قواعد التفسير وإثبات العقد

81 – تمهيد :
تحكم اتفاقية فيينا سنة 1980 عقد البيع الدولى للبضائع ، لذلك ورد فى هذه الاتفاقية بعض النصوص التى تعالج تفسيرها ، كما تتعرض لتفسير إرادة المتعاقدين ثم لتفسير العقد الذى تحكمه الاتفاقية وطريقة إثباته ، وقد وردت هذه النصوص فى الفصل الثانى من القسم الأول تحت عنوان ” أحكام عامة ” .
ونلاحظ بداءة ، أن ما يرد فى الاتفاقية من نصوص تتعرض لتفسير أحكامها والأسس التى ينبغى أن يقوم عليها هذا التفسير ، إنما تتصل صلة وثيقة بتفسير عقد البيع الدولى الذى تحكمه الاتفاقية ، كذلك فإن وضع معيار لتفسير إرادة المتعاقدين قبل التعاقد إنما يستهدى به عند تفسير العقد .
ونعرض فى مبحثين على التوالى لقواعد التفسير ، ثم لإثبات عقد البيع الدولى للبضائع .

المبحث الأول
قواعد التفسير

82 – تفسير أحكام الاتفاقية :
تنص المادة 7 من اتفاقية فيينا فى فقرتها الأولى على أنه : ” فى تفسير هذه الاتفاقية يؤخذ فى الاعتبار طبيعتها الدولية والحاجة إلى تحقيق التوحيد عند تطبيقها ، ومراعاة حسن النية فى التجارة الدولية ” . { صفحة 114 }
ويقصد هذا النص تفادى الرجوع إلى القوانين الوطنية لتفسير أحكام اتفاقية فيينا ولتحقيق الهدف منها من بلوغ التوحيد ، لأن الرجوع إلى القوانين الوطنية عند عرض النزاع على المحاكم للدول المختلفة من شأنه أن يعطى تفسيراً مختلفاً لأحكام الاتفاقية . ويختلف بالتالى أسلوب تطبيقها من دولة إلى دولة ، الأمر الذى يخرج بالاتفاقية عن أهدافها وهى التوحيد الدولى المنشود لأحكام عقد بيع البضائع ، لذلك حرص نص المادة 7/1 من الاتفاقية على ضرورة مراعاة أسس ثلاثة عند تفسير أحكامها :
( أ ) الطبيعة الدولية للاتفاقية . وذلك حتى لاتتوسع المحاكم فى الرجوع إلى قوانينها الوطنية .
(ب) الحاجة إلى تحقيق التوحيد وهذا الأساس الذى ورد فى المادة 7/1 يحث بوضوح على التحرز عند تفسير الاتفاقية من الرجوع إلى أحكام القوانين الوطنية لأن من شأن هذا الرجوع ألا يتحقق توحيد قانون التجارة الدولية بشأن البيع الدولى للبضائع ، أما التمسك بهدف التوحيد فإن من شأنه أن يحصر المفسر لأحكام الاتفاقية فى نطاق نصوصها والأسس التى تقوم عليها .
(جـ) مراعاة حسن النية فى التجارة الدولية . ويقضى هذا المبدأ بأن يراعى عند تفسير الاتفاقية الأخذ بما يحقق مصلحة التجارة الدولية وما تتطلبه من أن يسود بين أطراف العلاقة التجارية الدولية مبدأ حسن النية . وتهدف الاتفاقية أيضا بإيراد هذا الأساس إلى تفادى لجوء المحاكم إلى الرجوع إلى قوانينها الوطنية عند تفسير أحكام الاتفاقية .

83 – القاعدة الواجبة التطبيق على المسائل التى أغفلت الاتفاقية تنظيمها :
تضمنت المادة 7/2 نصا يقضى بتحديد القاعدة التى تطبق على المسائل التى نظمتها الاتفاقية بالنص على أن : { صفحة 115 }
” المسائل المتعلقة بالموضوعات التى تحكمها هذه الاتفاقية ولا يوجد بشأنها نص صريح ، يقضى فيها وفقا للمبادئ العامة التى تقوم عليها ، وعند عدم وجود هذه المبادئ ، يقضى فيها وفقا للقانون الواجب التطبيق حسبما تشير قواعد القانون الدولى الخاص ” .
ويعرض هذا النص للحالة التى يعرض فيها أمام المحاكم الوطنية نزاع يثير تطبيق الاتفاقية كالتزام البائع بتسليم بضاعة من النوع المتفق عليه بين طرفى عقد البيع ، فهذا الالتزام يدخل ضمن نطاق الاتفاقية ، فإذا طلب المشترى إبطال العقد على أساس الغلط فى صفة جوهرية للبضاعة محل البيع (34) ، فإن هذه المسألة لم تنظمها اتفاقية فيينا، ففى هذه الحالة يقضى فيها وفقا للمبادئ العامة التى تقوم عليها هذه الاتفاقية ، وهذه المبادئ وان لم ينص عليها صراحة فيها ، فمن اليسير أن نستخلصها من مجموع نصوص الاتفاقية ومن الأعمال التحضيرية لها ، والمناقشات التى دارت فى المؤتمرات الدولية التى تولت إعدادها ، ومنها الأخذ بمبدأ سلطان الإرادة ، ومراعاة التوازن بين التزامات طرفى البيع ، والنظر إلى صالح التجارة الدولية ، والتضييق من اجازة فسخ العقد عند الإخلال بأحد التزاماته (35) .
ويطابق نص المادة 7/2 من اتفاقية فيينا نص المادة 17 من القانون الموحد لاتفاقية لاهاى سنة 1964 ، إلا أن نص اتفاقية فيينا أضاف ما لم يتضمنه القانون الموحد وهو النص على تطبيق القانون الواجب التطبيق وفقا لقواعد الإسناد التى يحيل إليها القانون الدولى الخاص ، لذلك فإن اتفاقية فيينا تترك مجالا فى هذه الحالة لتطبيق الحلول الواردة فى القوانين الوطنية عند عدم استخلاص المبادئ العامة التى تقوم عليها اتفاقية فيينا . { صفحة 116 }
ويلاحظ أن المبادئ العامة التي تقوم عليها اتفاقية فيينا يمكن البحث عنها في النظم القانونية للدول المتعاقدة ، بحيث نستخلص المبادئ المشتركة لهذه النظم وتعتبر بمثابة قواعد عامة للاتفاقية .

84 – نية المتعاقد كأساس للتفسير :
المفروض أنه لا محل للبحث عن نية المتعاقدين ، عند وضوح عبارة العقد ، وتقرر المادة 150/1 من التقنين المدنى المصرى هذا المبدأ بقولها وإذا كانت عبارة العقد واضحة ، فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين . ويبرر هذا الحكم بأن الانحراف عن عبارة العقد الواضحة فيه مخالفة للقانون ، أما إذا كان هناك محل لتفسير العقد فإن الفقرة الثانية من المادة 150 مدنى مصرى تقضى بأنه يجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفى للألفاظ ، مع الاستهداء فى ذلك بطبيعة التعامل ، وما ينبغى أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين ، وفقا للعرف الجارى فى المعاملات . أما فيما يتعلق بعقد البيع الدولى للبضائع ، فقد أشارت المادة 8 من الاتفاقية إلى قاعدة تتعلق بتفسير التعبير عن إرادة أحد المتعاقدين سواء أكان هذا التعبير صريحاً أم ضمنياً يستخلص من سلوك أحد الطرفين المتعاقدين ، لذلك فإن هذه المادة لا تتصل مباشرة بتفسير العقد مثل المادة 9 من الاتفاقية ، على ما سنرى ، وإنما بتفسير التعبير عن إرادة المتعاقد . على أننا نلاحظ أن لتفسير إرادة المتعاقد قبل التعاقد ، أهمية بالغة عند تفسير عقد البيع الدولى للبضائع ، وتجدر الإشارة إلى أنه لا محل لتفسير هذه الإرادة ، كما أنه لا محل لتفسير العقد إلا عند غموض التعبير أو نصوص العقد .
وتنص الفقرة الأولى من المادة 8 من اتفاقية فيينا على أن :
” يكون تفسير التعبير الصادر عن أحد الطرفين أو أى سلوك آخر{ صفحة 117} له ، في حدود أغراض هذه الاتفاقية ، وفقا لنيته التى يعلمها الطرف الآخر أو التى لا يمكنه أن يجهلها ” .
ويهدف هذا النص إلى تفسير التعبير الصريح عن إرادة المتعاقدين أو أى سلوك آخر يستخلص منه قانونا هذا التعبير بطريقة ضمنية ، فيتم التفسير طبقاً لنية الطرف الصادر عنه التعبير متى كان الطرف الموجه إليه التعبير يعلم هذه النية أو يفترض فيه أنه يعلمها (36) . وقد تعرضت الفقرة الثانية من المادة 8 من الاتفاقية للمعيار الذى يجب إتباعه عندما لا يثبت علم الطرف الموجه إليه التعبير بنية الصادر عنه التعبير ، أو أن الأول لا يمكن أن يفترض فيه هذا العلم ، وذلك بالنص على أن :
” إذا لم يمكن تطبيق الفقرة السابقة ، فإن التعبير أو السلوك الذى يصدر عن أحد الطرفين ، يمكن تفسيره وفقا لما يفهمه شخص عاقل من نفس مستوى الطرف الآخر وفى نفس ظروفه ” .
ويلاحظ أن المعيار الذى أخذت به اتفاقية فيينا فى التعرف على نية المتعاقدين معيار موضوعى وليس معياراً شخصياً ، كما أن نص المادة 8 من الاتفاقية يعبر بوضوح عن ميل الاتفاقية إلى الأخذ بالإرادة الظاهرة أكثر من اتجاهها إلى الإرادة الباطنة ، إذ تعول على النية التى يعلمها الطرف الآخر أو ينبغى أن يعلمها ، فإذا لم يمكن الوصول إلى هذه النية وفقاً لهذا المبدأ ، فإننا نلجأ إلى المعيار { صفحة 118 } الموضوعى الذى عرضت له الفقرة الثانية من المادة 8 وهو معيار الشخص العاقل من نفس مستوى الشخص الموجه إليه التعبير وفى نفس ظروفه .
ثم تعرضت الفقرة الثالثة من المادة 8 للعناصر التى يمكن الاستهداء بها للتعرف على فهم الشخص العاقل ، وذلك بقولها :
” لتحديد نية أحد الطرفين أو ما يفهمه شخص عاقل ، يجب أن يؤخذ فى الاعتبار، ظروف الحال وخاصة المفاوضات التى تمت بين الطرفين ، وأية معاملات سابقة بين الطرفين أنفسهم ، وما جرى عليه العرف ، وأى سلوك لاحق للطرفين ” .
ويقترب هذا النص من نص المادة 150/2 من التقنين المدنى المصرى الذى عرضنا له فيما تقدم بشأن تفسير العقد ، فالتعرف على نية المتعاقدين يكون بالرجوع إلى ظروف الحال ، من ذلك المفاوضات التى تمت بين الطرفين ، وقد رأينا فيما تقدم (37) أن المفاوضات وان كانت لا تعتبر تعبيراً عن الإرادة ولا يترتب عليها بذاتها أثر قانونى ، إلا أن الرجوع إليها يفيد فى التعرف على نية المتعاقدين عند تفسير القصد أو تفسير إرادة أحد المتعاقدين ، ما لم ينص العقد ذاته على اعتبارها كأن لم تكن .
كذلك يمكن الاستهداء ، للتعرف على نية المتعاقدين بالمعاملات السابقة بينهما ، وبالعرف الجارى فى المعاملات ، وبسلوك المتعاقدين بعد صدور التعبير عن إرادتهما . وبناء على ذلك ، فإن السكوت يمكن أن يعتبر قبولا ، إذا كانت المعاملات السابقة بين الطرفين أو العرف الجارى فى المعاملات يستدل منه على ذلك ، وهو ما يسمى بالسكوت الملابس (38 ) .{ صفحة 119 }
وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن لمحكمة الموضوع السلطة التامة فى تعرف حقيقة العقد المتنازع عليه واستظهار مدلوله بما تضمنته عباراته ، على ضوء الظروف التى أحاطت بتحريره ، وما يكون قد سبقه أو عاصره من اتفاقات عن موضوع التعاقد ذاته (39) .
ويبين مما تقدم مدى تشابه قواعد التفسير بين القانون المصرى واتفاقية فيينا .

85 – دور العادات التجارية والتعامل السابق فى تفسير إرادة الطرفين :
تجعل اتفاقية فيينا للعادات التجارية أهمية كبرى فى تكوين عقد البيع ، فتنص المادة 9/1 من الاتفاقية على أن :
” يلتزم الطرفان بالعادات التجارية المتفق عليها بينهما وما يجرى عليه التعامل السابق بين الطرفين ” .
ويتبين من هذا النص أن للعادة التجارية والتعامل السابق أهمية كبرى فى تفسير إرادة طرفى العقد ، من ذلك مثلاً فإنه يمكن اعتبار السكوت قبولا فى بعض الحالات ، وهو ما يسمى بالسكوت الملابس ، برغم عدم النص صراحة على ذلك فى الاتفاقية ، وذلك وفقا لنص المادة 9/1 متى جرت العادة التجارية فى بعض الظروف أو جرى { صفحة 120} التعامل السابق بين الطرفين على اعتباره كذلك (40) . ويظهر هنا دور العادة التجارية أو التعامل السابق فى تفسير إرادة الموجه إليه للإيجاب .
أما الفقرة الثانية من المادة 9 من اتفاقية فيينا فإنها تشير صراحة إلى أهمية العادات التجارية فى تفسير إرادة الطرفين سواء بالنسبة لتكوين العقد أو بالنسبة لتفسير أحكام العقد ذاته ، فتقرر :
” ما لم يتفق بين الطرفين على العكس ، يعتبر أنهما قد اتفقا ضمنا على أن يسرى على العقد بينهما أو على تكوينه ، العادة التجارية التى يعلمان بها أو يجب أن يعلما بها ، والتى تكون معروفة للكافة فى مجال التجارة الدولية ويراعيها المتعاقدون عادة فى العقود الدولية فى نفس نوع التجارة محل التعاقد ” .
ويعنى هذا النص أن العادة التجارية تعتبر ملزمة طبقاً لاتفاق ضمنى غير ظاهر بين المتعاقدين ، متى كان طرفا العقد يعلمان أو يجب أن يعلما بهذه العادة ، ولكن تحدد الفقرة الثانية من المادة 9 بعض المتطلبات القانونية لكى تعتبر مثل هذه العادة ملزمة للمتعاقدين وذلك باشتراط أن تكون معلومة للكافة فى مجال التجارة الدولية فى نفس نوع التجارة محل التعاقد ، ويراعيها المتعاقدون عادة فى هذا المجال .
ويهدف هذا النص إلى منح قيمة قانونية كبيرة للعادات التجارية السائدة فى مجال التجارة الدولية فى نوع معين من أنواع النشاط ، على سبيل المثال ، فى التجارة الدولية للحبوب فإن العادات التجارية التى يتبعها المتعاقدون فى بيع وشراء الحبوب فى السوق الدولى يجب احترامها قانوناً عند تفسير عقد بيع يكون محله هذا النوع من التجارة (41) . {صفحة 121 }
ويقلل هذا النص من أهمية العادات التجارية المحلية التى تعرفها البيوع الوطنية ، ولا يتبعها المتعاقدون عادة فى المعاملات الدولية ، فهى عادات لا يمكن أن يعترف بدوليتها لأن الطرف المتعاقد الأجنبى لا يعلمها ولا يفترض فيه أن يعلمها .
وترجع أهمية العادات التجارية فى مجال عقد البيع الدولى إلى أنها تستمد إلزامها من الاتفاق الضمنى بين المتعاقدين على الأخذ بها ، وفى هذا تغلب اتفاقية فيينا إرادة الطرفين على أحكامها .