تفاصيل قانونية حول تعويض الضرر عن طريق اثبات المسؤولية الطبية

اثبات المسؤولية الطبية

اثبات المسؤولية الطبية شرط لازم لتعويض الضرر الذي لحق بالمتضرر، واثباتها من اصعب المسائل لكونها متشابكة العناصر ومن المسائل التي تنم عن صعوبة التقدير ، واقامة الدليل على قيامها، وان معرفة طبيعة الالتزام الذي اخل بة المدين سواء كان مصدرة العقد او الفعل الضار، انما يساعدان في عملية الاثبات، وسأتناول موضوع هذا الفصل في مبحثين، مخصصا المبحث الاول لاثبات المسؤولية الطبية والمبحث الثاني لتقدير التعويض.

وفقا للقواعد العامة للمسؤولية، فان عبء الاثبات يقع على المدعي وعلية اثبات عناصر المسؤولية واركانها، من خطأ، وضرر وعلاقة سببية، وبناء على ذلك فان المريض المضرور هو المكلف باثبات الضرر والخطأ والعلاقة السببية. اذا كان اثبات الضرر لا يثير كثيرا من الصعوبات، الا ان الامر يختلف فيما يتعلق باثبات خطأ الطبيب، ولكي نتمكن من بحث اثبات المسؤولية الطبية، لا بد لنا من بحث مسؤولية الطبيب واثبات رابطة السببية وسيكون ذلك في المطلبين الاتيين:

المطلب الاول اثبات خطأ الطبيب

يجمع الفقة الحديث على ان عبء اثبات خطأ الطبيب لا يجب ان يتبع طبيعة المسؤولية او يدور معها، فيما اذا كانت المسؤولية عقدية او تقصيرية، وانما يتعلق بذات طبيعة الالتزام الذي اخل بة المدين (الطبيب)، ولا فرق هنا ان يكون مصدر الالتزام علاقة عقدية او فعل تقصيري . وعلية فان اثبات خطأ الطبيب يتوقف بحسب ما اذا كان التزام الطبيب بتحقيق او ببذل عناية:

1- عبء الاثبات في الالتزام بتحقيق نتيجة وهو الالتزام الذي يعد فية المدين دائنة بشيء معين سواء كان ذلك الشيء عملا، او امتناع عن عمل، او نقل حق . ان عدم تنفيذ الالتزام بتحقيق نتيجة، انما هو خطأ مفترض غير قابل لاثبات العكس، ويتحمل المدين عبء الاثبات في هذا الالتزام، وتفرض مسؤولية في هذه الحالة، الا اذا قام الدليل على انه قام بتنفيذ التزامة، او ان عدم تنفيذه لهذا الالتزام يرجع إلى سبب اجنبي حال بينة وبين تنفيذه. وعلية يكفي لاقامة المسؤولية على الطبيب -اذا كان ملزم بتحقيق نتيجة- اثبات ان النتيجة لم تتحقق، وكان يجب على الطبيب ان يقوم بها ونتج عن ذلك ضرر للمريض.

وقد اثير امام القضاء تساؤل حول اعتبار الطبيب متبوع ام يعتبر الطبيب حارس للشيء الذي احدث الضرر. وخلص إلى نتيجة مفادها ان الضرر اذا كان ناتج عن احد التابعين للطبيب، مما يعملون ضمن فريقة الطبي فانه يسأل مسؤولية المتبوع عن اعمال التابع، واذا نتج الضرر عن احدى الآلآت التي يستخدمها الطبيب فانه يعتبر حارس، وتقوم مسؤوليتة على هذا الاساس، ولتوفير الحماية للمريض لجاء القضاء في كل من فرنسا ومصر إلى الالتزام بضمان السلامة، اي سلامة المريض من الضرر الذي يمكن ان يحدث اثناء العلاج، وخاصة بالنسبة للعمليات الطبية التي لا يكون فيها احتمال للنجاح اوالفشل، ويكون فيها التزام الطبيب بتحقيق نتيجة.

وقد أخذ القضاء بضمان السلامة فيما يتعلق بالاضرار الناجمة للمريض بسبب التغذية او المشروبات او النظافة او ما يصاب بة من عدوى في المستشفى، ولا يستطيع الطبيب ان يدرأ عن نفسة المسؤولية الا باثبات السبب الاجنبي، اي اثبات ان الضرر الذي لحق بالمريض يرجع إلى قوة قاهرة او خطأ المريض او خطأ الغير، ويمكن للطبيب ايضا اثبات حالة الضرورة، التي تنفي عن فعلة وصف الاهمال.

ويلاحظ ان القضاء يتشدد في العمليات الجراحية وما ينتج عنها من اخطاء، خاصة اذا كانت هذه العمليات لا تدعو اليها ضرورة علاجية كعمليات التجميل، وقد ذهبت محكمة النقض المصرية “بان عملية التجميل وان كان التزام الطبيب هو بذل عناية الا انه يكفي من المريض اثبات واقعة ترجح اهمال الطبيب”. ان الحكم السابق يقيم قرينة قضائية لمصلحة المضرور، على اساس ان الطبيب قد اخل بالتزامة ببذل عناية.
وكذلك بالنسبة للعمليات العادية فانها لا تتمثل بها صعوبة بالنسبة للطبيب الجراح، ولا تتضمن عنصر الاحتمال اذا كانت هذه العمليات عمليات بسيطة، كعمليات الختان والزائدة الدودية والتي اصبحت عمليات سهلة جدا ولا يعقل حدوث الفشل فيها.

2- عبء الاثبات في الالتزام ببذل عناية لا يكتفي من الدائن في هذه الحالة ان يدعي ان المدين لم يقم بتنفيذ التزامة على الوجة المعين في الاتفاق بل علية ان يثبت ان العناية التي قام بها المدين لم تتفق مع ما كان يجب علية بذلة ، بمعنى يجب علية ان يثبت ان هناك خطأ وقع من المدين وان هناك ضررا لحق بة من جراء ذلك، وان العلاقة السببية بين الخطأ والضرر ثابتة، وعلية يجب على المريض ان يثبت ان الطبيب لم يقم ببذل العناية المطلوبة منه، المتمثلة في اهمال الطبيب،او انحرافة في الاصول المستقرة في المهنة، ويمكن اثبات ذلك من خلال مقارنة سلوك الطبيب المدعى علية بسلوك طبيب مماثل له من نفس المستوى المهني مع الاخذ بعين الاعتبار الظروف الخارجية المحيطة بالطبيب وقت العلاج.

المطلب الثاني اثبات الرابطة السببية

يتجه القضاء بصفة عامة إلى أن إلقاء عبء الاثبات يقع على عاتق المريض، فهو الملزم باثبات ان خطأ الطبيب هو الذي تسبب في احداث الضرر، فمجرد اثبات ان الطبيب قد نسي قطعة من القماش لا يكفي للقول بان ذلك يعتبر السبب في كل الاضرار الناجمة للمريض ما لم يثبت ان هذا الاهمال هو الذي أدى إلى التهاب الجرح وما صاحب ذلك من أضرار.
فاذا لم تكن القرينة واضحة الدلالة على ان الطبيب ارتكب خطأ لابد من الاستعانة بقرائن اخرى باثبات خطأ الطبيب والرابطة السببية، ولهذا فان القضاء يستعين بأهل الخبرة، لما لهم من اهمية للبت في المسائل الاحتمالية . هذا وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى انه ليس هناك تناقض بين عدم اعتبار خطأ الطبيب هو سبب في الوفاة، ولكنة السبب في حرمان المريض من فرصة حقيقية في الشفاء.
يلاحظ من احكام القضاء ان هناك اتجاة متزايد في التشدد في احكام المسؤولية الطبية، ويظهر هذا من خلال التساهل في تطبيق القواعد العامة للمسؤولية المدنية على خطأ الطبيب، بحيث اصبح القضاء يقيم قرينة على ارتكاب الطبيب للاهمال، وذلك لمصلحة المريض الذي لا يستطيع ان ينفي ذلك الا باثبات السبب الاجنبي الذي حال بينة وبين حصول الضرر.

ويعود السبب في ذلك إلى ما يحيط بالعمل الطبي من جوانب فنية يصعب معها على المريض اثبات الخطأ والضرر والعلاقة السببية بشكل واضح، لهذا فان القضاء في المسؤولية الطبية لا يتردد في حالة وجود خطأ من الطبيب بان هناك رابطة سببية ما بين خطأ الطبيب وضياع فرصة حقيقية على المريض بالشفاء او تحسن او تفادي اضرار معينة، وهناك تزايد في احكام القضاء في التعويض عن تفويت الفرصة لمجرد قيام قرينة تدل على وجود خطأ ارتكبة الطبيب، ويستنتج ذلك من الاحكام الحديثة التي تذهب إلى اثبات خطأ الطبيب من خلال القرائن القضائية . وككلمة اخيرة في هذا المبحث فقد جاء في مقالة لاحد الاطباء والذي يعمل لدى احد المستشفيات في الكويت، تحت عنوان المسؤولية المدنية للطبيب “الطب والجراحة من الامور الفنية المعقدة، بحسبان ما قد يترتب على الخطأ فيها، او مجرد السهو من كوارث، وان كان على الطبيب ان يتصرف كقاعدة عامة طبقا للتعليمات والانظمة والقوانين، الا انه بحكم وضعة، عليه ان يتخذ القرارات التي تضمن دائما انقاذ المريض وسلامتة ولو تعارضت تعارضة احيانا مع التعليمات، فان هو اهمل او تقصير، وكان ذلك هو السبب المباشر للضرر او وفاة المريض، فيمكن ان يكون الطبيب محلا للمسألة الشخصية واعتباره مخطئا وحلت علية المسؤولية المدنية”.

تقدير التعويض

بينا في السابق ان تشخيص المرض ووصف العلاج والسير فيه من ادق الاعمال الفنية التي يقوم بها الطبيب، ولئن كان لا يشترط لقيام مسؤولية الطبيب عنها ان يكون خطئه جسيما، إلا انه يتعين ان يثبت للقاضي ان الطبيب باهماله وعدم تحرزه، قد خالف وبصورة واضحة المعطيات العلمية والاصول المستقرة في مهنة الطب.
وتقدير الاعمال الطبية ينطوي على نواحي فنية ليس في مقدور القاضي ولا استطاعته الالمام بها، بل ولا يفترض في القاضي ان يلم بدقائق الطب وليس من السهل عليه ان يتبين وجة الخطأ في سلوك الطبيب، فاذا كان القاضي يستطيع ان يستخلص خطأ الطبيب في اعماله العادية، كعدم حصوله على رضاء المريض مثلا، فانه يصعب عليه ذلك بالنسبة للاعمال الطبية التي تنسب إلى الفن الطبي لذا يجب عليه ان يستعين في هذا الخصوص باهل الخبرة، ليبينوا له ما غمض علية فهمة من اسرار العمل الطبي موضوع الدعوى، وينبغي على الخبير ان يقدر الوقائع والافعال، وعلى القاضي ان يناقش هذا التقدير من الناحية القانونية .

المطلب الاول سلطة المحكمة في تقدير عناصر المسؤولية

تطبيقا للقواعد العامة فانه متى كان التزام الطبيب ببذل عناية، وكان المريض مدعيا، فيجب على هذا الاخير ان يقدم الدليل على اهمال او تقصير الطبيب في بذل العناية، او انه قد خالف القواعد الفنية المستقرة وبالتالي يقوم القاضي بتقديرها دون معقب عليه من محكمة التمييز، كي يتحقق من حصول الفعل او الترك، او عدم حصولة وهذه من مسائل الواقع والتي يترك تقديرها لمحكمة الموضوع.

وان تحديد القاضي للوصف القانوني لسلوك المدعى عليه (الطبيب) واعتباره مخطئاً لانحرافة عن المألوف من سلوك الطبيب الوسط من نفس المستوى المهني، هو امر يتصل بمسائل القانون اذ انه يتعلق بالتكيف القانوني للفعل، التي يكون لمحكمة التمييز ان تراقب محكمة الموضوع في وصفها للفعل او الترك بانة خطأ يستوجب المسؤولية المدنية.
وقاضي الموضوع ان كان لا يجوز له ان يقوم باثبات ما يجب على المدعى اثباتة، الا ان واجبة ان يتثبت من انطباق وصف الخطأ على الوقائع التي يبرهن المدعي وهو المريض المضرور على نسبتها للطبيب، فالقاضي لا يقوم باثبات خطأ الطبيب ولكنه يقوم بالتحقق من الوقائع وفقا للمعيار الموضوعي، وإذا كان في الغالب ان يتقدم المريض المدعي للبرهنة على قيام خطأ الطبيب، بأن يقدم مجموعة من القرائن الدالة على ذلك ويجب على قاضي الموضوع اعتماد هذه القرائن ما دامت واضحة الدلالة على المسألة المراد اثباتها، وهناك علاقة سببية بين هذا الخطأ والضرر، ويجب في هذه القرائن والتي هي مجرد قرائن واقع، الا تستند إلى مجرد الاستنتاج بمفهوم المخالفة ومن امثلة هذه القرائن تقارير الخبراء وفكرة الخطأ الاحتمالي حيث تعد هذه القرائن من اهم المسائل للتمييز بين الخطأ العادي للطبيب وخطئه المهني.

وبالنسبة للخطأ العادي الذي يتمثل في التقصير في بذل العناية اللازمة للمريض والاخلال بواجب الحيطة والحذر المفروضة على كل شخص يمكن للقاضي ان يستخلص هذا الخطأ من الاعمال العادية التي قام بها الطبيب ومن الواجبات الانسانية، كعدم تبصير المريض تبصيرا كافيا.

اما بالنسبة للخطأ المهني (الفني) الذي يتمثل بالانحراف عن السلوك الفني المألوف لطبيب من نفس المستوى، والذي من مقتضاه ان يبذل الطبيب في تنفيذ التزامة العناية الفنية التي تتطلبها الاصول الفنية والعلمية الحديثة.
وعلية فان تقدير القاضي لهذا الخطأ يجب ان يحاط بضمانتين اساسيتين : اولاهما: يجب على القاضي عند تقديرة لخطأ الطبيب ان يكون في غاية الحيطة والحذر، فلا يعترف بوجود هذا الخطأ الا اذا ثبت ثبوت قاطعا ان الطبيب قد خالف عن جهل او تهاون الاصول الفنية الثابتة والقواعد العلمية الاساسية التي لا تدع مجالا للشك والتي يفترض في كل طبيب من مستواه العلمي ان يعرفها.

اما اذا كان الفعل او المسألة الفنية التي تنسب إلى الطبيب تتصل بمسائل علمية محل خلاف، ولا يزال يدور حولها النقاش والجدل، فليس للقاضي ان يقحم نفسه في هذا النقاش العلمي بالترجيح بين وجهات النظر، واتخاذ موقف معين فيها، انما يجب اعتبار الطبيب غير مخطئ وغير مسؤول في هذه الحالة. وخلاصة القول في هذه الضمانة، انه يجب ان يثبت للقاضي بصورة اكيدة وواضحة ان الطبيب قد خالف الاصول العلمية المستقرة في علم الطب وقواعدة الاساسية التي ليست محلا للجدل والخلاف.

وثانيهما: لا يستطيع القاضي بسبب عدم المعرفة الكافية لدية بالمسائل الطبية ان يتصدى مباشرة لمناقشة هذه المسائل وان يقدر بنفسة خطأ الطبيب بهذا المجال، لذلك على القاضي ان يتوجة إلى المختصين من الخبراء بين اهل الطب من اجل استيضاح الامر وبالتالي القاء الضوء على سلوك المدين (المدعى عليه) ان كان يتفق مع سلوك الطبيب الوسط الحريص في مهنته، وهذا يعني ان اهل الخبرة هم الذين سيقدمون وجهة نظرهم حول مسألة السلوك والحذر الذي كان يجب ان يقدمة الطبيب.
واذا كان الخبير يقوم بمساعدة القاضي باستنباط الخطأ في المجال الطبي، سواء في المسائل التطبيقية ام في الاخلاق الطبية، الا ان القاضي يستقل في التكيف القانوني بالسلوك الفني للطبيب وهو الذي يقوم بتقدير رأي الخبير وبالنتيجة الاخذ به او عدم الاخذ به .

ولكي نستطيع الوقوف على سلطة المحكمة في تقدير المسؤولية الطبية المدنية لا بد من الوقوف على دور الخبرة في اثبات الخطأ الطبي ومدى حرية القاضي في تقدير تقرير الخبرة.

أولا: دور الخبرة في اثبات الخطأ الطبي الاصل ان القاضي له ان يتحرى الوقائع الفنية وله ان يستعمل جميع الوسائل المشروعة لكي يتحقق من عناصر المسؤولية المدنية، ولاستكمال قناعتة له ان يلجأ إلى اهل الخبرة في المسائل الفنية سواء كانت طبية او هندسية او غير ذلك، وان كان له اللجوء إلى الخبرة في هذه المسائل، الا انه لا يجوز له ان يلجأ إلى اهل الخبرة في المسائل القانونية والتي هي من صميم عمله، وبالتالي فان الطبيعة الفنية للمسألة او للواقعة هي التي تبرر مبدأ الخبرة وتضع حدودة القانونية، فالخبير فني يستدعي بصفتة هذه ليكون مساعدا للقضاء.

والخبرة هي تكليف شخص من قبل المحكمة لرؤية النزاع والادلاء برأية الفني، من خلال تقرير مقدم إلى المحكمة، وذلك عندما يكون موضوع النزاع متعلق بالمسائل الفنية، التي لا يستطيع القاضي ان يفصل بها دون اللجوء إلى خبير، لذلك فان المحاكم تلجأ إلى تكليف خبير بفحص موضوع النزاع وابداء الرأي فية وتحديد المسائل الفنية فية، لكي يصار فيما بعد إلى تطبيق القانون على النزاع المعروض، بعد ان تكون الجوانب الفنية واضحة بما يريح ضمير المحكمة ويحقق العدالة، لذلك فان الخبرة تتناول المسائل العلمية والفنية للفصل في الدعوى، ولا تعني ان الخبير يقوم بالفصل في النزاع بل يبقى ذلك من عمل المحكمة لا بل ان المحاكم غير ملزمة برأي الخبراء، ولهذا يوصف رأي الخبير بانه رأي استشاري (استئناسي) .
ان اللجوء إلى الخبرة لتحديد ما اذا كان سلوك الطبيب يشكل خطأ ام لا هو امر تقتضية طبيعة المسائل الفنية في المجال الطبي، مما يحتم على القاضي ان يستعين باهل الخبرة المتخصصين فنيا في الحقل الطبي، وهم بهذه الصفة يصبحون عون للقضاء.

هذا وقد استقرت محكمة النقض المصرية والفرنسية على ان مهمة الخبير تقتصر على ابداء الرأي في المسائل الفنية التي يصعب على القاضي استقصائها بنفسة . ان انتقال تقدير الوقائع من المجال العلمي إلى المجال القانوني يكون صعبا، فلكي تكون الخبرة وسيلة قضائية مناسبة ينبغي انتقال التقدير من المجال العلمي إلى المجال القانوني، مثل هذا الانتقال لا يتم الا بتقرير طبي مستمد من تقرير الخبير، وهنا تكمن الصعوبة ويخشي ان ينزلق في ذلك امهر القضاة وبكامل حسن النية. وكثيرا ما تختلط النواحي الفنية والنواحي الطبية، فيعد كل ما هو فني مسألة طبية، وهذا الخلط يساهم بدورة في زيادة غموض فكرة الخبرة الطبية، فاذا كانت الخبرة الطبية ضرورية في بعض الاحيان فانها ليست ضرورية في احيان اخرى، ومع ذلك يلجأ القضاه اليها، وهذا ما يفسر اتجاه القضاء في التوسع في مهمة الخبير، والاستعانة بة دون ضرورة قانونية تحتم ذلك، ومثل هذا التفويض من قبل القاضي للخبير، من شأنة ان يؤدي نسبة صفة قانونية للخبير، وهذا امر منتقد ذلك ان الخبرة يجب الا تتدخل الا كتكملة قانونية لخبرة القاضي، وفي المجال الذي يجهلة.

ومما يزيد الامر سوءا انه يحدث كثيرا ان يتوسع الخبير في نطاق مهمتة ويعطي تقريرا قانونيا للموقف وهذا لا يدخل في تقدير اختصاصة . من المهم ان يجتهد القاضي في ان يحدد دون غموض مهمة الخبير في المجال الفني، وان يحتفظ صراحة في تقدير وتكيف ما قد يزوده بة الخبير من عناصر، ويلاحظ ان الحصول على تقدير موضوعي من الخبير تعترضة في الواقع صعوبتان : الاولى موضوعية، وثانية شخصية.

من ناحية الاولى: ان مهمة الخبير مهمة خطيرة ودقيقة، فاذا كان يتعين علية من الناحية العلمية المجردة احترام التحقيق العلمي المحايد الذي يقوم به للبحث عن سبب الواقعة، فان ذلك لا يمنع من قيام ذلك الخطر في المجال الطبي فيما يتعلق بالناحية الفنية للخبرة الطبية، وليس مؤكدا بصفة مطلقة ان الخبير الذي يقوم بمهنتة بالكامل يستطيع ان يقدر بدقة الموقف الذي وجد فية الطبيب محل المسألة، والذي كان يمارس عملة في ظروف واقعية مختلفة، والصعوبة التي تكمن امام الخبير هي الاختلاف بين المعطيات المجردة والحقيقة الواقعية الملموسة. اما من الناحية الثانية: تعاني قيمة الخبرة الطبية من احتمال اهتزاز الثقة في الخبراء بسبب وجود تضامن مهني يمكن ان يترتب عليه نوع من التسامح مع الزملاء الاطباء محل المسألة.

ومما لا شك فية انه اذا ثبت ذلك فان الخبير يدان اشد الادانة اذ يعتبر ذلك قصورا بشرف ونزاهة المهنة، لذلك نجد في غالب الامر ان الكثير من الخبراء الاطباء لا يقومون به>ه المهمة بشرف وموضوعية، ويجب على القاضي في الحالات التي يشعر فيها ان الخبير يريد تغطية زميلة وابعادة عن المسألة يجب عليه الا ياخذ بهذه الخبرة ويقصيها جانبا، وقد يستخلص هذا من انعكاس تلك الرغبة على تقرير الخبير بحيث يظهر عدم ادراك الخبير للمقتضيات الخاصة لمهمتة عندما يتجة لتقديم تقرير قانوني وهو ما لا يدخل اصلا في نطاق هذه المهمة وهذا نوع من المحاباة والتحايل الذي لا يجوز، والذي يحاول من خلاله القفز عن الجوانب الفنية لتقديم تقرير قانوني.

نستخلص مما سبق ان الخبير يجب الا يتعرض للنواحي القانونية بل يجب ان يقتصر تقريره على تقرير النواحي الفنية، وان امكن ان يوضح الشك في وجود الرابطة السببية بين فعل الطبيب محل المسألة والحادثة، فانة لا يكون له ان يقترح تحديدا للمسؤولية ولا ان يوصي بحدوث ضرر بسيط بغرض الوصول إلى تخفيض التعويض المفروض.

ثانيا: حرية القاضي في تقدير تقرير الخبير سبق لنا وان أوضحنا ان عمل الخبير قد تصاحبة بعض الاخطار لعدم التزام الخبير بمعيار المعطيات العلمية والقواعد المنظمة للممارسة الطبية وقواعد الاخلاق الطبية عند وضعه للتقرير الذي يقدمة إلى القاضي كخيرة في المجال الطبي. ومن اجل التغلب على هذه الصعوبات، فلا يجب ان يتردد القاضي في حرية واستخدام وتأكيد حرية التقدير واجراء الموازنة الدقيقة، التي تعترف له بها النصوص القانونية في مواجهة اراء الخبراء، حتى يستطيع استخلاص خطأ الطبيب بطريقة موضوعية ومجردة. في هذا النطاق وحيث لا يوجد ما يلزم القاضي ان يستمد قناعتة من شيء محدد، ولو كان خبرة رسمية، ثم يسعى هو نفسة للحصول عليها مع عدم اختصاصة بالنواحي الفنية، قد يؤدي إلى شيء من الغموض .

فقد وجدت بعض الاحكام القضائية الذي رفض القضاة فيها الاخذ بما ورد في تقارير الخبراء وحكموا بعكس ما خلصت الية هذه التقارير من نتائج فنية، وعلى العكس من ذلك هناك احكام تلتزم بالرأي الوارد في تقارير الخبراء . ومما لا شك فية انه عندما يرفض القاضي ما انتهي الية الخبير في تقريره، بالنظر إلى ما يحيط بالقاضي من تبريرات متشابكة فانة يخاطر بان يخلق موقفا قد يوصف بة بالتطرف، بذلك فان كان من سلطة القاضي طرح ما ورد في تقرير الخبير الفني، والحكم طبقا لما يقتنع انه محقق للعدالة فان ذلك لن يكون يسيرا عليه مالم يقدم تبريرا مقنعا له.

وان كان من المهم جدا من ناحية اولي ان يضع القاضي نصب عينية مواجهة التضامن المهني المحتمل بين الخبير والطبيب المدعى عليه وان يكون له بالمرصاد، فالطب كمهنة تعد من أكثر المهن التصاقاً في حياة الافراد، لذلك يجب ادراك كل ما يلزم المريض سواء من الناحية الفنية البحتة او من الناحية الانسانية التي يجب ان تبسط جناحيها على العمل الطبي، فالفن والانسانية لا يجوز الفصل بينهما في هذا المجال.

وخلاصة القول فانه اذا كان عبء اثبات خطأ الطبيب يقع على عاتق المضرور، متى كان التزام الطبيب ببذل عناية فيقع على عاتق المضرور ان يقدم الادلة التي تبرهن على انحراف الطبيب عن السلوك الوسط الذي يسلكة طبيب من نفس مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية، ويخضع تقرير هذه الادلة لسلطة قاضي الموضوع الذي يستطيع ان يلجأ إلى الخبرة الفنية في المسائل الدقيقة ويظل محتفظا بتقدير ما يرد بتقدير الخبراء ويختلف دور القاضي في تقديرة للادلة، اذا كان الالتزام الملقى على عاتق الطبيب هو التزام بتحقيق نتيجة.

ثالثا: المهام الملقاة على عاتق الخبير يمكن القول ان خطأ الطبيب في ممارسة عملة الفني يمر بمرحلتين: الاولى تتمثل في تحديد مدى مطابقة هذا العمل للقواعد الفنية للمهنة والاصول العلمية المستقرة، وهذا العمل لا يستطيع ان يقوم بة الاشخص امتهن مهنة الطب، واما المرحلة الثانية فهي تكمن في عرض نتيجة المرحلة الاولى على المعيار القانوني للخطأ المهني وهذا عمل قانوني يقوم بة قاضي الموضوع.

وحتى يستطيع الخبير ان يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقة فلا بد من اتباع الاسس القانونية الصحيحة والتي يقع تحديد بعضها على المحكمة (قاضي الموضوع) التي كلفت الخبير للقيام بهذه المهمة، فيمكن القول انه يقع على عاتق المحكمة بالنسبة للخبرة المهام التالية:

1. على المحكمة ان تحدد مهمة الخبير بدقة، فيجب على الخبير ان يجيب بوضوح تام عن كل ما يوجة اليه من اسئلة، وان يبحث في الاسباب التي ادت إلى الحادث، مع بيان ما اذا كان يمكن تجنب وقوع هذا الحادث تبعا للمعطيات العلمية المستقرة، ومدى ما ارتكبة الطبيب من اهمال ما كان ليرتكبة طبيب يقظ احيط بنفس الظروف الخارجية التي احاطت بالطبيب المسؤول، وهذا ما اكدت عليه محكمة التمييز في احكامها .

2. لا يجوز للمحكمة ان تحدد للخبير الوسائل التي يستطيع الاعتماد عليها، بل يجب اعطاء الخبير قدرا من الحرية والاستقلالية في تقرير الخبرة، وبالنسبة للخبراء التي تنتخبهم المحكمة فتقع عليهم الواجبات التالية .

أ- دراسة حالة المريض وتتبع مراحل تطور المرض والعوامل التي ادت الية، وهل الضرر ناتج عن شدة المرض ام إلى العلاج الذي وصفة الطبيب، ام إلى قوة استهداف المريض؟

ب- على الخبير ان يحدد في تقريره ما اذا كان الطبيب قد ارتكب خطأ ام لا، فاذا وجد ان سلوك الطبيب فية مخالفة للاصول المستقرة فيعتبر ذلك خطأ ويتوجب علية تقدير الاضرار التي لحقت بالمريض.

ج- على الخبيران يتجنب الاراء العلمية التي ما زالت محلا للجدل العلمي وعلية الابتعاد عن طرح ارائة الشخصية اذا لم تكن متفقة مع الاصول العلمية المستقرة.

د- على الخبير عدم الخوض في المناقشات القانونية الدقيقة، وعلية ان يقتصر في تقريره على بحث الوقائع المتعلقة بسلوك الطبيب وتقديرها من الناحية الطبية.

ه- على الخبيران يتوخى الدقة والوضوح عند كتابة تقريره، وفي حالة اذا لم يستطع الخبير القيام بهذه المهمة، علية ان يطلب من المحكمة اعفائة من هذه المهمة وتعيين خبير آخر.

و- على الخبير انجاز المهمة الموكولة الية بشخصة، اذ لا يجوز ان يعهد بهذه المهمة إلى غيره، ومع ذلك له ان يلجأ إلى اهل الفن يستعين بارائهم ويسترشد بمعلوماتهم، وله ان يستعين بمعاونين يعملون تحت اشرافة ومسؤوليتة.

وفي حالة اذا ما قامت المحكمة بتكليف أكثر من خبير للقيام بنفس المهمة، وجب عليهم ان يشتركوا في انجازها ولا يجوز لهم ان يقتسموا المهمة بينهم.

المطلب الثاني وقت تقدير التعويض

من المسلمات الفقهية والقانونية ان التعويض يقدر بقدر الضرر فلا يزيد التعويض عن الضرر ولا يقل عنه، وقد نصت المادة (266) مالحق المضرور من ضرر وما فاتة من كسب بشرط ان يكون ذلك نتيجة طبيعية للفعل الضار”. ويعود استخلاص ثبوت الضرر او نفية لقاضي الموضوع، لانه يعد من مسائل الواقع التي يختص بها، مادام الدليل الذي اخذ بة مقبول قانونا، ويجب ان يذكر في الحكم ما هو الضرر الذي اصاب المدعي والا اعتبر التسليم قاصرا.

وبتطبيق هذه المبادئ العامة على المسؤولية الطبية، يتضح لنا انه يقع على عاتق المريض عبء اثبات خطأ الطبيب، ولا يجوز لقاضي الموضوع ان يقوم باثبات ما يجب على المريض اثباته بل يقوم القاضي بالتحقيق من حدوث الوقائع التي اثبتها المريض، وعليه ان يتثبت من انطباق وصف الخطأ على تلك الوقائع وذلك بعرضها على معيار الخطأ لتحديد ما اذا كانت تشكل خطأ ام لا. واذا كان الحق في التعويض، اي الحق في اصلاح الضرر ينشأ منذ استكمال اركان المسؤولية، وبصفة خاصة منذُ وقوع الضرر، الا ان هذا الحق لا تتضح معالمه ولا تتبلور الا بصدور حكم القاضي والذي يعتبر كاشف له، ومحدد لعناصرة وطبيعته ويجعله مقوما بالنقد .

وفي بعض الاحيان قد يشير تقدير التعويض عن الضرر الطبي صعوبات خاصة فيما يتعلق بالوقت الذي يتم فيه هذا التقرير، اذ ان الضرر الذي يصيب المريض قد يكون متغيرا ولا يتيسر تعينة تعينا نهائيا وقت النطق بالحكم .

وقد نصت المادة (268) من القانون المدني الاردني على “اذا لم يتيسر للمحكمة ان تعين مدى الضمان تعيينا نهائيا فلها ان تحتفظ للمتضرر بالحق في ان يطالب خلال مدة معينة باعادة النظر في التقرير”. نستخلص مما سبق ان حق المضرور وان كان ينشأ من يوم تحقق الضرر الا ان تجسيده في حق دائنية مقدر بالنقد تقديرا دقيقا لا يتم الا من يوم الحكم بة، فقد كان الحق قبل صدور الحكم حقا غير مقوم فاصبح بالحكم مقوما، ويغلب ان يقدر بمبلغ من النقود.

الخاتمـــة

هكذا نكون قد انتهينا من البحث في هذه الرسالة التي خصصناها للمسؤولية المدنية للطبيب وبينا أن القضاء الفرنسي قد استقر في أحكامه على اعتبار هذه المسؤولية مسؤولية تعاقدية في الأصل وتقصيرية في الاستثناء ، وكما قد سار القضاء المصري في نفس الاتجاه واعتبر مسؤولية الطبيب عقديه بعد ان كان يعتبرها مسؤولية تقصيرية ، واستقرت أحكامه على أنها ذات طبيعة عقدية 0 وقد عرضنا للتكييف القانوني السائد لمسؤولية الطبيب وبينا الحالات التي تعتبر فيها مسؤولية الطبيب تقصيرية وكما قد بينا الشروط الواجب توافرها لكي تعتبر مسؤولية الطبيب عقديه 0 وحيث لم يتضمن القانون المدني الأردني وقانون المعاملات السوداني نصوصا خاصة بمسؤولية الطبيب المدنية ولم يبحث كذلك القضاء الأردني والسوداني في التكييف القانوني لمسؤولية الطبيب فإننا ومن خلال الرجوع للقواعد العامة ولبعض الأحكام القضائية التي لم يبحث بالموضوع بشكل مباشر نرى أن مسؤولية الطبيب تعتبر عقديه كلما وجد رباط عقدي أما في غير هذه الحالة فإنها تعتبر تقصيرية كما قد بينت في الفصل التمهيدي من هذه الرسالة هذا وقد أوضحت إن الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب هو التزام ببذل عناية وليس تحقيق نتيجة ، مع أن هذا لا يمنع من التزام الطبيب بحالات محدده بتحقيق نتيجة وهي ضمانة سلامة المريض وذلك في الحالات التي يكون محلها محددا تحديدا دقيقا ، كما في عمليات نقل الدم والتحاليل المخبرية وغيرها على النحو الذي بيناه 0 وبالنسبة للمعيار الذي يقاس به الخطأ الطبي ، فهو معيار موضوعي فني حيث يقاس سلوك الطبيب على سلوك طبيب مثله وجد في نفس الظروف التي وجد فيها الطبيب محل المسألة 0 هذا وقد عرضت لدور الخبرة وأهميتها في تحديد الخطأ الطبي وبينـت ما يجب على القاضي أن يأخذه بعين الاعتبار عند اعتماد تقارير الخبرة حتى يستطيع الوقوف بدقة على المسائل المعروضة عليه بهذا الخصوص 0

التوصيات والاقتراحات

هذا وقد وجدت من المناسب في هذه الخاتمه أن أتقدم بالتوصيات والاقتراحات التالية :- أولا : نتمنى على المشرع الاردني والسوداني ان يضع لمهنة الطب لما لها من أهمية وخطورة في المسؤولية قواعد ونصوص خاصة تبين مسؤولية الاطباء عن أعمالهم ، تراعى فيها طبيعة الاعمال التي يقومون بها والمخاطر التي يتعرضون لها ، بحيث يتم تحديد طبيعة الاخطاء الطبية مع مراعاة تتمتع به هذه المهنه من طبيعة خاصه 0 ثانيا : اصدار قانون يقضي بالزام الاطباء بضرورة التأمين عن الاخطاء التي تصدر منهم أثناء قيامهم بممارسة المهنه ، لدى شركات متخصصه في تغطية الأطباء عند ممارسة المهنه ، بحيث يسهل على المتضرر الحصول على التعويض عن ما لحقه من ضرر نتيجة لخطأ الطبيب 0 ثالثا : تشكيل لجان مهنية من أهل الطب والقانون تساعد القضاء أثناء نظر الدعاوي للوصول إلى أحكام عادله تحمي الأطباء وتحفظ حقوق المتضررين وتساهم في وضع ضوابط لأصول ممارسة المهن الطبية