دراسة بحثية حول الإطار القانوني للقرار المالي بين سيطرة الحكومة وإشراك البرلمان

مقال حول: دراسة بحثية حول الإطار القانوني للقرار المالي بين سيطرة الحكومة وإشراك البرلمان

القرار المالي بين هيمنة الحكومة على الاختصاص وإشراك البرلمان

الباحث جبر لبوع
حاصل على دبلوم الماستر في القانون العام كلية الحقوق سلا

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

مقدمة

يعتبر الاختصاص المالي للبرلمان من بين الاختصاصات المهمة التي من خلالها يمكن له يمارس سلطته وقراره المالي، فإذا كان الواقع قد فرض هيمنة الحكومة على المجال المالي(المبحث الأول) بحيث لها وحدها دون غيرها أن يبادر بالاقتراح في المجال المالي، نظرا للخبرة التي تجعلها جديرة بمعرفة التقنيات المالية والعمليات الحسابية التي تتطلبها ميزانية الدولة السنوية،[1] كما أن أغلب الفقه اعتبر بأن البرلمان لا يملك أي سلطة مالية، من غير سلطة المناقشة والتصويت على قانون المالية، كما ان هذه الأخيرة هي كذلك محاطة بعدة قيود وإجراءات دستورية تحد من سلطته هذه، فإن السؤال المطروح: هل بعد دخول الدستور الجديد للملكة لسنة 2011 بما يحمل من مستجدات يمكن ان نستشف بوادر لإشراك البرلمان في القرار المالي (المبحث الثاني) ولاستعادة سلطته المالية؟

المبحث الأول: هيمنة الحكومة على الاختصاص المالي

إذا كانت الحكومة في اغلب البلدان هي التي تقوم بإعداد مشاريع قوانين المالية، فما هو الإطار النظري لهذا الإختصاص؟(المطلب الأول) وما هي النصوص الدستورية المؤطرة لهذا الاختصاص؟(المطلب الثاني).

المطلب الأول: الإطار النظري لهيمنة الحكومة على الاختصاص المالي للبرلمان

منذ ظهور ما يعرف ” بالعقلنة البرلمانية”، التي أعادت تنظيم صلاحيات جديدة، هي في الأصل كانت حكرا على البرلمان أو الجمعيات النيابية، برز الدور الجديد والفعال للسلطة التنفيذية كشريك أساسي في إنتاج القوانين، إن لم نقل هي الطرف المهيمن في إنتاجها، ويمكن أن نذكر على سبيل التخصيص في هذا الإطار، مشروع قانون المالية، الذي انفردت أغلب الحكومات في العالم بصياغته قبل أن تقوم بعرضه على البرلمان.

ولقد اتجه أغلب الفقه إلى اعتبار أن تولي الحكومة في أغلب الأنظمة المالية الحديثة مسؤولية تحضير مشروع القانون المالي، على حساب المجالس النيابية، باعتبار الطابع التقني للقانون المالي.[2]
وتبعا لذلك فإن الحكومة مؤهلة أكثر على تقدير الإيرادات والنفقات العامة بحكم توفرها على أجهزة مختلفة وإمكانيات تقنية وبشرية تمكنها من معرفة الحاجيات وما تتطلبها من نفقات، كما تمكنها من تقديم تقديراتها بناء على دراسات اقتصادية ومالية دقيقة، وهو ما تفتقد إليه المجالس النيابية، حيث لا يمكنها ضبط تقديراتها المالية في وقت لا تتوفر فيه على الإمكانيات التقنية والبشرية المتخصصة،[3] هذا من جهة.

ومن جهة أخرى نجد من بين الأسباب التي أدت إلى احتكار الحكومة للاختصاص المالي، يتمثل في كون أن المجالس النيابية أثناء صياغة مشروع القانون المالي، قد يتحكم فيها البعد الانتخابي، وهو ما يعني لجوءها إلى إرضاء الناخبين عن طريق المبالغة في تقدير النفقات بكيفية تجاوز الإمكانيات المالية للدولة، وهو الأمر الذي سينعكس سلبا على التوازن المالي والاقتصادي.
فمن الناحية النظرية، يبدو أن هذين السببين كافيين لتحمل الحكومة لمسؤولية تحضير مشروع قانون المالية، ولكن السؤال المطروح في هذا الخصوص، هو على الشكل التالي: هل الدساتير بشكل خاص الدستور المغربي الذي هو موضوع دراستنا يكرس هذا الامتياز الحكومي دستوريا؟ أم أن الحكومات المتعاقبة تمارس بشكل آلي وتعسفي دون أي سند دستوري؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في حينه.

ولو حاولنا البحث في الأصل التاريخي لهذه الظاهرة سنعود إلى التاريخ الفرنسي، حيث يتضح هناك أن انهيار الجمهورية الرابعة، كانت هي بداية التأريخ لانهيار السلطة المالية للبرلمان، مقابل استئثار السلطة التنفيذية في هذا المجال، وذلك طبعا تحت مبرر توفر الحكومة على إمكانية تقنية وسياسية تؤهلها لهذا الدور الحيوي، وهو الأمر الذي سينعكس بشكل قانوني في دستور الجمهورية الخامسة، من خلال القيود التي سيفرضها على البرلمان في مجال مناقشة مشروع قانون المالية، بل حتى الإجراءات الوقائية التي يمكن أن تنفذها الحكومة في حالة تجاوز البرلمان للأجل المحدد قانونيا للتصويت على مشروع قانون المالية[4]، وهو ما جعل من الحكومة سيدة الاختصاص المالي.

أما في المغرب، فشأنه كشأن سائر الدول المغاربية، حيث جاء بتجربة متأثرة بشكل كبير، بدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958 ممارسة وتنصيصا، حيث أفضت خلاصات التجارب الدستورية السابقة إلى هيمنة الحكومة على الاختصاص المالي، واقتصار البرلمان على دور المناقشة المقيدة بمحدوديات دستورية، إلا أنه لو حاولنا الرجوع إلى السؤال الذي سبق وان تم طرحه بخصوص الأساس الدستوري لهذا الامتياز الحكومي في المجال المالي، سنجد أن فصول دستور المملكة لسنة 1996،

لم ترد فيها نصوص صريحة تسند الاختصاص المالي كاختصاص أصيل للحكومة، بل على العكس من ذلك كل الفصول الدستورية تفتح المجال أمام البرلمان إلى المبادرة باقتراح قانون المالية، (الفصل 50، الفصل 46..)[5]، إلا أن الممارسة في هذا الخصوص انتجت لنا ديمومة الحكومة بالتقدم بمشروع قانون المالية، ربما هذا كان سببه راجع إلى عدم وجود مساطر لا في الدستور ولا في القانون التنظيمي للمالية، تتحدث على مقترح قانون المالية. فهل المراجعة الدستورية الجديدة كرست نفس مقتضيات الدستور السابق أم أنها ذهبت إلى تكريس هذا الامتياز الحكومي في مجال الاختصاص المالي بشكل دستوري؟

المطلب الثاني: الإطار الدستوري للاختصاص المالي للحكومة

من أجل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نتطرق بالتحليل لكل الفصول الدستورية المرتبطة بالموضوع في دستور المملكة لسنة 2011، وهو ما سيتم بيانه وتفصيله على الشكل التالي:
بناء على:
الفصل 70/فق 1 الذي ينص على:[6]”يمارس البرلمان السلطة التشريعية”
الفصل 71/فق 1 الذي ينص على:[7] ” يختص القانون بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في الميادين التالية…”
الفصل 75/فق 1 الذي ينص على:[8] “يصدر قانون المالية الذي يودع بالأسبقية لدى مجلس النواب بالتصويت من قبل البرلمان وذلك طبق الشروط المنصوص عليها في قانون تنظيمي…”
الفصل 78/ فق 1 الذي ينص على:[9] ” لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين”
وحيث أن تقريب هذه الفصول من بعضها البعض يفيد أن مجال القانون الذي يختص بالتشريع في إطاره البرلمان، هو مجال مفتوح لكل من رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان على السواء من أجل التقدم باقتراحات القوانين في إطاره.

ولما كان القانون المالي من ضمن الاختصاصات المسندة بشكل صريح بمقتضى الفصل 75 من الدستور إلى القانون، فإنه يحق لكل من رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان التقدم باقتراحات القوانين في المجال المالي، وهو ما يعني أن الدستور يساوي بين البرلمان والحكومة في مجال التشريع في المجال المالي، إلا أنه بملاحظة باقي الفصول الدستورية الأخرى، لا نجد أي مقتضى يفيد المساطر التي يمكن إتباعها من أجل التصويت أو إصدار مقترح قانون المالية، بل هناك فقط المساطر المتعلقة بكيفية دراسة ومناقشة مشروع قانون المالية[10] ذو المصدر الحكومي، بل الأكثر من ذلك هنالك مجموعة من الفصول الدستورية الأخرى، التي يمكن أن تكون في مضمونها متناقضة مع مضامين الفصول الدستورية التي تمت الإشارة إليها أعلاه، بحيث تجرد في مضمونها أية إمكانية للبرلمان بالتشريع أو الاقتراح في المجال المالي، وتجعل هذا الأخير اختصاصا أصيلا للحكومة، وهذه الفصول الدستورية يمكن بيانها وحصرها على الشكل التالي:
الفصل 75:” يصدر قانون المالية الذي يودع بالأسبقية لدى مجلس النواب…”
الفصل 49: “بتداول المجلس الوزاري في القضايا والنصوص التالية:….
– التوجهات العامة لمشروع قانون المالية”.

الفصل 92:” يتداول مجلس الحكومة، تحت رئيس الحكومة في القضايا والنصوص التالية:
-…
-مشاريع القوانين ومن بينها مشروع قانون المالية قبل إيداعها بمكتب مجلس النواب، دون إخلال بالأحكام الواردة في الفصل 49 من هذا الدستور”.
فهذه المقتضيات الدستورية تفيد، بأن القانون المالي الذي يصدر عن البرلمان بالتصويت، هو مشروع قانون المالية الذي تتم دراسة توجهاته العامة في المجلس الوزاري، ومناقشته واعتماده من لدن مجلس الحكومة، ثم بعد ذلك إيداعه بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب.

فعبارة الإيداع التي جاءت ملازمة للقانون المالي في الفقرة الأولى من الفصل 75 هي عملية تختص بها الحكومة أثناء استيفاء الأعمال التحضيرية لمشاريع القوانين، وهو ما يعني أن المجال المالي تنفرد الحكومة بالتشريع في إطاره، ليصبح اختصاصا أصيلا للحكومة بشكل دستوري، ليتم بذلك تجاوز المقتضيات الدستورية التي كانت معمولا بها في ظل دستور المملكة لسنة 1996.
وهو الأمر الذي تم تأكيده في المادة 130 من النظام الداخلي لمجلس النواب الجديد، حيث حدد اختصاص لجنة المالية والتنمية الإقتصادية بإعداد التقارير اللازمة لتسهيل دراسة ومناقشة مشاريع قوانين المالية والقانون التعديلي للمالية وقانون التصفية، دون أية إثارة لمقترحات القوانين في هذا الخصوص”[11]

وفي هذا الإطار يمكن أن نتساءل هل مضامين هذه الفصول الدستورية تتناقض مع ما هو مقرر في إطار الفصل 78 والفصل 71؟
في هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أنه إذا صح الرأي الفقهي القائل بأن المشرع الدستوري “منزه عن اللغو والعبث”، فإنه لا يمكن له أن يعمد إلى التنصيص على مبادئ دستورية متناقضة ومتضاربة فيما بينها، لأنه حينما يتحدث عن الامتياز الدستوري للحكومة في المجال المالي، فإنه يروم من خلال ذلك إلى الاستثناء من القاعدة العامة المتعلقة بالمساواة في اقتراح القوانين، إعمالا منه لقاعدة النص الخاص يقيد النص العام، لتكون بذلك الحكومة والبرلمان متساوون في اقتراح القوانين، عندما يتعلق الأمر بالمجال الذي يختص به البرلمان، والمحدد حصرا في الفصل 71 من الدستور، وفي مواد أخرى مسندة إليه بشكل صريح في فصول أخرى من الدستور، ما عدا القانون المالي الذي يعتبر امتيازا دستوريا، لا ينعقد فيه الاختصاص إلا للحكومة، وبذلك تكون الحكومة تمارس هيمنة دستورية على الاختصاص المالي.

المبحث الثاني: إشراك البرلمان في القرار المالي

سنحاول من خلال هذا المطلب، أن نبحث في المستجدات الدستورية، التي جاءت بها آخر مراجعة دستورية لدستور المملكة في ما يتعلق بدور البرلمان كسلطة تشريعية في القرار المالي( المطلب الثاني) ولكن قبل ذلك سنحاول أن نبحث في القرار المالي للبرلمان في دستور المملكة لسنة 1996، وباقي التجارب الأخرى من أجل أن ندرس في ضوءها ما استجد في هذا الخصوص( المطلب الأول).

المطلب الأول: العقلنة البرلمانية وتأثيراتها على القرار المالي للبرلمان

لم تكتفي العقلنة البرلمانية بتجريد البرلمان من الاختصاص بالتشريع في المجال المالي، بل امتدت لتشمل حتى تقييد مبادرة أعضاءه في المشاركة في القرار المالي، أثناء محاولة الحكومة الحصول على الترخيص البرلماني على القانون المالي.
فأساس هذا المبدأ قد تم تحديده في المادة 40 في دستور الجمهورية الخامسة لسنة،[12] 1958 التي جاء فيها:” لا تقبل الاقتراحات والتعديلات المقدمة من أعضاء البرلمان إذا كان من شأن الموافقة عليها ان تترتب إما إلى تخفيض في الموارد العامة وإما إلى إحداث عبء في النفقات العامة أو مضاعفته”.

وهو نفس المبدأ الذي تم اعتماده من طرف المشرع الدستوري المغربي في دستور المملكة لسنة 1996 في الفصل 51 منه الذي جاء فيه:” إن المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ترفض إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة للقانون المالي إما إلى تخفيض الموارد العمومية وإما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود “.
وهو ما أكدته المادة 40 من القانون التنظيمي رقم 98.7[13] لقانون المالية كما تم تعديله بالقانون التنظيمي رقم 14.00[14]، فمن خلال ما سبق يبدو أن عدم القبول المنصوص عليه سابقا له طبيعة مطلقة[15]، ويتضح من خلال هذه المقتضيات تقييد حرية المبادرة لدى النواب والمستشارين، حيث يقتصر دورهم في المصادقة على الاقتراحات الحكومية، مهما كانت طبيعتها وتبعا لذلك تنحصر صلاحياتهم في المبادرة إلى التقدم باقتراحات تهدف إما إلى الزيادة في الموارد عن طريق اقتراح إحداث ضرائب جديدة، أو اقتراح الزيادة في أسعار الضرائب الموجودة، أو التقدم باقتراحات ترمي إلى التخفيض من النفقات، غير أنه عمليا ناذرا ما يتم تقديم هذه المقترحات نظرا لانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية.[16]

وتبعا لذلك ينحصر دور أعضاء البرلمان عمليا في المغرب كما هو الشأن بالنسبة لزملائهم في فرنسا في التقدم باقتراحات ترمي إلى تحويل الاعتمادات، من باب إلى باب آخر شريطة احترام التوازن الذي ينص عليه مشروع القانون المالي فيما يتعلق بالمداخل والمصاريف، من هذا المنطلق فهم مطالبون عند مناقشتهم لمشروع القانون المالية بتجنب كل اقتراح قد يؤدي إلى التخفيض من الضرائب أو الرسوم المماثلة لها، أو إلى الزيادة في النفقات العامة كاقتراح إحداث مناصب الشغل أو الزيادة في الأجور أو الزيادة في الاعتمادات المخصصة لبعض القطاعات الاجتماعية.[17]

يبدو من خلال هذه المقتضيات أن التقييدات التي تطال أعضاء البرلمان من أجل المساهمة في القرار المالي أثناء مناقشة مشروع قانون المالية، تكاد تكون مطلقة إن لم تكن كذلك في ضوء دستور المملكة لسنة 1996، ليطرح السؤال بخصوص المراجعة الدستورية الجديدة، التي كانت من بين خطوطها العريضة هي الارتقاء بالسلطة التشريعية للبرلمان، حول مدى تمكنها من الارتقاء بالسلطة المالية في مجال القرار المالي، بعدما تأكدنا من تجريده من الاختصاص المالي، وتخويله للحكومة بشكل مطلق، وهذا ما سنحاول معالجته من خلال المطلب الثاني.

المطلب الثاني: القرار المالي للبرلمان في ضوء المستجدات الدستورية

لقد جاء الدستور الجديد بمقتضيات جديدة مختلفة عما هو منصوص عليه في إطار الدستور السابق، فيما يخص الدفع بعدم القبول المالي، حيث نص الفصل 77 منه على:[18]
” يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة وللحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية أو إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود”.

نفس المقتضيات تم تأكيدها في النظام الداخلي لمجلس النواب في مادته 137 مما جاء فيها[19]:
” يتعين أن تراعى في مقترحات وتعديلات النواب الحفاظ على توازن مالية الدولة.
للحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها النواب، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية، أو إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود، تطبيقا لأحكام الفصل السابع والسبعين من الدستور”.

يمكن القول أن هذه المادة من النظام الداخلي الجديد، لم تأتي بجديد، حيث اكتفت بشرح بعض المقتضيات الواردة في الفصل 77 من الدستور، ليتأكد لنا أن المقصود بسهر البرلمان والحكومة معا على الحفاظ على توازنات مالية الدولة، يراد به تقييد أعضاء البرلمان أثناء مناقشتهم لمشروع قانون المالية حيث يكون النواب مطالبين بتجنب كل اقتراح قد يؤدي إلى التخفيض في الضرائب أو الرسوم المماثلة لها، أو إلى الزيادة في النفقات العامة، مما يفرض عليهم أثناء الاقتراح الحفاظ على توازن مالية الدولة، أي بين النفقات و المداخيل المقررة سلفا في مشروع قانون المالية.

قد تبدو هذه المقتضيات، مطابقة لما كان منصوص عليه في الفصل 57 من الدستور السابق، إلا أن التعمق في التحليل قد يفيد عكس ذلك، نظرا لوجود بعض المقتضيات التي تسمح لهذا النص الجديد أن يكون أكثر ليبرالية من النص القديم، وذلك من خلال ثلاث جوانب أساسية يمكن بيانها على الشكل التالي:
مقتضيات الفصل 51 من دستور المملكة لسنة 1996 كانت تنطوي على تقييد جوهري لسلطة البرلمان، حيث أنه إذا تمسكت الحكومة بالفصل 51 سيؤدي إلى شل المبادرة التشريعية للنواب، حتى في الحالات التي تكون فيها المقترحات أو التعديلات لا تنجم عنها الزيادة في تكليف موجود أو إحداث تكليف عمومي.

وبالفعل فإن وزير المالية في ضوء الدستور السابق لم يكن مضطرا للرد على مقترحات وتعديلات أعضاء البرلمان، حيث غالبا ما يكتفي بالدفع بالفصل 51، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إجهاض القرار المالي للبرلمان بشكل مطلق، حتى في الحالات التي يمكن أن تكون فيها اقتراحات وتعديلات النواب لا تمس بالتوازن المالي للدولة، أما مضمون الفصل 77 من دستور المملكة لسنة 2011، قد جاءت بمقتضى جديد، من شأنه أن يحد من الاستعمال التعسفي للدفع بعدم القبول المالي من طرف الحكومة، حيث نص على ” للحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب المقترحات والتعديلات…”

وهو الأمر الذي يلزم الحكومة أثناء استعمالها لمقتضيات الفصل 77 من تعليل أسباب ذلك، وبيان كيفية تأثير هذه المقترحات على التكليف العمومي أو المورد العمومي، ليكون بذلك أعضاء البرلمان أمام إمكانية قوية في المساهمة في القرار المالي شريطة أن يتم مراعاة في ذلك التوازن المالي للدولة.

2ـ مقتضيات الفصل 51 من دستور المملكة لسنة 1996، جاءت بنوع من الصياغة المطلقة، بحيث حتى في الحالات التي يتم فيها إصدار الأمر بتنفيذ القانون من طرف صاحب الجلالة، ولم يتفطن الوزير الأول لوجود مقتضيات تمس الجانب المالي للدولة، فإنها تجرد من أي أثر قانوني، عملا بمقتضيات المادة 40 من القانون التنظيمي رقم 98-7 التي تنص على ما يلي:[20]

” تطبيقا لأحكام الفصل 51 من الدستور، يتم بقوة القانون حذف أو رفض المواد الإضافية أو التعديلات الرامية إلى تخفيض الوارد العمومية، إما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود”، وهو ما يتيح إمكانية سابقة أمام المجلس الدستوري للتدخل بشكل تلقائي من أجل حماية المبادئ الدستورية التي ينبني عليها[21]، ولقد أكد المجلس الدستوري في اجتهاداته في قراره رقم 2000.386 الذي جاء فيه:

” وحيث إن عدم إعمال الحكومة للحق المخول لها في نطاق القانون التنظيمي لقانون المالية، قبل مناقشة مقترح القانون المغير للمادة 20 من قانون المالية المذكور، ليس من شأنه ن يحول دون مراقبته دستورية قبل إصداره لمدى ارتباطه بالقواعد الدستورية”.
أما مقتضيات الفصل 77 من دستور المملكة لسنة 2011، فقد جاء بمقتضيات مغايرة لما هو منصوص عليه في الفصل 51، حيث أن مضمونها لا يفيد الإلزام وليس ذو طبيعة مطلقة حيث أن عبارة ” وللحكومة أن ترفض” الواردة في الفصل 77 من الدستور تفيد الاختيار.
وهو يعني أنه أثناء لجوء أعضاء البرلمان إلى اقتراح قوانين أو تعديلات من شأنها أن تمس الجانب المالي للدولة، فالحكومة تكون هنا أمام خيارين، إما الدفع بعدم القبول المالي في حالة المس بالتوازن المالي، كما يمكن لها أن لا تلتجأ إلى إعمال مسطرة الفصل 77، وهو ما يفتح المجال أمام الأعضاء البرلمانين بشكل قوي إلى تقديم اقتراحات وتعديلات ذات الجانب المالي ولكن شريطة أن تكون معللة في مضمونها للحفاظ على التوازنات المالية الكبرى.

فهذه الليونة التي جاءت بها صياغة الدستور، لا يمكن أن تفتح المجال أمام القانون التنظيمي للمالية الجديد، أن يورد مقتضيات كتلك المنصوص عليها في المادة 40 من القانون التنظيمي رقم 98-7، نظرا لكون الدستور كأسمى وثيقة هي المرجع الذي تبنى عليه تفسيرات وتوضيحات القوانين التنظيمية.

3- في ضوء مقتضيات دستور المملكة لسنة 1996 في الفصل 51 منه، إذا تبين للحكومة بعد مصادقة البرلمان على مقترح قانون ما، أو تعديل أنه يتضمن ما يمكن أن يمس الجانب المالي للدولة، فيمكن للوزير الأول قبل أن يصدر الملك الأمر بتنفيذ هذا القانون، أن يحيله إلى المجلس الدستوري عملا بمقتضيات الفصل 87 من الدستور من أجل فحص دستوريته على ضوء تجاوز الاختصاص المالي، نظرا للإلزامية التي ينطوي عليها هذا المبدأ الدستوري، وسبق وأن حدث هذا في التجربة الدستورية السابقة في القانون رقم 00/24 القاضي بتنفيذ المادة 20 من القانون المالي رقم 99/26 للسنة المالية[22] وأصدر المجلس الدستوري في هذا الخصوص قراره رقم 00/386.[23]
أما في دستور المملكة لسنة 2011، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الدفع بعدم القبول المالي يتخذ فيه صيغة الإلزام والإطلاقية، فإن من المنتظر من المحكمة الدستورية، أن تعمل بقاعدة انعدام الإحالة الموازية[24]، التي ستفيد أنه في حالة إغفال الحكومة لمسطرة الفصل 77 أثناء المناقشة البرلمانية لمشروع قانون المالية، أو لمقترح قانون أو تعديل يمس الجانب المالي للدولة، ولجأت إلى تفعيل مسطرة الفصل 132 أي الإحالة إلى المحكمة الدستورية، بدعوى وجود عيب الاختصاص المالي، فالقاضي الدستوري سيدفع في هذه الحالة بعدم قبول الدعوى نظرا لوجود حلول دستورية أخرى مكن المشرع الدستوري بها الحكومة من أجل تفادي وقوع هذا التجاوز في الاختصاص.
وهو الأمر الذي سيزيد من حرية الأعضاء البرلمانيين في مجال القرار المالي، إن تم إعمال هذه القاعدة من طرف القاضي الدستوري.

خاتمة

ومن خلال كل ما سبق يتضح أن الصيغة التي جاءنا به المشرع الدستوري في دستور المملكة لسنة 2011، تفيد تمكين البرلمان من ممارسة نوع من السلطة المالية إلى جانب الحكومة، ليكون بذلك الدستور الجديد بدأ يخطو بعض الخطوات نحو الحد من الهيمنة الحكومية في هذا المجال، من أجل إرساء مؤسسة تشريعية تمارس سلطة تشريعية حقيقية.

الهوامش
[1] – A.abderahmane: la loi en droit constitutionnel Marocaine, Thèse pour le doctora D’Etat en droit, unv.Med5, Rabat , 1970, p : 76.
[2] – انظر:
-A.abderrahmane: la loi en droit constititionnel Marocaine….op.cit. P :77-78.
– الحبيب الدقاق، العمل التشريعي للبرلمان, أية حكامة ؟ ” مقارنة نقدية في القانون البرلماني والممارسة التشريعية بالمغرب”. مطبعة الأمنية,الرباط,دجنبر2009. الصفحات من360 إلى 368.
– عسو منصور، قانون الميزانية العامة، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2005، ص71-72.
– المصطفى منار، واقع الأموال العمومية بين ضعف البرلمان وهيمنة الحكومة، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد7، يونيو 2006، ص 20 -22.
[3] -محمد حنين، تدبير المالية العمومية الرهانات والإكراهات، دار القلم الطبعة الأولى 2005، ص،96.
[4] -انظر في هذا الخصوص المادة 40 من الدستور الفرنسي.
[5] -دستور المملكة لسنة 1996.
[6] -دستور المملكة لسنة 2011.
[7] – دستور المملكة لسنة 2011.
[8] – دستور المملكة لسنة 2011.
[9] – دستور المملكة لسنة 2011.
[10] -انظر الفصل 75 من دستور المملكة لسنة 2011.
[11] -النظام الداخلي لمجلسي النواب لسنة 2012.
[12]” -Les propositions et amendements formulés par les membres du Parlement ne sont pas recevables lorsque leur adoption aurait pour conséquence soit une diminution des ressources publiques, soit la création ou l’aggravation d’une charge publique.”
[13] – ظهير شريف رقم 1.98.138 صادر في 7 شعبان 1419 (26 نوفمبر 1998) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 7.98 لقانون المالية، ج.ر عدد 4644 بتاريخ 3 دجنبر 1998.
[14] – ظهير شريف رقم 1.00.195 صادر في 14 من محرم 1421 (19 أبريل 2000) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 14.00 القاضي بتغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 7.98 لقانون المالية، ج.ر عدد 4788، بتاريخ 20 أبريل 2000.
[15] -محمد بوعزيز ، القانون البرلماني المغربي ” مسطرة التشريع”-دراسة نظرية تطبيقية-، ص: 245.
[16] -محمد حنين، مرجع سابق ص:126.
[17] -محمد حنين المرجع نفسه ص:126.
[18] -دستور المملكة لسنة 2011.
[19] -النظام الداخلي لمجلس النواب كما أقره البرلمان .
[20] -سليمان التجريني الإحالة إلى المجلس الدستوري، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، جامعة محمد الخامس السويسي، 2010-2011، ص:21.
[21] -المجلس الدستوري: قرار رقم 2000/386.
[22] -سليمان التجريني: مرجع سابق ص:80.
[23] – قرار رقم 2000/386.
[24] – تعني انعدام الإحالة الموازية في القضاء الدستوري، أن لا يكون في وسع أصحاب الصفة في الإحالة مخرجا للحصول على مصلحة دون اللجوء إلى القاضي الدستوري، فإن وجد طريقا بالموازاة مع طريق الإحالة إلى القاضي الدستوري سوف لن يقبل هذا الأخير الطلب. انظر في ذلك: يحيى حلوي، العدالة الدستورية بالمغرب، كلية الحقوق وجدة، 2007-2008

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.