القضاء على الفساد لا يكفي!
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني

الفرق بيننا نحن سعوديو الأمس واليوم هو أننا أصبحنا نملك رؤية ونملك طموحاً ونملك تطلعاً لمستقبل أمثل بوعي أفضل وإدراكٍ أكمل لقدراتنا أولاً ولثرواتنا ثانياً ولمكتسباتنا ثالثاً. أصبحنا ندرك ذلك جيداً، وندرك كم من الوقت يجب أن نمضيه وكم من الجهد يجب أن نبذله حتى نصل لطموحاتنا كوطن وكمجتمع وكأفراد.

رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 جعلتا من المملكة ورشة عمل ضخمة لترتيب الأوراق وإعادة النظر في الأولويات، ورفعت سقف الطموح السياسي والشعبي لتحقيق الريادة الاستراتيجية سياسياً واقتصادياً وتنموياً.

من هذا المنطلق: لم يعد الفساد وحده هو الهاجس، ولم تعد مكافحته وحدها هي غاية المنى وأقصى الطموحات، إن القضاء على الفساد لا يعني أكثر من مجرد العودة إلى منطقة التوازن -الكِفاف- بينما نجد أن الرؤية الشاملة لمملكتنا تعني أن مكافحة الفساد مرحلة أولى ضمن الأهداف الإجرائية والمرحلية، ولا يمكن التوقف عندها فضلاً عن التلكوء في البدء بها، لأن الفرق النوعي إنما يبدأ ببدء المرحلة الثانية أو الثالثة من مراحل تحقيق الرؤية، وحينها سيشعر الشخص العادي بأن ثمة تحول صحي يلمس كافة التفاصيل الحياتية. لذا فإن من المهم جداً أن يتغير الطرح الثقافي والإعلامي -فضلاً عن الطرح النخبوي- الذي لا زال ينظر إلى الفساد وكأنه هو الهاجس الوحيد الذي لا يضر بعده أي عائق أو تحدٍ آخر، إن من شأن ذلك الطرح أن يؤخر التنمية لسنوات وسنوات؛ إذ أن الفساد المالي أو الإداري أو التربوي أو غيره لا يحتاج إلى 30% من المدة الزمنية التي تحتاجها (صناعة الاحتراف في الأداء والتفوق الفني سواء في التخطيط أو التنفيذ أو التقويم) وهذا هو ما يصنع الفرق على مستوى الأمم والمجتمعات.

إن اقتصار الإنسان على الغذاء الصحي وتجنبه للمخاطر الغذائية لا يصنع منه أكثر من إنسان ذي جسد طبيعي يتمتع بصحة مستقرة، إذ لا يتعدى حالتئذ كونَه إنساناً عادياً، لكن لن يكون بوسعه مقارعة رافعي الأثقال وعدائي السباقات ومتسلقي المرتفعات ما لم يكن على قدرٍ عالٍ من التدرب والبذل والجهد وعرق الجبين.

القضاء على الفساد مطلب مُلحّ وضرورة أولى ولا يمكن البدء بأي عملية تنمية في أي بلد والفساد ينخر الزوايا والأركان، لكن القضاء على الفساد وحده لن يصنع من أي بلد أكثر من كونه بلداً طبيعياً يتمتع باستقرار ونمو نسبي أسرع من غيره، أما صناعة الفرق وتحقيق الريادة الأممية والحضارية فتحتاج إلى أكثر من ذلك “بكثير”.

تأملوا معي: كم من مشروع فاشل كان خلفه مسؤول صادق ويد نظيفة وفريق عمل نزيه لكنه مسؤولٌ غير محترف ويدٌ غير مدرَّبة وفريق عمل لا يملك المهارة ! ربما لا يحتاج محارب الفساد سوى إلى تفعيل الرقابة وتطبيق النصوص القانونية بفاعلية وحزم ومساواةِ الجميع أمام القضاء والعدالة، وتوعية الأفراد والبيئات الإدارية بالحقوق والالتزامات والممارسات المثلى، لكن كم من الوقت والجهد والتخطيط سيحتاج إليه صانع التنمية إن أراد تنمية مستدامة وأجيالاً تبني وكفايةً في الموارد والمؤهلات؟

بناء جيل متعلم محترف يملك الأدوات والإمكانات المتعددة للمساهمة الذاتية في التنمية لن يكون أمراً سهلاً، ولن تظهر نتائج البناء سريعاً لكنها ستنمو قوية متماسكة كشجرة الصبّار أمام مختلف التحديات وستكون قادرة على التكيف مع الظروف والمنعطفات وجديرةً بصناعة المستقبل مهما بدى ذلك المستقبل بعيداً أو مستبعداً وصعباً أو مستصعباً في نظرنا اليوم.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت