مبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الجنائي الداخلي

منذ ظهور القواعد التقليدية للقانون الدولي العام حاول الفقهاء تحديد العلاقة بينها وبين قواعد القانون الداخلي فظهر في هذا المجال نظريتان ، النظرية الأولى تقول بازدواج القانونين الدولي والداخلي وانتمائهما إلى نظامين قانونين مختلفين، أما النظرية الثانية فتقول بوحدة القانونين الدولي والداخلي([21]). ونظرية ازدواج القانونين مفادها إن هناك اختلافاً بين القانونين من حيث المصادر والمواضيع والوظيفة لذلك قد يوجد في بعض الأحيان تعارض بين القانون الداخلي والدولي .
أما نظرية وحدة القانونين فتعد أن القانونين يمثلان كتلة قانونية واحدة لا تنفصل عن بعضها وان كان أنصار هذه النظرية اختلفوا حول القانون الذي يكمن فيه القاعدة الأساسية التي تسود جميع القواعد الأخرى وتكسبها قوتها الإلزامية حيث عد البعض أنها موجودة في القانون الداخلي وفي دستور الدولة بالذات أطلق على هذا الاتجاه (نظرية وحدة القانون مع علوية القانون الداخلي) بينما البعض الأخر عد إن القاعدة الأساسية موجودة في القانون الدولي وهذا يعني نفاذ القانون الدولي مباشرة في قوانين الدول دون حاجة للنص فيها على ذلك .
ولكن يبدو أن ما سارت الدول في علاقاتها المتبادلة لا يدل على الأخذ بأي من النظريتين سواء وحدة القانونين أم ازدواجهما ، ولكن الاعتبارات العملية فرضت ضرورة علو القانون الدولي على القانون الداخلي، ([22])وقد تأكد مبدأ سيادة القانون الدولي على الوطني في العديد من القرارات الدولية ومن خلال التعامل الدولي وما سارت عليه الدول بالنص على ذلك في دساتيرها الداخلية([23]).

– تطبيق المبدأ في نطاق القانون الدولي الجنائي :

لما كان القانون الدولي الجنائي فرعاً حديثاً من فروع القانون الدولي العام فهذا يعني أن مبدأ سيادة القانون الدولي على القانون الداخلي يمكن تطبيقه في نطاق هذا القانون فيكون بذلك للقانون الدولي الجنائي سيادة على القانون الجنائي الداخلي لان علاقته تكون بالدرجة الرئيسة بالقانون الجنائي الداخلي ، وتبدو أهمية تطبيق مبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الجنائي الداخلي من حيث إن القانون الدولي الجنائي قد يجرم بعض التصرفات ويعاقب عليها بينما تكون احياناً مباحة في القانون الجنائي الداخلي وهنا تتولد المشكلة فهل أن الأفراد يخضعون للقانون الجنائي الداخلي ويعملون بأحكامه أم أن قواعد القانون الدولي الجنائي واجبة الاحترام وملزمة لهم ويجب مراعاتها من قبلهم ؟ لا شك أن هذه المشكلة تتولد نتيجة اختلاف مصدر قاعدة التجريم في القانون الدولي الجنائي عما هو موجود في القانون الجنائي الداخلي ، فمن المعروف إن مصدر عدم المشروعية الجنائية في القانون الجنائي الداخلي هو نص التجريم ، الذي يضفي هذا الوصف على ماديات معينة ينقلها من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم ، ونص التجريم هذا بالنسبة للجرائم الدولية يجد مصدره في قواعد القانون الدولي الجنائي(الاتفاقية منها أو العرفية) التي تجرم الأفعال وتحرم إتيانها ويعاقب على ارتكابها هذا في الوقت الذي قد يكون فيه الفعل خارج دائرة التجريم وفقاً لقواعد القانون الداخلي([24]).

ويترتب على مبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على قواعد القانون الجنائي الداخلي نتيجتان ذاتا أهمية كبرى الأولى : يجب على كل دولة القيام بتوفيق أوضاع قانونها الجنائي مع أحكام القانون الدولي الجنائي ، والثانية : أن على الأفراد إن يمنحوا التزاماتهم الناتجة عن القانون الدولي الجنائي أولوية في التطبيق على التزاماتهم الناشئة عن القانون الجنائي الوطني، فإذا اعتبر القانون الدولي الجنائي فعلا ما مكوناً لجريمة في حين إن القانون الجنائي الداخلي لا يعده كذلك ، فهنا على الأفراد عدم اقتراف الفعل المجرم وإلا خضعوا للعقاب([25]). وهكذا فان عدم معاقبة القانون الوطني على الفعل الذي يشكل جريمة في نظر القانون الدولي الجنائي لا يعفي مقترفه من المسؤولية وفقاً للقانون الدولي الجنائي ، ولا يمكن التخلص من هذه المسؤولية بحجة التمسك بالتشريع الوطني([26]). وقد تأكد مبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الجنائي الداخلي من خلال عدة وثائق واتفاقيات دولية فقد جاء في صياغة لجنة القانون الدولي لمبادئ نورمبرغ إن (عدم معاقبة القانون الجنائي الداخلي على فعل يعتبره القانون الدولي جناية دولية لا يعفي الفاعل الذي ارتكبه من المسؤولية في القانون الدولي) .

وفي تعليقه على هذا المبدأ يقول د. عبد الوهاب حومد (إن هذا المبدأ يعتبر القانون الدولي أسمى من القانون الوطني ، فإذا تضاربت نصوصهما ، كان حق التقدم للأول ، وهذا أمر يسهل تعليله لان القانون الدولي ، قانون عالمي يلزم سائر بني البشر في حين إن القانون الوطني قانون إقليمي ، يحكم عدداً محدوداً من الناس ثم إن القانون العالمي في الغالب تعاقدي ينشأ عن موافقة الدولة على الخضوع لأحكامه ، إما بناء على معاهدة التزمت هي نفسها بها بصورة طوعيه ، أو بناء على موافقة غالبية أعضاء الأمم المتحدة)([27]).

كما تم تأكيد هذا المبدأ في اتفاقية الأمم المتحدة حول عدم تقادم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب عام 1968 إذ بعد أن عددت الاتفاقية الجرائم التي لا تخضع للتقادم ذكرت الاتفاقية إن الأفعال الخاضعة لها تشكل جرائم (حتى ولو كانت الأفعال المذكورة لا تشكل إخلالا بالقانون الداخلي للبلد الذي ارتكبت فيه)([28]).

ثم جاءت مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها لعام 1996 لتؤكد (أن الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها هي جرائم بمقتضى القانون الدولي ، ويعاقب عليها بهذه الصفة ، سواء أكانت معاقباً عليها أم لم تكن معاقباً عليها بموجب القانون الوطني)([29]).
ويمكن القول إن هذا المبدأ نتيجة طبيعية وملازمة لمبدأ المسؤولية الدولية الجنائية ، إذا ما دام القانون الدولي قد عدّ الأفراد مسؤولين عن الأفعال التي تمثل جرائم في القانون الدولي فانه من الصعب إعفاؤهم من المسؤولية الجنائية لمجرد أن هذه الأفعال لم يرد النص عليها في التشريع الداخلي([30]). ولذلك إذا حصل تنازع بين قواعد القانون الدولي وقواعد القانون الوطني بالنسبة للمسؤولية الشخصية فان قواعد القانون الدولي هي التي يجب أن تسود([31]).

– إنشاء المحاكم الدولية الجنائية تجسيد لمبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الجنائي الداخلي :

لقد كان إنشاء المحاكم الدولية الجنائية في العقد الأخير من القرن العشرين تأكيداً لمبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الداخلي وتتجلى مظاهر هذه السيادة من خلال ظهور عناصر السلطة (فوق وطنية أو فوق قومية) من خلال بعض الإجراءات المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحاكم الدولية الجنائية([32]).
إذن سيادة القانون الدولي الجنائي تتمثل هنا بسيادة الإجراءات القضائية الدولية على الإجراءات القضائية الداخلية وقد ظهرت معالم هذه السيادة بصورة واضحة في النظام الأساسي للمحكمتين الدوليتين لرواندا ويوغسلافيا، إما المحكمة الدولية الجنائية الدائمة فرغم أن اختصاصها تكاملي مع القضاء الوطني ولكن هناك بعض المسائل في النظام الأساسي تشير إلى مبدأ سيادة الإجراءات الدولية الجنائية .

ولنبدأ أولاً بالمحاكم الدولية الجنائية المؤقتة وهما محكمتا يوغسلافيا ورواندا ، حيث أن نظاميهما الأساسيان أكد على سيادة اختصاص المحكمتين على الاختصاص الجنائي الوطني ، فبموجب المادة (9/2) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا([33]). والمادة (8/2) من النظام الأساسي لمحكمة رواندا يمكن للمحكمتين أن تطالب من أي محكمة وطنية في أي مرحلة من مراحل إجراءاتها القضائية ، بإحالة القضية إلى المستوى الدولي ، أي إلى المحكمة الدولية وتلتزم المحكمة الوطنية بالانصياع لهذا الطلب .
وقد حصل ذلك بالفعل عندما طلبت المحكمة الدولية ليوغسلافيا من السلطات القضائية الألمانية تسليم المتهم (Tadic) إليها رغم أن الإجراءات القضائية الوطنية كانت على وشك الوصول إلى مرحلة المحاكمة ، مما دفع محامي الدفاع إلى صياغة دفاعه بالشكل الأتي : (نظراً لان المتهم قد مثل أمام المحكمة الدولية نتيجة لطلب التنازل الذي قدمته المحكمة الدولية لحكومة جمهورية ألمانيا ، فان المحكمة بأسبقيتها على المحاكم الوطنية يكون استمرار لخرق وانتهاك سيادة الدول كأثر مباشر)([34]).
وقد ردت المحكمة على محامي الدفاع بالقول (إن طلب التنازل يعتبر نافذاً في حق دولتين ذات سيادة ، البوسنة والهرسك ، التي وقعت فيها الجرائم التي ارتكبها المتهم (Tadic) ، والمانيا التي ألقت القبض على المتهم ، ومن الثابت أن تحديد الاختصاص لا يكون من حق المتهم بان يترك ليختار أي من المحاكم سوف يحاكم أمامها لان هذا يتناقض مع مبادئ الاختصاص الجنائي الداخلي والدولي)([35]).

وقد قيل في تبرير موقف المحكمة (إن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الدولية هي جرائم ذات طبيعة عالمية ومعترف بها في القانون الدولي كانتهاك خطير للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ، وتثير اهتمام أي دولة ، وفي مثل هذه الظروف فان المحكمة الدولية تعتبر أن حق سيادة الدول لا يمكن ولا يجب أن يتخذ الأسبقية على حق المجتمع الدولي ، لذلك ليس هناك اعتراض على أن المحكمة الدولية تحاكم هذه الجرائم باسم المجتمع الدولي)([36]).

كما أكدت محكمة يوغسلافيا سيادة الإجراءات الدولية على الإجراءات الداخلية في قضية المتهم (Blascic) إذ قالت المحكمة بهذا الصدد (انه يمكن للمحكمة فيما يتعلق بالدول المتورطة بشكل مباشر في النزاع المسلح في يوغسلافيا ، أن تمارس على أقاليم هذه الدول ، تحقيقات موقعيه حتى في حالة عدم وجود تفويض من الدولة صاحبة الإقليم ، مع حق المحكمة في إجراء مقابلات موقعيه مع الأفراد بدون وجود أية سلطات تابعة للدولة صاحبة الإقليم)([37]).

وبذلك فان الأسبقية الممنوحة للمحاكم الدولية الجنائية المؤقتة هو تأكيد لسيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الداخلي في مجال الإجراءات الجنائية ، حيث إن سمو المحكمتين على المحاكم الوطنية يعتبر ميزة مهمة تجسد سمو القانون والقضاء الدوليين([38]). لذلك فان سلطة الفوق وطنية ومعناها وجود تأثير مباشر لسلطات المحكمتين على المحاكم الوطنية من خلال أسبقيتها على المحاكم الوطنية هو تجسيد لمفهوم سلطة القانون الدولي الجنائي فوق الوطنية التي ظهرت من خلال ممارسات المحكمتين المخصصتين([39]).

– أما المحكمة الدولية الجنائية فعلى الرغم من إن نظامها الأساسي يقوم على مبدأ التكاملية فان هناك بعض العناصر في هذا النظام التي تجعل من المحكمة سلطة فوق وطنية([40]). وتتجسد من خلالها سيادة الإجراءات الدولية الجنائية على الإجراءات الداخلية ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال النقاط الآتية :

1- وفقاً للنظام الأساسي يجوز أن يتخذ المدعي العام خطوات ميدانية في التحقيق حيث تعطي له الفقرة (4) من المادة (99) الحق في اتخاذ خطوات بالتحقيق والاضطلاع بذلك في غياب سلطات الدولة ، ويمنح النظام الأساسي صلاحية واسعة النطاق للمدعي العام بالتحري في الحالة الخاصة بانهيار الدولة([41])، كما تشير الفقرة (7) من المادة (58) إلى حق المدعي باستدعاء أي شخص مباشرة إذا كان هناك سبب منطقي يدل على ارتكاب ذلك الشخص الجريمة المزعومة ، ويكون هذا الاستدعاء كافياً لضمان مثول ذلك الشخص أمام المحكمة وعلى السلطات الوطنية تلبية ذلك ، كما يكون لأمر الاعتقال الصادر بموجب الفقرة (1) من المادة (58) أثر مباشر داخل إطار النظام القانوني الوطني ، خاصة عندما تكون تلك الأوامر مستوفية للشروط المقررة في الفقرة المذكورة أكد النظام الأساسي في المادة (59/1) منه على الطبيعة الملزمة لهذه الأوامر ، وضرورة اتخاذ الدولة الطرف التي تتلقى مثل هذا الأمر باتخاذ التدابير الفورية اللازمة للقبض على الشخص المعني ، مع احتفاظ هذا الشخص بحق الطعن مباشرة في هذه الأوامر أمام المحكمة ذاتها ، وليس أمام المحاكم الوطنية (القاعدة الفرعية 3 من القاعدة 117 من القواعد الخاصة بالإجراءات والإثبات أمام المحكمة) ، كما انه بمجرد اعتقال الشخص لا بد من أن تطبق الدولة التي نفذت أمر الاعتقال الفقرة (4) من المادة (59) من النظام الأساسي بدلاً من قانونها الوطني لتقرير ما إذا كان ينبغي إطلاق سراحه بصورة مؤقتة.

إن هذه المسائل تؤكد السلطة فوق الوطنية للمحكمة الدولية الجنائية وتجسيد سمو القانون الدولي الجنائي رغم وجود مبدأ التكاملية([42]).

2- ومما يدل على سيادة الإجراءات الواردة في النظام الأساسي للمحكمة إن الدول التي تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الدولية الجنائية كمعاهدة دولية جنائية عليها إن تتخذ الإجراءات اللازمة لجعل دستورها وقوانينها الداخلية متلائمة مع النظام الأساسي والإجراءات الواردة فيه ، وهذه الإجراءات ضرورية إذ انه نتيجة لطبيعة ومضمون وغرض المعاهدة الجنائية ، فان تطبيقها يختلف اختلافاً واضحاً على تطبيق المعاهدات الدولية المدنية والتجارية والسياسية والعسكرية … الخ . إذ أن المعاهدات الجنائية وخاصة المعاهدة الجنائية الخاصة بإنشاء المحكمة الدولية الجنائية تحتوي في طياتها بعض الإجراءات التي قد تمس ببعض المسائل التي تعد من قبيل سيادة الدولة والتي تسعى كل الدول إلى الحفاظ عليها([43])، لذلك على الدولة الموقعة أن تقوم باتخاذ الخطوات اللازمة وإزالة التعارض بين مقتضيات السيادة والالتزامات الواردة في النظام الأساسي .

ولنأخذ على سبيل المثال فرنسا التي انضمت إلى المعاهدة الدولية الجنائية المنشئة للمحكمة الدولية الجنائية، وهي تأخذ بمبدأ علوية المعاهدات الدولية على القانون الداخلي بموجب المادة (55) من دستور (1958) النافذ ، فعندما عزمت الحكومة الفرنسية على التصديق على النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ، طلب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء برسالة مشتركة من المجلس الدستوري مراجعة مسبقة للدستور ، إذ إنه نظراً لان ما يجري العمل عليه في فرنسا هو أن التصديق على المعاهدة يعد عملاً من أعمال السيادة ويخرج بالتالي من رقابة القضاء ، ولذلك فان المجلس الدستوري الفرنسي وفي حالة وجود شبهة تعارض مع الدستور في نصوص معاهدة تبغي السلطات المختصة التصديق عليها ، يقوم ببحث مدى دستورية المعاهدة قبل التصديق عليها وذلك وفقاً لنص المادة (54) من الدستور الفرنسي الحالي ، لذلك قام المجلس الدستوري بفحص مسألة وجود بعض النصوص في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية التي تتعارض مع الدستور الفرنسي ، وذلك في قراره الذي أصدره في 22/1/1999 وحدد فيه ثلاثة مجالات باتفاقية إنشاء المحكمة تشير شبهة التعارض مع الدستور (وتتعلق هذه المجالات ، بحصانة رئيس الدولة وأعضاء البرلمان، وتأثير اختصاص المحكمة على ممارسة السيادة الوطنية ، وسلطة ممثلي الادعاء العام في المحكمة الدولية الجنائية)([44]).وتلافياً لشبهة تعارض النظام الأساسي للمحكمة مع النصوص الدستورية فقد تم إضافة نص جديد إلى الدستور الفرنسي هي المادة(53/2) تنص على (يمكن للجمهورية أن تعترف بسلطة المحكمة الجنائية الدولية في إطار الشرط المدرجة في الاتفاقية الموقعة في 18 تموز1998) ، وتبنى المؤتمر(اجتماع الجمعيتين البرلمانيتين،الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) القانون الخاص بالتعديل الدستوري بالإجماع شبة التام(858 صوت ضد 6 اصوات) وبذلك تم إدراج نظام روما في القانون الداخلي الفرنسي مع قيمة فوق تشريعية على الصعيد الوطني([45]).

3- إن إعطاء الصلاحية للمحكمة الدولية الجنائية في أن تقوم بإعادة محاكمة شخص ما سبق أن حوكم أمام المحاكم الوطنية عن نفس الجريمة إذا ما تبين للمحكمة أن إجراءات المحكمة الوطنية لم تتم بنزاهة وحيادية ، أو كان الغرض منها إفلات الشخص من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ارتكبها([46]). يؤكد سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الداخلي ، لان القانون الدولي الجنائي يريد أن يضمن عدم إفلات مرتكبي الجرائم التي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان من العقاب ، فإذا تأكد أن الإجراءات القضائية الداخلية لم تكن جدية تدخل ليفرض سيادته على هذه الإجراءات عن طريق إعادتها بواسطة المحكمة الدولية الجنائية .

ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الصلاحية الممنوحة للمحكمة الدولية الجنائية كان محل انتقاد من قبل الكتاب ، لأنها أخضعت جميع المحاكمات التي تتم أمام المحاكم الوطنية للسلطة التقديرية للمحكمة الدولية الجنائية أعطاها الحق في عدم الاعتراف بالأحكام الصادرة عن هذه المحاكم وإعادة محاكمة الشخص مرة أخرى ، وعد البعض إن السلطات التي تتمتع بها المحكمة في هذا الإطار ينم عن قصور النظام الأساسي من استيعاب مبدأ التكامل([47]). لانه بموجب هذه السلطة أصبحت ولاية المحكمة الدولية الجنائية في الواقع ليست مكملة لولاية القضاء الوطني في الدول الأطراف بل أعلى منها ،( لكونها تملك سلطة الرقابة عليها وسوف ينال الشك بالطبع قدرة المحاكم في الدول النامية قبل غيرها)([48]). بينما ترى اللجنة التحضيرية لإنشاء المحكمة عكس ذلك بقولها : إن هذه السلطة ضرورية ، إذ قد ترغب أية محكمة محلية في حماية المتهم من التعرض لعقوبة اكبر بان تفرض عليه عقوبة أدنى ومن ثم يمنع ذلك المحكمة الدولية الجنائية من اتخاذ أي إجراء قانوني وعليه قررت اللجنة وجوب عدم تفسير مبدأ جواز محاكمة الشخص مرتين عن نفس الجريمة بأسلوب يسمح للمجرمين بالفرار من المحاكمة الفعلية([49]).
وباعتقادي إن السلطة الممنوحة للمحكمة بإعادة المحاكمة لمرة أخرى عن نفس الجريمة صورة من صور تأثير الاعتبارات السياسية على المحكمة الدولية الجنائية التي قد تخل بالعدالة الدولية الجنائية إذا ما استغلت بصورة غير صحيحة([50]).