علم التحقيق الجنائي

يُعَرَّف التحقيق الجنائي instruction criminelle بأنه البحث الابتدائي الذي يقوم به قضاء التحقيق لجمع الأدلة المشروعة التي من شأنها إثبات وقوع الجريمة وكشف مرتكبها، ثم النظر في قيمتها القانونية والموضوعية، لمعرفة ما إذا كانت كافية لإحالة الشخص الذي يجري معه التحقيق إلى محاكم الحكم من أجل محاكمته، أو غير كافية، وفي هذه الحال يتخذ القاضي المحقق قراراً بمنع محاكمته، وهذا القرار يعني حفظ التحقيق.

وفي ذهن واضع القانون أن التحقيق الابتدائي يخفف العبء عن محاكم الحكم (التحقيق النهائي) بتقليل عدد الدعاوى التي تصل إليها، بفضل قرارات منع المحاكمة وعدم إرهاق قضاتها بدعاوى ليس على المدعى عليهم بها أدلة جدية، كما أن هذا التحقيق يحمي المواطنين الشرفاء من التُهم الكاذبة أو الطائشة،بتجنيبهم المثول العلني المؤذي أمام المحاكم. ولهذا شُبِّه التحقيق الابتدائي بالمُنخل، الذي لا يحتفظ إلا بما له بعضُ الحجم.

ويقوم بالتحقيق الجنائي في التشريع السوري جهاز قضائي ذو طبيعة خاصة، مؤلف من قاضي التحقيق (درجة أولى) وقاضي الإحالة (درجة ثانية).

قاضي التحقيق

هو قاض منفرد من قضاة الحكم، يتولى منصبه بقرار من مجلس القضاء الأعلى[ر]. ويصدر بهذا التعيين مرسوم يوقعه رئيس الجمهورية ووزير العدل (المواد 60 و 66 و72 من قانون السلطة القضائية في الجمهورية العربية السورية).

ولقاضي التحقيق عملان متكاملان:

الأول: أنه أحد ضباط الضابطة العدلية[ر] (المادة7 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) وهو ـ بهذه الصفة ـ مكلف استقصاء الجرائم واستثباتها، أي البحث عن وقوع الجرائم وجمع أدلتها على مرتكبها. وله في ذلك استيقاف الأشخاص الذين يضعون أنفسهم في موقف الريبة، وتحرّي ما قد يحملونه في ملابسهم من سلاح، وكذلك القبض عليهم في حالات الجرم المشهود، أو في حالة وجود «قرائن قوية» على ارتكابهم جناية، ولكنه قلّ أن يمارس هذا العمل.

والثاني: أنه قاض يقوم بدور قضائي بارز في جمع الأدلة التي ترسل إليه من النيابة العامة[ر]، أو من المضرور أو يحصل عليها من استماع الشهود أو الخبرة أو غيرها من الأدلة، ويمحصها، وبعد ذلك يتخذ قراره في مصير الدعوى، فإما أن يحيل المدعى عليه إلى محاكم الحكم، وإما أن يقرر حفظ القضية ويرفع يده عن التحقيق، على ما يتبين فيما بعد.

ويمكن توضيح فعاليات قاضي التحقيق بما يأتي:

1ـ اتصال قاضي التحقيق بالدعوى العامة: يضع قاضي التحقيق يده على الدعوى العامة للتحقيق فيها بواحدة من أربع طرق:

آ ـ ادعاء النيابة العامة: قاضي التحقيق ممنوع من مباشرة التحقيق في أي جريمة ما لم تتقدم إليه النيابة العامة بادعاء. وهذا الادعاء ورقة مكتوبة تتضمن وصف الجريمة وأسماء الفاعلين (إذا أمكن معرفتهم)، وإلا فإنه يصح أن يُقدم على «مجهول» حتى يظهر الفاعل، ذلك لأنه لا تجوز إحالة أحد على محاكم الحكم إلا إذا كان معروفاً بصورة مؤكدة، ويجب أن يوقع على الادعاء النائب العام أو أحد أعضاء النيابة العامة.

ب ـ ادعاء المتضرر من الجريمة: قد تهمل النيابة العامة ملاحقة أحد المجرمين فلا تقيم الدعوى عليه، أو إنها الأدلة عليه ضعيفة فلا تتحرك. فتفادياً لهذا المحذور وضع الشارع المضرور رقيباً عليها وأعطاه الحق بأن يتقدم إلى قاضي التحقيق بشكوى يتخذ فيها صفة المدّعي الشخصي، وبذلك يضع قاضي التحقيق يده على الدعوى العامة ويحقق فيها. ولا يحقق هذا القاضي إلا في جناية أو جنحة وليس في مخالفة.

ومن حقه أن يرفض هذا الادعاء الشخصي إذا تبين له أن مقدمه «ليس متضرراً من الجريمة» وفقاً للقاعدة العامة التي تقول: «إذا لم توجد المصلحة فإن الدعوى لا تقبل».

والمبدأ الذي وضعه التشريع السوري هو أن ادعاء المدعي الشخصي يجبر النيابة العامة على تحريك الدعوى العامة.

ويحدد قاضي التحقيق للمدعي الشخصي مقدار النفقات والرسوم التي عليه أن يدفعها إلى رئيس ديوان المحكمة في عشرة أيام، تحت طائلة سقوط ادعائه.

ج ـ حالة الجناية المشهودة أو الجنحة المشهودة:إذا وقعت جناية مشهودة أو جنحة مشهودة، أمكن قاضي التحقيق أن يحقق فيها في الحال ودون حاجة إلى ادعاء من النيابة العامة. وتعليل ذلك قيام حالة الضرورة والاستعجال.

د ـ الإحالة من مرجع قضائي أعلى: كما لو اختلف قاضي تحقيق مع مرجع قضائي آخر (محكمة موضوع) على الاختصاص وقرر مرجعهما الأعلى (محكمة الاستئناف) اختصاص قاضي التحقيق، فإن عليه أن يضع يده على القضية ويحقق فيها من دون حاجة إلى ادعاء من النيابة العامة.

2 ـ حقوق الخصوم في أثناء التحقيق: الخصوم في الدعوى العامة فريقان: النيابة العامة وتمثل الادعاء العام، والأشخاص الذين أُقيمت عليهم الدعوى العامة، وهم جانب الدفاع.فإذا أصاب المضرور من الجريمة، ضرر مباشر وشخصي ومحقق وغير مستند إلى سبب غير أخلاقي، مادياً كان أو معنوياً، فإنه يمثل في الدعوى العامة طرفاً منضماً إلى جانب النيابة العامة لمعاونتها على كشف الحقيقة والمحافظة على حقوقه المتضررة.

ولكل طرف من هؤلاء الخصوم حقوقه:

آ ـ فمن حق النيابة العامة: وهي المدعية الأصلية، أن تطّلع على جميع إجراءات التحقيق، على أن تعيد الإضبارة إلى قاضي التحقيق قبل مضي 24 ساعة، حتى لا يتعطل سير التحقيق.

وبعد أن ينهي قاضي التحقيق جميع أعماله، فإنه ملزم إرسال الإضبارة إلى النيابة العامة، لكي تقدم مطالبتها أي ادعاءها النهائي.ويجوز أن تتضمن هذه المطالبة إحالة المدعي عليه على المحاكمة أو منع محاكمته. ولكنقاضي التحقيق غير مقيد بهذه المطالبة، أي إن حقه أن يخالف ما جاء فيها، ويتخذ القرار الذي يرتاح إليه ضميره.

وقد منح القانون السوري النيابة العامة حق الإشراف على أعمال قاضي التحقيق وتوجيه تنبيه إليه واقتراح فرض عقوبة تأديبية عليه. وهذا الحق في الإشراف مذهب منتقد، لأن قاضي التحقيق من قضاة الحكم، وقضاةالنيابة العامة مرتبطون بقاعدة التسلسل الوظيفي بوزير العدل، الذي هو عضو سياسي وإداري في الحكومة، وهذا واقع من شأنه أن يُعدَّ انتهاكاً لمبدأ فصل السلطات فيالدولة.

ولهذا السبب ألغى القانون الفرنسي الجديد هذا الإشراف، كما أوصت بإلغائه التوصية التاسعة من توصيات المؤتمر العربي لحماية حقوق الإنسان المنعقد في مدينة سيراكوزة (إيطالية) عام 1985.

ب ـ ومن حق المدعي الشخصي: أن يقيم محامياً يدافع عن حقوقه المدنية التي تضررت من الجريمة، وأن يصطحب هذا المحامي حين يناقشهقاضي التحقيق. ومن حقه وحق محاميه حضور جميع أعمال التحقيق باستثناء سماع شهادة الشهود لصراحة نص المادة 70 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري.

ويجب على قاضي التحقيق دعوته إلى حضور الأعمال التحقيقية كإجراء الخبرة والكشف على موقع الجريمة. فإذا لم يحضر في الموعد الذي حُدد له في مذكرة الدعوة، جرى التحقيق صحيحاً في غيابه.

غير أنه إذا وجد قاضي التحقيق نفسه في حالة استعجال، كما في حالة الجريمة المشهودة أو كان يرى أن سلامة التحقيق تقتضي إجراءه من دون حضور الخصوم أو حضور بعضهم، فله إجراؤه في معزلٍ عنهم، على أن يُبّين في قراره الأسباب الداعية إلى ذلك.

ويجب على قاضي التحقيق أن يبلغ المدعي الشخصي جميع «الأوراق» أي أوراق التحقيق وإجراءاته، لكي يطلع عليها ويطعن فيها إذا شاء.

ولكن عليه أن يتخذ له موطناً مختاراً (مكتب محاميه مثلاً) لكي تبلغ إليه فيه هذه الأوراق. بغير ذلك لا يحق له أن يعترض على عدم تبليغه، لأنه هو الذي فرَّط بحقوقه.

ج ـ ومن حق المسؤول بالمال: أن تكون له حقوق المدعي الشخصي. والمسؤول بالمال هو الشخص الغريب عن الجريمة الذي ألزمه القانون دفع التعويض المالي بعد الحكم به عليه، في حالات «قانونية» محددة، كالوالد في حال ارتكاب ولده القاصر جريمة، والدولة حين يرتكب موظفوها جريمة، وصاحب المعمل حين ينتهك عماله حرمة القانون الجزائي.

ولهؤلاء المسؤولين بالمال حق الرجوع بما دفعوه على الفاعل، ماعدا حالة الولد غير المميز، إذ لا رجوع للأب عليه.

ومن أجل الدفاع عن حقوقهم حتى لا تهدر، عدهمالقانون طرفاً في الدعوى وأعطاهم الحق في حضور جميع أعمال التحقيق، المعطاة للمدعي الشخصي، ما عدا حضور سماع الشهود.

د ـ وقد أعطى قانون أصول المحاكمات الجزائية المُدَّعى عليه حقوقاً واسعة لكي يتمكن من إثبات براءته، لم تكن له في الماضي. فقد جعل هذا القانون التحقيق علنياً لخصوم الدعوى (ما عدا سماع الشهود كما ذكر من قبل) وما عدا حالة الاستعجال. ولكن التحقيق يظل سرياً على الغير، رعاية لكرامة الأبرياء حتى لا تتأذى فيما إذا لم يثبت عليهم شيء.

وقد أوجب القانون على المحقق أن يطلع المدعى عليه، من المقابلة الأولى على التهمة المنسوبة إليه ويسأله عما يقول في شأنها، كما أوجب عليه بصورة خاصة أن ينبهه على أن من حقه عدم الإجابة عن أسئلته إلا في حضور محام يختاره. وعلى القاضي تسجيل هذا التنبيه في المحضر. فإذا رفض تعيين محام أو اختار محامياً إلا أنه لم يحضر في مدة 24 ساعة جرى التحقيق من دونه.

ولكن إذا كان الجرم جناية، ولم يختر المدعى عليه محامياً (بسبب فقره) فإن له أن يطلب من قاضي التحقيق أن يختار له محامياً، ويعرضقاضي التحقيق الموضوع على نقيب المحامين في منطقته إن وجد، وإلا فإنه يختاره بنفسه. ولا يتقاضى هذا المحامي أي مكافأة مالية.

وإذا حضر المحامي جلسة التحقيق، فإنه لا يتكلم إلا إذا أذن له المحقق بالكلام.

وللمدعى عليه ولمحاميه الحق في دفع التهمة بطلب سماع شهود دفاع أو إجراء خبرة أو الانتقال إلى موقع الجريمة، أو أي دفع منتج يشاء.

3ـ المذكرات التي يصدرها قاضي التحقيق: يحتاج قاضي التحقيق في أثناء الإجراءات التحقيقية إلى إصدار «مذكرات»، يسميها المصريون «أوامر» تعريباً للتعبير الفرنسي ordonnances.

وهذه المذكرات ثلاثة أنواع، هي:

آ ـ مذكرة الدعوة: وهي ورقة يوجهها قاضي التحقيق إلى شخص ما، يطلب إليه فيها الحضور إلى مكتبه في الوقت الذي يحدده له من أجل سماعه. ويحمل هذه المذكرة أحد المحضرين أو أحد رجال الضابطة العدلية إلى الشخص المطلوب فيها. وهي ورقة رسمية. وحين يستلمها الشخص يوقع على إشعار بوصولها إليه. والصفة البارزة في هذه المذكرة أنها مجرد دعوة، لذلك لا يجوز إكراه الموجهة إليه على الحضور بموجبها.وحين يحضر في الموعد، يستمع إليه القاضي في الحال حتى لا تتضرر مصلحته.

ب ـ مذكرة الإحضار: وهي ورقة كمذكرة الدعوة، ولكن يجب على الشخص الذي وجهت إليه أن يحضر مع حاملها إلى مكتب قاضي التحقيق. فإن تمنع جاز إحضاره بالقوة. ويجب على القاضي المحقق أن يسمعه خلال 24 ساعة من حضوره، فإن لم يفعل وجب على رئيس النظارة سوقه إلى النيابة العامة.

ج ـ مذكرة التوقيف: هي المذكرة التي تتضمن القرار بحبس المدعى عليه بصورة مؤقتة، للتحفظ عليه حتى لا يهرب من وجه العدالة، وحتى لا يسيء إلى سلامة التحقيق.

ولا يجوز لقاضي التحقيق إصدارها إلا إذا كان الجرم المنسوب إليه معاقباً بالحبس أو بعقوبة أشد، كالأشغال الشاقة.ويجب استجواب المدعى عليه قبل إصدارها، إذا كان حاضراً، وأخذ رأي النيابة العامة . وهذا الرأي استشاري على كل حال.ويجب أن تتضمن الأسباب التي حملت القاضي على إصدارها، لأن الحرمان من الحرية أمر خطير، ومن المحتمل أن تثبت براءته فيكون قد ظلم في حريته وفي كرامته، ولاسيما أن التشريع السوري الراهن لا يمنح الموقوف الذي تمنع محاكمته أي تعويض.

ومن هذا المنطلق، أصدر الشارع الفرنسي في عام1984 قانوناً جعل اتخاذ القرار بالحبس الاحتياطي من اختصاص محكمة مؤلفة من ثلاثة قضاة من قضاة الحكم، ليس بينهم قاضي التحقيق. وتتخذ قرارها إثر جلسة علنية يحضرها الخصوم.ويحق لقاضي التحقيق أن يمنع اتصال الموقوف بالآخرين مدة يحددها.

ولا يجوز في التشريع السوري تحديد لمدة التوقيف.فهي متروكة مبدئياً لرأي المحقق.

غير أنه إذا تبين للقاضي المذكور أن الجرم معاقب بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد على سنة، فإنه ملزم الإفراج عنه في مدة لا تزيد على خمسة أيام. وهذا هو الإفراج بحق، أي بحكم القانون.

ولكن يحق للموقوف أن يطلب إلى قاضي التحقيق الإفراج عنه، في أي وقت، بكفالة أو بلا كفالة. فإذا أفرج عنه بكفالة ثم تملص من حضور أعمال التحقيق، فإن قسماً مقدراً من الكفالة يصبح حقاً للدولة.

ويظل من حق النيابة العامة والمدعي الشخصي أن يستأنف قرار الإفراج إلى قاضي الإحالة خلال 24 ساعة من تبليغه، فإن أقره أخرج الموقوف من محبسه.

أما إذا رفض قاضي التحقيق طلب الوقوف بالإفراج عنه، فإنه يكون من حقه أن يستأنفه إلى قاضي الإحالة، خلال 24 ساعة من تاريخ تبلغه.

وقرار قاضي الإحالة غير تابع للطعن فيه أماممحكمة النقض. ولكن مع الإفراج عن الموقوف، فإنه يظل من حق قاضي التحقيق أن يعود فيقرر حبسه، إذا وجد ذلك في صالح التحقيق.

4ـ قرارات قاضي التحقيق: بعد أن ينتهي قاضي التحقيق من إجراءاته فإنه يحيل الإضبارة (الملف) إلى النيابة العامة لتبدي مطالبتها، خلال ثلاثة أيام وتعيدها إليه. ويستطيع المحقق أن يتخذ أحد القرارات الآتية:

آ ـ إذا تبين له أن الجرم مخالفة أو جنحة فإنه يقرر إحالة المدعى عليه على المحكمة المختصة: محكمة البداية من أجل سائر الجنح، ومحكمة الصلح من أجل بعض الجنح الداخلة في اختصاصها ومن أجل المخالفات. وله حق استئناف إذا لم يكن هارباً. ومنذ هذا الوقت يصير المدعى عليه المحال من أجل جنحة ظنيناً.

ب ـ إذا تبين له أن الفعل جناية فإنه يكتفي برفع الإضبارة إلى قاضي الإحالة.

ج ـ إذا تبين له أن الفعل ليس جرماً، أو أنه مرتكب في حالة من حالات التبرير (كالدفاع المشروع) فإنه يتخذ قراراً بمنع المحاكمة.وعندها تطوى القضية نهائياً، إلا إذا استأنفت النيابة العامة أو المدعي الشخصي القرار إلى قاضي الإحالة. فإن أقره صار نهائياً، وإلا أحاله على المحكمة المختصة.

وقد حدث خلاف في شأن قرار منع المحاكمة بسبب جنون المدعى عليه. ولكن محكمة النقض السورية حسمت هذا الخلاف وقررت بأن حالة الجنون يجب أن تفصل فيها محكمة الموضوع.

د ـ إذا وجد أن الأدلة غير كافية فإنه يقرر منع المحاكمة. وهذا القرار تابع للاستئناف أمام قاضي الإحالة، كما قيل قبلاً.

فإذا أقره، فإن القضية تطوى مؤقتاً أي إنه إذا ظهرت أدلة جديدة من شأنها تقوية الأدلة السابقة، فإنها تقدم إلى النيابة العامة، وهي تحيلها إلى قاضي التحقيق من أجل إعادة فتح التحقيق مجدداً.

ولا بد من الإشارة إلى أن قاضي الصلح يقوم بأعمال قاضي التحقيق في المراكز التي لا يوجد فيها هذا القاضي. وبهذه الصفة، يحق له أن يصدر مذكرة دعوة أو مذكرة إحضار أو مذكرة توقيف.

قاضي الإحالة:

هو قاضي الدرجة الثانية في التحقيق، أي المرجع الاستئنافي لقاضي التحقيق، ويعين من قبل مجلس القضاء الأعلى، ويختار من مستشاري الاستئناف أو من القضاة البدائيين. ويكون مركزه في مقر كل محكمة استئنافية. وإليه تستأنف قرارات قاضي التحقيق.

ويفصل قاضي الإحالة في قرارات قاضي التحقيق بصورة سرية، أي في غياب الخصوم، الذين لهم الحق في تقديم ما يشاؤون من الطلبات والدفوع إليه. وبعد أن يحيط علماً بما تحتويه الإضبارة، فإنه يتخذ أحد القرارات الآتية:

آ ـ التوسع في التحقيق:ويقوم به بنفسه أو بتكليف محقق آخر.

ب ـ منع المحاكمة: وذلك حين لا يكون الفعل جرماً أو أن الأدلة عليه غير كافية.

ج ـ إحالة الفاعل إلى المحكمة المختصة: حين تكون الأدلة، بحسب قناعته كافية: محكمة الجنايات أو محكمة الجنح (البداية).

فإذا وجد الفعل جناية، فإنه يوجه التهمة إلى الفاعل بقرار اتهام معلل، وبصدور هذا القرار يصير «متهماً». ويجب أن يتضمن قرار الاتهام، أمراً بإلقاء القبض على المتهم. وقرارالاتهام تابع للطعن فيه أمام محكمة النقض، من قبل المتهم، بسبب خطورة نتائجه.

إما إذا كان الفعل جنحة، فإنه يقرر إحالة «الظنين»إلى المحكمة المختصة. والأصل أن القرار بالإحالة إلى محكمة الجنحة غير تابع للطعن فيه بطريق النقض إلا في حالتين:

الأولى: إذا فصل في موضوع الاختصاص، كما لو قرر أن قاضي التحقيق غير مختص موضوعياً أو مكانياً أو شخصياً.

الثانية: إذا فصل القرار في مسائل لا تملك محكمة الموضوع حق تعديلها. والمثل على ذلك قرار قاضي التحقيق بمنع المحاكمة إذا وصل إلى قاضي الإحالة خطأ فألغاه (وهذا ليس من حقه) فتكون إحالة هذا الشخص إلى محكمة الموضوع غير مجدية وضارة بحقوقه لأن هذه المحكمة لا تملك حق الرجوع عن قرار اتخذهقاضي التحقيق دون أن يطعن فيه أحد أو طعن فيه بصورة مخالفة للقانون.

وقد شكك بعض الفقهاء في القيمة القانونية لقاضي الإحالة وطالبوا بإلغائه، اختصاراً للإجراءات. وحجتهم أن الشريعة الإسلامية لا تتبنى قضاء التحقيق.

كذلك التشريع الأنغلوسكسوني الذي يتبنى نظاماً اتهامياً علنياً. وعلى كل حال فإن الشارع السوري ألغى قضاء الإحالة من تنظيم القضاء العسكري، كما ألغاه أمام محكمة أمن الدولة العليا وحصر التحقيق بدرجتيه فيالنيابة العامة التي صارت تقيم الدعوى العامة وتحقق فيها.كما يفعل التشريع المصري.

تجدر الإشارة إلى أن التيارات الديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان المعاصرة تشدد كثيراً على حماية حقوق الإنسان في مرحلة التحقيق، ولاسيما موضوع التوقيف الاحتياطي. لذلك توجه انتقادات شديدة إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، لأنها تجيز التوقيف بلا ضوابط قانونية.