تقدير القاضي للظروف والملابسات التي وجد فيها الدليل

المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

إن التزام القاضي الجنائي بالحقائق والأصول العلمية لا يسلب منه سلطة الرقابة القانونية على كل عناصر الدعوى(1) فإذا كان القاضي الجنائي لا يملك الحرية في مناقشة الحقائق العلمية الثابتة، لقيامها على أسس مؤكدة ودقيقة، فانه و فيما يخص طريقة الحصول على الدليل والظروف التي وجد فيها، فإنها تدخل ضمن الاختصاص الأصيل للقاضي الجنائي وتخضع أيضا لمبدأ تكافؤ الأدلة، إذ يمكن للقاضي هنا أن يستبعد أي دليل علمي وجد انه لا يتناسب مع ظروف الواقعة وملابساتها.(2)

ومن هنا يمكن القول أن الاستعانة بمعطيات التطور العلمي في مجال كشف الجريمة لم ينل من بدأ حرية القاضي في تكوين عقيدته، إذ يبقى للقاضي الحرية في تقدير القوة التدليلية لأدلة الدعوى المعروضة عليه، وأخذ ما هو مناسب وطرح ما لم يقتنع به( 3)، حتى لو كان دليل علمي يقوم على مبادئ وأسس دقيقة ويمكن توضيح ذلك في المثال التالي.

ففي جريمة اغتصاب أنثى اثبت الدليل الفني والطبي أن المجني عليها قد تم فعلا اغتصابها، إذا وجدت الحيوانات المنوية على السرير والملابس، كما وجدت آثار داخل جسمها وأعضائها الجنسية، فبالرغم من وجود هذا الدليل القاطع الذي لا يمكن للقاضي أن يرفضه، إلا أنه رفضه مستندا في ذلك إلى سلطته التقديرية ورقابته القانونية، وذلك عندما راى أن وجود الدليل لا يتناسب منطقيا مع ظروف الواقعة وملابساتها.

إذ يجب على القاضي أولا: التحقق من عدم رضاء المجني عليها، إذ أن العنصر الجوهري في هذه الجريمة هو ارتكابها على خلاف إرادة الأنثى.

ثانيا: أن يبحث القاضي عن عدم وجود علاقة سابقة بين المجني عليها والجاني.

ثالثا: بحث سمعة المجني عليها، وهو يتطلب بيان عدم عفتها(4) وفي الحقيقة لا يمكن لأحد أن ينكر ما أحدثه العلم من تطور في مجالات الإثبات، باعتبار أن الدليل العلمي يمكنه أن يتوصل إلى ما يؤكد وقوع الجريمة، كما يؤكد وجود علاقة بينها وبين المتهم، إلا أنه قد يوجد في الدعوى ما جعل القاضي يقتنع ولو احتمالا يدعو إلى الشك بأن شخصا آخر قد ارتكب الجريمة، مما يؤكد ضرورة إعطاء القاضي سلطة تقدير الدليل العلمي، وعدم التسليم بصفة مطلقة وإفساح الحرية للقاضي في تكوين اقتناعه، إما بالتيقن من ارتكاب المتهم للجريمة فيحكم بالإدانة، أو الاقتناع أو الشك يعدم إسنادها إليه فيحكم ببراءته (5).
________________
1- رمزي، رياض عوض، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة، دون طبعة، النشر دار النهضة العربية، القاهرة، 2004 ، ص 163 .
2- أبو العلا علي أبو العلا النمر، الجديد في الثبات الجنائي، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000 ، ص 203.
3- فاضل زيدان محمد، سلطة القاضي الجنائي من تقدير الأدلة الجنائية، الطبعة الثالثة، دار الثقافة للنشر والتوزيع عمان، 2010 ، ص 315 .
4- رمزي رياض عوض، المرجع السابق، ص163.
5- أحمد حبيب السماك، نظام الإثبات في الشريعة والقانون الوضعي، مجلة الحقوق، الصادرة عن مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، العدد الثاني، 1997 ، ص 153