تـكـييـف الـتـزام الـبـنــك

إن تفسير التزام البنك الغير القابل للرجوع فيه تجاه المستفيد أمر يثير الكثير من الصعوبة لأن هذا الالتزام مستقل عن عقد البيع وعن عقد فتح الاعتماد.
لذلك تعددت النظريات التي تعرضت لتفسير التزام البنك تجاه المستفيد تعددا تجاوز حد المعقول، حيث نجد اتجاهات فقهية وقضائية تكيفه استنادا للعلاقات الثنائية للأطراف كالوكالة والكفالة (موضوعنا الحالي) وهناك اتجاه آخر يكيف التزام البنك على أنه إنابة أو اشتراط لمصلحة الغير أو حوالة، استنادا للعلاقات الثلاثية الأطراف.
العلاقات الثنائية الأطراف.

تتمثل العلاقات الثنائية الأطراف هنا في كل من الكفالة والوكالة.
أولا: الكفالة[1].
اتجهت محكمة النقض الفرنسية إلى القول بأن البنك الذي يفتح اعتمادا مستنديا غير قابل للرجوع فيه يعتبر كفيلا للمشتري للوفاء بثمن البضاعة للبائع، الشيء الذي ينتج عنه إذا قدم البائع المستندات المشترطة فإن البنك لا يستطيع أن يرفض تنفيذ التزامه، ولا يستطيع بصفة خاصة أن يستفيد من إعسار المشتري لإلغاء الاعتماد.

ولهذا تعرض هذا الاتجاه للعديد من الانتقادات نظرا لتعارضها مع خاصية استقلال التزام البنك التي تجعل هذا الالتزام غير تابع لالتزام المشتري، وتمنع البنك من التمسك بالدفوع التي تكون للبنك في مواجهة المشتري، وهذا عكس الكفالة التي هي عقد تابع تختفي بمجرد أن ينقضي الالتزام الأصلي، ومن ثم يكون للكفيل أن يحتج بجميع الأوجه التي يحتج بها المدين.
بالإضافة إلى التيارات الفقهية التي انتقدت نظرية الكفالة، نجد أن القضاء انتقد هذه النظرية في تكييف التزام البنك، حيث ذهبت في هذا الصدد محكمة النقض المصرية إلى أن البنك الذي يقوم بتثبيت اعتماد مصرفي لوفاء ثمن صفقة تمت بين تاجرين لا يعتبر وكيلا عن المشتري في الوفاء للبائع بقيمة الاعتماد، كما لا يعتبر ضامنا أو كفيلا يتبع التزامه التزام عميله المشتري بل يعتبر التزامه في هذه الحالة التزاما مستقلا عن العقد القائم بين البائع والمشتري[2].

ثانيا: نظرية الوكالة.
تعتبر الوكالة[3] من أقدم النظريات العقدية التي كيف بها التزام البنك تجاه المستفيد، فالبنك وكيل بأجر عن العميل الآمر في دفع مبلغ الاعتماد للبائع المستفيد ولا يستطيع بذلك التنصل من التزامه قبل المستفيد في الاعتماد القطعي، وبالتالي يلتزم بدقة حدود الوكالة كما حددها له موكله، وألا يتعدى الحدود المخولة له في عقد فتح الاعتماد المستندي إلا أن هذه النظرية كذلك لم تسلم باعتبار أن البنك في الاعتماد يوفي بالتزاماته الشخصية ويعتبر مسؤول أمام المستفيد عن الوفاء بتعهده المتضمن في خطاب الاعتماد عكس الوكيل الذي لا يلتزم باسمه الخاص بخصوص التصرف الذي يباشره نيابة عن الموكل.
وكذلك أن هذه النظرية تنطوي على بعض الشطط في المنطق القانوني، ذلك أن الذي يربط بين المصدر والعميل الآمر هو عقد اعتماد له صفاته الخاصة ويوفر للعميل تسهيلا ائتمانيا في حدود وشروط معينة، ولم يقل أحد أن هذا العقد يتضمن في طياته عقد آخر هو عقد وكالة بين طرفيه اللهم إلا إذا اتفق الأطراف صراحة على هذه الوكالة.

إضافة إلى هذا فإن التزام البنك يكون باتا وقطعيا في مواجهة المستفيد ابتداء من وصول خطاب الاعتماد للمستفيد، وبالتالي لا يمكن للبنك أن يلتزم بأي أوامر صادرة من العميل الآمر كتعديل الخطاب أو تخفيض مبلغ الاعتماد بالرغم من أن قواعد الوكالة تمنح للموكل إصدار مثل هذه التعليمات لوكيله.
كما أن الوكالة لا تمنع الوكيل في أن يتمسك بجميع الدفوع لأنه يتصرف باسمه ولحسابه، أما البنك الملتزم بالأداء لا يستطيع أن يتمسك في مواجهة المستفيد بالدفوع المستمدة من العلاقة الأصلية التي تربط الآمر بالمستفيد، أو الدفوع المستمدة من العلاقة بينه وبين الآمر.

ومن التطبيقات القضائية التي نفت بأن التزام البنك في الاعتماد المستندي وكالة نجد قرار صادر عن محكمة الاستئناف الذي جاء فيه”…إن البنك لا يمكنه أن يستند إلى قواعد الوكالة وأنه لما حكمت المحكمة للشركة الأمر بالمبلغ الذي أداه البنك دون أن يوجه حق الشركة المستفيدة، وبرفضها الحكم بالتعويض، تكون غير متجاوزة لسلطتها التقديرية وطبق بوجه صحيح القواعد السارية المفعول على الاعتماد المستندي”[4].
وفي نفس الاتجاه سارت عليه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بتاريخ 11 يونيو 1996 الذي جاء فيه “وحيث إنه فيما يخص الوسيلة الأخيرة بكون المستأنفة مجرد وكيله وفقط، فإن البنك الذي يقوم بفتح الاعتماد للوفاء بقيمة البضاعة لا يعتبر وكيلا عن المشتري أو كفيلا له، فالبنك ملتزم التزاما مستقلا عن العقد القائم بين البائع والمشتري وأساس هذا الالتزام هو خطاب الاعتماد الموجه إلى المستفيد، وهو الشيء الذي تنص عليه المادة الثالثة من القواعد والأعراف الموحدة….”[5].
وكما صدر عن محكمة النقض المصرية في قرار لها بتاريخ 18 فبراير 1985 ” وجرى قضاء هذه المحكمة على أن البنك الذي يفتح اعتمادا مستنديا للوفاء بثمن صفقة تمت بين تاجرين لا يعتبر وكيلا عن المشتري في الوفاء بقيمة الاعتماد كما لا يعتبر ضامنا أو كفيلا يتبع التزامه التزام عميله المشتري، بل يعتبر التزامه في هذه الحالة التزاما مستقلا عن العقد القائم بين البائع والمشتري…”[6].

[1] – عرف الفصل 1117 من ق ل ع:” الكفالة عقد بمقتضاه يلتزم شخص للدائن بأداء التزام المدين إذا لم يؤده هذا الأخير نفسه”
[2] – الطعن رقم 114 بتاريخ 31 أكتوبر 1973 أورده عبد الحميد الشواربي، مرجع سابق، ص 264.
[3] – عرف قانون الالتزامات والعقود الوكالة في الفصل 879 : ” الوكالة عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا آخر بإجراء عمل مشروع لحسابه أو يسوغ إعطاء الوكالة أيضا لمصلحة الموكل والوكيل أو لمصلحة الموكل والغير، بل ولمصلحة الغير وحده.
[4] – قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط، بتاريخ 7 فبراير 1953 أورده يوسف بنباصر، الاعتماد المستندي في القضاء المغربي والممارسة البنكية، مرجع سابق، ص 359.
[5] – قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء عدد 1912، الغرفة التجارية بتاريخ 11 يونيو 1996 ملف تجاري عدد 1100/ 95 نفس المرجع، ص: 220.
[6] – طعن رقم 372 لسنة 48 ق جلسة 18/2/1985 أشارت إليه نجوى محمد كمال أبو الخير، مرجع سابق، ص 242.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت