نظرية البطلان المطلق

لقد ذهب بعض الفقه في فرنسا إلى أن البطلان المنصوص عليه في المادة ( 1599) من القانون المدني الفرنسي هو بطلان مطلق تأسيسا على انعدام السبب أو استحالة المحل.

وفقا لهذا الفقه فإن المشتري يلتزم بالثمن بلا سبب، ولكن هل صحيح أن العقد في حالة بيع ملك الغير منعدم السبب؟

في الحقيقية إن مجرد تعذر تنفيذ البائع لالتزامه بنقل الملكية للمشتري فور العقد لا يكفي للقول بانعدام سبب التزام المشتري، إذ قد يتملك البائع في المستقبل الشيء المبيع أو قد يقر المالك الحقيقي البيع الصادر من البائع. حينها يتمكن البائع من تنفيذ التزامه بنقل الملكية للمشتري. وبالتالي يكون سبب التزام المشتري بدفع الثمن هو التزام البائع بنقل الملكية.

إذا لا يصح القول بأن أساس بطلان بيع ملك الغير هو انعدام سبب التزام المشتري . إذ لو صحت مسألة انعدام سبب التزام المشتري لكان الأحرى تطبيق نظرية الفسخ، لاسيما أننا أمام عقد بيع فيه تبادل في الإلتزامات، ومجرد إخلال طرف في تنفيذ التزامه، يرتب الحق للطرف الآخر في فسخ العقد حسب القواعد العامة وليس بطلانه.

أما بالنسبة لاستحالة المحل، فوفقا لهذه النظرية يستحيل على البائع غير المالك أن ينقل ملكية المبيع إلى المشتري. وبالتالي فان بيع ملك الغير بيع باطل بطلانا مطلقا. إلا أن الأمر في الحقيقة ليس كما يتصوره هذا الفقه، فالقواعد العامة ترتب البطلان

المطلق على الاستحالة المطلقة التي تستحيل على الكافة لا الاستحالة النسبية التي تستحيل على البعض دون البعض الآخر، كالمالك في بيع ملك الغير الذي يملك إجازة هذا البيع بل والبائع نفسه حينما يصبح مالكا.

وهناك تناقض عند فقهاء القانون المصري في أصل المسألة التي تؤدي إلى بطلان العقد، فهناك فرق بين وجود المحل أو عدم استحالة وجوده وهو شرط انعقاد وركن في العقد وفقده يمنع الانعقاد وبالتالي يكون العقد باطلا.

وبين أمر آخر وهو ملك المتصرف للمحل، فالمحل موجود أي أن شرط الانعقاد للمحل متوفر ولكن المتصرف لا يملك المحل، لهذا اعتبر الفقهاء المسلمين أن شرط ملكية المحل هو ليس شرط انعقاد إنما هو شرط نفاذ فالعقد انعقد ولكن تعلقت آثاره، أما الحكم بالبطلان لاستحالة تنفيذ الالتزام بنقل الملكية، فهذه الاستحالة التي تطرأ بعد الانعقاد، فالعقد انعقد لتوافر طرفيه ومحله ولكن العقد المنعقد إن استحال تنفيذه ينفسخ، وهذه الاستحالة تحصل إن لم يجز المالك العقد أو لم يصبح المتصرف مالكا، فهذه استحالة يحكم بناء عليها بانحلال العقد ولكن لا نقول أنها مانعة ابتداء من انعقاده حتى نحكم ببطلانه، ذلك أنه حسب القواعد الفقهية العامة فإنه يجب صيانة كلام العقلاء من العبث، وإعمال الكلام أولى من إهماله، فإبطال كلام العقلاء إذا توافرت شروط الانعقاد خلاف الأولى، والأولى تصحيحه حتى إذا تعذر التصحيح أبطل.

وبالرغم من أن الفقه المصري لم يؤيد هذه النظرية القائلة ببطلان بيع ملك الغير بطلانا مطلقا لانعدام سبب التزام المشتري، إلا أن الدكتور سليمان مرقس تبنى الرأي القائل ببطلان بيع ملك الغير بطلانا مطلقا لاستحالة محل التزام البائع استحالة مطلقة حسب الظروف الخارجية المحيطة بالبائع، ثم يكمل نظرية البطلان المطلق بنظرية تحول العقد المنصوص عليها في المادة 144 ) من القانون المدني المصري حيث يقول ( ونحن نسلم بصحة الاعتراضات التي وجهت ) إلى كل من هذه النظريات فيما عدا الاعتراض الذي وجه إلى إحدى صورتي نظرية البطلان المطلق،

وهي التي تؤسس هذا البطلان على استحالة محل التزام البائع بنقل الملكية، أعني الاعتراض الموجه إلى القول بأن استحالة نقل ملكية المبيع المملوك للغير فور العقد استحالة مطلقة، ذلك أن الاستحالة المطلقة التي تستتبع البطلان المطلق ليس المقصود بها استحالة الأمر على الكافة وفي جميع الظروف والأحوال وإنما المقصود بها استحالة الأمر في ظروف معينة هي الظروف المحيطة بالمدين، وتقدر الاستحالة بمعيار موضوعي أي بمعيار الرجل المعتاد، فتعتبر مطلقة متى كان الرجل المعتاد إذا وجد في مثل الظروف المحيطة بالمدين يستحيل عليه القيام بمحل الإلتزام ولو كان يستطيع القيام به في ظروف أخرى. ويعتبر من الظروف المحيطة ببائع ملك الغير كونه غير مالك المبيع، ومما لا شك فيه أن الرجل المعتاد يستحيل عليه إذا كان غير مالك لشيء معين أن ينقل ملكيته إلى غيره، فيعتبر محل التزام بائع ملك الغير بنقل ملكية المبيع فور العقد مستحيلا استحالة مطلقة يترتب عليها بطلان العقد بطلانا مطلقا.

هذا من الناحية النظرية، أما من ناحية الأحكام والنتائج العملية فمن الواضح أن نظرية البطلان المطلق إذا أخذ بها وحدها تؤدي إلى نتائج مغايرة للأحكام التي نص عليها التقنين المصري الحالي والتي جرت عليها أحكام المحاكم من قبل. ولكن إذا أمكن تكملتها بقاعدة أو نظرية أخرى من القواعد العامة التي يقوم عليها التشريع بحيث تؤدي إلى النتائج والأحكام المسلمة، كان ذلك أولى بالاتباع من القول بأن بيع ملك الغير باطل بطلانا نسبيا من نوع خاص. وعندي أن تكملة نظرية البطلان المطلق بنظرية تحول العقد الباطل المنصوص عليها في المادة ( 144 ) مدني يمكن أن تفسر لنا جميع الأحكام الخاصة ببيع ملك الغير على الوجه آلاتي:

فإذا ثبت اتجاه قصد العاقدين إلى إبرام عقد بيع ناقل للملك بذاته، أي عقد بيع من النوع الأول من النوعين الذين تقدمت الإشارة إليهما وكان البائع غير مالك المبيع وقت العقد، كان محل العقد مستحيلا في ذاته أي بالنسبة إلى البائع وإلى أي شخص آخر إذا وجد في ظروف البائع، حالة كونه غير مالك، ووقع العقد الناقل للملكية بذاته الذي اتجهت إليه إرادة العاقدين باطلا بطلانا مطلقا.

غير أنه يمكن تحوله إلى عقد بيع منشئ لالتزامات فقط، أي إلى عقد بيع من النوع الثاني، إذا ثبت أن نية الطرفين المحتملة كانت تنصرف إلى ذلك لو علمنا أن العقد الأول غير ممكن انعقاده بسبب عدم ملكية البائع. ويمكن القول بأن المشرع قد فرض فرضا غير قابل لإثبات العكس أن البائع قد انصرفت نيته المحتملة إلى تحول عقد البيع من النوع الأول أي الناقل للملكية بذاته إلى النوع الثاني الذي لا ينشئ إلا التزامات شخصية، وأنه لذلك لم يسمح للبائع بأن يتمسك ببطلان العقد الذي قصد إبرامه ولو أنه بطلان مطلق .

أما انصراف نية المشتري إلى ذلك فمفروض إلى أن يثبت العكس، ولذلك ينتج عقد بيع ملك الغير آثار عقد من النوع الثاني كاملة ما دام المشتري لم يتمسك بالبطلان. وهذا ما يفسر أن بيع ملك الغير ينشئ التزامات شخصية فقط ولا ينقل الملكية وأنه يصح أن يجيز المشتري العقد لأن إجازته هذه تعتبر دليلا على انصراف نيته منذ إبرام العقد إلى تحوله من النوع الأول إلى النوع الثاني وتمنعه من أن يتمسك بعد ذلك بالبطلان ولو أنها لا تنقل إليه الملكية، كما يسر المشرع إمكان ورود إقرار المالك على العقد وإمكان انتقال الملكية إلى المشتري بمجرد أن يصير البائع مالكا…الخ. أما إذا تمسك المشتري بالبطلان، كان ذلك دليلا على أن نيته المحتملة لم تكن تنصرف إلى تحول العقد من النوع الأول إلى النوع الثاني، ووجب اعتبار العقد باطلا بطلانا مطلقا وغير قابل لإنتاج أي أثر قانوني، وألزم البائع بالتعويض باعتباره متسببا بخطئه في أن يعقد المشتري معه بحسن نية عقدا باطلا.

وعلى ذلك يمكن القول بأن المشرع قد جعل من تنظيم بيع ملك الغير في المواد ( 466 وما بعدها تطبيقا تشريعيا لنظرية تحول العقد الباطل تجاوز فيه بعض الشيء عما تقتضيه نظرية التحول، إذ فرض فيه انصراف نية البائع المحتملة إلى التحول فرضا غير قابل لإثبات العكس دون أن يفرض مثل ذلك في نية المشتري. وبهذا القول وحده يمكن تفسير جميع أحكام بيع ملك الغير المتقدمة، وبه يمكن الاستغناء عن الالتجاء إلى فكرة بطلان هذا البيع بطلانا نسبيا من نوع خاص، تلك الفكرة التي تعتبر بمثابة تسليم بالعجز والتي لا ينبغي الالتجاء إليها إلا عند عدم كفاية القواعد العامة لتفسير أحكام معينة ).

وينتقد الدكتور منصور مصطفى منصور رأي الدكتور سليمان مرقس معتبرا أن الاستحالة المطلقة تكون فقط على أساس انتقال الملكية فور التعاقد، ولأن المشرع المصري لم يجعل من عقد البيع عقدا ناقلا للملكية بحكمه وإنما رتب على البائع التزاما بنقل هذا الحق. وما دام هذا الإلتزام ممكنا في ذاته فالعقد صحيح. وكل ما يترتب على عدم ملكية البائع أن هذا الإلتزام الذي نشأ لا ينفذ بقوة القانون فور نشوئه.

و لا أرى بأن العلة تكمن في كون عقد البيع ناقلا للملكية بحكمه أم لا. إذ لو كان الأمر كذلك لاعتبرنا وجهة نظر الدكتور سليمان مرقس صحيحة، لأننا كنا قد سلمنا سابقا بأن عقد البيع حتى في ظل القانون المدني المصري عقد ناقل للملكية بالرغم من وجهات النظر الرافضة لذلك.

فلا أرى فرقا في الحكم بين أن يكون العقد ناقلا للملكية أم منشئا الإلتزام بنقلها، في مسألة استحالة محل التزام البائع استحالة مطلقة، فالحكم واحد، فالاستح الة نسبية في كلا الأمرين، ففي الفرض الأول البائع غير مالك ولكن من المحتمل أن يصبح مالك، ونفس القول ينطبق على الفرض الثاني، فالتزام البائع غير ممكن إلا أنه بإجازة المالك له يصبح التزاما ممكنا.

إذا الاستحالة نسبية في حالة بيع ملك الغير وليس أدل على ذلك النص القانوني الذي يجعل الاستحالة على البائع لا على المالك.

أما بالنسبة لنظرية تحول العقد حسب رأي الدكتور سليمان مرقس، فإنها أيضا تعرضت للانتقاد من قبل الدكتور منصور مصطفى منصور، فهو يرى بأن الالتجاء إلى نظرية تحول العقد الباطل لا يفيد في تفسير أحكام بيع ملك الغير، لأن تحول العقد يستلزم انصراف النية المحتملة إلى العقد الآخر والنية كما يقول المشرع هي نية المتعاقدين(المادة 144 ) وبالتالي ف إن افتراض هذه النية لا يجوز لأن الإرادة لا يمكن افتراضها في نظره وأن ما يسمى أحيانا بالإرادة المفترضة ليس إلا حكم القانون.

والحقيقة أن موضوع الإرادة المفترضة من عدمه لا يزال محل جدل بين الفقهاء، فالبعض يسلم بافتراضها والبعض الآخر يستبعدها ولا نستطيع أن نجعل من هذا الجدل الفقهي حكما على رأي فقهي ليس بسيط.

وعليه لا يسلم ما جاء به الدكتور سليمان مرقس في رأيه، مستندين في ذلك على الانتقاد الذي وجهه الدكتور السنهوري لنظرية تحول العقد، إذ يقول ( والقول بأن العقد الباطل قد تحول إلى عقد منشىء للالتزامات يتعارض مع نظرية التحول المعروفة. فهذه تقتضي أن تكون نية كل من المتعاقدين المحتملة تنصرف وقت العقد – لا بعد ذلك – إلى العقد الجديد بدلا من العقد الباطل. ونية المشتري المحتملة تستعصي على هذا التأويل فإما أن تكون هذه النية قد انصرفت احتمالا إلى العقد الجديد منذ البداية، فلا يجوز إثبات العكس وينبغي ألا يجوز تبعا لذلك للمشتري أن يطلب إبطال البيع. وإما ألا تكون قد انصرفت إلى العقد الجديد، فلا يكون هناك تحول، وينبغي أن يبقى البيع باطلا بطلانا مطلقا، وهذا ما يتعارض مع النص الصريح).

ويأخذ الدكتور السنهوري كذلك على الرأي السابق تعارضه الواضح مع صريح نصوص التقنين المدني القاطعة في أن بيع ملك الغير قابل للإبطال لا باطل بطلانا مطلقا.

إذا لا نؤيد القول القاضي ببطلان بيع ملك الغير بطلانا مطلقا تأسيسا على استحالة المحل استحالة مطلقة، إذ لو صح مثل هذا الرأي لوجب نسف جميع الأحكام التي وضعها المشرع لتنظيم حالة بيع ملك الغير. بعبارة أخرى فإن أحكام البطلان المطلق لا تتفق نهائيا مع أحكام بيع ملك الغير.

فالبطلان المطلق يرجع إلى تخلف ركن من أركان العقد، وليس له أثر ولا تلحقه إجازة، ولكل ذي مصلحة التمسك به بينما بيع ملك الغير توافرت أركانه وينتج آثاره عدا نقل الملكية – كما مر معنا – ولا يتمسك ببطلانه إلا المشتري وتلحقه إجازة المالك وإجازة المشتري.

هذا كله يقودنا إلى التسليم بعدم صحة نظرية البطلان المطلق تأسيسا على انعدام السبب أو استحالة المحل.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت