحة العامة و الدولية.
و يتم الغش في القانون الداخلي بمحاولة استبعاد الوصف القانوني لوضع أو عمل أو إحلال وصف آخر مكانه يتفق بذاته مع النص الذي يحكمه إلا أنه يرمي إلى الاستفادة من هذا الوصف الجديد بالتضحية بنص مختص ليحل محله نص آخر من قانون الدولة نفسها ، كما لو منع القانون بيع مال معين فيلتجئ الأفراد إلى وصف عقدهما المنصب على ذلك المال بالإيجار الطويل ، و كوصف البائع بين عقاره بالهبة للحيلولة دون تمسك الجار بحق الشفعة.
أما في القانون الدولي الخاص فيبقى وصف العلاقة ذاته و يتم الغش نحو القانون بتغيير بعض العلاقة القانونية على وجه يتغير معه القانون الواجب التطبيق.

المطلب الأول : نشأة الدفع بالغش نحو القانون

تعتبر القضية المشهورة في الفقه القانوني الدولي الخاص بقضية الأميرة ‘بوفرمون’ أول قضية يطبق فيها القضاء الفرنسي نظرية الغش نحو القانون و لقد فتحت الباب بعدها للفقه للاهتمام ، و تتلخص وقائعها في أن أميرة فرنسية تسمى الأميرة ‘بوفرمون’ أرادت التطليق من زوجها للزواج بالأمير الروماني ‘بيسكو’ و لما كان القانون الفرنسي الذي هو القانون الواجب التطبيق بوصفه قانون الجنسية يمنع آنذاك الطلاق تجنست الأميرة المذكورة بجنسية إحدى الدويلات الألمانية التي يسمح قانونها بالتطليق فتحصلت عليه فيها وفقا لقانون جنسيتها الجديدة فتزوجت في برلين الأمير الروماني ‘بيسكو’ ثم رجعت إلى فرنسا حيث أقامت معه فيها ، رفع الزوج الأول الدعوى أمام القضاء الفرنسي طالبا إبطال طلاقها منه و بالتالي بطلان الزواج المترتب عليه فقضت محكمة النقض الفرنسية لصالحه فأبطلت طلاقهما الأول و ما ترتب عنه من زواج و استندت في قضائها إلى فكرة الغش نحو القانون.
و قد تعاقبت عدة أحكام قضائية في فرنسا بعد هذا الحكم و كلها قد استندت إلى فكرة الغش نحو القانون لمحاربة تحايل الأفراد على قواعد الإسناد الفرنسية للهروب من أحكام القانون المختص أصلا بحكم النزاع.
و قد تعرض المشرع الجزائري للدفع بالغش نحو القانون في المادة 24 من القانون المدني.

المطلب الثاني : شروط الدفع بالغش نحو القانون

أولا : توافر نية الغش : يستلزم الغش نحو القانون كشرط أساسي توافر نية الغش تجاه القانون المختص و تنحصر نية الغش في إخراج العلاقة من نطاق اختصاص قانون ما وإخضاعها عن طريق التحايل لقانون آخر.
و لما كان تغير ظروف الإسناد لذاته لا يتضمن في جميع الأحوال قصد إخراج العلاقة القانونية من اختصاص قانون لقانون بلد آخر لذلك فإن تغيير ظروف الإسناد وحده لا يكفي للأخذ بنظرية الغش بل يجب أن تكون إرادة الأفراد موجهة بقصد التحايل على اختصاص قانون ما.
أي أن يكون تغيير الاختصاص القانوني هدفا تنشده الإرادة من تغير ظروف الإسناد في حين أن كل تغيير للاختصاص ناتج عن تغيير ظروف الإسناد المقصود لذاته لا يكون غشا نحو القانون فلا مؤاخذة على تبدل الاختصاص الناتج عنه.
لذلك يلزم العمل بهذه النظرية معرفة غرض ذوي العلاقة فإن كان غرضهم نقل الاختصاص فيكون هذا تهريبا للعلاقة القانونية من اختصاص لآخر مما يشكل غشا نحو القانون ، و إذا كان غرضهم تغيير ظروف الإسناد فينتفي عنصر الغش. و يقع على المحكمة تقدير نية الغش نحو القانون.

ثانيا : التغير الإرادي لضابط الإسناد : حتى يكون في الإمكان الدفع بالغش نحو القانون ينبغي أن يكون هناك تغير لضابط الإسناد و أن يكون هذا التغير إراديا.
فبالنسبة لتغير ضابط الإسناد فلا يمكن تصوره بالنسبة للضوابط التي لا يتوقف على إرادة الأشخاص كضابط موقع العقار فهو من الضوابط التي تلفت من إرادة الأفراد لأن العقارات كما نعلم هي أموال لا تقبل النقل من مكان إلى آخر دون تلف.

ثالثا : أن تكون الأحكام التي يريد الشخص التهرب منها قواعد آمرة :
يرى البعض من الفقه أن الغش نحو القانون لا يتحقق إلا إذا كانت أحكام القانون الذي يريد الشخص أن يتهرب منها آمرة أما إذا كانت مكملة فلا يتحقق الغش لأن القواعد المكملة هي قواعد يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها فلا يتصور بالتالي التهرب منها.
غير أن الفقه الغالب يرى أن الغش نحو القانون يتحقق حتى في الحالات التي يريد فيها الشخص التهرب من أحكام القواعد المكملة للقانون المختص حقيقة بحكم العلاقة.

المطلب الثالث : نطاق الدفع بالغش نحو القانون

بعد شيوع نظرية الغش نحو القانون و العمل بها دوليا يقتضي الوقوف على نطاق تطبيق هذه النظرية التي لم يتفق أنصارها على مدى تطبيقها ، فمنهم من يرى الأخذ بها بصورة عامة بالنسبة لجميع التصرفات القانونية و بالنسبة لقوانين جميع الدول ، و منهم من يرى تطبيقها تطبيقا ضيقا من ناحية الموضوع الذي يمكن أن يظهر فيه الغش و من ناحية القانون الذي يقع الغش ضده.
فبالنسبة للموضوع الذي يمكن أن تجد النظرية مجالا للتطبيق فيدعو المطالبون بالتطبيق الضيق قصر ذلك على بعض العلاقات القانونية كالمسائل المتعلقة بشكل التصرف و الطلاق و الانفصال الجسماني.
أما بالنسبة للقانون الذي يمكن أن يرتكب الغش ضده فيرى هؤلاء قصره على القانون الوطني للقاضي المرفوع أمامه النزاع فالغش الذي يعد قانون القاضي من اختصاصه يجب أن ينال جزاءه بإبطال الاختصاص الناتج عن الغش و كل غش ترتب عليه تنحية قانون أجنبي لمصلحة قانون أجنبي آخر لا يعتد به و لا ينال جزاءه بإبطال الاختصاص ذلك أن القاضي حسب قول هؤلاء لا يحمي القوانين الأجنبية إنما يحول دون التحايل على قانونه فحسب.

المطلب الرابع : الجزاء المترتب عن الدفع بالغش نحو القانون

يرتكب الغش نحو القانون لتحقيق غاية معينة كالحصول مثلا على التطليق الذي يمنعه القانون المختص أصلا بحكم العلاقة و يتم الوصول إلى هذه الغاية بتغير ضابط الإسناد فهو وسيلة الشخص للوصول إلى غايته المرجوة و السؤال المطروح : هل يشمل جزاء الغش نحو القانون االوسيلة و الغاية أم أنه يشمل الغاية دون الوسيلة ؟
و أثر الغش لا يمكن أن يكون هو البطلان لأنه لا يمكن لأي دولة أن تقرر ما إذا كان التصرف صحيحا أو غير صحيح في الدولة التي تم إجراؤه فيها و غاية ما تملك هذه الدولة أن تعتبره غير نافذ في إقليمها. و عليه نقول بأن أثر الغش هو عدم النفاذ لا البطلان.
يرى الفقه الغالب في فرنسا أن جزاء الغش يشمل الغاية و الوسيلة ، ففي قضية ‘بوفرمون’ مثلا يجب ألا يقتصر أثر الغش على عدم نفاذ الطلاق و الزواج الثاني الذي أبرمته وفقا لقانون جنسيتها الجديدة و إنما يجب أن يمتد أيضا إلى الوسيلة التي استعملتها و هي تجنسها بالجنسية الألمانية فتبقى بذلك فرنسية ليس فقط بالنسبة لتنازع القوانين و إنما أيضا بالنسبة لجميع المجالات الأخرى.
و إلى جانب هذا الرأي الغالب في الفقه يوجد رأي آخر يقول بأن الغش نحو القانون يجب أن يقتصر على النتيجة دون الوسيلة المستعملة.

الخاتمــــــة

اعتقد بعض الفقهاء أن الدفع بالغش نحو القانون يشكل صورة خاصة من الدفع بالنظام العام لتقارب وظيفتيهما ، إذ يؤديان لتحقيق نتيجة واحدة من حيث الأثر هي استبعاد تطبيق القانون الأجنبي و لكن مع هذا الشبه يبقى المفهومان مختلفات و السبب الذي جعل هؤلاء الفقهاء يعتبرون الدفع الأول صورة من الدفع الثاني مرده محاولة تلافي الانتقادات الموضوعية التي تعرضت إليها نظرية الغش نحو القانون و المتمثلة في اعتبار البحث عن النوايا و الدوافع النفسية لاستخلاص نية التحايل مدعاة لتحكم القضاة و استبدادهم لذلك عمد هؤلاء إلى دمج الغش نحو القانون في النظام العام كي يعطوه تعليلا مقبولا و يخلع عليه شيئا من القوة والقدسية و لا داعي اليوم لهذا التأسيس بعد أن صار من الثابت أن مشروعية أي تصرف أو عمل تستنتج من هدفه.
و أهم أوجه الاختلاف بينهما تتمثل في اختلاف طبيعة كل دفع و أساس استبعاد القانون الأجنبي بسببه.
– فالدفع بالنظام العام يرمي إلى استبعاد القانون الأجنبي المعين لأن مضمون قواعده الموضوعية يتعارض مع الأفكار التي يقوم عليها.
– و لو أن أطراف العلاقة كانوا حسني النية و ليس لهم يد في اختيار القانون المستبعد.
– بينما الدفع بالغش نحو القانون أساسه هو أن نية التحايل فيه الحق اصطنع ذووا الشأن يسميها اختصاصا تشريعيا معينا للتهرب عن القانون المختص عادة واضحة و بارزة.
و يكمن الفرق الثاني بين الدفعين في أن استعمال الدفع بالنظام العام قاصر على استبعاد القانون الأجنبي لصالح قانون القاضي.
– في حين أن التمسك بالدفع بالغش نحو القانون قد يكون لصالح قانون القاضي أو لصالح قانون أجنبي آخر.

مراجع البحث

1) الأمر رقم 75-58 مؤرخ في 20 رمضان عام 1395 هـ الموافق لـ 26 سبتمبر سنة 1975 يتضمن القانون المدني معدل و متمم وفقا لتعديل 2005.
2) أعراب بلقاسم – القانون الدولي الخاص الجزائري – الجزء الأول – الطبعة 8 – دار هومة – الجزائر 2006
3) حسن الهداوي – تنازع القوانين – الطبعة 2 – دار الثقافة للنشر – الأردن 2005
4) زروني الطيب – القانون الدولي الخاص مقارنة بالقوانين العربية – الجزء 1 – مطبعة الكاهنة – الجزائر 2000
5) علي علي سليمان – مذكرات في القانون الدولي الخاص – ط 4 – ديوان المطبوعات الجامعية – الجزائر 1993