الإثبات بين الشريعة الإسلامية و القانون

المحامية / منال داود العكيدي

كلمة الإثبات في اللغة مأخوذة من ثبت الشيء يثبت ثباتا وثبوتا أي دام واستقر فهو ثابت ، تقول ثبت الشيء من باب دخل وثبت بالمكان أقام وثبت الأمر صح وتحقق ، وأصبته السقم إذ لم يفارقه ، وتثبت في الأمر والرأي والتثبت تأنى فيه ولم يعجل ، اما في الاصطلاح : فقد استعمل الفقهاء الإثبات بمعنيين ، معنى عام ، معنى خاص ، فوفقا للمعنى العام يراد به : إقامة الدليل على حق أو على واقعة من الوقائع ، وقيل هو : الحكم بثبوت شيء لأخر ، ووفقا للمعنى الخاص يراد بالاثبات : إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التى حددتها الشريعة على حق أو على واقعة معينة تترتب عليها أثار ،

وما يعنينا هنا هو الاثبات بمعناه الخاص اي في مجال القضاء لأن فيه قصرا للإثبات على المعنى القضائى من دون غيره بخلاف الإثبات بالمعنى العام فهو شامل لكل إثبات سواء كان قضائيا ام غيره .

وقد اولت الشريعة الاسلامية عناية فائقة بالاثبات كونه اداة لحماية الحق الذي هو من المصالح المرعية ولذلك حرمت الشريعة الإسلامية الاعتداء على هذه الحقوق أيا كان نوع الاعتداء .

قال تعالى : (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وفي هذا الإطار واقصد حماية الحق وحرصا على عدم ضياعه بينت الشريعة الإسلامية الطريق الذي يلجأ إليه صاحب الحق عند الاعتداء على حقه وهو طريق القضاء ، واللجوء إلى القضاء حق أعطته أو منحته الشريعة الإسلامية لكل من يعتدى عليه أو على حقه ، ونظرا لكون القاضى بشرا والبشر يخطئ ويصيب فقد شرع الإثبات طريقا لحماية الحق عند اللجوء إلى القضاء حتى يكون القضاء بين الناس منهيا للخصومات قاضيا على أسباب الخلاف والنزاع .

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وجدناها تضمنا نصوصا كثيرة تبين الحقوق وطرق إثباتها من ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ، فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو ، فليملل وليه بالعدل ، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان .. ) فامر الله تعالى بكتابة الدين وذلك بهدف الحفظ وعدم التنازع في أمره عند حلوله ، والأمر يفيد الوجوب إلا إذا وجدت قرينة صارفة من الوجوب إلى غيره ، وفي هذه الآية وجدت القرينة وهي قوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته ) وفى هذا دلالة واضحة على أن الشريعة الإسلامية شريعة مرنة وليست جامدة ، كما أنها صالحة لكل زمان ومكان وتساير أحدث النظريات الواردة في الإثبات والتي نادى بها الفقهاء في الوقت الحاضر.

كما تضمنت الآية شروط الكاتب الذي يتولى كتابة الدين والتي يأتي في مقدمتها العدالة قال تعالى (وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) وترجع العلة فى اشتراط العدالة إلى حسم النزاع الذي يمكن أن ينشأ بين الناس بسبب الكتابة ، وإلى ضمان الحقوق من الضياع ، كما تضمنت الآية أيضا النص على أنه يحرم على الإنسان أن يدعى للشهادة فيمتنع عنها أو يشهد واقعة فيكتمها أو يذكرها على غير حقيقتها ، قال تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه أثم قلبه )

ويتفق فقهاء القانون مع الفقه الإسلامى في تحديد مفهوم الإثبات وأنه يعني: إقامة الدليل أمام القضاء بطرق محددة على حق أو واقعة معينة تترتب عليها أثار ، وبهذا يتضح أن مفهوم الإثبات في القوانين الوضعية مستمد من الفقه الإسلامى ، وأن قواعد الفقه الإسلامى تعتبر هي الشريعة العامة بالنسبة لهذه القوانين ، كما أن أهمية الإثبات أمر مسلم به سواء كنا فى مجال الإثبات الوضعي – أي فى إطار القوانين الوضعية – ام في مجال الإثبات الشرعي ، وإن كانت في مجال الإثبات الوضعي أشد خطورة نظرا لخراب الذمم وانتشار الفوضى ، الأمر الذي يترتب عليه أن يكون من يقوم بالعمل في هذا المجال على درجة كبيرة من الفطنة والذكاء بحيث يستطيع تمييز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل .

تنص المادة 1315 من القانون المدني الفرنسي على أن : من يطلب تنفيذ التزام عليه إثباته ، وعلى من يدعي التخالص إثبات الوفاء أو الواقعة التي أدت إلى التخالص من الالتزام ، فعبء الإثبات أمام القضاء المدني والجنائي يقع على عاتق المدعي ، وإن كان المدعي فى القانون المدني يختلف عن المدعي في القانون الجنائي ، حيث أن المدعي في القانون المدني هو الفرد الذي يدخل في علاقة مدنية مع طرف أخر يطالبه بأن ينشيء معه عقدا ، فإذا تم التعاقد بدأت مرحلة التنفيذ فإذا اختلف فى التنفيذ أو أخل أحدهما بشروط التعاقد فللطرف الأخر اللجوء إلى القضاء ، وله أن يتخذ الإجراءات القضائية أو البوليسية التى يثبت بها مواقف خصمه ، أما المدعي في القانون الجنائي فهو الادعاء العام حيث يفترض أن المتهم بريء حتى يقوم الدليل على إدانته ، ويقع على عاتق النيابة العامة إقامة هذا الدليل على ذلك.

أما فى القانون الإداري : فنجد أن قاعدة عبء الإثبات الموجودة فى القانون المدني والقانون الجنائي لا تطبق بتمامها ، نظرا لاختلاف طبيعة الدعوى الإدارية عن الدعوى المدنية والجنائية حيث إن الدعوى المدنية تقوم على أساس المساواة بين الطرفين ، والمساواة فى الغالب تؤدي إلى حرية الإثبات ، أما في الدعوى الإدارية فتقوم على أساس التفاوت بين أطرافها ، لأنها تقوم بين طرفين أحدهما : الإدارة وهي طرف قوي وتتمثل قوتها فى كونها تتمتع بامتيازات قاهرة ، كما أن الأوراق والمستندات تحت يدها ، والثاني : الفرد ، وهو ضعيف يحتاج بصفة دائمة إلى الطرف الأول وإلى التعامل معه ويخشى إجراءاته الشديدة التي ينص فى العقود عادة على أن تتمكن منها الإدارة بما نسميه بالشروط غير المألوفة – هذا إذا كانت العلاقة بينهما تعاقدية – أما إذا كانت العلاقة بين الإدارة والفرد تقوم على أساس قرار إداري فإن الإدارة تنفرد بإصدار القرار ، ولا يعلم الفرد حقيقة ما يتضمنه من وقائع وبيانات ، وفي ضوء الامتيازات التي تتمتع بها الإدارة فإنها تقف في مركز المدعى عليه غالبا.

في حين يقف الفرد الضعيف فى مركز المدعي ، الأمر الذي يترتب عليه نشوء ظاهرة عدم التوازن بين الطرفين فى الدعوى التي تستلزم إظهار الدور الإيجابى للقاضى الإداري وسلطاته الإستيفائية في إطار الفصل في الدعوى وترجيح كفة أحد الطرفين على الأخر مع التزامه بالأصول القضائية وبالتالى فإن الدعوى الإدارية وإن اختلفت عن الدعوى المدنية والجنائية من حيث عدم التساوي بين أطرافها إلا أنها تتفق معهم في أن الدعوى تقوم بين طرفين وإن الطرفين قد يختلفان في العلاقة التي تربط بينهما وهذا الخلاف لكي يحسم لابد من اللجوء إلى القضاء ، والقاضي يفصل في الدعوى في ضوء ما يقدم له من أدلة ، وعليه فإن دور القاضي في الدعوى الإدارية هو نفس دور القاضي فى الدعوى المدنية .

فالقاضي لا يكلف بالإثبات في الأصل وإنما يكلف الخصوم ، حيث أن صاحب الشأن ملزم بان يقنع القاضي بصحة دعواه وصاحب الشأن في الدعوى الإدارية هو المدعي طبقا للمبدأ الذي يقضي ” بأن الأصل براءة الذمة ومن يدعي خلاف الظاهر عليه الإثبات ” والمدعي في الدعوى الإدارية يدعي خلاف الظاهر لذلك يقع عليه عبء الإثبات ، ولما كان المدعي في الدعوى الإدارية هو الفرد وجانبه ضعيف وكانت الملفات والسجلات موجودة تحت يد الإدارة وهما مما يعتمد عليه فى الإثبات بصفة رئيسة ، لذلك تدخل القضاء وألزم الإدارة بهدف تخفيف عبء الإثبات الواقع على عاتق الفرد بتقديم الأوراق والمستندات المتعلقة بموضوع النزاع ، والمنتجة فى إثباته إيجابا ونفيا متى طلب منها ذلك .